المسؤوليّة الجنائيّة للشخص المعنويّ
بين الفِقه والتّشْريع

د. فريد أمعـضشو

باحث في الأدب الحديث والقانون الجنائي
المغرب

مقدمة:

بعَكْسِ الشخص الطبيعي/ الإنسان، الذي لم يُثَرْ حوله خلافٌ يُذكَر بخصوص مسؤوليته عن فعل جُرْمي ارتكبه بوَعْيه وإرادته، فإنّ الفقه والتشريع اختلفا على نحوٍ واضحٍ فيما يتعلق بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيّا، وإنْ أجَمْعا على مسؤوليّته إداريّا ومدنيّا عن الضَّرَر الذي قد يتسبب فيه للغَيْر. والمقصودُ، هنا، مسؤولية الشخص المعنوي عن فعل إجرامي صدر عن أحد ممثِّليه أو تابعِيه أو العاملين لديه، في حدود الاختصاص المسموح له به قانوناً طَبْعا؛ إذ إنه قد تضاربت آراءُ الفقه الجنائي في هذا الإطار، ويمكن أن نجمل ذلك في موقفين فقهيين كبيرين، استَتْبَعا خلافا مماثِلا على المستوى التشْريعي، يتعلق أولُهما بجانبٍ من الفقه الجنائي أنكر تماما أي مسؤولية جنائية للشخص المعنوي؛ من منطَلَق أن هذا الأخيرَ ليس له وجود مادي واقعي، بل هو كِيان مفترَض فقط، من صُنْع القانون لتكون له أهلية قانونية لممارسة نشاطات، وتحمُّل مسؤوليات، والقيام بتصرفات. على حين أقرّ فقهاء آخرون، وهم الكثرة الغالبة، مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا، شأنه في ذلك شأن الشخص الطبيعي، لاسيما بعد أن كثرت الأشخاص المعنوية، وتشعبت أدوارها وتدخُّلاتها، وصارت لها إسهامات كبيرة في شتى مناحي الحياة، عِلاوةً على أنها أمْسَت مصدرا لجرائم عدة، يكتسي بعضُها خطورة بالغة؛ كتلك التي تهدّد أمن الدولة وسلامتها، والتي يكون ارتكابها من قِبَل الشخص المعنوي أيْسَرَ.

إن المسؤولية الجنائية (La responsabilité pénale) للشخص المعنوي تشكل إحدى “أهمّ الموضوعات التي تمَسّ، بشكل مباشر، فلسفة القانون، والفقه الجنائي على وجه الخصوص، بل هي المحور الأساسي الذي تدور حوله الفلسفة الجنائية؛ ومن ثم، كانت النهضة العلمية والفكرية، التي لحقت بالقانون الجنائي الحديث، وليدةً للاتجاهات الفلسفية المختلفة حول نظرية المسؤولية الجنائية. ولهذا، نشأت المدارسُ الفقهية في القانون الجنائي”[1]. وتعدّ هذه المسؤولية من المسائل التي ما زالت محلّ جدل في مجالي الفقه والقضاء، ولم يستقرّ وضعها بصفة حاسمة[2]. وبالنظر إلى اتساع نطاقها مع توالي الزمن، وتزايُد أخطارها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، فقد تولد التفكير الجدّي في بحث مدى إمكانية مساءلة الشخص المعنوي جنائيا. وقد نوقش الموضوع في عدد من المؤتمرات الدولية، التي عُقِدت لتدارُس قضايا من صُلْب المادة الجنائية؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى مؤتمر بوخارست سنة 1929، الذي خرج بكثيرٍ من الخلاصات والتوصيات، منها مثلًا اعترافُه بأنّ الشخص المعنوي يتمتع بأهلية مادية، وليست له أهلية قانونية لمساءلته جنائيا؛ وعليه، فإنه لا يمكن توقيع العقوبات عليه، وإنما تتخذ في حقه تدابير وقائية فقط. واستمرت مناقشة قضية المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري في مؤتمرات وملتقيات دولية متخصصة أخرى؛ مثل مؤتمر روما سنة 1953، ومؤتمر أثينا عام 1957، إلخ. 

يتكوّن عنوان هذا المقال من وحدتين لغويتين دلاليتين، يُقصَد بأولاهما، وهي “المسؤولية الجنائية”، “استحقاق مرتكِب الجريمة العقوبة المقررةَ لها، وتتعلق هذه المسؤولية بفاعلٍ أخلّ بما خُوطِب به من تكليف جنائي؛ فحقَّت عليه العقوبة المقررة لحماية هذا التكليف”[3]. ويعرّفها بعضُهم بأنها “الالتزام بتحمُّل النتائج القانونية المترتبة عن توافر أركان الجريمة، وموضوع هذا الالتزام هو العقوبة أو التدبير الاحترازي عَمّا يُرتكب من جرائم”[4]. على حين تُحدَّدُ الثانية، وهي عبارة “الشخص المعنوي” (La personne morale)، بأنها “مجموعة من الأشخاص أو الأموال، يَعترف لها القانون بالشخصية القانونية المستَقِلة؛ فتكون قابلةً لاكتساب الحقوق، وتحمُّل الالتزامات”[5]. أو هو – بأسلوب آخر – “اجتماعُ عددٍ من الأشخاص الطبيعيّين أو الأموال، يُقدّر له القانون كِيانا قانونيا مستقِلّا”[6]. وعرّف محمد الصغير بعلي الشخص المعنوي بأنه يشير إلى “جماعة أشخاص (أفراد) أو مجموعة أموال (أشياء)، تتكاتف وتتعاون أو تُرْصَد لتحقيق غرض أو هدف مشروع، بمُوجب اكتساب الشخصية القانونية، التي يراد بها القدرة أو المُكْنة على اكتساب الحقوق، وتحمُّل الالتزامات”[7]. ولا يُمنَح الشخص المذكور هذه الشخصية إلا بالقدْر اللازم لتحقيق الغرض/ الأغراض من إنشائه[8]. وقد رصد أحدُ الباحثين، انطلاقا من استقراء جملة وافرة من تعريفات هذا المصطلح القانوني، ومن دراستها بتأنّ، ثلاثة عناصر، يقوم عليها تعريف مفهوم “الشخص المعنوي”، وهي أنه “يتكون من مجموعة أشخاص أو أموال، أو مجموعة أشخاص وأموال معا؛ وأنه يتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن المجموعات المكوّنة له بناء على نصّ في القانون؛ وأنه يكون قيام الشخص المعنوي بغرض تحقيق هدف يتحدد في قانون إنشائه”[9].

ويُطْلق على الأشخاص المعنوية اصطلاحات أخرى؛ منها “الأشخاص الحُكمية”، و”الأشخاص الاعتبارية”[10]. ولعل “الجرائم الاقتصادية هي المجال الخصب الذي يُسأل الشخص المعنوي في إطاره، وخاصة قطاعَي التجارة والصناعة، ومثال ذلك: عندما ترتكب مخالفات جمركية من طرف المتصرفين المسيّرين لشخص معنوي، أو من طرف أحدهم العامل باسم الشخص المعنوي؛ فإن المتابعة تكون ضد الشخص المعنوي نفسه، وتطبَّق العقوبات المالية (الفصل 227 من مدونة الجمارك)” في حَقّه[11].

ومن الناحية التاريخية، فلعلّ أول ما أثير موضوع المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري في القانون الروماني قديما، وفي شروحه في العصر الوسيط خاصة؛ حيث اعترف الرومان للدولة بكيان ذاتي، وبأن لها ذمة مالية مستقلةً عن ذِمَم باقي المكوِّنين لها. وفي العهد الإمبراطوري، تعدّى ذلك الاعتراف نطاقَ الدولة، كشخص معنوي عامّ، ليشمل سائر أشخاص القانون العام؛ كالبلديات والمستعْمَرات. ومن هناك انتقل الاعتراف بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا إلى القانون الخاص. ولا شك في أنه كان لانتشار المسيحية، في ذلك العصر، دورٌ في تعدد المؤسسات؛ مثل الأدْيِرة والكنائس والمستشفيات، التي كانت توهَبُ لها الأموال والهبات، وكان لزاما عليها أن تكون لها أهلية قانونية لحيازة تلك الأموال. وقد أعطى القانون الكَنَسِيّ بأوربا الوسيطة دفعة أقوى لنظرية الشخص المعنوي، واهتم بمسؤوليته الجنائية، بعدما اعترف له بالأهلية والشخصية القانونيتين. وسيبلغ هذا الاهتمام مدًى أوسَعَ مع “مدرسة المُحشين اللاحقين” في إيطاليا، التي يعد بارتولوس (Bartolus) أبرز أعلامها؛ وذلك بالنظر إلى ما استحدثته من آراء تشكل، بالفعل، “خطوة إلى الأمام في شأن المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي. وقد شاع منهجها الفكري، وامتدّ من القرن الرابع عشر الميلادي حتى القرن السادس عشر. وذهب الفقهاء إلى القول بأنه يحظى بشخصية مستقلة ومتميزة. وإنْ أعْوَزه الكِيان الملموس ككائن اجتماعي، فإنه، مع ذلك، شخص قانوني له مقوّماته كحقيقة، ورتّبوا على ذلك أنه يملك القدرة على الإرادة، وعلى تجسيدها في تصرفات ملموسة؛ وبالتالي، القدرة على الانحراف، وأنه حقيقة قانونية، وأنّ شخصيته هي نتيجة لامتزاج واندماج جميع أعضائه من الأشخاص الطبيعيين في شخصية موحّدة”[12].

وبخصوص القانون الفرنسي القديم، فهو كان يُقِرّ بمسؤولية الشخص الاعتباري جنائيا انسجاما مع منطق الحُكم الملكي المطلق؛ كما يتضح من العقوبة التي وقّعها برلمان باريس على مدينة تولوز سنة 1331، حين حرَمها من شخصيتها القانونية، وصادَرَ ذمتها المالية؛ في أعقاب تنفيذ حكم إعدام على طالب في كلية الحقوق/ جامعة السوربون، ضرب قاضيا، دون إرجاء النظر في القضية، رغم الطعن في الحكم المسلّط على هذه المؤسسة الجامعية[13].

وفي الفقه الإسلامي، لم تبْرُز تلك المسؤولية بصورة واضحة، بل عُرف فيه مسؤولية الشخص الطبيعي منذ زمن بعيد جدا، على أن هذا الفقه تَجاذَبَه اتجاهان بشأن الموقف من مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا؛ اتجاهٌ رافض يؤكد أن الشخص الطبيعي هو المعني بخطاب التكليف، وأنه لم ترد في الشريعة الإسلامية نصوص تُرتب مسؤولية على الشخص المعنوي، أو تكلّف الجماعات؛ ففي القرآن الكريم: (لا يُكلّف الله نفْساً إلا وُسْعها، لها ما كسبتْ، وعليها ما اكتسبت)[14]، وفي الحديث النبوي: “لا يُؤخذ الرجلُ بجَريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه”[15]. والاتجاه الآخرُ مؤيد، يؤكد أن فكرة الشخص المعنوي لا تتعارض مع روح الإسلام، الذي لم يرد فيه ما يمنع صراحةً منح الذمة لغير الأشخاص الطبيعيين. يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله: “إن الفقه الإسلامي قد أقرّ الشخصية الحُكمية، ورتّب عليها أحكاما… فإذا رجعنا إلى النصوص والمصادر الأصلية، في الشريعة الإسلامية، وجدنا فيها أحكاما تُشْعِر بأنها بُنيت شرعًا على فكرة الشخصية الاعتبارية، بنظرٍ إجمالي يستلزمه إيجاب الحكم، ووجدنا أيضًا أحكاما أخرى، تتمثل فيها صورة الشخص الاعتباري سَويّا بكل مقوِّماته وخصائصه في النظر القانوني الحديث”[16].

إن دراسة قضية مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا تكتسي أهمية بالغة على المستويين النظري والعملي؛ إذ كانت من النقط الجوهرية التي أثير حولها نقاش مستفيضٌ في عدد من المؤتمرات واللقاءات الدولية في أوربا خاصةً، وكُتبت عنها أبحاث من الكثرة بمَكانٍ بشتى اللغات، بعضُها ذو صبغة تنظيرية واضحة، سعى إلى ضبط عناصرها ومقوماتها وأحكامها. ولعل الدافع الأساس لإيلاء كل ذلك الاهتمام للشخص المعنوي يتجلى في ما أضحى يضطلع به حديثا من أدوار طلائعية في تنمية المجتمعات والرقي بها، وفي ما صار يرتكبه من جرائم أيضا، بعضُها ينطوي على خطورة واضحة؛ عن طريق مديريه أو ممثليه القانونيّين بطبيعة الحال. كما أن الاجتهاد القضائي امتد إلى هذا الموضوع، وقال كلمته في قضايا عدّة، عُرضت عليه بخصوص مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا. وإن هذه الأهمية تعد أحد الأسباب التي دفعتنا إلى بحْث هذه القضية؛ من خلال التركيز على معالجتها في ضوء الفقه والتشريع المقارنَيْن في المحلّ الأول.

بناءً على ما تقدم كله، يمكننا أن نصوغ إشكالية مقالنا هذا على النحو الآتي: كيف نظر الفقه الجنائي والتشريع المقارن إلى موضوع المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي؟ وسنفرِّع هذه الإشكالية المركزية إلى جملة من التساؤلات المترابطة، التي سيشكل الجواب عنها صلب دراستنا في المحاور الآتية بعده، وهي كالآتي:

– ما هي الشروط اللازم توافُرها لقيام مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا؟

– ما نطاق تطبيق هذه المسؤولية، سواء على مستوى الأشخاص المعنوية أو الجرائم المرتكبة؟

– ما موقف الفقه الجنائي من المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي؟ وما حُجج كل فريق؟

– ما موقف التشريعات المقارنة من هذه المسؤولية؟

ويبدو أن أنسب وأنجع منهج لتناول تلك الإشكالية، ومقاربة شتى عناصرها، هو المنهج المركَّب القائم على قاعدة التوفيق بين مناهج التأريخ والتوصيف والتحليل والمقارنة جميعًا.

المبحث الأول: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي: شروطها ونطاقها

سينصرف حديثنا، في هذا الصدد، إلى أمرين مهمّين، لا نتصور تقديم دراسة علمية لهذه المسؤولية دون الإلمام بهما؛ يتعلق أولهما بالشروط الواجبة للإقرار بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا (المطلب الأول)، على حين يتطرق ثانيهما إلى توضيح نطاقها أشخاصاً اعتباريةً وجرائمَ (المطلب الثاني).

المطلب الأول: شروط قيام المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

لا تقوم مسؤولية الشخص المعنوي، قانونًا وواقعًا، من الناحية الجنائية خاصة، إلا بتوافر شروط، اختلف الدارسون في عددها، وتباينت آراؤهم بخصوصها بين متوسِّع فيها ومُختزِل لها. ولعل أهمّها هذان الاثنان:

1/- أن يُرتكب الفعل الإجرامي من قبل شخص طبيعي يعبّر عن إرادة الشخص المعنوي:

بالنظر إلى طبيعة الشخص المعنوي، بوصفه كيانا مجرّدا، لا يملك القدرة على التصرف الفعلي، ولا على الإدراك المباشر، فإنه لا يُتصوَّر صدور فعل جُرمي عنه، بصفة حقيقية، بل يحصل ذلك عن طريق شخص ذاتي أو أشخاص طبيعيين يمثلونه، ويعبِّرون عن إرادته، ويتصرفون باسمه؛ وذلك وَفْق مجموعة من الشروط الضرورية في هذا الصدد.

وحين نطّلع على بعض التشريعات، نجدها تعبر عن ذلك الشخص الطبيعي باصطلاحات مختلفة؛ بحيث تتحدث تشريعاتٌ؛ مثل التشريع الفرنسي، عن أعضاء الشخص المعنوي وممثليه، انسجاما مع إحدى توصيات المجلس الأوربي، الذي اشترط – لقيام مسؤولية هذا الشخص جنائيا – تعيين شخص طبيعي ينْجُم عن ارتكابه فعلا إجراميا ثبوتها[17]. ولا يخفى ما في هذا التعبير من توسيع لدائرة مرتكبي الإجرام المُسْنَد إلى الأشخاص المعنوية، وهو سلوك لم يلْقَ ترحيبا لدى كثير من المشرِّعين، الذي عمدوا إلى تضييق تلك الدائرة على نحو واضح؛ كما في التشريع العراقي، الذي حدّدهم بوُكلاء الشخص المعنوي وممثليه، وكما في التشريع القطري الذي حصَرَهم في مديريه ووُكلائه، وكما في التشريع الجزائري الذي عيّنهم بممثليه أو أجهزته الشرعية. ونُلْفي في عدد من التشريعات (كما في الأردنّ والإمارات العربية المتحدة) أن الشخص الطبيعي، الذي قد يُسأل عن فعله الجُرْمي الشخصُ الاعتباريّ، هو مديره العام أو رئيس مجلس إدارته أو وكيله أو ممثله بصفة عامة.

ويُشترط في هذا التمثيل أن يكون قانونيا، وأن يتم باحترام تامّ للقانون الأساسي المؤطِّر لعمل الشخص الاعتباري، وإلا اعتُبر باطلا؛ مما قد ينتفي معه إسناد المسؤولية الجنائية إلى الشخص المذكور. مؤدّى هذا أن الشخص الذاتي إذا تصرف تصرفا نتجت عنه جريمة، فإن ذلك يُرتّب مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا إذا تم في إطار القانون، وفي حدود الصلاحيات الممنوحة له بموجب نص قانوني أو اتفاق أو توكيل خاص. على حين يتحمل الشخص الطبيعي مسؤولية فعله الجرمي في حال مخالفته القانون، أو في حال ارتكابه فعلا لم يحترم فيه صلاحياته تلك. وقد ذهب لفيفٌ من فقهاء القانون الفرنسيّين إلى “رفض مسؤولية الشخص المعنوي في هذه الحالة، باعتبار أنه، في نظر البعض، هو ضحية أكثر منه أن يكون متّهما. وفي كل الأحوال، لا يجوز قيام مسؤولية الشخص الاعتباري إلا في الحالات، وبالشروط التي نصّ عليها المشرّع صراحة. وطالما أنّه لم ينصّ على قيام المسؤولية الجنائية في هذه الحالة، فمن غير الممكن قياس الإداريين الفعليين على الإداريين القانونيين، وخاصة في ظلِّ مبدإ الشرعية، الذي يَقضي بأنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون”، وأن قانون العقوبات لا بد من أنْ يُفسَّر تفسيرا ضيّقا”[18].

ومن اجتهادات القضاء الإنجليزي، في هذا النطاق، ما أصدره اللّورد باركر (Parker)، في إحدى القضايا، قائلا: “في شأن إسناد المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، فإنه يتعين التفرقة بين أشخاص يمثلون “عقل الشركة”؛ مثل المدير والمدير الإداري أو السكرتير أو غيرهم من الآمِرين، وبين غيرهم ممّن يُعدّون مجرد تابعين أو خَدَم”[19].

ويلْزم الشخص الطبيعي أن يعبّر عن إرادة الشخص الاعتباري الذي يمثله، حتى تتحقق مسؤولية الثاني عن أفعال الأول الجُرْمية، وإلا انتفت تلك المسؤولية الجنائية عنه؛ إذ “لا يمكن مساءلة الشخص المعنوي جنائيا عن كل فعل مُؤثم يقترفه أحد أعضائه الطبيعيين، حتى في حالة ارتكابه باسم الشخص المعنوي ولحسابه؛ ذلك لأنه يُشترط لإسناد أي فعل إليه أن يكون مرتكبه من الأشخاص الطبيعيين المرخَّص لهم – وَفقا لنظامه الأساسي – بالتعبير عن إرادته. ولاستظهار هذا الأمر، والتثبُّت منه، ينبغي في شأنه الرجوع إلى قانونه الأساسي، أو لائحته الداخلية، أو قرارات الجمعية العمومية، للتثبت ممّن فُوِّض في هذا الشأن؛ فهي مسألة واقع تتأكد منه محكمة الموضوع، وتراقبها المحكمة العليا؛ فإذا ثبت أن الفعل المُؤثم قد ارتُكب ممّن يملك التعبير عن إرادة الشخص المعنوي، وفي إطار ما ترخّص به، تفرّع عن ذلك صحة إسناده إلى الشخص المعنوي ذاته. أما إذا ثبت أن الجريمة ارتُكبت من عضو لا يملك التعبير عن إرادته، فإنّ الشخص المعنوي لا يصحّ إسناد الفعل إليه، وإنما تقع مسؤولية ارتكابه على مرتكِب الفعل، حتى لو كان قد ارتكبه باسم الشخص المعنوي، ولِحِسابِه”[20].

وقد يَفْرض القانون شكليات وشروطا معينة لحصول ذلك التعبير عن إرادة الشخص المعنوي. وهنا، يلزم احترامها ومراعاتها لإسناد فعل جرمي صدر عن شخص ذاتي إلى الشخص الاعتباري الذي يمثله، أو يتولى تسيير شؤونه باتفاق أو تفويض أو نحْوِهما، وإلا عُدَّ ذلك الإسنادُ مَعيبا؛ وبالتالي، ترتبت المسؤولية الجنائية على الشخص الطبيعي وَحْدَه.

وتجْدُر الإشارة إلى أنه قد تَرِدُ استثناءات، في هذا الإطار، إذا استدعت الضرورة ذلك؛ مثلما هو الشأن بالنسبة إلى قانون الصِّحافة الفرنسي، مثلا، الصادر في 1945، الذي جاء فيه أن “الشخص المعنوي يُسْأل جنائيا عن أفعال جميع الأشخاص المشترِكين في التوجيه والإدارة، حتى لو كانوا – طبقا لنظام الشخص المعنوي القانوني – مجرّدين من أية سلطة”[21].

2/- أن يُرتكب الفعل الجرمي باسم الشخص المعنوي أو لحسابه:

يتعيّن، لترتيب المسؤولية الجنائية على الشخص المعنوي، ألاّ يرتكب الجريمةَ شخص ذاتيٌّ لمصلحته الخاصة، أيّا كانت هذه المصلحة، بل يلزم ارتكابها من قِبله لفائدة غيره/ الشخص الاعتباري. والملاحظ أن التشريعات قد اختلفت، ها هنا، في التعبير عن ذلك؛ بحيث نجد بعضها يعبّر بارتكاب الجريمة باسم الشخص المعنوي؛ كما فعل المشرع اللبناني، ويعبر بعضها عن ذلك بارتكاب الجريمة لحساب الشخص المذكور؛ كما فعل المشرّع الفرنسي، في حين تعبّر تشريعات أخرى كثيرة بالجمع بين العبارتين المتقدمتين؛ كما فعلت التشريعات العراقية والإماراتية والأردنية. وقد يَسأل أحدهم عن أيِّ هذه الصيغ اللفظية أدقّ في التعبير عن مقصود المشرّع. وإذا كان عديدون لا يرون ثمة فرْقا بين وقوع التصرف باسم الشخص المعنوي ووقوعه لحسابه، معتبرين أن الأمر لا يتجاوز الاختلاف في اللفظ دون المعنى[22]، إلا أن بعضهم يرى أنه “من المُناسِب استخدام تعبير “لحساب الشخص الاعتباري أو الجمعية ذات النفع العامّ”؛ لأن هذا القول يُبْعِدنا عن الحالات التي يكون فيها الشخص الاعتباري أو الجمعية ذات النفع العام ضحية للجريمة”[23]. ويتحدد مفهوم العمل باسم الشخص المعنوي أو لحسابه بالرجوع إلى “النظام الأساسي” لهذا الشخص، أو إلى “لائحته الداخلية”[24].

وقد تتخذ تلك المصلحة صورة تحقيق ربح أو تجنب خسارة أو غيرهما، مثلما قد تكون مادية أو معنوية، مباشرة أو غير مباشرة، محققة أو احتمالية.

يُشترَط، إذاً، لقيام مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا أن يرتكب ممثله القانوني جريمة باسمه أو لحسابه، على حين أنه لو ثبت ارتكابُه ذلك لصالحه هو، سواء كان عن طريق الإتيان بجُرْم يعود عليه بالنفع الخاص أو عن طريق عَمْده إلى الإضرار بمصالح الشخص المعنوي الذي يمثله، فإنه يُسأل جنائيا بصفة شخصية.

وقد يُثار التساؤل، أحيانا، في حال كون الشخص المعنوي ليس واحدا، بل عبارة عن تجمع أو مجموعة من المؤسسات (كالشّرِكات مثلا)؛ فهُنا أيُّ هذه الأخيرة مَعْني بالمُساءلة الجنائية عند اقتراف جريمة باسمها أو لحسابها؟ هل تُسند المسؤولية إلى إحدى الشركات التابعة المشكِّلة لهذا التجمع أم إلى الشركة الأم وحدها؟ يُجيب بعضهم؛ بتَعداد الحالات المختلفة في هذا الصدد، قبل ترجيح أحد الآراء، بالقول: “يبدو واضحا أنه إذا كانت الشركة الأم لا تمارس أي تأثير على الشركة التابعة التي ينتمي إليها الشخص الطبيعي مرتكبُ الجريمة، ففي هذه الحالة لا محلّ لنسبة الجريمة إلى الشركة الأمّ، وإنما تُنسب إلى الشركة التابعة التي ارتكبت الجريمة باسمها أو لحسابها. أما إذا كانت الشركة الأمّ هي الشركة المسيْطِرة، وهي التي ترسم الاستراتيجية العامة لمجموع الشركات؛ بحيث لا تكون هذه الشركات إلا أداة في يدها، ففي هذه الحالة يمكن نسبة الجريمة إلى المجموع بكُلِّه… وفي ضوء ذلك، يبدو أن الرأي الراجح هو الذي يقرر مسؤولية كلٍّ من الشركة الأمّ والشركة التابعة في هذه الحالة، باعتبار أن هناك نوعاً من المساهمة الجنائية التبعية، قد تكون فيها الشركة الأمّ بمثابة محرّض أو مساعِد أو متفِق”[25].

ويلاحَظ، في بعض الأحايين، أن ارتكاب الجريمة يروم تحقيق مصلحة للشخصين المعنوي والطبيعي معاً، وهو ما يعد فعلا ذا خطورة أكبر ممّا لو كان ذلك الأمر يتوخى تحقيق إحدى المصلحتين؛ الشيءُ الذي يدفع إلى التشديد لدى ترتيب الجزاءات. يقول أحد الباحثين: “قد تَزْدَوِجُ المصلحة عندما يستهدف الشخص الطبيعي مصلحة خاصة لنفسه، بالإضافة إلى مصلحة الشخص المعنوي في الوقت ذاته. ويعد ذلك سببا تُشَدَّد بموجبه عقوبته هو، دون أدنى تأثيرٍ لذلك التشديد على مسؤولية الشخص المعنوي أو تعارُض معها؛ فالشخصُ الطبيعي فاعل أصلي إلى جانب الشخص المعنوي في ذات الجريمة”[26].

المطلب الثاني: نطاق المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

ظهرت فكرة الشخصية المعنوية في مجال القانون الخاص أولا، لكنها سرعان ما انتقلتْ إلى مجال القانون العام، باعتبار أن هذا الأخير لا يعرف الأشخاص الطبيعيين إلا بصفتهم ممثلين للشخص المعنوي، أو معبّرين عن إرادته. ونميز في الأشخاص المعنوية بين العامة والخاصة؛ فإذا كانت الأولى تخضع لأحكام القانون العام، وترمي إلى تحقيق مصالح المجتمع ككل، فإن الثانية تسري عليها أحكام القانون الخاص؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى الشركات والمقاولات والجمعيات. والمسؤولية الجنائية أمر وارد في النطاقين معا؛ كما سنُبيّن في الآتي:

الفرع الأول: الأشخاص المعنوية

أولا- الأشخاص المعنوية العامة:

من الناحية المبدئية، فإن هذه الأشخاص تُسأل جنائيا عن الأفعال الإجرامية التي تصدر عن تابعيها وممثليها بمناسبة ممارستهم أنشطة في حدود الاختصاصات الممنوحة لهم قانونا، وإنْ كانت تشريعات تستثني بعض هؤلاء الأشخاص من المسؤولية الجنائية عن أفعال الغير ممن يعملون لديها، ولاسيما شخص الدولة. ويُميَّز، عادةً، في هذه الأشخاص العامة بين إقليمية ومَرْفِقية/ مَصْلَحية.

 1- الأشخاص المعنوية الإقليمية:

والمقصودُ بها تلك الأشخاص التي تتحدد اختصاصاتها بنطاق جغرافي معين، قد يمتد إلى تراب إقليم ما برُمَّته؛ كالدولة، وقد تقتصر على جزء من هذا التراب؛ كالمحافَظات والجهات والجماعات الترابية. وتعد الدولة أهم هذه الأشخاص المعنوية، وهي تتمتع بشخصية اعتبارية وقانونية في كافة التصرفات التي تقوم بها؛ عن طريق أجهزتها الوظيفية المختلفة (تنفيذية/ تشريعية/ قضائية)، وتتوخى تحقيق الأهداف العامة للمجتمع، وتتسم أعمالها بحيازتها طابع الإلزام والسلطة. وقد نص دستور المغرب الجديد (يوليوز 2011) على اندراج الدولة ضمن زمرة هذه الأشخاص في فصله السادس، الذي ورد فيه أن “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع – أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية – متساوون أمامه، وملزَمون بالامتثال له…”. وهو ما يعني إمكانية ترتيب مسؤولية جنائية على عاتق الدولة كشخص معنوي عامّ، تنضاف إلى مسؤوليتها المدنية (الفصلان 79 و80 من قانون العقود والالتزامات المغربي)، التي لا خلاف حولها فقها وتشريعا وقضاء.

والواقع أن مسؤولية الدولة جنائيا عن أفعال الغير طرحت العديد من الإشكالات نظريا وعمليا، قبل اتجاه أغلب التشريع المقارن إلى الحسم فيها؛ بالنصّ على حصانة الدولة جنائيا، وعدم إمكانية مساءلتها عن جرائم يرتكبها العاملون لديها، وإنْ كان ذلك حاصلا في حدود الصلاحيات الممنوحة لهم قانونًا. فقد استثنى المشرّع الفرنسي، من خلال المادة 121/2 من قانونه الجنائي، الدولة من المسؤولية الجنائية بصورة واضحة. وسار في الاتجاه نفسه مشرّعون آخرون كثيرون في شتى أنحاء المعمورة؛ مثل قانون العقوبات العراقي في المادة 80، وقانون العقوبات لدولة الإمارات العربية المتحدة في المادة 65، وقانون العقوبات السوري في المادة 158… أما بالنسبة إلى المشرع المغربي، وموقفه من هذه المسؤولية الجنائية، فإنه نصّ – من خلال الفصل 127 ق.ج – على مفهوم “الشخص المعنوي” بصيغة التعميم، من غير تحديد أو تمييز بين الأشخاص المعنوية العامة أو الخاصة، وهو ما قد يطرح إشكالات لدى تطبيقه واقعيا؛ لذا، فقد حاول المشرع المغربي تداركه؛ من خلال مسوّدة مشروع القانون الجنائي، في المادة 132/1، التي تنص على أن “الشخص المعنوي، ما عدا الدولة، مسؤول جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها لفائدته ممثله أو أجهزته التي تعمل لحسابه وباسمه، مع استثناء الجماعات المحلية التي تسأل جنائيا في الجرائم المرتكبة أثناء مزاولة أنشطةٍ مِنْ شأنها أن تكون موضوع اتفاقية للتدبير المفوّض للمرفق العمومي”.

2- الأشخاص المعنوية المرفقية:

وتتمثل في المؤسسات العمومية التي تتحدد طبيعتها انطلاقا من نوعية النشاط الذي تقوم به؛ تحقيقا لمصالح الأفراد العامة تحت رقابة الدولة. وهي أنواع، منها المؤسسات العامة الإدارية (كالجامعات)، والمؤسسات العامة الاقتصادية (كالمكتب الشريف للفوسفاط OCP بالمغرب)، والمؤسسات العامة الاجتماعية (كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي CNSS)… وتعد هذه المؤسسات وأمثالُها من الأشخاص المعنوية العامة التي تخضع لأحكام القانون العام كما ذكرنا سابقا، والتي تتدخل من خلالها الدولة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. ولمّا كانت كذلك، وبالنظر إلى أدوارها الطلائعية، وبحُكم سيادة الدولة التي تتدخل عبرها في مجالات حيوية كما قلنا، فإنه تُستبْعَد إمكانية مساءلتها جنائيا في عدد من التشريعات، مع إمكانية مساءلتها مدنيا للتعويض عن الأضرار التي قد يتسبب فيها أحد العاملين لديها للغير.

ثانيا- الأشخاص المعنوية الخاصة:

وقوامُها مجموعة أموال أو جماعة أشخاص تنشأ لتحقيق مصلحة معينة، قد تكون عامة، مثلما قد تكون خاصة، إضافة إلى أن الشخص المعنوي الخاص تكون له ذمة مالية مستقلة عن ذِمم الأعضاء المكونين له. ومن أبرز أمثلته الشركة، التي هي – حسب الفصل 982 من القانون المدني المغربي – “عقدٌ بمقتضاه يضع شخصان، أو أكثر أموالهم، أو عملهم، أو هما معا، لتكون مشتركة بينهم؛ بقصد تقسيم الربح الذي قد ينشأ عنها”. ومنها، كذلك، الجمعيات، والأحزاب، والنقابات المهنية، والأوقاف.

إن الأشخاص المعنوية الخاصة تخضع جميعُها للمساءلة الجنائية عن جرائم العاملين لديها، ما داموا قد ارتكبوها في إطار ممارستهم أعمالا مشروعةً، وفي حدود اختصاصاتهم المحددة قانونا، وذلك على غرار الأشخاص الطبيعيّين. كما أن الأشخاص المعنوية الخاصة كلَّها تخضع للتشريع الجنائي الوطني، سواء كانت أجنبية أو مغربية، تطبيقا لمبدإ إقليمية القوانين، ما دامت توجد داخل حدود التراب الوطني. وأكثر من ذلك، فإنه من الممكن مساءلة الأشخاص المعنوية الخاصة الأجنبية التي ترتكب إحدى الجرائم الماسّة بأمن الدولة وسلامتها جنائيا أمام القضاء المغربي، ولو ارتكبت هذه الجرائم خارج التراب الوطني؛ تفعيلا لمبدإ العَيْنية.

 ولا مناص من الإشارة إلى نقطة مهمةٍ في هذا الصدد، وهي أن الأفعال الإجرامية في نطاق أعمال شخص معنوي في طور الإنشاء لحسابه لا تنسب إليه ما لم يكتسبِ الشخصية المعنوية بعْدُ. ففي التشريع المغربي، مثلا، لا تكتسب الشركة التجارية الشخصية المعنوية إلا بالتسجيل في السجل التجاري؛ وبالتالي فكل الأعمال التي تقوم بها، حتى ولو كانت إجرامية، لا تُسال عنها عندما تكون قد ارتُكبت في فترة ما قبل اكتساب الشخصية المعنوية، وإنما يُسأل عنها المؤسِّسون الذين ارتكبوها فقط؛ أي الأشخاص الطبيعيون، ويُستثنى من ذلك الحالة التي تكون فيها الجريمة مستمرة وقائمة إلى ما بعد اكتساب الشخصية المعنوية؛ فهنا تُسأل الشركة عن الجريمة المرتكبة بصفتها شخصا معنويا خاصّا. ويرى جانب من الفقه إمكانية معاقبة الشركة خلال فترة التصفية عن الجرائم المرتكبة لحسابها، على أن الشركة، في هذه الحالة، تظل – رغم حلِّها – متمتعةً بالشخصية المعنوية والقانونية في الحدود التي تقتضيها عملية التصفية.

الفرع الثاني: الجرائم التي قد يُسأل عنها الشخص المعنوي[27] 

إن الجرائم التي تُسند إلى الشخص المعنوي، وإن ارتُكبت على يد أحد ممثليه أو أعضائه، وتترتب عنها مسؤولية جنائية بالنسبة إليه، قد ورد النص عليها إما في إطار القانون الجنائي (أو قانون العقوبات…)، وإما في قوانين خاصة؛ على نحو ما سنوضح بإيجازٍ في الفِقْرتين أسفله:

أوﻻ- الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي:

منها، في التشريع الجنائي المغربي، الجريمةُ الإرهابية، التي تهدد كيانَ المجتمع وأمْنَه واستقراره، والتي تمت إضافتها إلى المجموعة الجنائية بمقتضى القانون 03.03، وعرّفها المشرّع المغربي في الفصلين 218-1 و218-3، ورتّب لها الجزاء المنصوص عليه في الفصول 218-1-1، و218-2، و218-4، و218-5، و218-7، و218-8.

ومنها جريمة غسل الأموال، التي تشكل خطرا حقيقيا على اﻻقتصاد الوطني، وقد نُصَّ عليها في الفرع السادس مكرر من القانون الجنائي، الذي تمّم بموجب القانون رقم 43.05، المتعلق بمكافحة غسل الأموال، وقد عدّد المشرع المغربي الأعمال المكونة لها في الفصلين 574-1 و574-2 ق.ج، اللذين تم تغييرهما وتتميمهما بمقتضى القانون 13.10، وأورد لها العقوبات في الفصول 574-3، و574-4، و574-5، التي تم تغييرها وتتميمها أيضاً بمقتضى القانون المذكور.

ومنها جريمة التمييز، التي تهدّد التماسُك الاجتماعي، وتضرُّ بالتنوع الحضاري الوطني، وقد تمت إضافتها إلى مجموعة القانون الجنائي بمقتضى المادة السادسة من القانون رقم 24.03، وعُرّفت في الفصل 431-1، ونُصُّ على جزائها في الفصل 431-3…

ثانيا- الجرائم المنصوص عليها بمقتضى نصوص خاصة:

سنكتفي بالإشارة إلى بعضها فقط ممّا ورد في القانون الجنائي المغربي تحديدا؛ وذلك مثل الجرائم البيئية. فمن المعلوم أن دستور المملكة قد دَسْتَرَ، في فصله 31، الحق في أن يعيش المواطن في بِيئة نظيفة وسليمة، والحق في أن يستفيد من تنمية مستدامة. وأصدر جملة قوانين هادفة إلى حماية البيئة بصفة عامة، وإلى ضمان تحقيق التنمية في بُعْدَيها الشامل والمستدام؛ من ذلك القانون رقم 99.12 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، والقانون رقم 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة، والقانون رقم 12.03 المتعلق بدراسات التأثير في البيئة، والقانون رقم 22.07 المتعلق بالمناطق المَحْمية، والقانون رقم 13.03 المتعلق بمكافحة تلوث الهواء، والقانون رقم 10.95 المتعلق بالماء، والقانون رقم 142.12 المتعلق بالأمن والسلامة في المجالين النووي والإشعاعي، وغيرها من النصوص التشريعية.

ومن تلك الجرائم، أيضا، الجرائم التي تمَسّ حقوق المؤلِّف والحقوق المجاورة، وتشكلُ خطرا على الإبداع والفن والتنوع الثقافي، وقد نص عليها المشرع في القانون رقم 2.00؛ وجرائم الغش والتهرب الضريبي، المنصوص عليها في المواد 187، و192، و199 من المدونة العامة للضرائب المُحْدثة بموجب المادة الخامسة من قانون المالية 43.06 لسنة 2007؛ والجرائم الواردة في القانون 104.12 المتعلق بمؤسسات اﻻئتمان والهيئات المعتبَرة في حكمها، وقد خصّها المشرع بعقوبات زجرية في الباب الثاني من القانون المشار إليه؛ وجرائم التزييف واﻻنتحال والنسخ والتدليس والمِساس بحقوق مالك براءة اﻻختراع الواردة في القانون 17.97، الذي يتعلقُ بحماية المِلكية الصناعية، والذي وقع تتميمه بمقتضى القانون 23.13، وقد أفرد لها المشرّع المغربي العقوبات المنصوص عليها، في القسم الثاني، في المواد من 213 إلى 217، ومن 225 إلى 233، ضمن القانون المشار إليه.

المبحث الثاني: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي بين المنظورَيْن الفقهيّ والتشريعيّ

يقفُ متصفح الكتابات عن هذه المسؤولية على اتجاهات ومواقف مختلفة، فقها وتشريعا، بشأن هذه المسؤولية، على أنه يستند مُتَبَنُّو كل موقف على أدلة وحجج للإقناع من جهة، ولإبطال دعوى أصحاب الرأي المخالف من جهة أخرى. وعليه، فإننا سنتحدث في الآتي عن موقف الفقه الجنائي من المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي (المطلب الأول)، وعن موقف التشريع المقارن من المسؤولية نفسها عقبَ ذلك (المطلب الثاني).

المطلب الأول: موقف الفقه من المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

لقد أثار هذا الموضوع نقاشا مستفيضا بين فقهاء القانون الجنائي، يمكن إجماله في رأيين كبيرين؛ رأيٍ ينكر مسؤولية الشخص المعنوي عن جريمة مرتكَبَة من قبل مديره أو ممثله أو أحد العاملين لديه، مؤكدا أن المسؤولية المشار إليها يجب أن يتحملها الشخص الطبيعي الذي أتى تلك الجريمة؛ فهو مَن أجرم، وهو – بالتالي – من يتعيَّن أن يُسأل جنائيا. على حين يقرّ الرأي الثاني مسؤولية الشخص المعنوي عن الأفعال الإجرامية التي يرتكبها ممثلوه أو أعضاؤه المعبِّرون عن إرادته؛ من منطَلَق أن أفعالهم تلك تم اقترافها باسم الشخص الاعتباري أو لحسابه ومصلحته؛ وبالتالي يتحمل تبعاتها كذلك، ولا يُعقل أن يكون مستفيدا منها فقط، بل تنسب إليه أفعال الشخص الذاتي الذي يمثله، ويعبر عن إرادته، في جميع الأحوال. ولكل فريق حُجَجُه الإثباتية التي يعتمد عليها للدفاع عن وجهة نظره، وإفحام خصومه بها. وهذا ما سنوضحه من خلال الفرعين الآتييْن:

الفرع الأول: الاتجاه الفقهي المُنْكِر للمسؤولية الجنائية للشخص المعنويّ

لقد ساد هذا الاتجاه منذ القرن التاسع عشر إلى حدود الثلث الأول من القرن الماضي، وخلاصةُ رأيه أن الشخص المعنوي – نظرا لعدة اعتبارات – لا يتحمل أي مسؤولية جنائيا عمّا يقترفه مديره، أو ممثله، أو أعضاؤه، أو العاملون التابعون له من أنشطة إجرامية، بل يتحمل مسؤوليتها الشخص الطبيعي الذي ارتكبها من بينهم؛ فهو صاحب ذلك الفعل، وهو من يُحاسَب عليه، ولا يُعقل – منطقيا – معاقبة غيره عن فعله الجُرْمي، وإلا كان في ذلك اعتداء وإضرار بالشخص الذي يعمل لحسابه، أو يتصرف باسمه. وسنُورِد أبرز الدعامات الحجاجية التي يستند إليها هذا الاتجاه؛ لإثبات موقفه، والمنافحة عنه، في النقط الآتية:

– لعل أول دليل، ينطلق منه منكرو مسؤولية الشخص المعنوي الجنائية، يتعلق بطبيعته في حد ذاته؛ ذلك بأن هذا الشخص ليس له وجود مادي على أرض الواقع، بل هو كيان مجرد، أو افتراض من ابتداع القانون، الذي اعترف للشخص الاعتباري بشخصية وبأهلية قانونية تحت تأثير ظروف وضرورات؛ نظرا لحاجة هذا الشخص إلى أن تكون له صبغة قانونية تؤهّله لأنْ يمتلك ذمة مالية، وينجز تعاقدات وعمليات أخرى، ويتحمل مسؤولية الأخطاء التي تصدر عنه في مواجهة الغير… ولكنْ يُستثنى من ذلك ما يتعلق بمسؤوليته جنائيا عن أفعال إجرامية مرتكَبَة من قبل ممثليه أو العاملين لحسابه. فحين تُقترَف مثل هذه الأفعال، فالمسؤول عنها جنائيا يكون هو الذي صدرت عنه شخصيا، ولا تُنسب إلى الشخص المعنوي الذي يعمل لديه، حتى وإنْ كانت تلك الأعمال قد ارتكبها الشخص الذاتي باسم الشخص المعنوي أو لفائدته، لا لمصلحته الخاصة هو. ثم إن القانون الجنائي لا يبني أحكامه على الافتراض أو المجاز، وإنما على الحقيقة والواقع. كما تتطلب المسؤولية الجنائية توافر الأهلية الجنائية، التي تفترض حضور الإدراك، وحرية الاختيار، والتمييز.. وهي أمور غير متوافِرَة إلا لدى الشخص الطبيعي/ الإنسان. ومن هنا، فالشخصُ الاعتباري يكون غيرَ أهْلٍ لتحمُّل المسؤولية الجنائية لعدم توافر تلك الشروط فيه؛ وعليه، فلا يمكن أن تنسَب إليه جرائم وأخطاء ارتكبها أشخاص طبيعيون، وإن كانوا ممثلين وعاملين لديه[28].

ومثلما لا يتصور صدور الركن المادي للجريمة عن الشخص المعنوي، فكذلك لا يمكن إثبات الركن المعنوي له، ونسبته إليه. يقول أحد الباحثين إنّ “الشخص الاعتباري ليس لديه إرادة مستقلة؛ فهو مجردٌ من كلّ إرادة خاصة به. ومن ناحية أخرى، فإن انعدام الإرادة النفسية الحقيقية لديه يجعل من غير المتصوَّر أن يتوفر لديه الركن المعنوي للجريمة، سواء في صورة القصد الجنائي أو الخطإ؛ لأن هذا الركن يتطلب الإرادة الإجرامية، التي لا يمكن توافرها إلا لدى الشخص الطبيعي؛ مما يعني أن إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية يصطدم بمبدإ المسؤولية الأخلاقية، الذي يقضي بضرورة توافر الركن المعنوي لقيام الجريمة، وهو أحد المبادئ الراسخة في قانون العقوبات الحديث”[29].

– ويعزّز أصحاب هذا الاتجاه، كذلك، موقفهم بتأكيدهم أن إنشاء الشخص المعنوي، والاعتراف له بالوجود القانوني، يرتهنان بضرورة ممارسة هذا الشخص الأنشطة المباحة، التي تحددت منذ البداية، والتي في ضوئها نال ذلك الاعتراف من الجهات المسؤولة في البلد الذي يحتضنه، وتلك الأنشطة لا يمكن أن نتصور ضمنها أفعالا إجرامية؛ فالمشرّع حين يعترف، مثلا، لمقاولة بالشخصية القانونية، فإنما يفعل ذلك على أساس أنها أُنشِئت لمزاوَلَة عمل مشروع، ولتحقيق أرباح طبْعا، وأي سلوك إجرامي يأتيه أحد العاملين التابعين لها لا يصح أن يُنسب إليه، بل يلزم أن يتحمل مسؤوليته مَنِ اقترفه بصفة شخصية. وعليه، فإن الأهلية المعترَف بها للشخص الاعتباري هي أهلية ناقصة. وقد تقررت أهليته القانونية بغية صلاحيته للقيام بأنشطة معينة؛ ومن ثم، فإن مشروعية نشاطه مشروطة بجريانه في نطاق الحدود المرسومة لنشاطه الخاص، ولا يُعقَل أن يتسع نطاق هذه الأغراض للقيام بأنشطة إجرامية خارجة عن نطاق وجوده[30]؛ مؤدّى هذا كلِّه أنّ أي عضو تابع للشخص المعنوي ارتكب جريمة، ولو كانت بسبب اشتغاله لمصلحة هذا الأخير، فإنه يُسأل عنها جنائيا من دون الشخص الاعتباري، الذي لا يجوز صدور مثل ذلك عنه؛ بحُكم تخصصه، وبحُكم نطاق اشتغاله الذي لأجله رُخّص له قانونا بمزاولة أعمال داخلة ضمنه، ليس بينها – طبعا – ما هو إجرامي؛ لأنه لا يُتصوَّر حصول ذلك أصلا، وإلا اعتُبر المشرّع، في مثل هذه الحالة، معترِفا بالجريمة، على حين أنه إنما وُجد – في الواقع – لمنعها، وردعها، والمعاقبة عليها عند ارتكابها. 

– ويؤيّد أنصار هذا الاتجاه رأيهم، أيضا، بالتأكيد على أن الإقرار بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا يؤدي، حتما، إلى إهدار قاعدة شخصية العقوبة، بوصفها من الضمانات الأساسية التي يتأسس عليها القانون الجنائي الحديث، والتي بمقتضاها يجب أن يتوجه العقاب والإيلام إلى الشخص الطبيعي الذي اقترف الجرم، أو ساهم فيه مساهمة تبعية (المشاركة)، وليس إلى الشخص المعنوي الذي يعمل لصالحه. وإن ترتيب عقوبة على الشخص المعنوي، كجزاء عن فعل ارتكبه الغير ممّن يعمل لديه، ينطوي على إخلال واضح بمبدإ شخصية العقوبة، وبمبدإ عدالة الجزاء؛ لأن العقوبة التي توقّع عليه لن يقتصر إيلامها على من ارتكب الفعل غير المشروع، وإنما تمتد إلى غيره من الأشخاص الذي يمثلون الشخص الاعتباري، أو تكون لهم مصالح فيه.

– ويَرْكن معارضو مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا إلى حجج أخرى، منها أن أغلب العقوبات التي يقررها المشرّع الجنائي لا يمكن توقيعها على الشخص المعنوي؛ لأن هذه العقوبات مخصصة للشخص الطبيعي تحديدا في الغالب، ولاسيما العقوبات الماسّة بحياة الإنسان وحريته، بل إن العقوبات التي تمَس بالذمة المالية للشخص الذاتي يصعب أحيانا توقيعها على الشخص المعنوي، نتيجة لإكراهات وعراقيل تعترض سبيله؛ فالمشرّع في حال عدم دفع جَانٍ ما الغرامةَ اختياراً يقرر تطبيق الإكراه البدني عليه، وهو ما لا يمكن تصوره في حال إسناد المسؤولية إلى الشخص المعنوي طبعا. ويرى أولئك المعارضون أن القول بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا يصطدم بنظام العقوبة؛ ذلك بأن هذه الأخيرة هي، في جوهرها، إيلامٌ موجّه إلى المَعْنِي بالضبط، ويكون الغرض منه تحقيق الردع، ومنع وقوع الجريمة، وإصلاح المحكوم عليه وتأهيله، وهذا أمر غير متحقق في حال كان الأمرُ متعلقا بالشخص المعنوي، بل يُؤتي النتيجة في حال الشخص الطبيعي/ الإنسان، الذي يتمتع بالإدراك والتمييز وحرية الاختيار. يقول أحدهم: “إن أغراض العقاب، وفقا لأنصار هذا الاتجاه، لا يمكن تصور تحققها إلا بالنسبة إلى الشخص الطبيعي، وإنها غيرُ ذات جدوى بالنسبة إلى الشخص الاعتباري؛ فإصلاح المحكوم عليه، وتأهيله للحياة الاجتماعية، غرض أساس من أغراض العقاب. ومن غير الممكن تصوُّره إذا طُبِّقت العقوبات التي تسمح طبيعتها بتحقيقه على غيرِ الإنسان”[31].

الفرع الثاني: الاتجاه الفقهي المٌقِرّ بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

يقول بهذا الرأي الفقهُ الجنائي الحديث، الذي يعترف متبَنُّوه بوجوب مساءلة الشخص المعنوي من الناحية الجنائية، إلى جانب معاقبة الأشخاص الطبيعيين الذي يمثلوه أو يعملوه لديه لدى ارتكابهم جريمة بمناسبة مزاولة عملهم. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الحجج التي يسوقها الفريق السابق ليست بحُجج قاطعةٍ في رفض المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، بل هي أدلة ضعيفة واهية وغير موضوعية. ولعل أهم الدعامات الحجاجية التي يستند إليها مؤيِّدو المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي هي:

– إن القول بكون الشخص المعنوي مجرد كيان مجرد من صنع القانون (نظرية المجاز)، وليس له وجود مادي ولا إرادة، لا يستقيم الآن مع التطورات والمستَجِدّات؛ ذلك بأن أطروحة الافتراض أصبحت متجاوَزَة فقهًا وقضاءً، وحلّت محلّها الآن نظرية الحقيقة، التي تؤكد أن الشخص الاعتباري حقيقة واقعية وقانونية، لا مجال لإنكارها أو تجاهلها. وعليه، فللشخص المعنوي وجودٌ حقيقي، ويتمتع بشخصية قانونية متميزة مستقلة، تترتب عنها تبعات وآثار؛ الأمرُ الذي يجعل إنكارها غير مقبول. كما أنه يمكنه ارتكاب أفعال إجرامية، مثل الأشخاص الطبيعيين تماما؛ إذ يمكنه أن يأتي الركن المادي لجملة من الجرائم؛ كالنصب، والتزوير، والتهرب الضريبي، والغش التجاري، والجرائم ضد البِيئة، ومخالفة مقتضيات مدونة الشغل. ومن هنا، يلزم ترتيب مسؤولية جنائية عليه لدى اقترافه هذه الأفعال الجُرمية.

– إن ما ذهب إليه أنصار الموقف الفقهي السابق بخصوص مبدإ التخصص، بوصفه سببا حائلا دون مساءلة الشخص المعنوي عن جرائم صادرة عن أحد ممثليه أو العاملين لديه، يعد حجة ضعيفة لا تصمد أمام حجج أخرى أقوى؛ فمبدأ التخصص لا علاقة له بالوجود القانوني للشخص المعنوي، ولا بقدرته على ارتكاب الجرائم، وإنما تنحصر أهميته في تحديد النشاط المصرّح به للشخص المعنوي؛ بحيث إذا خرج عن حدود تخصصه ظل له وجود، ولكن نشاطه يعد غير مشروع؛ ومن ثم، فإن تخصص الشخص الاعتباري، وإنْ كان من الممكن أن يحتَجّ به في إطار القانون الإداري، إلا أنه لا يمكن أن يُحتجّ به في مجال اقتراف الجريمة؛ حيث يمكن حدوثه منه في نطاق تخصصه، كما يتصور حدوثها منه أيضا خارج ذلك النطاق، بل إن الثابت أن الشركة، مثلا، في إطار ما أنشئت من أجله، وهو تحقيق الربح، يمكن أن ترتكب جرائم في التسعير أو التهرب الضريبي أو المضاربات غير المشروعة. فإذا انطلقنا من مبدإ التخصص، الذي يتذرع به أنصار الرأي الأول، فإنه لا يمكن معاقبته على تلك الجرائم غير الدائرة في نطاق اختصاصه ومجالاته القانونية، وعليه قد يُفْلت من العقاب؛ مما يشكل خطَرًا على المجتمع ومصالح الناس، بل إن هذا الأمر قد يوحي إلى الأفراد بأنه إذا أراد أحدهم الإفلات من العقوبة، رغم ارتكاب الجريمة، فما عليه إلا تأسيس مقاولة أو شركة للتستر وراءها، وممارسة ما يشاء من الأفعال الإجرامية![32] ويضيف أصحاب هذا الرأي أن عدم مساءلة الشخص المعنوي جنائيا، انطلاقا من مبدإ التخصص، معناه عدم مساءلته مدنيا كذلك عن الأضرار التي تسبَّب فيها للغير؛ من منطَلَق أن الشخص المذكور لم يتم إنشاؤه للإضرار بالناس إطلاقا، بل يُنشَأ لأغراض مشروعة طبعا.

– ردّا على إحدى حجج الفريق المنْكِر، يذهب مؤيِّدو مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا إلى أن مساءلته لا تشكل إخلالا بمبدإ شخصية العقوبة؛ لأن الإخلال بهذا المبدإ يفترض أن توقَّع العقوبة على شخص لم يرتكب الجريمة، أما إذا نُفذت في حق المسؤول عن ذلك الفعل الجُرمي، وامتدت آثارها، على نحو غير مباشر، إلى أشخاص يرتبطون به، فلا يُعدّ ذلك مخالفا للمبدإ المذكور[33]. وبذلك، فإن الحجة التي قال بها المعارضون؛ من أن مساءلته جنائيا تفضي إلى الإخلال بمبدإ شخصية العقوبة، تنطوي على خلط واضح بين العقوبة والنتيجة غير المباشرة لها؛ وذلك لأن توقيع العقاب على الشخص المعنوي إنما المقصود به تحقيق الغرض المرجو منه لصالح المجتمع؛ فإقرارُ مسؤوليته يُراد به مواجهة فعل ارتكب ممّن يتقمّصون شخصيته، ويعبّرون عن إرادته؛ مما يستلزم مساءلة الأشخاص الذاتيين الذين ارتكبوا الجرائم، وكذا مساءلة الشخص المعنوي. ومن هنا، فإن امتداد أثر الجزاءات الموقَّعة على الشخص المعنوي إلى الأشخاص الطبيعيين المكوِّنين له يمْكن حمْله على أنه من قَبِيل الآثار غير المباشرة للعقوبات، وهي النتائج نفسها التي تحْدث بالنسبة إلى الشخص الطبيعي؛ إذ في حالة الحكم عليه بعقوبة سجْنِية أو مالية مثلا، فإن أثر هذه العقوبة يمتد، سَلْبا، كذلك إلى أفراد أسرته؛ مما يعني أن أثر العقاب قد تعدّى إلى أبرياء، لا يَدَ لهم في ارتكاب الجريمة.

ويُضيف أصحاب هذا الرأي أنه – من ناحية أخرى – يستدعي إعمال مبدإ شخصية العقوبة تقرير المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي لا نفيها؛ فعدمُ إقرارها هو الذي يعدّ إخلالا وهدرا لمبدإ شخصية العقوبة؛ لأن مساءلة القائم على إدارة الشخص المعنوي، والمعبّر عن إرادته، دون مساءلة الشخص المعنوي ذاته، قد يقود إلى إفلات المسؤول أصلا عن ذلك، وهو الشخص الاعتباري، وإن القول بغير ذلك يُفضي إلى مساءلة ممثلي هذا الشخص وحدهم، والذين لا يعدو دورهم – في الغالب – تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من الشخص الذي يَعْملون باسمه أو لحِسابه، بل إن الاجتزاء بعقاب هؤلاء فقط قد ينجم عنه، في بعض الأحايين، حين تكون العقوبة المحكوم بها مالية، عُسْر أو عجز المحكوم عليه عن أدائها وتنفيذها[34].

أمّا بالنسبة إلى ما أبْداه أصحاب الاتجاه المنكر؛ من أن مساءلة الشخص المعنوي جنائيا ومساءلة ممثليه معا يؤدي، في بعض الحالات، إلى مسألة ازدواج العقوبة، فإن هذا الزعم – حسبما يؤكد مؤيدو المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – لا يشكل اعتراضا، وأنه، حتى وإنِ انطوى على صعوبات عملية، فإنه من السهولة بمكان التغلب عليه في إطار قواعد مسؤولية الفاعل الأصلي والمساهِم والشّريك، وقواعد تعدد الجرائم والعقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي العام[35].

– يرد أصحاب هذا الرأي على الفريق المقابِل، بشأن مدى تناسب العقوبات للشخص المعنوي، بالقول إنه، وإن كانت جملة من العقوبات الجنائية؛ كالسجن والإعدام، لا يُتصوَّر تطبيقُها على هذا الصنف من الأشخاص، إلا أن قائمة تلك العقوبات محدودة. ومع ذلك، فإنه لا يعَدّ سببا كافيا للقول بعدم إمكانية مساءلة الشخص المعنوي جنائيا عن الأفعال الإجرامية المرتكبة من قبل ممثليه في أثناء ممارستهم اختصاصاتهم باسمه أو لحسابه؛ فمن الجزاءات الحالية ما يتلاءم وطبيعةَ الشخص المعنوي؛ وعليه، فإن تطبيقها عليه لا يثير أي إشكالات أو صعوبات؛ مثل العقوبات المالية، ومنها ما يمكن تطويعُه ليتلاءم مع طبيعته؛ كالإعدام، الذي يمكن أن يُعوّض بحلّ الشخص المعنوي على سبيل التمثيل. ومن شأن توقيع العقوبات على الشخص المعنوي أن تترك أثرا سلبيا على نشاطاته، وتجعل القائمين عليه أحْرَصَ على احترام القانون. كما أنه بالإمكان وضع عقوبات أخرى جديدة تتناسبُ وخصوصية الشخص المعنوي. وإذا كان ثمة جزاءات يصعب توقيعها على الأشخاص المعنوية، فإن فكرة التدابير الوقائية يمكنها أن تكمّل ذلك النقص، وتقدّم حلولا بديلة لمواجهة الأخطار والمضارّ التي تتسبب فيها هذه الأشخاص. ولمّا كانت المسؤولية الجنائية لا تتحقق إلا بنص قانوني، فإن تطويع العقوبات الحالية لتتلاءم مع طبيعة الشخص المعنوي، أو وضع عقوبات جديدة بديلة تتلاءم معه، يتطلبان التنصيص على ذلك تشريعيا (مبدأ الشرعية الجنائية)[36].

– إن وظائف العقوبة لا تنحصر، واقعيّا، في الردع والإصلاح فقط، بل ثمةَ أخرى غيرها، كما أن تلك الوظائف الجزائية المذكورة غير مستبْعَدة في حال الأشخاص المعنوية كذلك. فبالإمكان توقيع عقوبة على هذه الأشخاص بغرض ردعها ردعا خاصا وعاما معًا، وإصلاحها بوضعها تحت الرقابة القضائية مثلا؛ لأن العقوبة الجنائية ليست الصورة الوحيدة للجزاء الجنائي. ويمكن الركون أيضا إلى التدابير الوقائية لاستئصال الخطورة الإجرامية الكامنة في الشخص المعنوي؛ مثلما يحصل تماما مع الشخص الذاتيّ.

المطلب الثاني: موقف التشريع من المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

تَبَعا للجدل الفقهي الذي رأيناه، بخصوص مسؤولية الشخص المعنوي عن جرائمَ مصْدَرُها ممثلوه أو العاملون لديه، اختلفت التشريعات، أيضا، في هذه المسألة، فانقسمت إلى قسمين؛ قسمٍ يرفض تلك المسؤولية، وقسم ثانٍ يُقِرّها، وإن كانت الغالبية تؤيد ذلك منطلقةً من عدد من الحُجَج والأدلّة. وفيما يأتي بيان ذلك بتفصيل:

الفرع الأول: التشريعات الرافضة للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

وهي تشريعات متأثرة بالمذهب التقليدي، ومن نماذجها في الغرب والشرق التشريع الألماني، الذي لا يعترف بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، سواء في قانونه الجنائي العام أو في قوانين خاصة ضمن منظومته التشريعية، مؤكِّدا أن الشخص الطبيعي/ الإنسان هو وحده مَنْ يُسْأل جنائيا عن أفعاله الإجرامية؛ لأن الشخص الاعتباري لا يُتصور صدور الركن المادي للجرائم عنه بالنظر إلى طبيعته المجردة الافتراضية. وانطلق المشرع الألماني، كذلك، من أنه لا جريمة دون توافر الركن المعنوي، والشخص الاعتباري لا إرادة له ولا قصد ولا حرية اختيار، بل ذلك ممكنٌ من قبل أعضائه أو ممثليه القانونيّين. إلا أنه تماشيا مع سياسة الحد من التجريم، أنشأ المقنّن الألماني، في عام 1975، مجموعة من الجرائم الإدارية، وقرر مسؤولية الشخص المعنوي في حال ارتكابها مسؤولية إدارية ومدنية فقط، دون الجنائية[37].

وعلى هَدْي هذا التشريع، سار نظيرُه السويسري، الذي لم يتضمن قانونه الجنائي لعام 1937 أي نصّ يقرّر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، ويستدلّ على ذلك بأنه إذا كانت هذه الأشخاص يمكن أن تكتسب كل الحقوق، وتتحمل الالتزامات والواجبات المختلفة عن تلك المتناسبة مع طبيعة الشخص الطبيعي، إلا أنها لا يمكنها أن ترتكب سلوكاً يجرّمه القانون الجنائي إلا عبر أجهزتها، أو عن طريق الأشخاص الذاتيين الذي يتولّون إدارتها، وتكون بأيديهم سلطة اتخاذ القرار؛ ولذلك، فإن الذي يجب أن يُسأل جنائيا هو الشخصُ الذاتي؛ مرتكبُ الجريمة باسم الشخص المعنوي أو لحسابه ومصلحته. ورغم ذلك، إلا أنه قد وردت بعض القوانين الخاصة بسويسرا تقرّ بمسؤولية الشخص المعنوي تضامُناً مع المحكوم عليه (بدفْع مصاريف وغرامات عنه مثلا)، ومنها القانون الاتحادي السويسري لعام 1983 حول حماية البِيئة[38]

وإذا انتقلنا إلى السياق العربي، يمكن أن نمثل لتشريعات هذا الفرع بقانون العقوبات المصري[39]، الذي يفتقر إلى نصوص تثْبت المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، بخلاف الرأي الغالب الآن الذي يعترف بهذه المسؤولية للشخص الاعتباري، إلا في حالات استثنائية بمقتضى نصوص خاصة. فنصوصُ هذا التشريع إنما وُضعت للآدميين، ولم يكن في الاعتبار، لدى وضْعها، توقيعُها على الأشخاص المعنوية، ثم إن الجزاءات المقررة للشخص الذاتي لا تتناسب، غالبا، وطبيعةَ الشخص الاعتباري. ولا مناص من تقديم أمثلة من مواد هذا التشريع التي توضّح موقفه من مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى مادته الثالثة عشْرة (من القانون رقم 80/ 1948)، بشأن تنظيم الرقابة على النقد، التي نصت “على أنْ يكون المسؤول عن المخالفة، في حالة صدورها عن شركة أو جمعية، الشريك المسؤول أو المدير أو عضو مجلس الإدارة أو رئيس مجلس الإرادة على حسب الأحوال”، بل أكد في المادة 11، كذلك، مسؤولية هؤلاء الأشخاص الطبيعيين فحسْبُ، دون الشخص المعنوي الذي يعملون لصالحه، والذين يعبّرون عن إرادته، حتى في الأحوال التي لا يعاقب عليها القانون بغير الغرامة.

وتطبيقا لقاعدة عدم جواز مساءلة الشخص المعنوي جنائيا، قضت محكمة النقض بمصر بأنّ الأصل أنّ الأشخاص المعنوية لا تُسأل جنائيا عمّا يقع من ممثليها، أو من أعضائها العاملين لديها، من جرائمَ خلال مزاولتهم نشاطاتها في حدود المسموح به قانونا، بل إن المسؤول جنائيا هو مرتكبُ الجُرم بصفة شخصية. ومن هنا، يتضح أن العقوبة تقع على الشخص الطبيعي فقط، إما بوصفه مقترفَ الجريمة مخالفةً لأحكام القانون، وإما لوقوع الجريمة من أشخاص آخرين، وتتم معاقبته هو؛ لعدم التزامه بمنع حصول المخالفة التي يحْظُرها القانون. 

وإذا كانت هذه هي القاعدة، إلا أن المشرّع المصري اتجه – في حالات محددة – إلى إقرار مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا؛ مما يعني معاقبته في استقلال عن العقوبة المقررة للشخص الطبيعي الذي يمثله أو يعمل لديه، الذي ينال – هو الآخر – جزاءه المناسِب له. ولمّا كانت هذه الحالات داخلة في باب الاستثناء، فإنه لا يجوز مساءلة الشخص المعنوي جنائيا في غير هذه الحالات المعدودات، التي نصّ عليها بمواد خاصة في منظومته القانونية، بل إنه يُسأل مدنيا فقط عن الأضرار التي يتسبب فيها للغير، دون الإخلال بالمسؤولية الجنائية للّذين يرتكبون الجريمة بصفة شخصية، سواء تعلق الأمر بمدير الشخص الاعتباري، أو برئيس مجلس إدارته، أو بأحد تابعيه وممثليه القانونيين…

الفرع الثاني: التشريعات المُقِرّة بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي

اِتّجهت أغلبُ التشريعات المقارنة إلى إقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي مبدئيا، ولا يُستثنى من ذلك سوى بعضِ الحالات القليلة بمقتضى نصوص خاصة. ولعل من أشهرِ التشريعات في هذا الصدد، وأقْدَمِها، التشريع البريطاني[40]، علما بأن القضاء الإنجليزي – في البداية – كان يرفضُ الاعتراف بهذه المسؤولية؛ من منطَلَق استحالة نسبة العقوبة (وكانت – في الغالب – عبارة عن عقوبات بدنية) والمسؤولية الجنائية إلى شخص اعتباري لا يمكنه تحمّلها؛ لأنه لا وجود مادي له، بل يقتصر وجوده على المجال الافتراضي المجازي، ثم إن الشخص المعنوي لا يُتصور صدور الركنين المادي والمعنوي عنه بأي حال من الأحوال. ولكنه، انطلاقاً من القرن التاسع عشر، تغيرت نظرة هذا القضاء إلى الموضوع، في اتجاه الإقرار بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا؛ الأمرُ الذي يُثبت أن “الأخذ بمبدإ المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية في إنجلترا هو، في الأصل، من صُنْع القضاء”[41]. وقد قرّر المشرّع الإنجليزي، عام 1925، في المادة 33 من قانون العدالة الجنائية، تفسير كلمة “شخص”، الواردة في مختلِف قوانين بريطانيا، بأنها تنسحب على الشخصين الطبيعي والاعتباري معا، ما لم يَرِدْ شيء يُخالف ذلك. ومن هنا، يتضح أن المبدأ العام في التشريع الإنجليزي هو ترتيب المسؤولية الجنائية على الأشخاص المعنوية بمناسَبَة ارتكاب أحد أعضائها جريمةً مَا. إلا أن هذه المسؤولية يُميَّز فيها، فقهاً، بين صورتين اثنتين؛ إحداهما مادية، والأخرى معنوية.

فأما الأولى فيَكفي لقيامها مجرد تحقق الركن المادي دون المعنوي، ومن أمثلتها جرائم إزعاج الناس بصوت صاخب مثلا، أو إعاقة حركة المرور في الطرقات العامة، أو تلويث البيئة، أو جرائم القذف عن طريق النشر الصّحافي… ومن الاجتهادات القضائية، في هذا الباب، الحكم الذي أصدرته إحدى المحاكم البريطانية، عامَ 1955، والقاضي بإدانة شركة عن جريمة استعمال سيارة، وهي في حالة غير مطابِقة للاشتراطات القانونية؛ مخالَفةً لنص المادة 101 من لائحة السيارات الصادرة عامَ 1951؛ لأنها سمحت لأحد العاملين لديها بقيادة سيارة تابعة لها خلال تأديته عملَه، رغم أن فرامِلَها كانت في حالة سيّئة؛ مما أدى إلى وقوع حادثة؛ بحيث أدانت المحكمة العامل بصفة شخصية عن فعله ذاك، كما أدانت الشركة التي يعمل لديها؛ من منطلق أنه يعمل لحسابها، ولتحقيق مصلحتها…

وأما الصورة الثانية، فتتعلق بنوع من الجرائم يُشترَط لقيامها توافُر الركن المعنوي/ الخطإ الشخصي لدى الجاني، وهي مسؤولية حديثة نسبيا في التشريع الإنجليزي؛ لأنها ترجع إلى الربع الأول من القرن الماضي. إن هذه المسؤولية تقوم على أساس نظرية التشخيص، أو ما يعبَّر عنه بـ “نظرية تشخيص الشركة”، والمقصودُ بذلك أنه يوجد لدى كل شخص معنوي شخص طبيعي أو أشخاص طبيعيون يتولّون إدارته، والتعبير عن إرادته، والتصرف باسمه أو لحسابه، وممارسة الرقابة على أنشطته. وإنّ ما يصدر من أفعال عن هؤلاء الأشخاص الطبيعيين، في حدود الاختصاصات والصلاحيات الممنوحة لهم قانونا، تعد بمثابة أفعال منسوبة إلى الشخص المعنوي نفسه؛ وبالتالي يلزم مساءلته عنها جنائيا كذلك إذا كانت تشكل جريمة، والمسؤولية – ها هنا – شخصية، وليس من نوع المسؤولية عن فعل الغير (Responsabilité du fait d’autrui). وتجدر الإشارة إلى أنّ نظرية تشخيص الشركة قد نشأت وتبلورت في مجال القانون البحري، وارتبطت أساسا بالمسؤولية المدنية؛ وذلك من خلال حُكم شهير أصدره مجلس اللّوردات سنة 1915م.

ممّا سبق يتأكد أن المشرع الإنجليزي يقرّ بمبدإ مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا، وأن مساءلته لا تَحُول دون مساءلة الشخص الطبيعي الذي ارتكب الجريمة، وإنْ كان ذلك بمناسبة ممارسته العمل المُسْنَد إليه كعامل لدى الشخص المعنوي.

وبخصوص القانون الفرنسي[42]، فقد كان في السابق، قبل الثورة الفرنسية (1789)، يقرّ بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، المتمثلة في الجماعات والمقاطعات والمدن والقرى والشركات، ونصّ الأمر الملكي الصادر عام 1670م على الإجراءات التي يجب اتباعُها لدى محاكمة هذه الأشخاص، وكذا على الجزاءات الملائمة لها؛ من مِثل الغرامات، والحرمان من الامتيازات، وهدم الأسوار والمباني[43]. وعلى الرغم من ازدهار الحياة الاقتصادية، وانتشار الشركات التجارية بفرنسا، وصدور مجموعة من التشريعات التي سمحت بإنشائها، وأضْفت عليها الشخصية القانونية، منذ بداية القرن التاسع عشر، إلا أنه لم يَرِدْ في قانون العقوبات الفرنسي لعام 1810 أي نصّ يقر بمسؤولية الشخص المعنوي جنائيا، في الوقت الذي كان يلزم فيه أن يواكب ذلك الازدهار والتطور صدورُ نصوص قانونية تحظر على الأشخاص المعنوية، تحت طائلة تحمل تبعات وعقوبات، ارتكاب الأفعال الجُرْمية.

وبعد ذلك، أخذ المشرّع الفرنسي يقرر تلك المسؤولية للأشخاص المعنوية في حالات محدودة، ويضع لها نظاما خاصا بها؛ مثل المرسوم المؤرّخ بـ30/06/1945، في موضوع تعقب الجرائم الاقتصادية، والذي ينصّ على جزاءات توقَّع على الشخص المعنوي المخالِف لمقتضياته، وفي مقدمتها إغلاقُ الشخص المعنوي/ المؤسسة أو الشركة، وحظرُ مزاولته نشاطه المهنيَّ، والمصادرة، والغرامة؛ ومثل المرسوم الصادر بتاريخ 02/11/1945، في موضوع مكافحة ومعاقبة مؤسسات الطباعة والنشر والإعلام والإعلان المتعاونة مع العدو، وقد حدّد جزاءاتها في الحلّ والمصادرة ونشر الحكم المُدِين لها، مؤكِّدا أن هذه العقوبات موجّهة إلى الشخص المعنوي/ المؤسسة الإعلامية في استقلالٍ عن مديريها والمحرِّرين العاملين لديها.

وبالنظر إلى توالي صدور النصوص القانونية، التي تقرّ بمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا، أو ورودها بين طيات جملة من المتون التشريعية، ومواكبةً للاتجاه الحديث الذي لا يُعْفي الشخص المعنوي من المساءلة الجنائية؛ بوصفه يتمتع – هو الآخر – بوُجود حقيقي، وبشخصية قانونية، وبأنه بإمكانه اقتراف جملة من الأفعال الإجرامية، فقد أقرّ قانون العقوبات الفرنسي لعام 1986 المسؤولية الجنائية بالنسبة إلى كل الأشخاص المعنوية، مستثْنِيا من ذلك الجماعات العمومية، قبل أن ينتهي إلى الاعتراف بهذه المسؤولية لكل الأشخاص الاعتبارية، بما فيها هذه الجماعات، ولم يستثنِ من العقوبة، نظرا لجملة اعتبارات، سوى الدولة، وهذا ما أكده بجلاءٍ قانون العقوبات الفرنسي، الصادر خلال التسعينيات، حين حسم الخلاف حول مسؤولية الشخص المعنوي الجنائية، وأوضح بدقة نطاق تطبيقها؛ فقد اعترف هذا المشرّع بأن جميع الأشخاص المعنوية مسؤولة جنائيا، ما عدا الدولة؛ بحيث ورد في المادة 121/2 منه أنه، “بعد استبعاد الدولة، تُسأل الأشخاص المعنوية جنائيا عن الجرائم التي ترتكَب لحسابها؛ بواسطة أجهزتها أو ممثِّليها، وَفقا للقواعد الواردة في المادتين 121/4 و121/7، وفي الحالات المنصوص عليها في القانون أو اللائحة. ومع ذلك، لا تُسأل الهَيْآتُ المحلية ولا تجمعاتها جنائيا إلا عن الجرائم التي تقع في أثناء ممارسة أنشطة قابلةٍ لأنْ تكون موضوع اتفاقيات تفويضٍ للخدمة العامة”.

إن مسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا لا تَستبعد عقابَ الأشخاص الطبيعيين في الأفعال الإجرامية نفسها، سواء أكانوا فاعلين أم مشاركين؛ لتحاشي تحمل الشخص الذاتي الأثر القانوني للجريمة بمفرده؛ مما يعني أن المسؤولية تتعدد بين الشخصين المعنوي والطبيعي. وجدير بالذكر أنّ تلك المسؤولية المتصلة بالشخص الاعتباري محددة في جرائم بعينها، وإنْ كانت تضم عدة جرائم، مع تعيين العقوبات التي يمكن توقيعها على الأشخاص المعنوية.

وسنكتفي بالتمثيل للتشريعات العربية بقانون العقوبات الاتحادي[44] في الإمارات العربية المتحدة (1987)، الذي نصت مادته الخامسة والستون على أن “الأشخاص الاعتبارية، فيما عدا مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية والهيآت والمؤسسات العامة، مسؤولة جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها ممثلوها، أو مديروها، أو وُكلاؤها لحسابها، أو باسمها. ولا يجوزُ الحكم عليها بغير الغرامة والمصادرة والتدابير الجنائية المقررة للجريمة قانونا؛ فإذا كان القانون يقرر للجريمة عقوبة أصلية غير الغرامة، اقتصرت العقوبة على الغرامةِ، التي لا يزيد حدّها الأقصى على خمسين ألف درهم. ولا يمنع ذلك من معاقبة مرتكب الجريمة شخصيا بالعقوبات المقررة لها في القانون”. فهذا النص يستبعد المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية العامة؛ مما يعني أن هذا المشرِّع العربي يقصّر المسؤولية الجنائية على الأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون الخاص. كما يشترط – لقيام تلك المسؤولية – أن تُرتكَب الجريمة باسمه أو لحسابه، على يد شخص طبيعي ما، ويجعل مسؤولية الشخص المعنوي مباشرة ومستقلة عن مسؤولية الشخص الذاتي مرتكبِ الجريمة. ثم إنه حدّد الجزاءات الجنائية التي تتلاءم وطبيعةَ الشخص الاعتباري.

وسارَ الاجتهاد القضائيُّ في الإمارات في الاتجاه نفسه؛ فقد أصدرت إحدى محاكمها في إمارة العين، قبل سنواتٍ، حُكْما بالإدانة على محلّ لبيع الأفلام، ولاسيما الخليعة منها، وتجلت العقوبة المقررة له في غرامة قدرها 5000 درهم إماراتي. وأيّدت هذا الحكم المحكمة الاتحادية في أبو ظبي؛ حيث أقرت بمسؤولية الشخص المعنوي/ المحل التجاري، وكذا العامل لحسابه[45]

خاتمة:

بناءً على ما تقدم، في مبحثي المقال ومطالبه كلها، يتبيّن أن موضوع المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي قد أثير حوله نقاش كثير وواسع على امتداد مساحة زمنية كبيرة، وفي فضاءات وسياقات مختلفة. ولئن كانت عناصر الموضوع متشعبة جدا، إلا أننا ارتأينا الاقتصار على معالجة بعضها ممّا نراه ضروريا ها هنا. وعليه، فقد حاولنا ضبط مفهوم تلك المسؤولية اصطلاحيّا، وتبيان أهمّ شروطها التي يتوقف على توافرها حصول المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري، وتحديد نطاقها ومجالها الذي يجري تطبيقها فيه، سواء تعلق الأمر بالأشخاص المعنوية في حدّ ذاتها، أو تعلق بالأفعال الإجرامية التي يمكن أن يترتب عن إتيانها من قبل الشخص الطبيعي مساءلة الشخص المعنوي الذي يعمل لديه كذلك. وعقب ذلك، تعرضنا، بشيء من التفصيل، إلى توضيح مواقف الفقه الجنائي والتشريع المقارن من هذه المسؤولية، مسجِّلين أن أغلب فقهاء القانون والمشرّعين يميلون إلى إقرار مسؤولية الشخص المعنوي جنائيا؛ استنادًا إلى عدة اعتبارات ومنطَلَقات، تسوّغ نسبة تلك المسؤولية إلى الشخص المعنوي، على الرُّغم من أنّ مرتكب الجريمة يكون هو الشخص الذاتي ممثّله[46] أو تابعَه أو العامل لديه. ونحن على يقينٍ بأن ثمة نقطاً أخرى، لها أهميتها بالتأكيد، لم نأتِ على ذِكْرها وبيانها؛ من مِثل الجزاءات المرتبطة بالمسؤولية المذكورة (عقوبات – تدابير)، وموقف الاجتهاد القضائي من هذه الأخيرة، ولعلنا نخُصّها بوقفات في مناسبات أخرى بحول الله.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

[1]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، من منشورات “المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية”، برلين، ط.1، 2019، ص 9.  

[2]– يحيى أحمد موافي: الشخص المعنوي ومسؤولياته قانونا مدنيا وإداريا وجنائيا، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط. 1987، ص 229.

[3]– عبد الفتاح مصطفى الصيفي: الأحكام العامة للنظام الجزائي، من مطبوعات جامعة الملك سعود، الرياض، ط 1995، ص 439.

[4]– فخري عبد الرزاق الحويثي وخالد حميد الزغبي: شرح قانون العقوبات (القسم العام)، دار الثقافة، عمّان، ط.1، 2009، ص 253.

[5]– شريف سيد كامل: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية – دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، ط.1، 1997، ص 30.

[6]– عبد الوهاب عمر البطراوي: الأساس الفكري لمسؤولية الشخص المعنوي، دار النجوم، البصرة، ط 1992،
ص 7.

[7]– محمد الصغير بعلي: القانون الإداري، دار العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر، د.ت، ص 33، بتصرف.

[8]– ماجد خلف السواط: ماهية المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين/ جامعة الأزهر، دمياط الجديدة/ مصر، ع.5، مج.2، 2017، ص 1193.

[9]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 22.

[10]– سُميت بـ”الاعتبارية”؛ لأنّ شخصيتها ليست طبيعية ولا حقيقية، وإنما نُسبت إليها الشخصية؛ نظراً لما تقوم به، وتؤديه من وظيفة، هي من وظائف الإنسان. (المرجع نفسه، ص 19) 

[11]– محمد ابريكي: المفيد في المصطلحات الجنائية، مطبعة شمس برينت، الرباط، ط.1، 2018، ص ص 201-202.

[12]– نقلا من كتاب “المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي” لعلوي علي أحمد الشارفي، ص ص 37-38 (لعل الصواب، في هذا النص، لفظ “الإدارة” بدلَ “الإرادة”).

[13]– نقلا من بحث “ماهية المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي” لماجد خلف السواط، م. س، ص 1209.

[14]– سورة البقرة، الآية 286.

[15]– النسائي: سُـننه، كتاب تحريم الدم، ج.7، رقم الحديث: 4128.

[16]– مصطفى أحمد الزرقا: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار القلم، دمشق، ط.2، 2004، ص 300.

[17]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، مجلة القانون المغربي، مطبعة دار السلام، الرباط، ع.35، يوليوز 2017، ص 145.

[18]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، مجلة القانون المغربي، ص 146.

[19]– إبراهيم علي صالح: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، دار المعارف، القاهرة، ط. 1980، ص 262.

[20]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، م. س، ص 125.

[21]– عبد الفتاح سليمان: المسؤولية المدنية والجنائية في العمل المصرفي في الدول العربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط.1، 1986، ص 128.

[22]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 129.

[23]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، م. س، ص 142.

[24]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 130.

[25]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 143.

[26]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 130.

[27]– من مقالٍ منشور في موقع “المكتبة القانونية الإلكترونية”، بتاريخ 26/11/2018 (دون ذكر صاحبه)،
تاريخ الزيارة: 20/06/2019، في الساعة 22.08. انظر المادة على الرابط:

http://www.bibliojuriste.club/2018/11/moral.html

[28]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، ص ص 103-104؛ باسل عبد اللطيف: المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، من منشورات كلية القانون/ جامعة بغداد، ط. 1978، ص 12.

[29]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، ص ص 104-105.

[30]– عبد الله مبروك النجار: افتراض الشخصية وآثاره في الفقه الإسلامي مقارنا بالقانون، دار النهضة العربية، 2002، ص 300.

[31]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، ص 109.

[32]– محمد شلال العاني وخالد عبد الله الكعبي: المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة، ص 114.

[33]– شريف سيد كامل: المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، م. س، ص 26.

[34]– إبراهيم علي صالح: المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، دار المعارف، ط. 1980، ص 116.

[35]– المرجع نفسه، ص 117.

[36]– عبد الله مبروك النجار: افتراض الشخصية وآثاره في الفقه الإسلامي مقارنا بالقانون، دار النهضة العربية، ط 2002، ص 305.

[37]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 82.

[38]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 83.

[39]– المرجع نفسه، ص 83-85.

[40]– شريف سيد كامل، المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية – دراسة مقارنة، ص 37-40.

[41]– شريف سيد كامل، المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية – دراسة مقارنة، ص 37.

[42]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 67-69.

[43]– فتوح عبد الله الشاذلي، شرح قانون العقوبات (القسم العام – الكتاب الثاني: المسؤولية والجزاء)، دار الهدى، الإسكندرية، ط 1997، ص 41.

[44]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص 78.

[45]– علوي علي أحمد الشارفي: المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة، ص ص 78-79.

[46]– يعود الضمير المتصل، هنا، على الشخص المعنوي قبله.

Scroll to Top