الرّواية الصّهيونية
محاولـــة يائسة لطمس حقيقـــة الـــنكبة عام 1948م
جامعة القدس المفتوحة
فلسطين
ملخص
يعتقد البعض أنّ الــــرِّواياتِ الصهيونيةَ بدأت بالظهور مع المؤتمر الصّهيونيّ الأول المنعقد عام 1897م، أو أنّ الصهيونية هي صاحبة الــــــرّواية الأولى تجاه هذه الأراجيف المفتعلة، والأكاذيب الملفّـــقة والحقيقة التاريخية تقول عكس ذلك، فإنّ مشكلة اليهود في أوروبا برزت قبل ذلك بعدة قرون، وما كان مشروع (نابليون بونابارت) إلّا جزءًا من التخلّـــص من اليهود في أوروبا. وأتــــت حركة الإصلاح الدينيّ في أوروبا لإيجادِ البيئةِ الاجتماعيةِ الحاضنة للتخلص منَ اليهود في أوروبا. وبالرجوع إلى العهد القديم وما ورد فيه عن أرض الميعاد، وهي الأرض التي وعد فيها الرّب بني إسرائيل حسب العهد القديم (فلسطين)، حيث نَـجَـمَ عهد النهضة في أوروبا ترجمة العهد القديم، وبدأت بالظهور مفاهيم وروايات العهد القديم؛ في أنّ اليهود هم شعب الله المختار وفكرة (عودة اليهود إلى الأرض التي وعدهم الله بها)، وهي فلسطين.
ولدى ظهور المسألة الشّرقية والمسألة اليهودية، سارع السيّاسيّون في أوروبا إلى إيجاد حلّ لهما معًــا، حيث تبلور رأي سياسيّ في القرن التاسع عشر أدى إلى بلورة حركةٍ سياسيّـــةٍ عام 1897م أُطلق عليها اسم (الحركة الصّهيونية)، حيث قامت باستغلال كتاب العهد القديم والأوضاع السيّــاسيّــــة في العالم لتحقيق رؤيتها بالعودة إلى أرض الميعاد.
وقد أسهم التنافس الاستعماريّ في الشّرق، وبزرت المسألة الشرقية، إلى توجيه الأنظار إلى فلسطين في نهاية العهد العثمانيّ تحقيقًـــا لهذه الروايات، وكانت السلطات العثمانية تعامل اليهود من رعاياها بتسامح، كونهم أهل ذّمة، كانت اليهود أقليةً صغيرةً تعيش في فلسطين قُدِرت – حينها- بألف عائلة مع بداية الحكم العثمانيّ، وقد تركّــــزت في القدس العاصمة، ومدينة الخليل، ونابلس، وعزة. وفي بداية القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام الدَّوليّ باليهود من خلال قانون (الرعاية للأجانب) وما حصلت عليه القنصليات من امتيازات لرعاية الدول الكبيرة نتيجة للتنافس الاستعماري.
لا يتسع المجال – ها هنا – للتطرق إلى تاريخ الجماعات اليهودية في فلسطين، ولا في أيّ مكان آخر في العالم، وليس الهدف الجماعات الدينية اليهودية، بل سنركّـــز على الروايةِ الاستعماريةِ والتقائها مع الحركةِ الصّهيونيةِ، واستغلالها للرواياتِ الدينيةِ اليهوديةِ القديمةِ من العهد القديم. وإنما سنتطرق إلى الرواية الصّهيونية من خلال برنامج (بازل)، وما آلت إليه الأمور من محاولات اقناع يهود العالم بالهجرة إلى فلسطين كونها تشكل بداية الخلاص _ حسب زعمهم _ وامتلاكهم لأرض كنعان، والعداء المستمرّ لسكان أرض كنعان الأصليين، وعدم المهادنة معهم بدعم من القوى الإمبريالية. وقد شكّـــلت هذه الرؤية الرواية الرّسمية للصهيونية المتعلّـــقة بهجرة اليهود إلى أرض الميعاد (فلسطين) والاستيطان الذي بلور الفكر الصّهيونيّ في حركةٍ سياسيةٍ منظّـــمةٍ، وتحويل الجماعات اليهودية في العالم إلى قومية يهودية، حيث بدأ الصّراع مع سكان أرض كنعان الأصليين وهم الفلسطينيّــــون من خلال محاولات الحركة الصهيونية في خلق الروايات والأراجيف التي تربطهم بأرض الميعاد فلسطين، وخلق الحنين إلى أرض الأجداد والآباء من خلال تزوير التاريخ الفلسطيني القديم؛ بغيةَ تجميع اليهود _في العالم_ في فلسطين، حيث لجأت الصهيونية بتزوير الحقائق وتغييبها وعدم الاكتراث بالوجود الفلسطينيّ واستمراريته، فنتج عن هذا مجموعة من الروايات والأراجيف التي استُـــــغلت لقتل الفلسطينيين وتهجيرهــم من أرضهم، وفي أرضهم التي سيطرت عليها الحركة الصهيونية بأشكالٍ وأدواتٍ مختلفةٍ، وهذا ما تمّ بلورته بمفهوم الترانسفير (الترحيل) لدى المؤسّسيـــن الأوائل للصهيونية.
ويرى الباحث أنّ لُـــبّ الصّــــراع هو بين الروايات المفتعلة والمدعومة من الاستعمار والإمبريالية، وبين الحقيقة الفلسطينية التي يحاولون تغييبـــها بكلّ الطرق والوسائل، والتي سيتطرق إليها الباحث من خلال طرح الأمور الآتية:
1- استغلال الحركة الصهيونية للدين اليهودي، والعهد القديم، وتحديدًا في التقاءٍ غيرِ مهنيٍّ مع الرؤية البروتستانتية الدينية.
2- الادعاء بأنّ فلسطين أرض خالـيـــةٍ، لذا اختلاقُـــــــهم شعار ” فلسطين أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”.
3- الادعاء بأنّ سكان فلسطين عام 1948م غادروها طوعًـــــا، وبناءً على تعليماتٍ صادرةٍ من اللجنة العربية العليا.
وتهدف الدراسة إلى محاولة الإجابة عن الأسئلة الآتـــية:
1- هل كانت فلسطين أرضًـــا خاوية فعلاً؟
2- ما مدى استغلال الحركة الصّهيونية للديانة اليهودية من جهة والعهد القديم من جهةٍ أخـــرى.
3- هل سُكّـــــان فلسطين غادروها طوعًــا عام 1948م؟
4- ما هي العلاقة بين يهود اليوم ويهود الماضي في فلسطين؟
Some believe that Zionist narratives began to appear with the First Zionist conference held in 1897 AD, or that Zionism accompanied the first narrative towards these fabricated piles. The historical fact says the opposite, The problem of the Jews in Europe appeared several centuries before that, and the project (Napoleon Bonaparte) was only part of getting rid of the Jews in Europe, and the religious reform movement in Europe came to create the social environment incubating for the disposal of the Jews in Europe.
By referring to the Old Testament and what was mentioned in it about the Promised Land, which is the land in which the Lord promised the children of Israel according to the Old Testament (Palestine), where the Renaissance era in Europe caused the translation of the Old Testament and the concepts and narratives of the Old Testament began to appear; In that the Jews are God’s chosen people and the idea of the Jews returning to the land that God promised them, which is Palestine.
Upon the emergence of the Eastern question and the Jewish question, politicians in Europe hurried to find a solution for them together, as a political opinion crystallized in the nineteenth century that led to the crystallization of a political movement in 1897 CE called (the Zionist movement), as it exploited the Old Testament book and the political situation in the world To achieve her vision to return to the Promised Land.
The colonial rivalry in the East and the prominence of the eastern question contributed to directing attention to Palestine at the end of the Ottoman era in order to achieve these narratives. Ottoman rule was concentrated in Jerusalem, the capital, Hebron, Nablus, and Gaza.
At the beginning of the nineteenth century, international interest in the Jews began through the law on sponsorship of foreigners and the privileges obtained by consulates for the care of large countries as a result of colonial competition.
There is no room here to address the history of the Jewish groups in Palestine, nor anywhere else in the world, and the goal is not the Jewish religious groups, but rather we will focus on the colonial narrative and its meeting with the Zionist movement, and its exploitation of the ancient Jewish religious narratives from the Old Testament. During the (Basel) program, and the endeavors to persuade the Jews of the world to immigrate to Palestine, as it constitutes a sign of salvation according to their claim, their possession of the land of Canaan, the constant hostility of the indigenous people of Canaan, and the lack of compromise with them with the support of the imperialist powers.
This vision formed the official narrative of Zionism regarding the immigration of Jews to the Promised Land (Palestine) and settlement, which crystallized the Zionist thought in an organized political movement, and the transformation of the Jewish groups in the world into a Jewish nationalism, where the conflict began with the original inhabitants of the land of Canaan, who are the Palestinians, through the attempts of the Zionist movement. In creating narratives and narratives that connect them to the Promised Land of Palestine, and creating nostalgia for the land of the ancestors of the fathers by falsifying the ancient Palestinian history with the aim of bringing together the Jews in the world.
As Zionism led to the falsification of facts and their absence and indifference to the Palestinian presence and its continuity, as this resulted in a group of narratives and shrivels that were exploited to kill and displace Palestinians from their lands and in their lands that were controlled by the Zionist movement in various forms and tools, and this was crystallized in the concept of transfer by the early founders of Zionism.
The researcher believes that the core of the conflict is between the fabricated narratives supported by colonialism and imperialism with the Palestinian reality that they are trying to absent in all ways, which the researcher will address by proposing the following matters:
1- The Zionist movement’s exploitation of the Jewish religion, and the Old Testament in particular, in an unprofessional encounter with the religious Protestant vision.
2- The claim that Palestine is a vacant land, hence their fabrication of the slogan “Palestine is a land without a people for the people without a land.”
3- The claim that the inhabitants of Palestine in 1948 AD left it voluntarily, based on instructions issued by the Arab Higher Committee.
The study aims to try to answer the following questions:
1- Was Palestine Really Empty Land?
2- To what extent is the Zionist movement exploiting Judaism and the Old Testament in particular?
3- Did the inhabitants of Palestine voluntarily leave it in 1948?
4- What is the relationship between the Jews of today and the Jews of the past in Palestine?
مقدمة
ما زالت الروايات الصّهيونية مصدرًا لتضليل العالم عمّا جرى ويجري في فلسطين، حتّى اللّـــحظة، وأنّ هذه الروايات تقابلها حقائقُ وأرقامٌ ومجريات أحداث موثقة، مُــــورِست بحقّ الشّعب الفلسطينيّ جرّاء نكبة عام 1948م. وأنّ قوة هذه الـــــــرّوايات أوجدت لها حيـــّــزًا عالميًّــــا لتصديقها، ـــــ وبغض النظر عن الحقائق والمجريات التي حدثت ـــــ ليس بكونها مُحكمةً، بل لأنها سبقت غيرها في التهيئة قبل الأحداث، سواء كانت تهيئةَ أعضاء مجتمع المهاجرين اليهود أو الرأي العام الدّوليّ لتُظهر أنّ مجتمع اليهود ضحيّـــة، ويستحقّـــون الرّحــمةُ والعطفَ.
يُــعزى سبب اختيار العنوان وهو “الروايات الصهيونية محاولة يائسة لطمس الحقيقة الفلسطينية لنكبة عام 1948م” في محاولة من الباحث لضحضِ هذهِ الرواياتِ، وإظهارِ الحقائقِ التاريخيةِ التي حدثت على الأرض، من خلال تبيان العلاقة بين الصّهيونية وفلسطين، وإثبات استناد الصهيونية على رواياتٍ وقصصٍ توراتيــةٍ، الهدف منها تجميع يهود العالم في فلسطين وإقناعهم بأنهم شعب له قومية، وقد آن الأوان للرجوع إلى أرضه الموعودة، رغم اختلاف الصهيونية مع اليهودية باعتبارها ديانةً، كون الصّ هيونية – حسب علماء التوراة- تدّخلت في الإدارة الإلهيّــــة لتجميع اليهود في فلسطين (الأرض الموعودة) لتعجيل قدوم المسيح المنتظر، وقد أغفلت الصّهيونية الحقائق العرقيّـــــة، وأن اليهودية ديانة تبشيريّة وليست قوميّـــــة، وأنه لا علاقةَ عرقيــــةً بين بني إسرائيل ويهود اليوم.
أمّا فيما يتعلّق بالرّواياتِ الصّهيونيةِ تجاه نكبة عام 1948م فهي كثيرة، ولكن تطرق الباحث إلى نماذجَ محدودةٍ خاصّةٍ بادّعاء الصّهيونية أنّ أرض فلسطين خالية من ساكنيها، وأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأنّ الفلسطينيين غادروا أرضهم عام 1948م طوعًـــا. فإنّ الفكر الصّهيونيّ وتعاونه مع الإمبريالية العالمية ومطالبته بشعارات وردت في التوراة _ رغم أنّ الصهيونية باعتبارها حركةً علمانيّـــةً لا تؤمن بالتوراة إلّا أنها استغّــــلتها_ يدلّ على أنّ هذه الحركة قامت بالتعاون مع الاستعمارِ البريطانيّ، فقد لقد خطّطت ونفّـــذت جريمتها بحقّ أرض فلسطين وشعبها مع سَبْـــــق الإصرار لتحقيق أهدافٍ سياسيّــــةٍ استعماريّــــــةٍ، لذا فإنّ الحركةَ الصهيونيةَ والحكومةُ البريطانيةَ تتحمّلان معًـــا المسؤوليةَ الأخلاقيةَ والسياسيّـــةَ والقانونيةَ والاقتصادية لــمَا حلّ بالشعب الفلسطينيّ من تهجيرٍ وتدميرٍ ومجازرَ؛ بغيةَ إحلال المهاجرين اليهود مكانه، وإقامة دولتهم على انقاض فلسطين أرضًـــا وشعبًـــا.
وقد واجه الباحث العديد من الإشكالات التي تمثـّــــــلت بنشر الروايات الصّهيونية، وما كتبه المؤرّخون الإسرائيليون الجُـــــدد الذين حاولوا التنصّل من تحمُّـــــــل مسؤولية ما جرى، لكنّ الاطّلاعَ على الوثائق والأبحاث العملية وتمحيصها سهّل المَــــــــهمّة.
الصّــــهيونيـــة وفلسطـــــين
تُـــــــــعرَّف الصّهيونية بأنها الحركة السّــــــــيــاسيّـــةُ التي تهدف إلى عودة اليهود إلى وطن أجدادهم” “إيريتس يسرائيل” حسبما ورد في الوعد الإلهيّ والمسحانية لليهود.(المسيري، عبد الوهّـاب،1999 :13) ولدى المتمعّـــن في هذا التعريف يتضحُ أنّـــه فضفاض يشتمل على آمالٍ مسحانيةٍ ومخطّطٍ استعماريّ؛ وفي الواقع فإنّـــــــه اشتمل على الاثنين معًـــا، وهذا يفسّرُ تعدّد أنواع الصّهيونية؛ فهناك الصّهيونية العُــــماليّة، والصّهيونيّة الدينيّة، وصُهيونيّة صُــهيون، كما أن هناك مَن يعارضون طرح الصّهيونية تمامًـــــا.
ومن جهة أخرى هناك من يعتقد أنّ الصّهيونية باعتبارها حركةً سياسيّــــةً نشأت وارتبطت بالاستعمار، مستغلّـــةً الدينَ اليهوديّ لتحقيق أهدافٍ استعماريـــةٍ.
والواضح أنّ كلمة “صُهيون” في التراث الدينيّ اليهوديّ تشير إلى (جبل صُــهيون) في القدس، وإلى الأرض المقدسة بشكلٍ عام؛ وبما أنّ اليهود يعتبرون أنفسهم نبتًـــــا صُــــــهيونيًـــــــا فهي – على الأرجح – تدلّ على جماعةٍ دينيةٍ، والحقيقة أنّ العودة إلى صُــــهيون هي فكرة محورية في النسق الدينيّ اليهوديّ. (المسيري، عبد الوهّاب،1999: 14) وأصحاب هذه العقيدة يُـــــؤمنون بأنّ المسيح المُــــخلِّص سيأتي في آخر الأيام ليصعد وشعبه إلى صهيون، ويحكم العالم، ليسود الرخاء والعدل، ويوجد لكلمة (صُـــهيون) إيماءاتٌ سفريةٌ ودينيةٌ في الوجدان الدينيّ اليهوديّ، جاء ذلك في المزمار رقم “137/1” على لسان جماعة إسرائيل بعد تهجيرهم إلى بابل (المسيري، عبد الوهّاب، 1999: 14)
إنّ الإشارات التي وردت في الكتاب المقدس للارتباط بصُــــــهيون، والذي يُــــطلق عليه (حُــــبّ صُــــهيون)، حيث يُعبّر اليهود عن هذا الحبّ والارتباط من خلال الصّلاةِ والطّــــقوسِ الدينيةِ المختلفة، وفي بعض الأحيان يكون بالذهاب إلى فلسطين والعيش فيها بغية التّــــعبُّـــــــد والتّــــقرُّب إلى الله، لأنّ مجيءَ اليهود واستقرارهم تلبيةً للشّعائر الدينية؛ كان بهدف التعبُّـــد، كونهم لم يمارسوا أيّ عمل خلال وجودهم فيها، بل إنهم عاشــــــوا على الصّدقات التي كان يرسلها أعضاء الجماعات الدينية في العالم، ويُــــعزى ذلك إلى استقرار اليهود في فلسطين كونها آمنةً، معتبرينَ الإقامة فيها من سلوكيات أهل التقوى والوَرع، ولا علاقة لهذا بالمشروع الاستعماريّ أو الاستيطاني أو الصهيونية الدينية التي ظهرت متأخّــــــرةً. (المسيري، عبد الوهّاب،1999 :14)
أمّــــا الصّهيونية التي تؤمن بمجموعة من المعتقدات ذات الدلالة القومية أو تُطلق على نفسها بأنها ” شعبٌ قومـــيّ مستـــقــلٌّ” ينبغي لها إعادة توطينه باعتباره كيانًـــا سياسيًّــــــا مستقـــلًّا في فسطين ليؤسّسَ دولةً قوميّـةً خاصّــةً باليهود وحدهم. (الشريف، ريجينا،1985 :10) فهي أقــــــرب ما تكون إلى المسيحية والإصلاح الدينيّ في أوروبا، مرتبطةً بالاستعمار الغربيّ، ومتأثرةً بما حصل في أوروبا.
بدأت هذه الأفكار بالظّهور في أوروبا المسيحية في القرن السابع عشر قبل غزو نابليون بونابرت، وأول ظهور لها كان في بريطانيا.
أمّــــا ما قبل القرن السابع عشر، فقد كانت صورة فلسطين في أذهان المسيحيين على أنها أرضهم المقدسة التي دافع عنها الكثيرون من الإنجليز إبانَ الحملات الصّليبيةِ ضدّ المسلمين الكفَرة. (الشريف، ريجينا،1985 :54)
وبعد أن عملَ المسلمون على تجريد فلسطين من ولاتها المسيحية _ حسب ادّعائهم_ فقد أصبحت تُعــــدّ وطنًـــا لليهود، هذا حسب ما جاء في العهد القديم؛ لأنّ عودة اليهود إليها تُشكّــلُ المقدمة الحتميةَ لعودة المسيح المُـــنتَـــــظر تبعاً للنبوءات الواردة في العهد القديم كذلك.
بدأت تظهر جماعات مسيحية تُــــــدافع عن هذا المعتقد، بدليل قيام عدد من روّاده عام 1649م _ومن أشهرهم (جــــــــــوانا وأيـــبـــنـــزر وكارتـــرايت الانجليزيون)، من الجماعات البيوريتانية المقيمة في أمستردام – برفع استرحام إلى الحكومةِ الإنجليزيةِ، وكان هذا بمثابة الفكرة الأولى للعودة، وهذا نصّه: “ليكن شعب انجلترا وسكان الأراضي المنخفضة أول مَن يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنِهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحق ويعقوب لتكونَ إرثَـــــهم الأبديّ”. (الشريف، ريجينا،1985 :55)
وإنّ هذا التداول لهذا المفهوم نشأ في القرن السادس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر وقد ظهر قبل بروز المفهوم الاستيطانيّ الاستعماريّ.
التقى ظهور هذا المفهوم مع ظهورِ الهجمةِ الإمبرياليةِ الاستعماريّـــــة الغربيّـــة على الشرق بشكل عام والشّرق الإسلاميّ بشكلٍ خاصّ، وقد رافقه بروز فكر مُـــــعادٍ لليهود في الغرب بسبب ظهور العلمانية المركزية التي همّشت دور اليهود باعتبارهم جماعـــةً وظيفيّــــةً، خاصّةً بعد ظهور البنوك، لهذا بدأ مفهوم (الصّهيونيّـــة) في التبلور والتخلص من الأبعادِ الدينية ليدخل عالم السّياسة والمنفعة المادية، ممّـــــــــــا أخرج الجماعاتِ اليهوديةَ من وظيفتها وعلمها الفعليّ في أوروبا.
ووقتذاك ظهرت المصالح بدل العقائد، وتجلّت المتناقضات أيضًــــا، فمثلاً نجد أنّ نابليون بونابرت أول غــــازٍ غربيّ للعالم الإسلاميّ في العصر الحديث، وهو من أهمّ المعادين لليهود، ويرغب في التخلص منهم في فرنسا، إلّا أنه صاحب مشروع صُـــــهيونيّ حقيقيّ، فهو أول مَـــــنْ دعا الصهاينة إلى الاستعمار في بلاد أجدادهم. (روخان إيوجين، وشليم آفي،2001: 14)
وكان أول ظهور لمفهوم (الصّــــهيونية) في الخطاب السياسي الغربي عام 1841م مع نجاح أوروبا في بلورة مشروعها في الشّرق الإسلاميّ، وقد باشر بتحقيقه بالفعل من خلال القضاء على مشروع محمّـــد علي باشا في تحديث مصر ووحدتها مع الشام، وإضعاف الدولة العثمانية. (روخان إيوجين، وشلايم آفي،2001 :14)
وبالنظر إلى أوروبا، فإننا نجد أن الأوساطَ البروتستانتيةَ في انجلترا رأت أنّ اليهود ليسُـــــوا جزءاً عضويًــــا من التشكيل الحضاريّ الغربيّ، لهم ما للمواطنين وعليهم ما عليهم “الحقوق والواجبات” وإنّ هذه النظرة إلى اليهود، التي انتشرت في أوروبا بعد حركة الإصلاح الدينيّ، أصبح يُــــطلق عليها “النزعة الصّــــهيونية المسيحية”. (المسيري، عبد الوهّاب،1999 :15)
ومع تزايد تيارات العلمانية في الغرب نتجت نزعاتٌ ومفاهيمُ جديدةٌ في أوساط المفكّـــرين والفلاسفة والسياسيين والأدباء تنادي بإعادة توطين اليهود في فلسطين، باعتبارهم شعبًـــا عضــويًــا منبـــــوذًا، تربطه علاقة عضوية بفلسطين لأسبابٍ تاريخية، وهذا ما يُطلق عليه”صهيونية غير اليهود” أي “صّـــهيونية الأغيّـــــار”. (المسيري، عبد الوهّاب،1999 :15)
أمّـــا الصّــهيونية – باعتبارها مصطلحًــــا سياسيًـــا – فقد برز على يد المفكر اليهودي النمساويّ ناتان بيرنباوم عام 1890م في مقال نشر في مجلّــــة ” الانعتاق الذاتــــيّ”، وتمّ شرح معناه في خطاب عام 1891م حيث قال فيه: “إنّ الصّــــهيونية هي إقامة منظّــمة تضم الحزب القومــيّ السّــــياسيّ إضافـــةً إلى الحزب ذي التوجّـــه العملــــيّ” “أحبّـــــــاء صُـــهيون” في المؤتمر الصّـــهيونيّ الأول الذي عُــــقد في مدينة بازل السّـــــويسرية، وصرّحَ ناتان بيرنباوم بأنّ الصّــــهيونية ترى أنّ القوميّة والشّــــعب شيء واحد. (المسيري، عبد الوهّاب،1999 :15)
وبهذا يكون فحوى الخطاب هو؛ إعادة تعريف الشّـــعب اليهوديّ، فبعد أن كانت جماعـةً دينيــةً بمدلولاتها الدينية الإثنية، بدأ وكأنه جماعة عرقية بالمعنى السّائد في حينه، وبهذا يكون قد استبعد الجانب الدينــيّ لصالح الشّــــعب والقوميّـــــة اليهودية التي ركّــــزت على السّــــمات العرقية أولاً.
ويــــــــكـــــــــــــون ناتان بيرنباوم قد تخلّص منَ المعتقداتِ الغيبيةِ المرتبطةِ بالدين، وركّـــــز على العمل السّــياســـيّ الذي يُــــحقّـــــق للصّـــــهيونية أهدافها، فبعد انعقاد المؤتمر وَضَحَ أنّ الصّــــهيونيّ هو مَـــــــن يؤمن ببرنامج (بــــــــال) ممهّــــــــــــــــدًا الطريق للتزاوج مع الإمبريالية في أوروبا، والتي تبلور موقفها تجاه مسألتين اثنتين، الأولى: المسألة اليهودية في أوروبا الشّـــرقية والغربية، أمّــــا الثانية فالمسألة الشّـــــرقية.(المسيري، عبد الوهّاب، 1999 :14 )
بزغ في أوروبا تفكير يحمل المسألتين من خلال دمجهما مع بعضهما البعض، وجعلهما آنًـــا واحـــدًا؛ إذ تستطيع أوروبا التخلّــــص من اليهود في أوروبا الغربية، ومنع اليهود من أوروبا الشّــــــرقية بالهجرة إليها، واستخدام الصّــــهيونية لتحقيق مصالحها في الشّرق من خلالِ الوظيفةِ المسندةِ إليها بضمان مصالح الإمبريالية في الشَرق الإسلامــيّ، ومنع توحّـــــده في دولــــــةٍ واحــــدةٍ.
وممّـــا سبق يتضح أنّ القادة السّـــياسّـــيين للحركة الصّـــهيونية وظّـــفـــوا الرواياتِ السّــــابقة، في القرن التاسع عشر الميلاديّ، وبلورتها في حركــةٍ سياسيّــةٍ هي “الحركة الصّهيونية” عام 1897م، معتمـــدةً على ترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس بداية إحياء وتداول هذه الروايات وتداولها بين شعوب أوروبا، وأهمّها فكرة أنّ اليهود هم شعب الله المختار، وفكرة عودة اليهود إلى الأرض التي وعدهم الله بها وهي فلسطين. (فارس، ضرغام غانم، 2020: 108)
- الحركة الصّــــهيونية والديــــــانــــــة اليهوديّــــــة
إنّ الحديث عن العلاقة بين الصّـــهيونية والديانة اليهودية يجعلنا نتعمّـــقُ أكثر لكـــشف الـلّــثــــام عن العلاقة بين السّــياسة والدين ومركّـــبات كـــــلٍّ منها، خاصة وأنّ الصّـــهيونية باعتبارهــا حركــةً سياسيّــــةً حديثـــــةَ العهد، فقد أخذت بالظّــــهور والعمل في القرن التاسع عشر، بينما الديانــةُ اليهوديـــةُ سبقت ذلك بكثير، خاصّـــة وأنّ الصّـــهيونية حرّفت المفاهيــــمَ الدينيــةَ، مدّعيــــــةً أنها حركة قوميّــــــة، بينما الديانة حركة تبشير، ولكن من الواضح أنّ الحركة الصهيونية استغلّــــــــت الديانةَ اليهوديةَ، كما استغلّـــــت العديد مـــنَ العوامل لتحقيق أهدافها، ولفهم الواقع لا بــــدّ من التطرق إلى الأصل العِــــــرقيّ الذي حاولت الحركة الصّـــــهيونية إبرازه منذ انطلاقتها الأولى، ومن خلال الرجوع إلى الدلائل الأنثروبولوجية، فإننا نرى أنّ الجماعاتِ اليهوديــةَ الدينيــةَ شديدة التنـــــــوع.(بودميع، الحسين، 2016 :8)
ويشكّــــــل هذا دليلاً على أنّ شعوبًـــا أخرى غير بني إسرائيل اعتنقتِ الديانــــةَ اليهوديــةَ، وفي موقعٍ آخر ذكر الدكتور رافائيل باتال المختــصّ في علم الأجناس البشرية قائـــلًا: “ليس هناك جنس يهوديّ، حيث تدلّ قياسات الأجسام البشرية التي أُجرِيت على مجموعــةٍ من اليهود بأنهم يختلفون عن بعضهم اختلافًـــا بينًـــا في الخصائص الجسدية كلّــــــها.(بودميع، الحسين، 2016 :11)
ويؤكد ذلك كـــلٌّ من الدكتور جوان كوماسن بقوله: “إن نقاوة السّـــلالة اليهودية ما هي إلّا أوهام” ويؤكّـــد الحقيقــــةَ نفسَـــــــها الدكتور جمس باركس في قوله: “ولا يمكــــنُ القول: إنّ تاريخ اليهود هو تاريخ عنصر من العناصر البشرية؛ وأنّ اليهود لا يمكن أن يكونوا من أصلٍ نقــــــيّ عِـــــــرقيًــــــا منذ بَــــــــدْءِ تاريخــــــــــهم”.
أمّا أستاذ علم الأجناس البشرية في جامعة جنيف أوجين بيتار يقرر فــــيقول: “إنّ اليهود عبارة عن طائفـــةٍ دينيـــةٍ اجتماعيّــــــةٍ، انضــمّ إليهم في جميع العصور أشخاص من أجناسٍ شتّــــــــى”. (بودميع، الحسين، 2016 :11)
وحسب رأي الإنثروبولوجيا وعلم الأجناس البشرية فــإنّــه لا نقاءَ عِــــرقــــــيًّــــــا لليهود، وإنما اليهودية طائفة دينيّة تبشيريّة انضـــمّ إليها أجناس وأعراق مختلفة على مــرّ العصور.
ومن حيــثُ الدلالاتُ التاريخيّــــةُ، فقد ذكر الدكتور جمال حمدان في كتابه “اليهود انثربولوجيّـــــا” أنّ اليهود متنــوّعـــون عِــــــــرقــيًــــا، وأنّ الصّــــــفات الجنسيــةَ التي تستند عليها الوراثة ولا تتأثر بالبيئة لتكونَ مؤشّــــــرًا وثـــــــيقًــــا على الأصول الأولى والمرتبطة بالجينات، وحظيت بــإجماع الانثروبولوجيين تفيد بأنّ “يهود عصر التوراة في فلسطين هم مجموعة سامية من سلالة البحر المتوسط، بصفاتها المعروفة إلى اليوم؛ من سمـــــــرةٍ في الشَّـــــــــعر وتوسّـــطٍ في القامة، وطولٍ إلى توسّـــطٍ في الرأس. (بودميع، الحسين، 2016 :12)
وذكر المـــؤرّخُ والعالـِــــــــــــــمُ البريطانيّ اليهوديّ آرثـــــــــــــــــــر كيستلــــــــــــــر دلالاتٍ على جنس اليهود في العصور القديمة للتبشير بديانتهم مثل يهود الفلاشا في الحبشة (إثيوبيا) ذوي الـــــــبشرة السّـــــوداء، ويهود كاي فــــنــــج في الصّــــين، واليهود اليمــــــنييّــن في اليمــــــــن (بودميع، الحسين، 2016 :6) وقد بلغ التبشير بالديانة اليهودية ذروته في الامبراطورية الـــــــرّومانية.
وذكرت دائرةُ المعارفِ البريطانيــةُ أنّ اليهود نشطوا بالتبشير إلى ديانتهم بين مختلف شعوب الأرض عندما رأَوْا أنّ الوثنيــةَ قويّـــــةُ النفوذ في العالم، وهذا يتوافق مع ما ذكره الكُتّــاب القدماءُ اليونانُ والـــــرّومانُ، وخاصّــــةً أنّ اليهودية انتشرت في أواسط قارة آسيا وغربـــها عن طريق التبشير.
وفيما يتعلّــق بالدلالاتِ الدينيـــــــــةِ، فهنالك دلالاتٌ بنصوصِ الكتابِ “المقدسِ” بعهديْـــــــهِ، وفي القـــــرآنِ الكريـــمِ تدلّ بوضوح على أنّ اليهودية دين، وأنّ رسالة موسى _عليه السّـــــلام_ لم تكن خاصّـــة ببني إسرائيل، وأنهم مارسوا التبشير بالديانةِ اليهوديـــةِ، ولا نقاءَ عِــــرقيًّـــــا لدى أتْباع الديانةِ اليهوديةِ. (بودميع، الحسين، 2016 :5)
وبالإمكان تأكيد ذلك من خلال رأي بعض الحاخامات اليهود، مثل أشعياهو الثاني، وحسب ما ورد في سِــــــفر روث، وسِفر يونان، وسِــــــفر يهوديت الخارجيّ بأنّ هناك دعواتٍ مباشرةً وغيرَ مباشرةٍ تعسى إلى اجتذاب الأغيار إلى اليهودية حتى في ظل وجود أصوات، مثل الحاخاميين التلموديينَ متل الحاخام “حليفـــــــو” تحــــــذّر من خطر التهويد على جماعة بني إسرائيل. (بودميع، الحسين، 2016 :5)
وبالإمكان النظر إلى هذه التحذيرات من جهة أخرى؛ على أنها دلالة على وجود تبشيرٍ وتهوّدٍ لدى الأغيار، وإلّا لِـــــــماذا هذهِ التحذيرات؟
ويؤكّـــــد ذلك وجود قانون التهويد _إلى الآن_ ضمن أنظمة الحاخاميِّـــين العليا في إسرائيل.
وأيًّــــا كان الأمر، فـــالثّـــــابت أنّ الصّهيونية سخّــــرت الديانةَ اليهوديةَ، ورجّــــــحت وجهة نظر المتشــــدّدين والمتزمّــــتين أو الملحدين للاستفادة من الديانةَ اليهوديةَ، هذه الاستفادة هي – بالأساس – شكّـــــلت الأساطيرَ المُؤسّــــسة للسّـــــياسة الإسرائيليةِ، ويُـــــــعـــدّ هذا التسخير انحطاطًـــــا لليهودية بسبب الهرطقات التي أبرزتها الصهيونية(غارودي، روجيه، 1998: 29) ومن ناحية أخرى وافق البروفسور شاحاك الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس في كتابه “عنصرية دولة إسرائيل” “على أنّ الحكوماتِ الصّــــــهيونية المتتاليةَ تستخدم الدين اليهوديّ لتحقيق أهدافٍ سياسيّـــةٍ”. (غارودي، روجيه، 1998: 30) بـــل تجاوزت الصّـــهيونية الاستغلال لتصلَ إلى المعاداة من خلال اتهام اليهوديةِ بالشذوذ والتقصير من خلال عدم تحقيقها للسّــــيادة؛ وليس بالإمكان إزالة هذا التقصير والشذوذ عن طريق إصلاح اليهودية، أو تحويلها إلى أيّ قطاع آخر كالاقتصاد مثلاً، أو عن طريق الدمج والتطبيع في المجتمعات التي يعيشون فيها. (المسيري، عبد الوهّــــــاب،2001: 13)
وإنّ وجود اليهود في المَــــنفى والشّــــتات هي حالة من الشّــــــذوذ أثرت على الشّــــخصيّـــــة اليهودية، أمّا الشذوذ الاقتصاديّ فظهرَ من خلال اشتغال اليهود بأعمالٍ حــــرَّةٍ، وبالمضارباتِ، والأعمال الهامشيّـــةِ غير المنتجة مثل: التهريب، والاتجّار في العقارات.
بينما حدث الشّــــذوذ السّــــياسيّ نتيجة عدم مشاركة اليهود في السّـــلطة، وهذا الذي أحدث لدى اليهود ازدواجيّــــةً في الولاء. (المسيري، عبد الوهّــاب،2001: 13)
وإنّ الحديث عن “هامشية اليهود” وعدم مشاركتهم في السّلطة، فإن ذلك فيه نوع من التعميم؛ فالمقصود هامشيّــــــة يهود شرق أوروبا في القرن التاسع عشر تحديـــــدًا؛ لأنّ الجماعاتِ اليهوديةَ في غرب أوروبا حظيت بدورٍ حيويّ ووظيفــةٍ أساسيّـــةٍ في المجتمع، رَغــــــم أنها لم تكن جــــــــــــزءًا من العمليةِ الإنتاجيّةِ. (المسيري، عبد الوهّـــــاب، 1999: 11)
وفي إشارة إلى الجماعات اليهوديةِ في العالم الإسلامـــيّ، فكونهم تفاعلوا في محيطهم الحضاريّ وانخرطوا في سائر الوظائف فلم يكن هامشـــيًّـــــا، وكذلك الأمر في الولاياتِ المتّـــــحدة الأمريكيةِ وفرنسا وبريطانيا، لأنّ اليهود حَــــــظُــــــوا بالاندماج والمشاركة في المجتمع، وأنّ مصطلح (الهامشيّــــة) ينطبق على وجود الدولةِ الصّهيونيةِ المموّلةِ في الخارج، والتي أُسِست على أرض فلسطين، وحوّلت سكّــــانها إلى
عَـــمالــــةٍ رخيصـــةٍ، وقمعتهم، وأجهضت تطلّــــــعاتهم الوطنية.(المسيري، عبد الوهّــــاب، 1999: 11)
أمّـــا القصد من الاستخدام، فيظهر من خلال هدف هيرتسل القومـــيّ في أثناء لقائه مع الحاخام الأكبر زادوك كاهن بتاريخ 16/11/1896م كمحاولة لاستقطابه عندما طرح عليه “أنّ على الإنسان اليهوديّ الاختيار بين أرض صُــــــهيون وفرنسا”، وبذلك يريد هيرتسل التركيز على القدسية للمكان، واستثناء الإيمان اليهوديّ باعتباره عنصــــرًا غريــبًــا عن مشروع الصّـــهيونية؛ لأن التركيز على القدسيّــــة يأتي بالعنصر الأهـــمّ، وهو جمع اليهود في أمة. (غارودي، روجيه: 1998: 25)
إنّ الصّــــهيونية باعتبارها عقيدةً سياسيّــــةً ولدت مع هيرتسل والآباء المُؤسّـــسين تحتاج إلى تبرير وجودها الأساسيّ، وللحصول على هذا التبرير رجعت إلى الديانة اليهوديةِ لاستخراج مصطلحاتٍ توراتيةٍ مثل (شَعب الله المختار) و(الأرض الموعودة)، لأنها تعلم أنه ليس بإمكانها التطور بدون دعــــمِ العناصرِ المتدينةِ والحاخاميّــــةِ الكبرى المتطرفةِ لإقناعهم أنّ أرضًـــا محتــلّـــةً يمكن أن تكون أرضًـــا مــوعـــودةً.(غارودي، روجيه،1998: 19) أي أنهم يطالبون بملكيةِ أرضٍ أعطاهم إياها إلهٌ لا يؤمنون به. وهذا هو التناقض الرئيس بين الحركة السياسيّـــــة العلمانية وبين المتدينين.
ولا يُــــنكـــرُ هيرتسل وأركان في دولة الاحتلال الإسرائيليّ عدم إيمانهم، ولكنّ تمسّــــــكهم بما جاء في سِـــــفر التكوين يأتي في إطار تحقيق أهدافهم السّـــياسيّـــــة، والبقاء في منظومــةِ القيـــــادةِ السّـــياسيّــــةِ، وأنّ الرؤساء المتنفذين في الصّـــهيونية وفي أمريكا تمسّـــكُــــوا بحدود الأرض حسب الكتاب المقدس: “من الفراتِ إلى النيلِ أرضُــــــكِ يا إسرائيل”. (غارودي، روجيه،1998: 15)
حينئذ بدأت عملية التعبئةِ الدينيةِ المدنيةِ والعسكريةِ للسّــــيطرة على الإمبراطوريــــةِ التي حـــدّدها سِـــــفر التكوين، وأنّ القتال من أجلها ما هو إلّا اقتداء بـــــــــيوشــــــع بن نون. (غارودي، روجيه،1998: 16)
وبذلك تكون الصّــهيونية قد تبنّــــت الآراءَ المسيحانيــةَ، وأحيت الـــــرّوايات التوراتيــةَ عن التكوين واللجوء الجماعــيّ، وعرضت جذور التقاليد التي تربط القبائلَ العبريةَ والإسرائيليةَ بأرض كنعان (فلسطين) رغم أنّ الجهودَ البحثية كافةً، والمتلاحقةَ لأجيالٍ من الباحثين لم تستطع كشف أي دلائلَ تاريخيـةٍ أو أثريـةٍ تدلّ على وجود الأحداث التي ذُكــــرت في التوراة، ولا للشخوص أو النصوص(مصالحة، نور الدين، 2003: 17) وللخروج من هذا الجدل نتركُ ذلك الأمر إلى علماءِ الآثارِ وعلماءِ الفقهِ للتحقّـــــق من مدى صحّـــة ما جاء في التوراة ومطابقته مع علم الآثار، خاصّة وأنّ الاكتشافاتِ الأثريةَ تتناقض بكلّ وضوحٍ مع الصّورة في التوراة.
وعند الحديث عن المملكة الموحدة تحت سلطة داود وسليمان ووصفها في الكتاب المقدس بأنها دولة إقليميّـــة، فهي لا تتعــدّى كونها مملكةً قبليةً صغيرةً. وأنّ الصّورة التي تظهر في العهد القديم يحقّ لليهود في التوسّـــع عَــبر “أرض إسرائيل” والشّـــرعيّــــة الأخلاقية المزعومة في بناء دولة إسرائيل وسياستها تجاه المواطنية الفلسطينية عام 1948م ما تزال منتشرة في أوساط اليهود والصّـــهاينة، وضمن الثيولوجيا المسيحية السّائدة، وأنّ الرابط بين الحرب عام 1948م والعهد القديم ينعكس في الدعاية التي قدَّمها بن غوريون أول رئيس لدولة الاحتلال بعد الحرب، حيث قال: “إنّ التوراة هي أصل التملك المقدس لليهود في فلسطين”(غارودي، روجيه،1998: 17) في محاولة منه لتبرير العدوان وعدم الظّــهور بالارتباطِ بالمخططاتِ الاستعماريةِ الغربيةِ بإضفاء الشّـــرعيّـــة الدينيةِ على السّــلوكِ السّــياسيّ والعسكريّ العدوانيّ، مُــستغلاً بذلك نصوص التوراة لتبرير مواقفه السّياسيّـة.
أما بخصوص ترويج الصهيونية مقولَــة أنّ فلسطين أرض قاحلة ” صحراء” ووصفها في القرن السّـادس عشر بأنها أرض يهودية في الغالب، وتشكّل الشّـريانَ التجاريَّ للمنطقة حسب ادعاءِ مُــنظّــــريها، ولاحقاً وزارة الخارجية لدولة الاحتلال.
فإنّ مؤلّــــــــفي هذه الرواية لم يكلفوا أنفسهم بالاطّـلاع على ما كتبه نُـــظــــراؤهم من المؤرّخين الجُـــدد، ولم يعتمدوا على الدراساتِ البحثيةِ الإسرائيليةِ ولا على الحفرياتِ الأثريةِ؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لرفضوا هذه الرواية ولم يقبلوها.
ولكن هذا يُـظهر بأنهم غير مختصّـين، ولهؤلاء نقول: “أنّ عليكم الرجوعَ إلى باحثين إسرائيليين مختصّـين، وليس فلسطينيين، مثل ديفيد غروسمان الباحث في علم السّكان وامتون كوهين و يهوشع بن أريه الذيـن أظهرت أبحاثهم أنّ فلسطين على مدى قرون لم تكن صحراء، بل كانت مجتمعًــا عربيًـــا مزدهــــــرًا وشكّل المسلمون الغالبية العظمى فيه وغلب عليه الطابع الريفـــيّ مع وجود مراكزَ حضريةٍ حيويةٍ، وأنّ المجتمع الفلسطينيّ تحت الإدارةِ العثمانيةِ كان شأنها شأن المجتمعاتِ العربيةِ المجاورة، بل أكثر انفتاحًـــا، وأنّ تطور فلسطين باعتبارها دولةً بدأ قبل ظهور الصّـهيونية، وظهر فيها حُـكّــــام محلّــيــون مثل ظاهر العمر عام 1690م، وأحمد باشا الجزار عكا، وتــــمّ تحديث مُدنها مثل حيفا، وشفا عمرو، وطبريا، وعكا من خلال علاقات التجارة مع أوروبا.(بابيه، إيلان، 2018: 18)
ولم يقتصر استغلال الصّـهيونيةِ للديانةِ اليهوديةِ، بل تجاوز ذلك لاستغلال التنافس الاستعماري بين الدول الغربية على منطقة الشرق الإسلامي من خلال المسألة الشّـرقية؛ لذا نجد أنّ الصّهيونية تُعطي وعودًا متضاربةً للدول الاستعمارية؛ حيث قطعت وعــدًا للإنجليز بحماية طريق الهند (بِـــــــدْءًا من أوغندا أو فلسطين، وكلتاهما تقع على تقاطع القارات الثلاث) من مطامع ألمانيا في الشّرق، ووعدت إمبراطور ألمانيا غـــــيــــــــــــــلـــــــوم الثانـــــي بحماية مشروع “برلين، بيزنطية بغداد” من الإنجليز، لِما كان من تنافس بين الطرفين على اقتسام تركة الرجل المريض. وعندما قابل هيرتسل أمبراطور ألمانيا بتاريخ (19/10/1898) عرض عليه قضّية الصّهيونية وبناء شراكةٍ ذاتِ شرعيّــــةٍ من خلالِ الحمايةِ الألمانيةِ لها لكي تستطيع الصّـــهيونية الإسهام في التخلّص من الاشتراكية، إلّا أنّ تخـوّف إمبراطور ألمانيا من عدم مغادرة اليهود لألمانيا؛ إذ شعروا أنهم في حمايتها. وذكر هيرتسل بأن يهود ألمانيا سيرحّــــبون بالصّـــهيونية التي ستعمل جاهدةً على تدفق يهود أوروبا الشّــــرقية إليها. (غارودي، روجيه،1998: 25)
وفي هذا إشارة واضحة إلى أنّ الصّـهيونية استغلّـــت كــــلّ ما هو ممكن من تحولاتٍ سياسيّــــةٍ لتحقيق أهدافها بالحصول على دعــمٍ دولـــيٍ ضمن ما أُطلق عليه ” البراءة الدولية” لمعالجة مشكلة يهود أوروبا بشكل عام، ويهود أوروبا الشرقية بشكل خاصّ.
وبالنظر إلى ما سبق يتضح أنّ الأسطورة الصّهيونيةَ التأسيسيّـــة، عبّـــرت عن نفسها تحت كــلِّ السياساتِ والثقافــاتِ الإسرائيليةِ حتّــــى يومنا هذا من خلال ثلاث مقولات تــمّ اختراعها، وهي:
- نفي المَــــنْـــــــــــفى.
- العودة إلى أرض إسرائيل.
- العودة إلى التاريخ. (بيتربيرغ، غابرييل، 2009: 120)
وهذه المقولات الثلاث متشابكة، لا انفصال فيها داخل الروايات الصّــهيونية الرئيسة التي تشرح كيف وصلت الصّــهيونية الى حيث وصلت، وأين ستذهب بعدها.
وبالنسبة إلى العودة إلى أرض إسرائيل، فحسب الرواية التوراتية فـــإنّ المشكلة للأسطورة التأسيسيّـــــة تـــشكلُ استرجاع الشعب إلى بيته وعـــــدًا لإطلاق عملية تطبيع الوجود اليهوديّ بعد تحديد المكان المخصص لإعادة تحقيق “الخروج”. (بيتربيرغ، غابرييل، 2009: 120)
ويتضح ممّـــا سبق أنّ هناك تطابقًـــا بين القصصِ التوراتية؛ وتلك التي نقلتها الثقافةُ المسيحيةُ البروتستانتيةُ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ حيث عرّفت الأيدولوجية الصّهيونية بأنّ أرض فلسطين كانت فارغةً، وهذا يتعارض مع الحقائقِ التاريخيةِ والاكتشافاتِ الأثريةِ التي تشير إلى تواصلٍ اجتماعيّ فلسطينيٍّ في أرض فلسطين تحت الادارة العثمانية وما سبقها من عصور، والتي لم تجد أي خارطةٍ تاريخيةٍ أو دينيةٍ دقيقةٍ لحدود أرض إسرائيل التوراتية، كما لا يوجد تعريف دينيّ دقيق لهذه الحدود، ونجد أن استخدام هذ المصطلح ومصطلحات أخرى ذات دلالات دينية لاستثمارها كي تغني عن الدلالاتِ التاريخيةِ والأثريةِ والجيوبوليتيكةِ بعيدةِ الأثرِ، في كـــلّ البدَع الصّهيونية، بهدف استحضار الماضي على أيدي مؤلفين صهاينة عكس أيدولوجيةٍ دينيةٍ سياسيةٍ لتأسيسِ الادعاءاتِ التاريخيةِ للصّـهيونيةِ المعاصرة في أرض إسرائيل.(مصالحة، نور الدين، 2003: 18)
وحسب رأي يهود ماجنس رئيس الجامعة العبرية في القدس عام 1926م عندما وصف توافق الصّــــوت اليهوديّ الجديد للخضوع إلى لغة القوة الجسدية السائدة في العالم بعد أن حاولت ثورة إسرائيل الجديدة اخضاع يهود الشّرق وشعب إسرائيل إلى جنون القوة، وحسب وصفه لا يستطيع الاتفاق مع مجتمع أصبحت فيه القومية عقيدة مفروضة، ففي ظلّ التصوّر العام لتاريخ المصير اليهودي، ووضع اليهود وأمنهم في أنحاء العالم، فلا تستطيع الالتزام بالتوجّــــه السّــــياسيّ الذي يسيطر على البرنامج الصّـــهيونيّ الحالي، ولا ندعمه.
وأنّ الصّهيونية تميل إلى خَــــــلْـــــقِ الإرباك عند رفاقنا في مواقعهم ومراكزهم في المجتمع، وتحويل اهتمامهم بعيدًا عن دورهم التاريخيّ: العيش ضمن جماعاتٍ دينيةٍ حيثما كانوا. (غارودي، روجيه،1998: 18)
ويعتبر هذا أحد الأصوات العديدة المؤمنة التي تعارض البرنامج السياسيّ للصّهيونية، وهذا يتفق مع آراء العديد من اليهود الذين يَـرَوْنَ أنّ أرض صُهيون ليست مقدسةً، إلّا إذا سيطرت عليها شريعة الرّبّ، وأنّ أيّ شريعةٍ ربانيةِ تُــــطبق في القدس هي مقدسة، فالأرض وَحدها لا ترتبط بالحفاظ والإخلاص للعهد، بل على الشّعب الذي سكن أرض صُـــهيون مجــدّدًا أن يلتزم بمتطلباتِ العدالةِ والاستقامةِ والاخلاصِ لعهد الرّبّ.
الخلاصة
انتهزت الحركــــــةُ الصهيونيةُ التنافسَ الاستعماريّ للحصول على دعمٍ دوليٍّ وحلّ مشكلة يهود أوروبا بشكل عام ويهود أروبا الشرقية بشكل خاص.
واستغلّت أيضًــا الديانة اليهودية لتحديد أرض الآباء حسب الوعد التوراتيّ، وتجميع يهود العالم وتهجيرهم إلى الأرض المقدسة من خلال الاستعانة بمجموعة من الرموزِ التوراتيةِ لإقناع يهود العالم بالهجرة إلى فلسطين لإعادة سلطة سياسيّــةٍ عليها، مرتبطةٍ بالأهدافِ الاستعماريةِ في أوروبا لتكون جزءًا وامتــــــدادًا للإمبرياليةِ العالميّــــةِ للسّـــيطرة ِ على الشّرق من خلال استعمار فلسطين باسم الدين؛ وبذلك تكون قد أوجدت لنفسها وظيفة تنسجم مع الاستعمارِ الأوروبيّ.
إلّا أنّ هذهِ الوحداتِ ستصل إلى قدرتها التعبيريةِ الذاتيةِ على شكل دولٍ وأمـــــمٍ ذاتِ سيادة، فالأمة هي الفاعل المستقل ذاتيًــــا وتاريخيًــا والذي لا يعلو عليه شيء، والوصول إلى الدولة هي غاية مسيرتها نحو تحقيق الذات.(بيتربيرغ، غابرييل 2009: 121) ويبدو أنّ هذه الأفكار أثرت بشكلٍ قويّ في الحركة الصّـــهيونية، وأصبحت هي المحرك الرئيس نحو التحول إلى القوميّـــــةِ.
ويظهر أنّ هذه الفكرة مستوردة من البيئةِ القوميّـــةِ الأوروبيةِ، لذا اعتبرت الصّهيونية أن بقاء اليهود في المَـــنفى يُــــبقيهم خارج التاريخ الذي تقيم فيه الدول الأوروبية، فالأمم التي تُــــقيم فوق أرض آبائها وتؤسّـــسُ سيادتها السّياسيّة عليها، هي وحدها القادرة على التحكّـــــم بمصيرها ودخول التاريخ الحديث. ودعوة الأمة اليهودية إلى أرض إسرائيل تُـــمكّــــنها من التغلّــــب على خُـــنوعها وتبعيتها السّياسيّة السلبيةِ في المنفى، وسيعمل رجوعها إلى انضمامِها إلى الشعوب المتحضّــــرةِ.(بيتربيرغ، غابرييل، 2009: 121)
- الروايات الصهيونية حول أحداث النكبة لعام 1948م
بَــــــدَت النشاطاتُ الصّهيونيةُ في أوروبا متأثرةً بالحركاتِ القوميّـــةِ الأوروبية، وبرزت جماعات منهم تعتقد أنّ الديانة اليهوديةَ والرابطةَ العنصرية المزعومة تجعلهم مُــــوحدّين في هدفٍ واحدٍ، وتجعل منهم أمةً واحدةً وقوميّــةً يهوديةً ذات حقوقٍ طبيعيةٍ كسائرِ القوميات الأوروبية الأخرى، وهذا الحق يؤهلهم أن يكون لهم كيان سياسي منفصل يتمثل في إقامة دولة يهوديةٍ على أرضِ خاصّــةٍ بهم، واستناداً إلى الروايات التوراتية وجدوا ضالّــــــتهم في فلسطين، على اعتبار أنها أرض الميعاد.(الجبوري، أحمد حسين عبد، 2018 :7)
وهذ الأمر جعلهم يبحثون عن رواياتٍ وأراجيفَ لتبرير هذا المشروع الاستعماريّ في فلسطين، وما ارتبط به من آثارٍ كارثيةٍ مدمّـــرةٍ بالنسبة إلى سُكّـــان فلسطين الأصليين (شلومو، ساند،2014: 11) خاصّة وأنّ فلسطين بلد مأهـــــول بالسّكان وأنّ هذا المشروع مبنيّ على فكرٍ عنصريّ متطرفٍ وعدوانيّ يهدف إلى عمليات تبديل السكان، وما رافقها من عمليات قتل وتهجير وتدمير؛ لإحلال العنصر اليهودي مكان العنصرِ الفلسطينيّ بعد السّيطرة على أرض فلسطين.
وهدفت الحركة الصّهيونية أيضًـــا من خَـــلْـــق هذه الرّوايات إلى الاستفادة منها في الحدّ الأقصى ضمن سياقاتٍ مختلقةٍ لاختلاقِ قوميّـةٍ جديدةٍ وشحنها بغايات استعمار فلسطين باعتبارها “وطــنًـــا” موعودًا لأبناء هذه القوميّةِ الجديدةِ القديمة منذ أقدم العصور؛ لذا استعانت بالروايات لتبرير الحروب التي سيخوضها هذا الشّعب لاحتلال الوطن، وبعد ذلك حمايته من الأعداء على اعتبار أن هذه الحروب عادلة ومبرّرة؛ وتحويل مقاومة السّكان الأصليين – الفلسطينيين في نظر العالم والقانون الدوليّ _ على أنها أعمال إجراميّـة، وتسوّغ ما ارتُــكِـــب يُــــرتكبُ ضدّهم من جرائمَ حربيةٍ، وهــم يحملون وِزْرَ آثــار هذه الحروب وشرورهــــا.(شلومو، ساند،
2014: 12)
وبذلك تكون الحركةُ الصّهيونيةُ قد جعلت المصطلحاتِ الدينيةَ مثل: “أرض إسرائيل” و”شعب إسرائيل” وسلوك الصّهيونية إلى مُصطلحًـــــا سّياسيًّـــــــــا يستفيد من الديانة والإرثِ الدينيّ لتحقيقِ الهدفِ السّـــــياسيّ بسرقة الأرض من أصحابها الأصليين، وتحويلها إلى وطن قوميّ، وكانت هذه الروايات تُــــستخدمُ منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.(شلومو، ساند،2014: 12)
وكون هذه الرّواياتِ والأراجيفِ كثيرةً ومتنــــوّعــــةً فلا يستطيع الباحث التطرق إليها جميعًـــا، واتمامـــاً للفائدة سنعرض لبعضها الذي يخــصّ نكبة عام 1948م وما سبقها. وسنترك للباحثين التطرق إلى ما عداها، من أهم الروايات التي سيتم التطرق إليها، وتخدم الهدف فهي:
-
- أرض فلسطين أرض خالية من السّــكان؛
- فلسطين أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض؛
- أنّ سُكّان فلسطين غادروها عام 1948م طوعًـــا، والتزامًـــا بقرارات القيادة العربية؛
- عدم تحمّل الحركةِ الصّــهيونيةِ المسؤوليةَ الرسميّـــــة لأحداث النكبة عام 1948م.
- أرض فلسطين أرض خالية من السّـــــــكّـــــان
أمّا بخصوص الأرض الخالية من السكان، فإن هذه الروايةَ استندت إلى العديد من المعطياتِ المغلوطةِ عن فلسطين وأهلها وحضارتها؛ لذلك وبالرجوع إلى الايدلوجيّـــة الصّــــهيونيةِ العنصريةِ التي عرَّفت (أرض فلسطين) بأنها خالية، نجد أنها بُنيت على تجاهل وجودِ الشّعب الفلسطينيّ، وبُنيَ هذا التجاهل على فكرة نفي الأرض التي انقطعت عنها السّيادة اليهودية، وتضيف الرواية بافتقار أرض فلسطين إلى أيّ تاريخٍ حقيقيّ له معنى، وهذه الأرض تنتظر خلاصها بعد عودة اليهود إليها. (بيتربيرغ، غابرييل، 2009: 121)
وهذا لتبرير الرواية التي تتنكر لوجود الشّعب العربيّ الفلسطينيّ، وعدم قدرة أيٍّ كان على نفي الوجود الفلسطينيّ، لذا ذهبت الرواية الصّهيونية الى تفسيراتٍ وتبريراتٍ لروايتها بحرفها عن معناها، أي أن ّخـــــــلــــوَّ الأرض من السّكان لم يكن بالمعنى الحرفيّ للكلمة؛ بل إلى فراغها من السّيادة اليهودية، ولدى الرجوع إلى الحقائق التاريخيةِ والسكانيةِ، نجد أنّ التواصل الاجتماعيّ العربيّ الفلسطينيّ المسلم كان على طوالِ العصورِ الزمنيةِ السابقةِ، ولم يكن هناك أيّ أغلبيةٍ يهوديةٍ في فلسطين، ولكنّ هذا الادعاء يؤسّس للمطالبة باستردادها، وإقامة تسلسلٍ هرميّ استعماريّ يتــــمّ الإقرار به من خلال سلطةٍ دينيةٍ هي سلطة الكتاب المقدس على يد الحُـــــــرّاس التاريخيين للتصدّي لأيّ فلسطينيّ يحاول البقاء بعد عودة اليهود، وإعطاء امتيازاتٍ شاملةٍ مستندةٍ إلى الأسفار الخمسة الأولى من التوراة ليتحول المستوطن إلى فاعلٍ، والفلسطينيّ المحليّ إلى مفعول به، ومعاملته كجزءٍ من المحيط العربيّ وليس الفلسطينيّ الذي سيُهجّـــــر، أي إلغاء التاريخ والحضارة والسّــــكان الفلسطينيين لصالح المستوطن اليهوديّ.(بيتربيرغ،غابرييل 2009: 121)
وتعتقد الصّهيونية وجود إسرائيل باعتبارها دولةً تتماشى مع التطور الطبيعيّ للحركة البشرية في منطقة الشرق، ومرتبطة بالغرب، ناسين أو متناسين أنّ وجود هذه الدولة في الشّرق أوجدها خلل استراتيجيّ تمثّــــــــــــــل في تصوّر غير حقيقيّ عن أرض وُصفت بأنها صحراء فارغة، وليس فيها أحد وتنتظر عودة شعبها المشرّد منذ القدم ليعيد بناءها على أساس الحضارةِ الغربيةِ الحديثة، وأنّ هذه الفكرةَ التي آمن بها المستوطنون الأوائل ولم يعلموا أنّ هذه الأرض يسكنها شعبٌ حقيقيّ له حضارته وجذوره التاريخية، وتطوره المدنيّ على هذا البقعة؛ لذلك ركّـــــــزت الحركةُ الصّـــهيونية على قلب الدخيل وإقناعه بأنه أصيل، واقناعه أنّ الأصل دخيل أو غير موجود، وهذه الفكرة بُنِــيَ عليها تشويشات فكرية وسلوكية أدت إلى ظهور تياراتٍ فكريةٍ جديدةٍ عكست التناقض الداخليّ، وشكّـــلت أزمةَ هُـــــــوّيةٍ وفقدانٍ، لأنّ المشروع الذي قامت ونهضت عليه هو الفكرة والدّولة. (بابيه، إيلان،2015: 7)
لقد استمرّت تداعيات الحرب بأشكالٍ مختلفةٍ بعد انتهائها فعليًـــا في شباط 1949م لسنوات عدّة رُغــم توقيع اتفاقيات السّــــلام مع الدولِ العربيةِ في رُودس_ (اتفاقية رودس) الموقّـــــعة بين المملكةِ الأردنيةِ الهاشميّــــــةِ وإسرائيل-، إلّا أنّ جهاز الحكم العسكريّ بدأ في تلفيـــق حججٍ للاستمرار في عمليات اعتقاٍل وإرهابٍ، ومنع المتسلّلين من العودة إلى أملاكهم وبيوتهم، بغيةَ طرد الأهالي خارج حدودِ الدولةِ المزعومةِ.
تجدر الإشارة إلى أنّ مثل هذه العمليات استمرّت بعد انتهاء الحرب، وخلال السنوات الأولى من خمسينيات القرن الماضي، وأحدثــها الجيش والشرطة وحرس الحدود وأفراد أجهزةٍ أمنيةٍ أخرى، حيث كانت هذه سياسةً رسميةً لمنع عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم ووطنهم. فقد شكّـــل الجيش لهذه المهمّـة وحداتٍ خاصّـةً أشهرها الفرقة “101” بقيادة أرئيل شارون، نفّـــــذت هذه الفرقة عدّة عمليّــات انتقاميةٍ من الأهالي الفلسطينيين لتفريغ الأرض من سكّانها الأصليين. (مناع، عادل، 2011: 78)
- فلسطين أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض
بالنسبة للشّعار الثاني، وهو “فلسطين أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض”، والذي أطلقه كشعار يسرائيل زاتغويل، قبل أن يتحوّلَ إلى روايةٍ سياسيّـــةٍ في الدعاية الصّــــهيونية (شلايم آفي، 2013: 108) والحقيقة أنّ هذه الرواية لو أنّها صحيحة لما كان هناك صراع بدأ منذ اللحظةِ الأولى لأن تطــأَ أقدام الصّــــهاينة أرض فلسطين، ومازال مستمـــــرًّا حتّى اللحظة. وصحيح أنّ الصّهيونية حقّــقت حُــــلمُها بحكم الأمر الواقع، وأقامت دولتها على أرض فلسطين التي يصفونها بالحدودِ التوراتيةِ حسب زعمهم في أمنٍ وسلام، ولكنّ الحقيقةَ الثابتةَ أن هناك شعبًــا عاش على هذه الأرض، وما زال يعيش على هذه الأرض منذ عدة قرون، ويقاومُ هذا الوجود الغريب على أرض فلسطين.(شلايم آفي، 2013: 108)
وأنّ هذه الرواية ليست سوى أكذوبةٍ مُـــفتــعلــةٍ تحملُ الدعايةَ الصّهيونيةَ المبكرةَ؛ بل إنها ظاهرة متداولة في التاريخ الإسرائيليّ الصهيوني لبناء الأمة. وللدلالة على بطلانها لدينا الكثير ممّــــــا يُـــقال عن التاريخ الفلسطينيّ المتواصلِ منذ العصر الحجريّ لغاية الآن، ولكن علينا أن نستشهد بأمثلة من الصّهاينة أنفسهم لنفيها، وهنا لا بدّ من الاستشهاد، بمثالين هــــــما:
- شهادة (عاموس عوز) عندما نشر مقاله في صحيفة (دافار) العبرية بحيث يبين الميل العميق بين اليهود الإسرائيليين لرواية فلسطين كبلد دون سكان، إذ قال فيها: “عندما كنت طفلاً علّمني بعض أساتذتي أنه بعد دمار الهيكل، وحين أُبعِــــدنا عن بلدنا (المقصود فلسطين) جاء غرباء إلى ما كان إرثًـــــا لنا وعبثوا فيه، إنّ العرب الذين وُلِـــــدوا في الصّحراء جعلوا الأرض خرابًـــا ودمّــــروا صفوف المنازل من عَـــــــــــلى التلال، وأمّا قطعان الماشية فقد دمّـــرت الغاباتِ الجميلةَ، وحين جاء الرّواد الأوائل إلى أرض إسرائيل أعادوا بناءها، وخــــــلّــصوها من الدمار ووجدوا أرضًــا بوراً مهجورةً، ويصح القول: إنّ عددًا قليلاً من البدو المتخلّـــفين الأفظاظ كانوا يتجولون فيها(مصالحة، نور الدين،2003: 20)، ونلاحظ أن (عاموس عوز) اعترف بوجود عرب بدو رُحّــــل أفظاظٍ، _ حسب وصفه_ ليقصدَ أنهم خارجون عن الحضارة وغير متأثّـــرين فيها، ولم يذكر المراكزَ المدنيةَ المتطورةَ، أي أنه اعترفَ بالجزء الأسهل عليه تبريره في وصف السّكان المحلّيين بالتخلف والـــــــــرّعاة المتنقلين، وهذه مغالطة إضافية.
ومن هذا المنطلق اعتقد بعض الرّواد الصّهاينة الأوائل بحكم الحقّ التوراتيّ أنّ على هؤلاء العرب العودة إلى الصّحراء وإعادة الأرض إلى أصحابها، وإذا لم يفعلوا ذلك طوعًــــا فعلى الصّــــهاينة أن يـــــــفعلـــوا ذلك لكي يَـــرِثوا هذه الأرض كما فعل أجدادهم الذين غَـــــــزَوْا أرض كنعان (مصالحة، نور الدين،2003: 19) لذا يتضح أنّ الفكر العنصريّ الصهيونيّ لطرد السكان الأصليين متجـــذّر لدى الصّهاينة.
ب- أمّا المثل الثاني للدلالة، فهو خطاب (إسحق شامير) في افتتاحه مؤتمر مدريد عام 1991م عندما اقتبس من كتاب (مارل توين) بعنوان (أبرياء في الخارج)، عندما زار فلسطين عام 1867م ووصف سُــــكانها المحلّيين بأوصاف تتميّــــزُ بالقبح والازدراء الفكاهيّ، حيث نجد أنّ هدف (شامير) الذي اعتبر مؤتمر مدريد مناسبة احتفاليّـــة ومنصّـــةً دعائيــةً تتمثّـــــل في إثبات أن فلسطين كانت منطقةً خاليةً، وحسب كلمات شامير فإنّـــــها بلد مهجور يتربّــــع على كيس من الرماد، أي أنها مساحة صامتة وحزينة لا يستطيع الخيال أن ينيرَها. (مصالحة، نور الدين،2003: 21)
استُخدمت هذه العبارات للدلالة على أن فلسطين خاليّــة من السكان، ولا يوجد فيها شعب وتبعه في بثّ هذه الدعاية كـــلّ من آرئيل شارون و بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال الحالي، الذين وصفوا فلسطين بأنها مهدّمة ومهجورة وقليلة السّكان، وأنّ استمرارهم في استحضار الماضي البعيد والحديث للدلالة عن أنّ هذه الأرض صعبة ترفض الزراعة أو تحويلها إلى أرض منتجة تتطلب جهــــدًا غير طبيعيّ لإعمارها، وهذا ما فعله اليهود والرُّواد الصّهاينة الذين وصفوها بأنها عبقرية إسرائيل، متجاهلين إسهامات أهلها بالحضارة البشرية قبل ظهور قدوم الصّهاينة.
أمّا من ناحية التاريخ الفلسطينيّ والمراكز الحضرية المدنية فهل كان أحمد باشا الجزار وظاهر العمر في مراكز مدن متطورة ومحصّــنةٍ أم في صحراءَ خاليةٍ، وبالرجوع إلى الشّهادات، فإنّ عُـــــــدول لجنة (اوتسكوب) عن فكرة فلسطين دولة ديمقراطية واحدة؛ لمنع سكان فلسطين من التصويت على مصيرها لأنّ غالبية السّكان من الفلسطينيين؛ لذا عدلت اللجنة عن الفكرة،، وأوصت إلى الجمعيّة العامة للأمم المتّـــحدة بإقرار قرار التقسيم والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين مرتبطةٍ بوحدةٍ اقتصاديةٍ ونظامٍ خاصٍّ لمدينة القدس التي ستخضع إلى إدارةٍ دوليةٍ من قِبل الأمم المتحدة، وبذلك تكون الأمم قد تجاهلت كلّـــياً التركيبةَ السّكانية الأثنية للبلد، وقبلت الادعاءاتِ القوميّةَ للحركة الصّـــهيونية بالنسبة إلى فلسطين بإعطائها ما يزيد على نصف مساحة فلسطين مُبـــــرّرةً ذلك بسبب رفض الفلسطينيين لقرار التقسيم.(بابيه، إيلان،2007: 41) وكيف للسّـــــــكان الأصليين أن يقبلوا تقسيم وطنهم مع الأغراب لمجرد صدور قرار من مؤسّسةٍ دوليةٍ حديثةٍ تجهل تاريخ فلسطين وملكيتها وحضارتها.
- ادعاء الحركة الصّهيونية بأنّ سُــكان فلسطين غادروها عام 1948م طوعًـــا والتزامًـــا بــــقــــــــرارات القـــــيادة العربيّـــــة
ركّـــــزت هذه الفِـــرية وهذه الأُكذوبـــةُ على أنّ الفلسطينيين لم يتم يُـــطردوا ولكنهم غادروا بمحض إرادتهم أو تلبيةً لأوامر زعمائهم على أمل العودة المظفّـــــرة، ومن الظاهر أنّ هذه الدعاية تعارض الواقع في عــــــــدة أمور رئيسة (شلايم، آفي،2013: 108) خاصّة وأنّ الرّواية الصّهيونية ركّـــــزت على بطولات عناصرها في نكبة 1948م وبما أنّ الفلسطينيين العرب غادروا أراضيَهم بمحض إرادتهم، فـــأين هو وجه البطولات التي تحدثت عنها الحركة الصّهيونية، وإذا لم يكن هناك بطولات، فإنّ هناك نكبةً وفظاعاتٍ ارتُــــكبت بحقّ الفلسطينيين، وأنّ الصّهيونية في أراجيفها فضّلت إسقاط العنصر الفلسطيني من القصة برمتها واختفاء القدسية بانصياعها للأيدولوجية الصهيونية في أحداث 1948م(بابيه،إيلان،2015: 74) وكانت السّمة الأبرز للتاريخ الصّهيونيّ في فلسطين تظهر الصّهاينة في تصدّيهم للأشرار الفلسطينية على مرّ الزمن.
إنّ إظهار المجتمع اليهوديّ بأنه ضحّيـــةٌ وعرضةٌ للإبادة، وأنه محاط بالخطر الوجوديّ كان مســــــوّغــاً لما سيحدث من استخدام مفرط للقوة ضدّ السّكان الفلسطينيين رغم التعبير عن ذلك بإيجاد صورة داود في مواجهة جالوت العربيّ، لتدلّ على الجيوش العربية المتوجّـــهة إلى فلسطين؛ لمواجهة مجموعاتٍ صغيرةٍ من القوات اليهودية، ويدعم هذا مجموعة من المؤرّخيـــن الإسرائيلييــن المختصّـين وغير المختصّــين لوصف النصر الصّهيونيّ بأنه معجزة ربانية (بابيه، إيلان، 2015: 78) وبالنظر إلى موازين القوى الحقيقية في حرب 1948م ندرك مدى المغالطة التي رُوّج لها، حيث كانت القوات الصهيونية مسلّحةً بأسلحةٍ حديثةٍ، وتفوق في عددها وعدّتها القواتِ العربية في فلسطين، والتي كانت قد افتقرت إلى القيادة والعدد والعُــــدة.
ومن ناحية أخرى اتسم التاريخُ الصّهيونيّ بالتعبئةِ الفكريةِ العقائديةِ المليئةِ بمظاهر العداء والإزداء للسّكان الأصليّــين (شلايم،آفي،2013: 109) وأنّ الصّهيونية تعاملت مع السّكان الأصليّــين بعدوانيةٍ ووحشيةٍ، وانتهكوا كل القواعدِ والحدود والأعراف أيضًــا، كان ذلك بلا سبب إلّا لاتّـــــــباع غرورهم الاستعماريّ، بل تفاخروا بذلك، الأمر الذي نتج عنه عمليات تهجير وطرد؛ وظهر ذاك في سلوك القادة السّياسّيين قبل القيادة الميدانية، ويتضح أنّ (بن غوريون) كان على رأس هذه العصابة التي عملت على التهجير وارتكاب المجازر مع سبق الإصرار، ولم يكن ذلك في أثناء المعارك ليُبرر بأحداث تطلبها المواقف القتالية ففي أكتوبر 1937م – أي قبل قرار التقسيم وقبل الحرب- كتب في رسالة إلى ابنه يقول فيها: ” أننـــــا يجب أن نطردَ العرب، وأن نحتلّ أماكنهم وإذا كان علينا استخدام القوة ليس لطرد عرب النقب وإمارة شرق الأردن، بل لضمان حقّـــنا في الاستيطان في تلك الأماكن” (شلايم، آفي،2013: 112)، يدلّ هذا الخطاب، ليس على نهج الفرد في عقلية بن غوريون، وإنما يدلّ على أفكارٍ توسعيّـةٍ إقليميّـةٍ حسب فكر بن غوريون، وهذا يُـبرّرُ رفض القيادة الصّهيونية الحلول جميعَها والمقترحاتِ لمعالجةِ وضع الأقلية اليهوديةِ في فلسطين، ومعالجة مشكلة الديمغرافيا إلّا من خلال التهجير، ويستـــدّل من الدراسات والوثائق أنّ فكرة تهجير الفلسطينيين خارج حدود الدولة الصهيونية كانت فكرةً منتشرةً في دوائر القرار لدى القيادة الصهيونية منذ عام 1937م والمستندة إلى فكرة اللورد بيل تبعًـــــا لمشروع التقسيم باعتبار ذلك هو الحلّ الممكن للصراع، (موريس،بيني: 2001، 45) وهذا يدلّ على أنّ قرار التقسيم كان مخططًـــا له قبل عقد من الزمان لصدوره.
إنّ فكرة المستوطنين الصّهاينة خُـــلِــــقت بالأساس لتحرير الأرض من السّكان المحلّــــــيين وانتزاع ملكيتها، لذا تــــمّ تحرير الفلسطينيين المفروزين للتهجير، وجرى تجريدهم من واقعهم الإنسانيّ وحقوقهم القوميّــــة بطردهم من بيوتهم والاستيلاء عليها.(مصالحة، نور الدين، 1992: 79) رغم التعامل مع السّكان الفلسطينيين باعتبارهم جماعاتٍ هامشيّـةً لا كيان لها، الأمر الذي وُلّــــــدَ لدى غالبية الجماعات الصّهيونية موقفًــــا من اللامبالاةِ والإهمالِ والتفوقِ الاستعلائيِ وإنـــــكارِ حقوقهم الوطنية واقتلاعهم وترحيلهم إلى دول الجوار، وللتدليل على ذلك نستشهد بمقالة نشرها عاموسى عوز في جريدة (دافار) العبرية للمقارنة بين أرض من دون شعب، والأغنية الشّـــــعبية العبرية (ل شيمر القدس من ذهب) مُـــــبرّراً فيها الحديثَ عن الترحيل.
“يبدو أنّ سحر تجديد الأيام الغابرة هو الذي أعطى الصّهيونية التوجّــــه العميق والجذور لرواية بلد من دون سُكانها … وكم كان ملائِـــمًــــا لو أنّ العودة إلى صُــــهيون كانت للاستيلاء على الأرض من الجيوش الرومانية أو من أمم كنعان وفيـــــــلِّــــــستـــا، إنّ القدوم إلى بلدٍ خـــالٍ تمامًــا سيكون أفضلَ، لأنه سيشكــّـــل خطوةً قصيرةً إلى نوع من التجاهل الإداريّ المبنيّ على إغفال وجود السكان العرب في البلاد وإهمالهم خاصّة، وأنهم لم يُـــنشِـــــئــوا أي أصولٍ ثقافيةٍ ذاتِ قيمةٍ.(مصالحة، نور الدين، 1992: 82) ويُـــستدلّ من هذا المقال اعتراف صريح من شاعر مثل (عاموس عوز) بوجود شعب فلسطينيّ، أمّا أفكاره لوجود ثقافة لهذا الشّعب، فإنّ الذاكرة لم تُــــــسعفــــه بالاطلاع على إسهامات الشّعب الفلسطينيّ الثقافية ضمن الأمة العربيةِ والإسلاميّـــة.
إنّ الاضطلاع على رأي النقّــــاد التاريخيين، خاصّة ما ذكره بيني موريس في كتابه “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949م” يظهر اختلاف واضح عن الرواية الرّسميّــــة، ويذكر أسبابًــا متعدّدةً ومختلفةً أسهمت في قرار الفلسطينيين وليس مغادرتهم والدلائل تسير إلى الضّغوط العسكرية الصهيونية على السّكان باعتبارها أهم الأسباب. (شلايم، آفي، 2013: 108) ويشكّـلُ هذا روايةً جديدةً للتخلص من المسؤوليةِ الأخلاقيةِ والسياسيّـــةِ والقانونيةِ لما جرى.
لكنّ الحقائقَ المستندة إلى الوثائق والأبحاث المنشورة تفيد بأنّ العصابات الصّهيونية عملت جاهـــدةً على طرد السّكان للحصول على أرض أكبر، وسكان أقــــلّ لإقامة مجتمعٍ يهوديّ متجانسٍ، وأنّ المجازرَ التي أرتُـــكِـبت تدلّ على ذلك بوضوح.
- عدم تحمل الحركة الصهيونية المسؤولية الرسمية لأحداث النكبة عام 1948م
للإجابة عن هذا السؤال وبعد الرجوع إلى الوثائق والأبحاث الفعلية ونتائجها تبيّن الآتي:
من الناحية الفكرية والعقائدية؛ فإننا وجدنا أن هناك خلفياتٍ فكريةً وعقائديةً تؤسّسُ لما حدث لدى الصّهيونية وقادتها حسب ما ذُكر من شهادات، وأنّ التداول لفكرة التهجير للسّكان الفلسطينيين لم تكن غائبة عن الاجتماعاتِ الرسميّــةِ لقادة الصّهيونية السّياسيّة العسكريةِ، وغالبيتها مستندة إلى المرجعياتِ والقصصِ التوراتيةٍ لاستخدامها في تبرير هذا الفكر العنصريّ والعدواني المرتبط بالاستعمار وأهدافه؛ بغية السّيطرة على الأرض الفلسطينية، والتّـــهميش والإبعاد والتّـــــــهجير، ورفع الشّرعية عن السّكان الفلسطينيين، لتبرير الممارسات المستخدمة ضـــــدّهم. وأنّ هذه الروايات صيغت بطريقة ماكـــرة ، لتظهر العدوان على أنه حرب تحرير وطنيّ ضمن حركات التحرر في العالم الثالث، وليست حربًـا ضدّ الفلسطينيين(بابيه، إيلان، 2015: 72) ولا تشير هذه الحرب إلى صراعٍ مباشرٍ مع الفلسطينيين، ولا مع الدول العربية، بل وُصِـــفت الحرب بأنها حرب استقلال عن بريطانيا وتحرير عبودية الشّتات في محاولة منها لتجاوزِ الحقائقِ السكانيةِ والصّـــراعِ على الأرض، وهدفت هذه الروايةُ الصّهيونيةُ إلى أنّ اليهود في فلسطين انتصروا في حرب كان الهدف منها القضاء على الحكم والوجود الصّهيوني، وأنّ هذا الانتصار رغم كـــــلّ الصّعوبات والتحدّياتِ لمجتمع تَشَكّــــــلَ من بقايا الناجين من الهولوكوست، وأنهم حاربوا بشقّ الأنفس حكومة بريطانيا ودولاً عربية توحدت فيما بينها في حرب إبادة ضد اليهود، وأنّ هذا النصر تحقّــقَ بفضل عبقرية بن غوريون – رئيس الوزراء الإسرائيليّ في حينه- والجنود في الميدان.(بابيه، إيلان،2015: 72)
إنّ هذه الأفكار فيها مغالطات عدّة؛ حيث إنّ بريطانيا وفرّت للحركةِ الصّهيونية الغطاء والشّرعية والدعم والتسليح، وأسهمت في الناحيتين النظريةِ والسياسيّــــةِ والفعليةِ في إيجاد هذا الحيّـــز، وإقامة الدولة الصّهيونية، ودعم العصابات الصهيونية وتسليحها بــــل ساعدت هيئة الأمم المتحدة في إعطاء شرعيّةٍ دوليةٍ بقرار التقسيم رقم “181”؛ وتُـــعتبر شريكًـــا أساسيًّـــــا بما حلّ بالشّعب الفلسطينيّ من نكبةٍ واضطهادٍ وتهجيرٍ.
لقد أفْـــضَت مجريات الأحداث إلى خَـــــلْــــق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بسببِ هجماتٍ العصابات الصّهيونية بتخطيطٍ وقرارٍ من قيادتها السّياسيّـــة والعسكريةِ على المدن والقرى الفلسطينية ومحاصرتها، وضربها بالمتفجّــراتِ والممارساتِ الوحشيّـــةِ، وما استخدمته من حرب نفسيّــــةٍ وقرار مجلس وزراء العـــــدّو في يونيو 1948م القاضي بطرد السّكان، وعدم السّماح بعودة اللاجئين إلى مُـــــدنهم وقراهم، وتؤكّـــد الوثائقُ الرسميّـــةُ الصّهيونيةُ مسؤولية اليشوف وإسرائيل طرد الفلسطينيين واخراجهم من المناطق التي أصبحت تُسمّـــى – فيما بعد- دولة إسرائيلي عام 1948م.(بيني،موريس،2001: 42) وأنّ ما حدث في الجليل والنقب والمدن الفلسطينية الساحلية يؤكّــــد أنّ سلوك التطهير العرقيّ كان سلوكـــاً مشتركــــاً بين النُّـــخبِ العسكريةِ والمدنيةِ في آنٍ واحدٍ.
وبغضّ النظر، سواء كانت هذه التعليمات شفيهةً أو مكتوبةً؛ فإنّ المسؤوليةَ الرسميّـــةَ عمّـــا حصل يقـــع وِزْرَه على النُّـــخب السّياسيّةِ والعسكريةِ والقانونيةِ للحركةِ الصّهيونيةِ ودولة إسرائيل، وكون بريطانيا هي الدّاعم والمساند، لذا تتحمّـــل المسؤولية بالدرجة الثانية بعد دولة الاحتلال، وأنّ بن غوريون يُـــعتبر رأس الحربّـــةِ في سياسةِ التطهيرِ العرقيّ والمجازرِ التي حصلت للشّعب الفلسطينيّ.
الخاتمة:
نستنتج ممّا سبق أنّ الصّهيونية توجّـهت إلى فلسطين لحلّ مشكلة يهود أوروبا بشكل عام ويهود أوروبا الشّرقية بشكلٍ خاصٍّ، مُــتبنّـــيَـةً الأفكارَ المسحيانية بعد ثورةِ الإصلاح الدينيّ واغتيالِ القيصر في روسيا لعدم رغبتها في هجرة يهود أوروبا الشّرقية إلى أوروبا الغربية، وتعاونت في ذلك مع الإمبريالية العالميّـــــةِ، وعلى رأسها بريطانيا لتحقيق أهدافها الاستعمارية في الشّرق الإسلاميّ.
وأنّ الحركة الصّهيونية استغلّـــــت الديانةَ اليهوديةَ لتجميع يهود العالم باسم الدين والقدسيّة لتحقيق أهدافها السّياسيّة، بعد أن نجحت في تحويل الدين اليهوديّ التبشيريّ إلى قوميّـــةٍ تعمل في السياسيّـــة، لا يوجد توافــــقُ كاملٌ بين الديانةِ اليهوديةِ والحركةِ الصّهيونيةِ على اعتبار أنّ الصّـــــهيونية تدخّــــــلت في شؤون الرّبّ بهدفِ تجميعِ اليهودِ للتسريعِ في ظهورِ المسيح المنتظرِ، وهذا مخالف للدين رغم نجاحها في إقامة دولتها في فلسطين التي اغتصبها بقوة السّـــــــــــــــلاح.
أمّا بخصوصِ الرّواياتِ الصّهيونيةِ، فقد أثبتت الدراسة أنّ فلسطين لم تكن أرضًـــا خاليةً، وأنّ الشّعب الفلسطينيّ كان موجودًا على أرضه منذ أقدم العصور، وحافظ على تواصل اجتماعيّ وحضاريّ وتاريخيّ فيها ضمن التركيبةِ الاجتماعيّةِ للشّرقِ الإسلاميّ، وأنّ الشّعب الفلسطينيّ لم يغادر أرضه طوعًـــا، وأملاكه بهدف ايجادِ دولةٍ يهوديةٍ منسجمةٍ اجتماعيًـــــا من خلال القوةِ العسكريةِ المدعومةِ من الاستعمارِ البريطانيّ، وساعدتها في هيئة الأمم المتّـــحدة باتخاذ قرار التقسيم رقم “181” ممّا أعطـــى هذه العصابات شرعيةً دوليّةً لطردِ السّكانِ الفلسطينيين من الأرض التي خُصِّصت زورًا وبـُــهتانًــــــا للصّهاينة.
لذا نجد أنّ الحركةَ الصّهيونيّـــــة والدولةَ الوليدةَ مسؤولة من الناحيةِ السّياسيّــــةِ والقانونيةِ والاجتماعيّــــةِ والاقتصاديةِ، ويحملُ معها الـوِزْرَ في الدرجةِ الثانيةِ الحكومةُ البريطانيةُ وهيئةُ الأمم المتّـــحدة الذين تقع عليهم المسؤولية، مجتمعين ومنفردين على التوالي والاعتراف بتحمّــــل مسؤولياتهم عمّا حلّ بالشّــــعب الفلسطيني من نكبة عام 1948م.
ويوصي الباحث أيضًـــا الاستمرارَ بالاطّــــلاع على الوثائقِ البريطانيةِ والصّـــهيونيةِ، وإجـــراءِ أبحاثٍ إضافيةٍ لتثبيت الحـــــــقِّ الفلسطينيّ أمام الرّواياتِ الصّـــهيونية، وحثِّ وسائلِ الإعلامِ على الترّكـــيز على ما جرى للتأثير في الرّأي العام الدّوليّ.