التعايش الديني في فكر محمد الطاهر ابن عاشور:
مبادئ راسخة وتوجيهات علمية

د. عبد العزيز الصادقي

باحث في العلوم السياسية
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
وجدة، المغرب

ORCID : 0009-0005-4939-3372
د. سعيد الاشعري

باحث في التراث الثقافي والتواصل
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
وجدة، المغرب

ORCID : 0000-0002-1248-8969

ملخص

لقد ظهر مفهوم التعايش الديني كأحد المفاهيم المهمة في المجتمعات الحديثة، حيث يسعى هذا المفهوم إلى إيجاد مساحة من التسامح والاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات ذات المعتقدات الدينية المختلفة. يهدف التعايش الديني إلى تعزيز الفهم والتفاهم بين الناس، والاعتراف بحق كل فرد في الاعتقاد وممارسة شعائره الدينية بحرية دون تمييز أو اضطهاد. منذ فجر الرسالة الإسلامية، كان المسلمون على وعي بأهمية التعايش الديني. فقد عايش النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختلف الطوائف الدينية في مكة والمدينة، وأرسى قواعد التعامل الأخلاقي والإنساني معهم. يتجلى ذلك في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو إلى العدل والرحمة والتسامح مع الآخر المختلف دينياً.

Abstract

The concept of religious coexistence has emerged as one of the important concepts in modern societies, aiming to create a space for tolerance and mutual respect among individuals and groups with different religious beliefs. Religious coexistence seeks to enhance understanding and comprehension among people, recognizing the right of every individual to believe and practice their religious rituals freely without discrimination or persecution. Since the dawn of the Islamic message, Muslims have been aware of the importance of religious coexistence. The Prophet Muhammad (peace be upon him) and his companions interacted with various religious sects in Mecca and Medina, establishing principles of ethical and humane dealings with them. This is reflected in numerous Quranic texts and Hadiths that call for justice, mercy, and tolerance towards those of different religious beliefs.

مقدمة

يعتبر التعايش الديني من المفاهيم المعاصرة التي جذبت اهتمام مختلف الباحثين، وكثُرتَ حولها الحديث والنقاش العلمي من لدن اتجاهات فكرية عدة، بين مثبت ومنكر، ومتشدد ومتساهل. ولهذا صار من اللازم تسليط الضوء على مدلول هذا المصطلح بعيدا عن التجاذبات المذهبية والأيديولوجية. وبالتالي فإن ما سنركز عليه من خلال هذه الدراسة الموسومة بـ التعايش الديني في فكر محمد الطاهر ابن عاشور: مبادئ راسخة وتوجيهات عملية، هو ما يرتبط بوضع غير المسلمين داخل المجتمعات الإسلامية خاصة اليهود الذين عاشوا آلاف السنين بين المسلمين في تعايش تام إلى يومنا هذا. وبالأخص مقاربة أسس وضوابط التعايش بين المسلمين واليهود. وذلك ضمن إطار منظومة من الحقوق والواجبات المستندة إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حيث تشدد هذه النصوص على احترام أهل الكتاب في جميع الأوقات والأماكن، لأنهم في ذمة الله ورسوله، كما تحذر من التعرض لمقدساتهم الدينية بأي شكل من الأشكال.

ومما لا شك فيه أن مفهوم التعايش يعد من القيم التي تحتاج إلى تأصيل وإظهار أهميتها ودورها في المجتمع، على اعتبار أنها تحقق الاستقرار الاجتماعي وتوثق الأواصر الاجتماعية بين أفراد المجتمع، حتى ولو اختلفت ديانتهم. ومن المفاهيم ذات الصلة بالتعايش نجد التحاب والتصالح والتسامح وكلها قيم أخلاقية وإنسانية غايتها نبذ الخلاف والتنازع والتصارع والدعوة إلى التعارف والحوار.

من هذا المنطلق، يمكننا التطرق إلى تجربة التعايش الديني، خصوصاً بين المسلمين واليهود، واستناداً إلى فكر محمد الطاهر ابن عاشور. ولفهم هذه التجربة بشكل أعمق، يتوجب تحديد مفهوم التعايش بشكل لغوي واصطلاحي، بالإضافة إلى تعريف المصطلحات ذات الصلة بهذا المفهوم، وتشمل ذلك مفهوم الدين والتعايش الديني.

مفهوم التعايش لغة واصطلاحا

التعايش لغة:

بالرجوع إلى الدلالة اللغوية للتعايش التي هي الأصل في اشتقاق هذا المصطلح نجد أن: «العيش: الحياة، عاشَ يَعِيش عَيْشاً وعِيشَةً ومَعِيشاً ومَعاشاً وعَيْشُوشةً… وعايشه: عاش معه كقوله؛ عاشره»[1]. وفي المعجم الوسيط «عاش عيشا وعيشة ومعاشا: صار ذا حياة، فهو عائش. عايشه: عاش معه، وتعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، ومنه: التعايش السلمي»[2]. والتعايش على وزن تفاعل الذي يفيد وجود علاقة متبادلة بين طرفين.

وعليه، فإن التعايش في اللغة العربية، يعني المفاعلة بين أكثر من طرف، إذ لا يمكن أن يفهم التعايش دون التفكير في طرف آخر نعايشه، وهو يفيد «الحياة الإنسانية المشتركة والتي تقام على أساس التفاهم والعدل والحرية بين أفراد المجتمع الواحد أو بين هذا المجتمع وغيره من المجتمعات الإنسانية والتي تحفظ الكليات الخمس لكل مجتمع».[3]

التعايش اصطلاحا:

يعد مصطلح التعايش من المصطلحات الحديثة التي ظهرت بعد الحرب العلمية الثانية، والذي «يراد به حالة السلم التي تعيش فيه مجموعة ذات أنظمة اجتماعية مختلفة، إذ يتضح أن عنصر التنوع والتباين والاختلاف هو حجر الزاوية في مفهوم التعايش؛ مما يجعل مدلول المصطلح يتصف بنواحي مختلفة منها السياسي والاقتصادي، ومنها ما هو ديني وثقافي وحضاري وهو الأحدث، والمقصود به أن تلتقي إرادة أهل الأديان السماوية والحضارات المختلفة في العمل من أجل أن يسود الأمن والسلام في العالم، وحتى تعيش الإنسانية في جو من الإخاء والتعاون على ما فيه الخير الذي يعم البشر جميعا من دون استثناء»[4].

ومن هذا المنظور، فإن التعايش يؤسس لطبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الأفراد والأمم والشعوب والحضارات من تفاعل متبادل بينهما في العادات والمعتقدات والثقافات والديانات، وذلك في إطار من الاحترام.

أما تعريف الدين حسب الفارابي فهو العقيدة والمذهب، الملة، أو العادة، أو التقليد، أو جميع ما يتعبد الله به، أو الطريقة التي يسير عليها المرء نظريا أو عمليا، كما تقول العرب: «دان بكذا: اتخذه مذهبا، أي: اعتقده، أو اعتاده، وتخلق به سواء أكان حقا أم باطلا»[5].

وتماشيا مع ما تم ذكره في تعريف التعايش والدين يتضح أن التعايش الديني هو مشاركة الحياة اليومية في مختلف المجالات مع جماعات لهم ديانات وعادات وتقاليد وثقافات مختلفة، باعتبارهم أقلية في ذلك المجتمع مما يفرض قبولهم واحترام اختلافهم.

وهذا ما أكده علي عطية الكعبي بقوله: أن التعايش الديني هو «تفاعل متبادل بين طرفين مختلفين في العادات أو المعتقد والدين، ويكون في المجتمعات المتنوعة الديانات والثقافات التي ينتمي أفرادها إلى أصول مختلفة في الثقافة أو الدين أو العرق»[6].

التّعايش بين الأديان في الإسلام

لابد أن نقول إن التعايش الديني كمصطلحٍ جديدٍ في الاستعمال قد كان موجوداً في تاريخنا الإسلامي كأسلوب في السلوك، وقد شاع التعامل على أساسه في تراثنا منذ العصر النبوي، وعلى وجه التحديد ما تمَّ تجسيده كواقعٍ ملموسٍ فيما يمكن تسميته بـ: (وثيقة المدينة)[7].

يعتبر الإسلام التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الإنساني والقائم على الضوابط والمصالح الشرعية حالة طبيعية بحكم طبيعة الخلقة والفطرة الإنسانية المشتركة بين البشر، «فالإنسان مدني بالطبع، أي لا يمكنه التفرد عن الجماعة بعيشه، بل يفتقر بعضهم إلى بعض في مصالح الدين والدنيا»[8].

لقد وضع القرآن الكريم منظومة من القواعد الواضحة لحفظ المجتمعات البشرية وإبعاد الفتن عنها، كما بين الله عز وجل في كتابه الكريم أن الناس جميعاً قد خُلقوا من نفسٍ واحدة؛ مما يعني أنهم مشتركون في وحدة الأصل الإنساني. قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[9].

بالطبع، يشترك جميع البشر في الإنسانية، وبناءً على هذه الحقيقة البسيطة، فإن الإسلام يكفل لهم الحق في الحياة والعيش بكرامة، دون أي تمييز بينهم. ينطلق هذا من مبدأ أن الإنسان مكرم لذاته، دون أن يكون للدين، أو العرق، أو اللون، أو مكان الميلاد أي دور في ذلك. فجميع أفراد المجتمع يشكلون جزءًا من عائلة واحدة، ولهم حقوق محددة وواجبات يجب عليهم تحملها.

ومما لا جدال فيه أن هناك الكثير من الشواهد التي تدل على أن الإسلام هو دين التعايش السلمي بين الشعوب، وهو الذي يحث على حفظ كرامة الإنسان، وأن يكرم أبناء الإنسانية بعضهم بعضاً، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الناسُ بنو آدم وآدمُ مِنْ تُرابٍ»[10]، وفى أصل الفطرة أن الشعوب ليس بينها عداوة، وأن فطرة الناس السوية التي خلقوا عليها لا تخلق المشاكل أو التباعد بين الشعوب، لأنها نداء الوجدان إلى المحبة، والراحة والسعادة التي لا تتم إلا بالتعايش السلمي بين الشعوب.

يمكن أن نقول إجمالا أن التعايش الديني يتمثل في قبول التّعددية الدينية واحترام الآخر، وفتح نوافذ للتعامل معه، والاعتراف بوجوده دون إقصاء أو ذوبان، وهذا ما بينه عباس الجراري بقوله: «العيش المتبادل مع الآخرين القائم على المسالمة والمهادنة»[11].

التعايش السلمي في أي مجتمع يعد الأساس الاجتماعي الذي يستند إليه أفراد المجتمع في بلدان العالم لضمان تفاعلهم في المجالات الدينية والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والثقافية. يتيح التعايش السلمي تأمين أمنهم واستقرارهم، والبحث عن فرص معيشتهم وتحقيق مصالحهم المادية. ومن خلال التعايش السلمي، يمكن تحقيق التنمية والتقدم، والبناء على أساس الحفاظ على ممتلكاتهم وتبادل المنافع المشتركة. في ظل التعايش السلمي، الذي يحمل روح السلام والوئام، تتعاضد الجهود بين أفراد المجتمع، وتتحد قدراتهم وتعاونهم في خدمة بعضهم البعض ومصالح مناطقهم ووطنهم. فإذا ما فقدنا تعايشنا الاجتماعي والأهلي فإن النتيجة الطبيعية من جراء ذلك هي تدهور الأمن.

إن التعايش هو «إقامة علاقة بين اثنين أو أكثر من الجماعات المختلفة الهوية التي تعيش بتقارب مع بعضها البعض، كما يشمل درجة من الاتصال والتفاعل والتعاون الذي يمكن أن يمهد ويحقق ذلك التعايش المصالحة على أساس السلام والحقيقة والعدالة والتسامح»[12].

يرى طه البديوي أن التعايش السلمي هو حالة من السلام والوئام الإنساني داخل بيئة المجتمع المعاش كعنصر أساسي من عناصر تقدم وتطور بناء المجتمع وأفراده، وتتحدد عوامل دراسة وتقييم طبيعة سلوك وممارسات هذا المجتمع أو ذاك بواقع التعايش السلمي والأهلي السليم من خلال بروز ظواهر حسن روابط بناء علاقاته المجتمعية وقبوله بواقع حالة التعايش السلمي البيني ومد جسور التواصل الاجتماعي بين مختلف أفراده وشرائحه المختلفة وقواه الحية الدينية والعرقية والسياسية والطبقية[13].

إن التعايش مع الآخر يقتضي البحث في دينه وعاداته، وطرق معيشته، ونظرته للكون والحياة حتى نتمكن من معايشته سلميا ووفق أصول التعامل الإنساني الذي يقرره الإسلام، من تحقيق العدل في القضاء وفي القضايا الإنسانية العادلة، وتوفير الأمن الغذائي للمجتمع الإنساني، ودون أن يهمل المسلمون أنهم أمة دعوة أي أمة مطالبة شرعا بتبليغ رسالة الإسلام السمحة وفق منهج الدعوة الحسنة والرفق في الدعوة وتحكيم العقل الذي غيبه الكثير من المسلمين في حياتهم. إن توفير هذه المبادئ بين المسلمين واليهود يكفل للطرفين التعايش السلمي العادل.

التعايش الديني عند محمد الطاهر ابن عاشور: الأسس والضوابط

لا يسع الدراس لموضوع التعايش الديني بين المسلمين وأهل الكتاب، الحديث عن هذا الموضوع دون التطرق إلى أحد كبار المفسرين في الفترة المعاصرة الذين تناولوا مسألة التعايش الديني بكثير من الاهتمام في مؤلفاته، وهو محمد الطاهر بن عاشور.

أسس التعايش الديني عند ابن عاشور

لا بد أن يلتزم المسلم بمجموعة من الأسس عندما يصبح التعايش المشترك مع الآخر أمرا واقعا. وذلك لكي يتمكن من استكمال آليات التواصل والتقارب، لتحقيق عيشٍ يسوده السلم والوئام. ومن هذا المنطلق، يرى ابن عاشور أن هناك مجموعة من الأسس التي يجب أن تتوفر في المجتمع لكي يتحقق التعايش الديني، وهذه الأسس هي:

      • الإقرار بسنة الاختلاف:

تعتبر “سنة الاختلاف”[14]من الأسس التي يُبنى عليها التعايش الديني من منظور ابن عاشور، حيث يستخلص صاحب (تفسير التحرير والتنوير) هذه السُّنةَ من خلال استشهاده بالمصادر الإسلامية المتمثلة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

      • عدم إقصاء الآخر وإكراهه:

يرى ابن عاشور أن سنة الاختلاف هي أساس التعايش الديني، وتتجلى هذه السنة على مستوى السلوك، في عدم إقصاء الآخر وإكراهه على ما لا يريد، وهنا نجد أن ابن عاشور قد نجح في تتبع جذور هذه العلل، التي تجذَّرت في الشخصية العربية، وطغت على الواقع الجاهلي قبل الإسلام، حيث وُجِدت هناك نعرات عربية جاهلية قديمة توارثها العرب من أسلافهم، ومن أهمها اعتدادهم بأنفسهم وإقصاؤهم لغيرهم، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، حيث أورثوا هذه العلل للأجيال التي بعدهم، حتى سببت لهم صدعاً على مستوى العلاقات البشرية. وفي هذا يقول ابن عاشور: «إذ كان إعجابُ كلِّ قبيلةٍ بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشِيًا في الجاهليَّة…وكانُوا يُحَقِّرُون بعض القبائل»[15].

وفي هذا السياق يفسر ابن عاشور قوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[16]، بقوله: «أي لا تكرهوا أحدًا على اتِّباع الإسلام قَسْرًا»[17]، وشرح لنا معنى الإكراه بقوله: «الإكراه فِي الدِّين هو إكراه النَّاس على الخروج من أديانهم والدُّخول في الإسلام»[18]، وفي نفس المعنى يقول الزحيلي أن الإسلام «لا يلزم أحدا في الدخول فيه»[19].

يبدو أن الجانب الإنساني كان مسيطرا على موقف ابن عاشور في هذا الباب، وهو جانب يتفق مع روح الإسلام السمحة، لأن الخطورة التي تترتب عن الإقصاء تتمثل في نفي الموجودات بدل التعامل معها لتحقيق التكامل المجتمعي، ولهذا يرى ابن عاشور أنه لا يمكن أن يتحقق التعايش الديني بين أهل الديانات المختلفة ما لم يكن ثمة اعتراف متبادل بينهم، يقوم على نبذ الإقصاء والإكراه.

      • تحقيق قيمة العدل:

يمكن اعتبار العدل من القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، إذ جعل القرآن إقامةَ القسط بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[20]، أي ليحكم بين الناس بالعدل. و«ليس ثمة تنويه بقيمة القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الله تعالى رُسُله، وإنزاله كتبه، فبالعدل أُنْزِلَتِ الكتب، وبُعِثَتِ الرسل، وبالعدل قامت السماوات والأرض»[21].

ولا مناص من القول إن العدل في الإسلام لا يتأثَّر بحبٍّ أو بغضٍ، ولا يُفرّق بين مسلم وغير مسلم، بل يتمتَّعُ به جميعُ المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين، مهما كان بينهم من مودَّة أو عداوة، وغيابه يجرُّ طبعا إلى الفساد.

      • إعمال سنة التدافع:

تقوم الحياة على الاختلاف والمغايرة، ولا تقوم على أساس الإقصاء والإكراه، فلابد أن ندرك أن هذا الاختلاف من مختلف جوانبه، وتحديدا على صعيد الدين، قد يتولد عنه نوع من الصراع الذي قد ينتهي إلى التصادم في كثير من الأحيان.  وفي هذا النطاق تولدت فكرة التدافع كبديل عن الصراع والتصادم، وهي فكرة قرآنية، ذكرها ابن عاشور في تفسيره، وأبرز من خلالها أهمية هذه السنة وضرورتها لاستقامة الحياة والبعد عن الشطط، لدرء الشر وتحجيمه إلى أدنى حد ممكن.

لقد عرَّف محمد عمارة مفهوم التدافع بأنه عبارة عن: «حراك واستباق يعدل الخلل الفاحش بين الفرقاء المختلفين، ليعيد العلاقة بينهم إلى مستوى التوازن الوسطي العادل»[22]، بمعنى أن التدافع لا يريد صراعا مع الآخر.

يقول ابن عاشور في مؤلفه (التحرير والتنوير): «إِنَّ دفاع النَّاس بعضهم بعضًا يصدُّ المفسد عن مُحاولة الفساد، ونفس شعور المفسد بتأهب غَيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمَّةٍ»[23]. ومن هنا نقول أنّ مفهوم التدافع حسب ابن عاشور هو التفاعل والتواصل مع الآخر سواء في جميع الأحوال، وهذا بطبيعة الحال يؤسِّس لمنهجٍ أخلاقيٍ منضبط في منع وصول نزاعات الناس إلى مرحلة الفساد والهدم، فالتدافع بهذا المعنى بديلٌ للتصادم والصراع.

      • تحقيق قيمة التعاون:

يعتبر مفهوم التعاون من المصطلحات التي تشير إلى التفاعل بين الأفراد والمجتمعات، وهو من القيم التي تنطوي على سعيٍ لتحقيق أهدافٍ واهتماماتٍ مشتركة، ولهذا يمكن اعتباره سلوكا حضاريا، وضرورة حياتية لا تستغني عنه جميع المجتمعات، بل هو سرّ نجاحها.

لقد انتقل ابن عاشور إلى بُعدٍ آخر في عرض قيمة التعاون فجعل لها هدفا إنسانيا لا يرتبط بدين معين، ويتمثل في تحقيق البرّ، فقال في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[24]، «فهم وإن كانُوا كفَّارًا يُعاوَنُون على ما هو برٌّ»[25]. وبالتالي فإن التعاون لا يقتصر على المسلم مع المسلم، بل يتعداه إلى غير المسلم خاصة إذا كان الهدف نبيلا وهو تحقيق البر.

ضوابط التعايش الديني عند ابن عاشور:

لا شك أن التعايش الديني من القضايا المهمة التي تحتاج إلى ضوابط، حتّى لا يفقد الدين خصوصياته ومعالمه، وهو ما بينه محمد الطاهر ابن عاشور في مؤلفاته[26]. وهذه الضوابط هي:

      • الالتزام بالوسطية:

تقوم الرسالة الإسلامية على مبدأ الوسطية، وتتميز على مستوى النظرية والتطبيق بضرورة أن يتعامل أتباعها مع جميع أفراد البشرية بغض النظر عن لونهم أو دينهم أو قوميتهم، مع اعتبارهم جميعا أعضاء في النسيج الاجتماعي الذي يجب الاعتراف به والحفاظ عليه. وقد جسد القرآن الكريم والسنة المطهرة هذه المفاهيم من خلال صور نظرية وتطبيقية رائعة.

يرى ابن عاشور أن «المسلم لا يرفض الحوار ولا يأبى الاعتراف بالآخر، المغاير فكريًا ودينيًا وحضاريًا، ولا يعيش في دائرة التعصب الأعمى، الذي يولِّد الإقصاء والإكراه، ولهذا فقد وظّف العلامة ابن عاشور في هذا السياق الوسطية كضابطٍ لخدمة التعايش الديني، لغرض واضح هو استيعاب الخلافات، وبناء جسور للتواصل القائم على أساس التسابق للخيرات»[27].

وعليه، يمكن القول أنّ الوسطية باعتبارها ضابطا للتعايش الديني، تتجلى في اجتناب الغلو من جهة واجتناب التساهل والذوبان من جهة ثانية، خاصة في المعاملة مع المخالف في الدين، وهذا المعنى قد ذكره قطب محمد صانو في قوله: «الوسطية تعصم الفرد والمجتمع من الانهيار والانحلال معا، كما تعصمهما من الذوبان والاندثار»[28].

إذا، فالوسطية في نظر ابن عاشور تقوم على مهمة الشهادة على الآخر من خلال استيعابه في كل الأحوال، سواء أسلَمَ أو بقيَ على دينه، ولن يتم ذلك إلا بفهمه والتعايش معه من منطلق ديني، وكل هذا يبعث المسلمين الملتزمين بتعاليم ديننا الحنيف، على التمتع بمميزات النظرة الحضارية، التي تؤهلهم للتفاعل الإنساني مع كل من يدخل في دائرة تعاملهم.

      • التمييز بين الثوابت والمتغيرات:

يجب التمييز بين الثوابت والمتغيرات باعتبارها وصفا للأحكام والفتاوى، وليست وصفا للنصوص الشرعية لأنها باقية، ولكن الاجتهاد في نصوصها الظنية، وقد عبّر الإمام الشاطبي عن وصف هذه الثوابت بقوله أنها: «كُلّيّة أبديّة، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بيَّن ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشَّريعة أيضا؛ فذلك الحكم الكُلّيُّ باقٍ إلى أن يرِثَ اللَّه الأرض ومن عليها»[29]. وقد عبّر عن وصف المتغيرات بقوله: «وهي الَّتي يتعلَّق بها الظَّنُّ لا العلم، فإذا كان كذلك؛ لم يصحَّ أن يُحْكَم بالثَّانية على ما مضى لاحتمال التَّبدُّل والتَّخلُّف»[30].

يمكن القول أنّ الثوابت يُراد بها القطعيات، ولا مجال فيها لأي تطوير أو اجتهاد، بخلاف المتغيرات التي يُراد بها موارد الاجتهاد وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح، ومن هنا يتبيّن أن الإسلام الحنيف ذو شقين من الأحكام: شق ثابت لا يتغيَّر وهو يمثل أصول الإسلام الاعتقادية والأخلاقية والعبادية وأصول المحرمات مما أجمعت عليه الأمة، وشق متغير تتعدد فيه الآراء والاجتهادات ما دامت صادرة من أهلها.

وعلاقة بالتعايش الديني بين المسلمين وأهل الكتاب فلابد من استحضار الفروق بين الثوابت والمتغيرات في الأحكام الشرعية، وعدم الخلط بينهما، فالثوابت ينبغي أن تبقى ثوابت والمتغيرات يتعامل معها في ضوء ما يستجد في الواقع وفي الزمان والمكان.

      • مراعاة الولاء والبراء:

تعتبر قضية الولاء والبراء في الإسلام من المسائل التي نالت اهتمامًا واسعًا سواء في الماضي البعيد أو في العصر الحديث، ويتصل هذا المفهوم بشكل وثيق بالتعايش الديني بين المسلمين والأفراد غير المسلمين. إذ لم يخرج ابن عاشور عن إجماع العلماء في هذه المسألة، فقال: «وقد اتَّفق علماء السُّنَّة على أَنَّ ما دون الرّضا بالكفر وممالأتهم عليه من الولاية لا يوجب الخروج من الرّبقة الإسلاميَّة، ولكنَّه ضلالٌ عظيمٌ»[31].

لقد جعل ابن عاشور الولاء للعقيدة مُقدّم على الولاء للوطن، في سياق مدحه للمهاجرين والأنصار حيث قال: «فالمهاجرون امتازوا بالسَّبق إلى الإسلام وتكبَّدوا مفارقة الوطن، والأنصار امتازوا بإيوائهم، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشّرك وأهله… وكان فضل المهاجرين أقوى لأنهَّم فضَّلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم»[32]، ويؤكد نفس المعنى في موضع آخر من تفسيره في سياق شرحه لمعنى الهجرة، حيث اعتبرها من مصطلحات القرآن الدالة على أن «مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدّين»[33]، ومن هنا نقول أن ابن عاشور يرى أن الولاء للعقيدة مقدم على الولاء للوطن. ولا بد من التأكيد على أن الولاء والبراء يعتبر ضابطا مهما في موضوع التعايش الديني، بالنسبة لابن عاشور، شريطة أن يقوم على الاحترام المتبادل، والتعامل الدنيوي الذي لا يضر بالمسلمين.

الخاتمــــة:

على سبيل الختم، يمكن وصف التعايش الديني بأنه جهد مشترك بين المسلمين وغيرهم لتحقيق التفاعل الإيجابي، والتعاون على ما يعود بالنفع على الجميع، خاصة عندما يعيشون في نفس المجتمع. في هذا السياق، أشار العلامة الطاهر ابن عاشور إلى أن التعايش الديني أصبح ضرورة ملحة بناءً على الظروف السائدة المتغيرة، وقد قام بتصميم إطار جديد لهذا التعايش، يقوم على إقامة جسور بين المسلمين وغيرهم، وفقًا لمبادئ وضوابط يجب توافرها. ولذلك، ينبغي على المسلم أن يقبل على عالمية الإسلام المتجذرة في النصوص الدينية، مما يتطلب فتح الثقافة والحضارة الإسلامية للتأثير والتأثر مع ثقافات الشعوب الأخرى.

تخضع الاختلافات بين البشر لمشيئة الله، ولا يمكن تجاهلها أو تغييرها. وبالنظر إلى أن هذه الاختلافات هي بحكم إرادة الله، فإنها تمنح الآخر غير المسلم حقوقه في الكرامة والحماية. يجب أن يقوم التعايش الديني على احترام الآخر وعدم استبعاده، حيث إن الاختلاف ليس سببًا للتمييز، بل يُعَتَبَر مجالًا للتنوع والازدهار. بالإضافة إلى ذلك، فإن حرية الاعتقاد مكفولة، حيث أكد القرآن بوضوح أنه لا يجب أن يُكرَه أحدٌ على معتقده، ولا يُجْبَر على دخول دين لا يُريده.

لذا، فإن الإسلام يدعو إلى التعامل مع الإنسان كإنسان دون إفراط أو شطط، واستحضار قيمة العدل في المعاملة، كما نبّه إلى احترام الآخر -غير المسلم -وحرَّم على المسلم أن ينال من أحدٍ في شخصه أو معتقده. ولهذا ينبغي إعمال سنة التدافع، كما ينبغي ترسيخ قيمة التعاون، واستحضار الوسطية في التعامل مع الآخر، مع مراعاة الولاء والبراء.

 

 

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] – ابن منظور، محمد بن مكرم أبو الفضل. لسان العرب، مادة عيش، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414ه، ج 6، ص 321.
  2. [2] – إبراهيم أنيس، وآخرون. المعجم الوسيط، انتشارات ناصر خسرو، طهران، 1972، ج 2، ص 639، 640.
  3. [3] – بن عزوز، عبد القادر. التعايش السلمي بين الإسلام والغرب، مجلة كلية العلوم الإسلامية، الصراط، السنة الرابعة، العدد 8، الجزائر، 2004، ص 313.
  4. [4] – التويجري، عبد العزيز، الإسلام والتعايش بين الأديان في أفق القرن الحادي والعشرين، ط 1، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 1980، ص 2، بتصرف.
  5. [5] – الفارابي، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1987م، ج 5، ص 2119، بتصرف.
  6. [6] – الكعبي، علي عطية. التعايش السلمي بين الأديان السماوية في الأندلس من الفتح الإسلامي حتى نهاية دول الطوائف، مكتبة عدنان للطباعة والنشر، بغداد، ط 1، 2014م، ص 36.
  7. [7] – أنظر: نص وثيقة المدينة كاملا في سيرة ابن إسحاق (ت 151ه)، ج 2، ص 167-172.
  8. [8] – الأصبهاني، الراغب. الذريعة إلى مكارم الشريعة، مراجعة: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، ط 1، 1973م، ص 197.
  9. [9] – القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 1.
  10. [10] – أخرجه أحمد 2/361، والترمذي 5/735، وهو حديث حسن.
  11. [11] – الجراري، عباس. مفهوم التعايش في الإسلام، مقال منشور بمجلة الإسلام اليوم، العدد 14، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم، 1417ه.
  12. [12] – شبوط، محمد عبد الجبار. خطوات في بناء الدولة الحديثة، مجلة المواطنة والتعايش، المجلد 2، العدد 1، مركز وطن للدراسات، بغداد، 2007، ص 82.
  13. [13] – أنظر: البديوي، طه. السلام الاجتماعي والتعايش السلمي، دار ادريب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010، ص 14.
  14. [14] – جيلالي، بوتمرة وخليفي الشيخ. أسس وضوابط التعايش الديني من منظور محمد الطاهر ابن عاشور، مجلة المعيار، المجلد 25، العدد 56، الجزائر، 2021، ص 174.
  15. [15] – ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير، ج 26، ًص 258.
  16. [16] – الفرآن الكريم، سورة البقرة، الآية: 256.
  17. [17] – ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير، ج 3، ًص 26.
  18. [18] – نفسه، ج 2، ص 337.
  19. [19] -الزحيلي، محمد. الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية: أبعادها وضوابطها، (د.ت)، ص 18.
  20. [20] – القرآن الكريم، سورة الحديد، الآية 25.
  21. [21] – القرضاوي يوسف. ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، ص 133.
  22. [22] – عمارة، محمد. في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط 2، 2007م، ص 156، 157.
  23. [23] – ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير، ج 2، ص 503.
  24. [24] – القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 2.
  25. [25] – ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير، ج 6، ص 87.
  26. [26] – راجع: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام (2006﴾، والتحرير والتنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور.
  27. [27] – جيلالي، بوتمرة وخليفي الشيخ. أسس وضوابط التعايش الديني من منظور محمد الطاهر ابن عاشور، مجلة المعيار، المجلد 25، العدد 56، الجزائر، 2021، ص 179.
  28. [28] – قطب محمد صانو، في التواصل مع الآخر معالم وضوابط ووسائل، (د.ت﴾، ص 4.
  29. [29] -الشاطبي، إبراهيم بن موسى. الموافقات، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، 1997م، ج 2، ص 510.
  30. [30] – نفسه.
  31. [31] – ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير، (د.ت)، ج 6، ص 230.
  32. [32] – نفسه، ج 10، ص 84.
  33. [33] – نفسه، ج 14، ص 299.
Scroll to Top