نحو ما بعد الإنسانية: بين الفلسفة والعلم والمجتمع
لجوينيي باتريك Juignet Patrick
باحث في اللسانيات والتواصل
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
وجدة، المغرب
ملخص
حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية مزيج معقد من الإيديولوجيا والفلسفة يحركه التقدم التقني والتوسع الاقتصادي الكبير وقد أعادت الإبداعات التكنولوجية صياغة الاسئلة المطروحة حول الإنسان منذ قرن. تتسم الحركة فلسفيا ببعض الالتباس لأنها تدعي أنها إنسية لكنها تنحو نحو تجاوز الإنسان بطريقة نخبوية. إن القيم الفردانية والنخبوية والتحررية التي يمررها أقوياء الحركة (مالكو (GAFA لا تنسجم مع حياة اجتماعية متناغمة وليست مقبولة من طرف جزء من مؤيدي الحركة. إن مشكل استعمال التقنيات كان دائما حاضرا في تاريخ الإنسانية لكن ازداد حدة مع حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية حيث تمس التقنية مباشرة ما يشكل الإنسان ولذلك رافقها نقاش إيديولوجي مكثف ليبقى السؤال مطروحا لمعرفة زمن ومعنى تحويل الإنسان.
Transhumanism is a complex blend of ideology and philosophy driven by significant technological advancements and economic momentum. These technological breakthroughs have raised new questions about humanity that have been debated for a century. This movement is philosophically ambiguous, as it declares itself to be humanist, but it is also inclined to assume a surpassing of humanity in an elitist mode. It should be noted that the individualistic, elitist, and libertarian values promoted by the powerful proponents of transhumanism (the holders of GAFA) are not very compatible with a harmonious social life and are not accepted by a portion of transhumanists. The issue of the use of technology has always been present in human history. With transhumanism, it takes on a particular urgency because technology directly impacts what constitutes the human being. Therefore, technology is immediately accompanied by an intense ideological debate: to what extent and in what sense should we transform the human?
كلمات مفتاحية: نحو ما بعد الإنسانية- الفلسفة- العلم – المجتمع.
Keywords: Transhumanism – Philosophy – Science – Society.
ما بعد الإنسانية هي حركة اجتماعية متنوعة ومعقدة يمكن تعريفها بالجمع بين التطورات العلمية الحديثة في مجال المعلوميات والتكنولوجيا الحيوية والاعتبارات الإيديولوجية والفلسفية وقد استفاد هذا المجموع من دعم اقتصادي وتكنولوجي ملحوظ خصوصا في القرن الواحد والعشرين.
لقد اشتهر تعبير: ” نحو ما بعد الإنسانية”(Transhumanisme) على يد البيولوجي والمفكر البريطاني Julian Huxley في سنوات الخمسينات. فبالنسبة لهذا الكاتب “نحو ما بعد الإنسانية” هو انتقال نحو “ما بعد الإنسانية” (Posthumanisme) حيث يُسمح باستعمال كل أنواع التكنولوجيات والطرق العلمية لتجاوز الإنسان.
لقد بدأ الانتقال نحو ما بعد الإنسانية كحركة منظمة سنوات 1980و 1990 بخلق الجمعية العالمية للانتقال نحو ما بعد الانسانية (WTA) سنة 1998 وهي معروفة اليوم باسم إنسانية زائد(Humanity+) . لقد عرفت هذه المرحلة ظهور أسماء بارزة ك Ray Kurzweilو Nick Bostrom اللذين ساهما في تشكيل حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية المعاصرة عن طريق كتاباتهما أو مداخلاتهما وسط الجماهير.
إننا أمام مقاربة عرضانية تبحت عن إمكانيات تجاوز حدود الإنسان بفضل التقدم التكنولوجي إذ يسمح التطور التكنولوجي دائما برفع قدرات وإمكانيات الإنسان (من العتلة إلى التحكم في الطاقة الذرية مرورا بالمطبعة). وعلى المستوى الفلسفي، يشار إلى هذه الميزة ب “التقدم” داخل إطار الحداثة لكن هناك فرق جوهري يميز ذلك عن حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية.
تتخذ العلاقة بين الإنسانية والتقنية – التي تعد دائما مهمة – شكلا آخر مع التكنولوجيات الحديثة التي هي أكثر قربا من جسم الإنسان. بالفعل، لقد أدى اللقاء بين البيولوجيا والرقميات إلى إزالة الحدود بين الإنسان والأشياء المصنوعة. لقد أصبح بإمكان الانسان التعايش كلية مع المصنوعات وتقصد حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية تحقيق هذا الانسجام بين الإنسان والتكنولوجيات المتقدمة قصد تحسين الحياة الإنسانية.
لقد وجد هذا التعايش بطريقة عادية عن طريق عمليات الزرع كالاستبدالات المفصلية أو البصرية وغيرها ولم يُثر ذلك إشكاليات أخلاقية حادة كتلك التي سببتها إرادة رفع قدرات الإنسان وتحويل الخصائص الإنسانية.
تثير إرادة رفع قدرات الإنسان أسئلة علمية واجتماعية وأخلاقية جديدة حيث سيتمكن الإنسان مستقبلا من التدخل تقنيا في تطوره ليس على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الجنس البشري. ويتجاوز الأمر رفع قدرات وإمكانيات الإنسان إلى تحويله.
وتجدر الإشارة إلى أن حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية هي تيار فكري واسع يجمع رؤى متعددة واختلافات بين صيغ إعلامية بسيطة وأخرى أکثر عمقا.
- السمات السوسيوقتصادية.
لهذا الحادث الإيديولوجي علاقة وطيدة باقتصاد la Silicon Valley وتطورها الصناعي حيث تُضخ أموال طائلة منذ نجاح Google وبفضل جاذبية الاستثمارات في المقاولات المجددة. إنها رأسمالية تنافسية وكاسحة.
على سبيل الذكر، ففي سنة 2015 لقد وضع Bill Maris الذي يوجد على رأس Google Ventures 425 مليون دولار للاستثمار في الشركات الرقمية.
إن إيديولوجية la Silicon Valley – حسب الشهادات – هي الاستحواذ بالقوة العظمى فحلم مستثمري كاليفورنيا أن يصبحوا أسياد العالم ولا يجب أن يفهم من هذا أن الأمر سيئ بالنسبة للإنسانية .
لقد تأسست جمعية الانتقال نحو ما بعد الإنسانية سنة 1938 لتشجيع النقاش والبحث وتوضيح الرؤية حول هذا الفكر للجمهور و لقد تمركزت التيارات الأمريكية حول الحرية الفردية والليبرالية الاقتصادية لكن “جمعية إنسانية” تحاول أن تكون أكثر ديمقراطية ، وفي أوروبا، لقد تم استقبال الجمعية كما هو الأمر في العادة عبر مصفاتنا الثقافية الخاصة ووفي فرنسا تعد المنظمة المهيكلَة الوحيدة التي تتبنى هذا الفكر هي الجمعية الفرنسية للانتقال نحو ما بعد الإنسانية Technoprog والتي يطالب رئيسها ب “تقدمية تكنولوجية” وهو اسم آخر لحركة ديمقراطية للانتقال حول ما بعد الإنسانية.
لقد أصبحت حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية أكثر تأثيرا في بداية القرن الواحد والعشرين نظرا للنجاحات المحققة في التكنولوجيا الإحيائية والذكاء الاصطناعي وعلم الروبوتات والطب التجديدي.
- فلسفة حركة الانتقال حول ما بعد الإنسانية
-1-3 الأفكار الصريحة
حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية هي عقيدة فلسفية تزعم أنه بالإمكان تحسين الإنسانية عن طريق العلم والتقنية. إنها ترى أن من الممكن، بل من المطلوب تحرير الإنسانية من حدودها البيولوجية وتجاوز أشكال هشاشتها كالمرض أو الموت.
إن أغلب معتنقي هذا الطرح ملحدون وماديون وتتجلى فكرتهم الأساسية في تجاوز الإنسان بواسطة التقنيات التي تتطور بسرعة فائقة.
تُعارَض هذه الحركة أحيانا بدليل الطبيعة الإنسانية الثابتة والمقدسة لكن يبقى مفهوم هذه الطبيعة قابلا للنقاش إذ يعد الإنسان مجرد نتيجة لحتمية طبيعية لا خيار له معها. قد يحيل هذا النزوع الطبيعي أحيانا إلى نظرية خلق الكون في شكله الحالي حيث الإنسان طبيعي ومخلوق في صورته الکاملة من طرف الله. إن هشاشة الزعم والتصور اللذين يعتريان هذا القول ظاهرة للعيان.
بالنسبة للأنثروبولوجيا البراجماتية، لقد ميز كانط بين أنثروبولوجيا “فيزيولوجية” تصف ما تفعل الطبيعة بالإنسان وأنثروبولوجيا “براجماتية” تصف ما يفعل الإنسان بالإنسان وهي ميزة خاصة به إذ يمكن للإنسان أن يؤثر في نفسه وفي الآخرين وهذه وجهة نظر أخلاقية. ومن الناحية العملية يمكن له أن يغير شروط حياته بواسطة التقنية وتندرج حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية في هذا التقليد.
-2-3 تداخل بين التواضع وجنون العظمة
إن تصور هذا التيار للإنسان مخالف لما درج عليه التقليد الغربي، فني هذه العقيدة يعد الإنسان محدوداً وغيرَ مكتفٍ بذاته ولذلك يمكن تحسينه والرفع من قدراته. بناءً على ذلك يمكن للإنسانية أن تطمح إلى أفضل مما هي عليه الآن برفع القدرات المعرفية وتجويد الصحة وتمديد الحياة.
إنه تصور متواضع حول إنسان بعيد عن الكمال والإلهية، بل بالعكس كله ضعف ومحدودية. يُذكِّر هذا التصور إذن بميتافيزيقا الغنوص القديمة التي ترى أن الخلق قد أُجهض من طرف القوى الشريرة وأنه بإمكانه أن يكتمل ويتحقق عن طريق المعارف والتقنيات.
يشكل الوعي بالموت أحد المشاكل التي يواجها الإنسان، ففي الإغريق القديمة كان ينعتُ البشر بالهالكين في مقابل الآلهة ولقد قصت كل ديانة خيالها عن الخلود وقد أشار Nick Bostromوهو أستاذ للفلسفة بأكسفورد إلى أن الحلم بالخلود اتخذ صيغة جديدة عبر التكنولوجيا وفي ذلك إحالة إلى إعادة تصميم الكائن البشري بواسطة تكنولوجيا النانو المتقدمة أو إلى تجويده الجذري باعتماد توليفة من التكنولوجيات كالهندسة الوراثية وعلم الأدوية النفسية والعلاجات المضادة للشيخوخة والواجهات العصبية والأدوات المتقدمة لتدبير المعلومات والأدوية التي تطور الذاكرة والحواسيب المحمولة والتقنيات المعرفية. ويردف Bostrom بأن كل هذا يسمح بتشكيل كائنات ما بعد إنسانية تتفوق على الإنسان الحالي كما تفوق هذا الأخير على باقي الرئيسيات الأخرى.
إنها مقاربة تبسيطية للجمع بين الإنسانية وجنون العظمة حيث قدومُ الإنسان الأعظم وهي كذلك متواضعة حيث تعترف بضعف وموت الإنسان.
-3-3 فلسمة تقنية وأخلاقية إنسانية ؟
یریGilbert Hottois أن حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية هي واحدة من أشكال فلسفة التقنية في بداية القرن الواحد والعشرين، فهو يدافع عن فكرة إنسان آلي طبيعي أي كائن تقني وهذا ما يخوله إخراج الإنسانية من الشرط الحيواني وتكتسي كلمة تقنية مدلولا واسعاً لديه لأنه يعتبر التعبير تقنية. تسمح التقنية إذن بتحويلنا وهذا أمر ممكن بما أن جنسنا لم يُجَمد من طرف الطبيعة. فبالنسبة إليه يعد التجويد حقا فرديا وواجبا جماعيا إذ تتطلب منا الأخلاقية الإنسية أن نصارع المعاناة والموت ومن هنا تكتسب الوسائل التقنية المؤدية إلى ذلك مشروعيتها. إن الرغبة في تحقيق الخلود ليست نتيجة لتمركز متفاقم حول الذات بل هي رغبة طبيعية في الاحتفاظ بأنفسنا.
بخصوص تحسين النسل، فلقد باشرته الإنسانية بتحديد الأمراض الوراثية والتشوهات أثناء الحمل وتوقيفها إن كان الأمر ضروريا ويتعلق الأمر بوضع حدود أخلاقية وقانونية للتعديلات الوراثية، وإذا كانت إمكانيات ذلك تزداد فإن المشكل الذي يبرز هو تغيير الخصائص الإنسانية.
يخشى معارضو حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية أن تتلقف تقنياتِ التحسين أيادٍ غير أمينة وتخلق قوة بيولوجية شمولية. إن خطر استعمال التقنية ضد الحياة والحرية أمر وارد بقوة فاستعمال التعرف الآلي عن طريق الوجه واستعمال التعقب الدائم للمواطنين لازالا موجودين في الدول الشمولية كما أن استعمال التقنيات المعقدة جدا لازال يلازم الحروب.
لذلك يجب أن ينظر إلى الأمور بنسبية فلا يوجد بين مخاطر الاستعمال الحربي للنووي ومخاطر الاستعمال السلمي لتكنولوجيات النانو إلا فرق في الحجم. ورغم ذلك يفرض التقدم التقني أن تحدد الغاية الأخلاقية حتى يمكن الحكم على الاستعمالات وحتى يمكن تنظيمها من خلال القانون إذا تطلب الأمر ذلك. وللإشارة، تبعث حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية على تفاؤل مريح يمكن اعتباره ساذجا لكون سوء استخدام التقنيات أمرا ثابتا.
يمكن أن يسخَّر تحسين الإنسان لخدمة الأهواء الشريرة التي تحرك البشر إذ يمكن أن يصبح ما بعد الإنسان شيطانا إذا ما جُوِّدت فقط قدراته بصرف النظر عن تعاطفه ومؤانسته للآخرين. لم يُثر هذا المشكل من طرف حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية حيث لم تطرح يوما مسألة رفع تعاطف الإنسان لذلك نتساءل عن إمكانية رفع قدرات الإيثار والمؤانسة وهو في صالح الجميع.
- حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية والإيديولوجية والسياسة
-1-4 الحركة والإيديولوجيا ما بعد الحداثية
تقدم الحركة نفسها كوريثة للحركة الإنسية لذلك تريد تجاوز الشرط الإنساني. وإذا كانت الحركة الإنسية تضع الإنسان وكرامته في صلب اهتماماتها، فان حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية مشتقة منها إذ لا تسعى فقط إلى الاحتفاظ بكنه الإنسان، بل بتطويره وتحويله. وبوضع التقنية في قلب الثقافة عرفت الإنسية القديمة تغيرا كبيرا لكنه لم يصل درجة التنصل منها.
تدعو الواجهة الأخلاقية للحركة الإنسية إلى كرامة وقيمة كل فرد من أفراد الإنسانية مما يفرض مساواة اجتماعية لكن وكما هو مشار إليه أعلاه، يتموقع جزء من مؤيدي حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية في خانة النخبوية والتحررية وهذا ما يتعارض مع المساواة إذ تتطلب هذه الأخيرة أشكالا من التنظيم وإعادة التوزيع لأن الحياة الاقتصادية والاجتماعية كما هي عليه حاليا تزيد من التفاوتات واستعمالُ تقنيات التحسين التي يختص بها البعض يزيد من حدة التفاوتات.
بخصوص هذا الموضوع، يمكن الاستعانة ب Jean Michel Besnier الذي يرى بأن صدام الأجيال لن يكون بارزا في سياقٍ تعودنا فيه على فقدان معالم بنيات القرابة التي كان لها دور كبير في المجتمعات القديمة. وفي بحثنا حول التغيرات الحضارية والتشويش الفلسفي والإيديولوجي الجاري تبين أن المعالم التقليدية للقرابة توصف بالعتيقة ومعنى ذلك أنها قديمة وغير نافعة ومتجاوزة.
يمثل ذلك سمة خاصة بما بعد الحداثة ويتعلق الأمر بالتخلي عن المعالم الأساسية. إذا كانت الحداثة تسعى إلى تقدم علمي وتقني في إطار إنساني فالملاحظُ أن حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية تزعم التحرر من كل ما هو إنساني. والنقطة النقدية التي تفرض نفسها هي معرفة ما إذا كانت المعالم التقليدية طارئة وما إذا كان تجاوزها لا يسبب اختلالات علائقية واجتماعية كبرى.
تقودنا فكرة ما بعد الحداثة إلى ما بعد الإنسانية فالفرق بين الانتقال نحو ما بعد الإنسانية وحركة ما بعد الإنسانية دقيق جدا. تثمن الحركتان معا تأثير التكنولوجيات على الإنسان ومحيطه، فإذا كانت الأولى تفاؤلية فإن الثانية تشاؤمية. وتحيل كلمة ما بعد إنسانية إلى كائن غادر وضعا إنسانيا غير مرغوب فيه. إنها مرتبطة بتشاؤم ما بعد الحداثة الذي خلفته المآسي الكبرى للقرن العشرين والتي زرعت الشك في الأطروحات الإنسية والكونية للأنوار.
2-4– حركة ما بعد الإنسانية والإيديولوجيات الليبرالية
تندرج حركة الانتقال نحو ما بعد الانسانية كلية في الإيديولوجيا النيو ليبرالية التي تخرق الحدود الأخلاقية التقليدية وتهدف النيو ليبرالية إلى تقوية الحقوق الفردية والتحرير الدائم للأخلاق وهذا ما يؤدي إلى انحلال القيم التقليدية وإلى تحول اجتماعي عميق. تقوِّض النيو ليبرالية عددا من المبادئ الثقافية الأساسية للمجتمعات التقليدية دون تقويم ذلك ودون تدقيق الهدف المتبع.
وبدرجة أكثر يناصر هذه الحركة التحرريون الذين يعتدُّون بالحرية الفردية والحد الأدنى لتدخل الحكومة والسوق الحر كمحركات للتقدم الإنساني. وفي سياق هذه الحركة يترجَم هذا التصور بالدفاع عن الحرية الفردية في استعمال تكنولوجيات التجويد وفي منع التنظيم الجماعي للتكنولوجيات الجديدة.
ومن الانتقادات الموجهة إلى هذه الحركة أن عددا من مؤيديها انخرطوا في هذه المغامرة غير محسوبة العواقب متناسين النتائج الاجتماعية الوخيمة للمنافسة غير المتوازنة بين المجموعات الاجتماعية والأفراد.
وفي معرض حديثه عن إمكانية التقنيات تغيير الجنس والسلالة والشكل والتعديلات الوراثية والاستنساخ صرح Zoltan Istran المرشح للانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأمريكية سنة 2016 أن من حق أي واحد استعمال ذلك وفق إرادته، وفي ذلك إحالة إلى فردانية مطلقة لا تكترث بما هو جماعي.
يجب أن نكون يقظين إزاء العلاقة الوطيدة بين حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية وعالم التجارة وبالأخص ” GAFA “. والجانب الأهم الذي يظهر هنا هو الواجهة التجارية للحركة والتي تدفع إلى استهلاك منتوجات تقنية وصيدلانية.
تُشهر إيديولوجيا الحركة مبدأ تجويد الإنسان لدعم ممارسة مختلفة مرتبطة بمصالح اقتصادية وتتجلى في رفع مبيعات التكنولوجيات المتقدمة، وعليه يمكن اعتبار مثالية الحركة تتعلق أكثر بالسوق ما هي عليه بالإنسان.
-3-4تيارات متعددة
حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية حركة متعددة وتؤثث فضاءها تياراتٌ فكرية كثيرة. يتبنى بعض مؤيديها مواقف متمحورة حول المجموعة، فهم يقبلون بضرورة تنظيم التكنولوجيات من أجل الصالح العام وبضمان توزيع عادل للمكاسب التكنولوجية كما يحذرون من استفحال التفاوتات بفعل التقدم التكنولوجي. هناك وعي متزايد داخل الحركة بضرورة معالجة التبعات الاجتماعية والأخلاقية لتكنولوجيات التجويد. وبصرف النظر عن المساواة في الاستفادة من مكاسب التكنولوجيا، هناك نقاشات عديدة حول النتائج الأخلاقية والاجتماعية والبيئية للتكنولوجيات الناشئة.
لقد تفرعت مثالية الحركة إلى عدة خيارات تتعلق باستعمال وتوزيع التكنولوجيات وتسعى إلى تحقيق التوازن بين الحقوق الفردية والمسؤوليات الجماعية.
-4-4حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية كقوة سياسية
لقد أنشأ Zoltan Istvan حزب الانتقال نحو ما بعد الإنسانية سنة 2014 ويدل تقدم الحزب للانتخابات الرئاسية الأمريكية على قوة مالية واجتماعية مهمة رغم صعوبة تقديرها بدقة، ورغم شعبية الحركة فإنشاء حزب محفوفٌ بالمخاطر في بلد متدين ومحافظ، ومن جانب آخر فالحركة غير سياسية وقد أدى اختيار الانتظام في حزب سياسي إلى موقف رافض من طرف أغلبية الأسماء البارزة في الحركة. وبعد عشر سنوات لم نعد نسمع بتحزب الحركة لكن الجمعيات التي تدور في فلكها لا زالت قائمة.
خاتمة:
تقنية – إيديولوجية
حركة الانتقال نحو ما بعد الإنسانية مزيج معقد من الإيديولوجيا والفلسفة يحركه التقدم التقني والتوسع الاقتصادي الكبير وقد أعادت الإبداعات التكنولوجية صياغة الاسئلة المطروحة حول الإنسان منذ قرن. تتسم الحركة فلسفيا ببعض الالتباس لأنها تدعي أنها إنسية لكنها تنحو نحو تجاوز الإنسان بطريقة نخبوية. وللتذكير، فإن القيم الفردانية والنخبوية والتحررية التي يمررها أقوياء الحركة (مالكو (GAFA لا تنسجم مع حياة اجتماعية متناغمة وليست مقبولة من طرف جزء من مؤيدي الحركة.
لقد کان مشكل استعمال التقنيات دائما حاضرا في تاريخ الإنسانية لكن ازداد حدة مع حركة الانتقال نحو ما بعد الانسانية حيث تمس التقنية مباشرة ما يشكل الإنسان ولذلك رافقها نقاش إيديولوجي مكثف ليبقى السؤال مطروحا لمعرفة زمن ومعنى تحويل الإنسان.