الهجرة الدولية والنوع الاجتمـاعي
طالب باحث بسلك الدكتوراه
جامعة محمد الأول وجدة
وجدة – المغرب
ملخص
تعالج هذه الورقة مدى حضور النوع الاجتماعي في مسارات الهجرة الدولية، وذلك عبر الانطلاق من رصد تاريخانية هذا الحضور، مرورا بتبيان بعض أسباب الخفاء النظري المتواصل، مع جرد بعض الأدبيات المعاصرة المهتمة بعلاقة الطرفين، ومن ثم تسليط الضوء على أثر المؤسسات الاجتماعية في تنشيطها لهذه العملية الدولية. كما تهم هذه الورقة في بعد ثان فتح أفق مستقبلية للبحث في علاقة الهجرة الدولية بالنوع الاجتماعي، عبر الدعوة لتغيير زاوية الرؤية تجاهها، والتخلص من النظرة التقليدية، بأخرى بديلة ترى فيها فاعلا اقتصاديا قادرا على الرفع من جودة التنمية، على الرغم من الصعوبات والعراقيل التي تعترضها.
This paper addresses the extent of the presence of gender in international migration trajectories, by starting from monitoring the history of this presence, through identifying some of the reasons for the continued theoretical invisibility, inventorying some contemporary literature interested in the relationship between the two parties, and then highlighting the impact of social institutions in their activation of this international process. This paper also aims to open a future horizon for research on the relationship between international migration and gender, by calling for a change in the angle of vision towards it, and getting rid of the traditional view of it, with an alternative one that sees it as an economic actor capable of raising the quality of development, despite the difficulties and obstacles it encounters.
كلمات مفتاحية: الهجرة الدولية ـ النوع الاجتماعي ـ الخفاء – التنمية.
Keywords: International migration, gender, invisibility, development.
شهدت مسارات الهجرة الدوليـة زخما جديدا، تمثل في مقـارعة النساء للرجال في التحركات الهجروية بوتيرة مرتفعة ومستمرة. فبدأ من ستينيـات القرن العشرين صارت هذه الفئة تشكل ما يقرب من نصف إجمـالي عدد السكـان المهاجرين على المستوى العالمي،[1] وهي أرقام لا تعني قط أن النساء كن غائبات عن مسارات الهجرة الدولية، بقدر ما أنها معطيات كمية تأكد على الحضور القوي لهذه الفئة منذ قدم الظاهرة. إلا أنه حضور لا ينعكس البتة على مستوى الأبحـاث الدارسة والمتتبعة لهذا الشـأن، والتي ظلت تغيب النوع الاجتماعي عن التحليلات الخاصة بالظاهرة، وهو تغييب لم يول النساء أهميتهن المتزايدة في موجات الهجرة، وحتى تلك الدراسات القليلة منها التي حاولت، فإن مردودية تحليلاتها ظلت ضعيفة.
انتظرت الحقول المعرفية مدة طويلة لتحتضن أخيرا فعل “تـأنيث الهجرة” من خلال بعض الدراسات التي سعت لإيلاء النساء أهميتهن البالغة التي يضطلعن بها في مسار الهجرة، لكنها محاولات حملت معها نقصـا جديدا تمثل في المكانة الدنيوية التي أعطيت للمرأة[2]، لا بوصفها مهاجرة مستقلة، لكن بالنظر إليهـا كمهاجرة تابعة، وكشخص خاضع للهجرة، وظهرت فيها النساء كربات بيوت في المجتمعات المضيفة، تعتمدن بالأسـاس على الرجل كمزود رئيسي بالموارد المطلوبة. واحتكمت في ذلك إلى التمثلات الاجتماعية السائدة التي لم تراع على الإطلاق نشاط النساء المهاجرات خارج المنزل، بل تغاضت عن ذلك لأسبـاب خفية. ولعل حركية النساء المهاجرات في سويسرا نموذجا من الفترة الممتدة من 1970 إلى غاية 2000 والتي فاق فيها نشاط هذه الفئة معدل نشاط النساء السويسريات أنفسهن[3]، دليل على الاحتكام المباشر للتصورات العامية المنتشرة. وفي الأن عينه صار دعوة لضرورة إنتاج وحدات تحليل جديدة. تذهب لاعتبار النساء فاعلات في الهجرة كغيرهن من الأفراد، سواء من حيث صنع القرار، أو اتخاذه، أو حتى المشاركة في العملية.
على هذا الأسـاس، وبسبب التطورات الدولية التي شهدهـا العـالم في الربع الأخير من القرن العشرين على وجه التحديد، باتت فكرة وجود النسـاء ضمن مسارات الهجرة الدولية تصنع لنفسها مكانا في قوالب التفكير الأدبي، بحثـا عن الاعتراف بهن كمهاجرات، وهـو ما تأتى لكن بصورة لازالت ضئيلة متأخرة، تغيب الدور الاقتصادي القوي الذي تلعبه المرأة المهاجرة، بسبب النظرة التي لازالت ترافقها والتي تختزلها في هجرة غير مهمة لا اقتصاديا ولا سيـاسيا[4]، فتم تصوريهن في معظم الحالات على أنهن تابعات للرجال فقط، لا كمتحركات بنوع من الاستقلالية.
لكن رغم هذه التحليلات المنقوصة، فقد بدأت الخطابات المتكررة حول اكتشاف النساء كفاعلات حقيقيات في مسارات الهجرة الدولية تزداد، وبدأت تسد معها بعض النقص الذي ساد لفترة طويلة. وعليه، همت الدراسات الأولية الهجرة في علاقتهـا بالنساء، قبل أن يتـم نقلها لاحقـا لتناقش الهجرة كقضية جنسانية، ببحث ممـارسات وتمثلات الأنوثـة والذكورة، وعلاقات النساء والرجال. كمنظور لفتت الانتبـاه إلى المرأة المهـاجرة بداية، وإلى الأسرة وأنشطتها في بعد ثان، كما أثـار نقاش المرأة كيد عاملة وجعل منه محور أعمال الدراسات المتعلقة بالهجرة والنوع الاجتماعي، وهـم أيضا في بعد لاحق التطرق للأوضاع التي تعاني منها النساء المهاجرات في البلدان المستقبلة.
إلى هنا، وأخذا بعين الاعتبار الخفاء المتواصل الذي لا زال يطال النساء المهاجرات من جهة، وتأكيدا على خصوصية المكانة التي باتت تحتلها هذه الفئة في مسارات الهجرة الدولية من جهة أخرى، يمكننا أن نحصر الأسئلة الأساسية لهذا الموضوع في النقط التالية:
- ما هو السياق التاريخي لحضور المرأة في مسار الهجرة؟
- مـا أسبـاب الخفاء المتواصل للنوع الاجتماعي عن تحليلات الهجرة الدولية؟
- كيف تؤثر المؤسسات الاجتماعية في تنشيط هجرة النساء الدولية؟
- أية نظرة جديدة للمرأة المهاجرة؟ وما دور هذه الفئة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟
- هل تضطلع الهجرة النسائية بأي مشاكل وتحديات؟
وسنعتمد لمقاربة موضوعنا المنهج الوصفي التحليلي، على أمل أن يتجاوز بنا الصعوبة المركونة في إنجاز البعد الميداني لموضوع الدراسة المختار. وسنحاول إزاءه تقديم فهم ملائم للظـاهرة المدروسة عبر الاجتهاد في وصف المعطيات والمعلومات المتوفرة حولها، سواء تلك المتعلقة بالأدوار الجنسية في سياقات الهجرة الدولية وتأثيرها على العلاقات الأسرية، وبحث دورها في استمرارية غياب بحوث النوع الاجتماعي في علاقته بالهجرة، أو الأخرى المتعلقة بالتحديات التي تواجه هذه الفئة في ظل هيمنة الأدوار الجندرية التقليدية، ولا حتى بالمكانة الجديدة التي من الممكن أن تحضى بها هذه الفئة.
وفي بعد آخر تحليلي، سنحاول تحليل محتوى بعض القراءات منها التي أثـارت تحليل علاقة الهجرة بالنوع الاجتماعي، سواء من حيث تجربة الهجرة وتأثرها بالجندر، أو من حيث تأثير هجرة النوع على التحويلات المالية المساهمة في التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، في بلدان الأصل، ولا كذا من حيث بعض العراقيل التي تعترض هذه الفئة.
- تاريخانية حضور المرأة في مسارات الهجرة الدوليـة
اعتبرت تحركـات الأفراد الباحثين عن سبل عيش وحياة أفضل، أمور قديمـة قدم البشرية. وعليه تحرك الأفراد داخل بلدانهـم من المناطق الريفية نحو الحضرية، واكتسبوا زخما كبيرا إثـر ذلك. ثـم انتقلوا لهجرة أكبر عبر الحدود، حتى صـار تعداد المهاجرين الدوليين يتجـاوز 200 مليون مهـاجر دولي يتوزعون في مختلف ربوع العالم. وانطلاقا من الثمـانينيـات بدأت الموجـات تشهد مصاحبة العنصر النسوي في المسارات الدولية، العازبات منهن والمتزوجـات، واللواتي في كثير من الأحيان يحظين بتعليم أفضل من الرجال[5]، ويهاجرن من تلقاء أنفسهن بحثا عن تولي وظائف أفضل في بلدان أخرى.
تعود بنا موجات حركات النساء في تاريخها الطويل إلى رحلات الأمريكيات السود اللواتي فررن من العبودية وأشكال العنصرية وانتقلنـا صوب دول عديدة، قبل أن يعود بهن الحـال للاستقرار في بعض الولايات الـأمريكية، لكن ولاحقا بدأت الظاهرة تشتد ضمن هذه الفئة، بحيث صارت الأرقام تتباين بين المناطق الجغرافية. فمنذ سنـة 1990 ازدادت موجات النسـاء المهاجرات بكل نطاق العالم، ماعدا منطقتي شرقي أسـيا والمحيط الهادئ، في حين ارتفعت في أوروبـا وأسيـا الوسطى بشكل كبير، وصلت به إلى نسبـة 48٪ من إجمالي تعداد المهاجرين الدوليين عـام 2017 [6]. واستمر اشتداد هذه التنقلات في مرحلة لاحقة بارتفاع نسبي ملحوظ. بحيث حمل التقرير الأممي للهجرة الدولية زيادة نسبة 5 ملايين مهاجرة عبر العالم وصارت نسبة المهاجرات الدوليات تقارب سقف النصف من التعداد الكلي للمهاجرين الدوليين.
وما ينبغي أن نؤكد عليه هنا أن هذا الارتفاع يعزى في الغالب للطلب المتزايد على اليد العاملة النسائية، وأن الانخفاض الذي تعيشه موجات هذه الفئة، يرد بدوره إلى الزيادة في الطلب على القطاعات التي تهيمن عليها الفئة الذكورية. بالتالي فمن الطبيعي ألا تتمتع المرأة في هذه الحالة بنفس الفرص لامتهان كل الأعمال، وهو مايفسر التباين الضئيل في التركيبة الجنسانية للهجرة الدوليـة، التي يظهر أنها لا تتحكم فيها الأوساط الاجتماعية للبلد المرسل فقط، بقدر ما تتحكم فيها أيضا حتى سياسات السوق الاقتصادية الدولية.
وفق كل ماسبق، يمكن التأكيد على أن حضور المرأة في تاريخ الهجرات الدولية هو حضور قوي ، وأن النساء المهاجرات شكلن على الدوام مسارا من مسارات الهجرة الدولية التي لاتنقطع، سواء وهن بصحبة الكفيل، أو لحالهن مستقلات في طريق الهجرة، لكن وعلى الرغم من ذلك لازلنـا نلحظ أن البيانات المتعقلة بالهجرة الدولية وإن أثبتت الأرقـام، فهي لم تثبـت أسباب الفروقات بين الجنسين.
وفق هذا، انتقلت النقـاشات لتساءل الزيادة المطلقة في نسب المهاجرات الدوليـات، التي ارتفعت في المرحلـة المعـاصرة كميا، وغيبت كيفيا في البحوثات المرتبطة بتحليل الهجرة الدولية كما أشرنا، وبحثث أيضا الاختلافات الكبيرة التي تكون من وراء نسب التدفقات الهجروية المتباينة، مع التأكيد على أن هذه الحصص المتساوية نسبيا لا ينبغي لها أن تخفي التباينات الشاسعة النطاق، في ظروف التنقل، والوصول، والفرص المتاحة فيما بين الأطراف المهاجرين. وانطلاقا منه بدأت تتغير وجهات نظر المتتبعين لشأن الهجرة الدوليـة إزاء هذه الفئة.
يكفي أن نشير إلى أن الأدبيـات السابقة،[7] قد أثـارت نقط هجرة الجنسين ما بين أسبـاب اقتصادية واجتمـاعية من قبيل الاختلافات على مستوى الذخل بين بلد المنشأ وبلد الاستقبال، وارتفاع معدل البطالة، ومحددات أخرى كشبكات الهجرة، وسياسات الدول، ولا حتى العوامل الدينية والطبيعية، لكن ما أعيب عنها هو تجاهلها للديناميات الجنسية وارتكازها على الطابع التقليدي لهجرة المرأة الذي يغلب حضور الوكيل فيها، في إقصاء واضح لاستقلاليتها وحريتها الحركية الممكنة. والتاريخ كما أكدنا في الأسطر السابقة، خير شاهد على حركية النساء الدوليات منذ القدم والتي وإن تعرضت للمضايقة في أوقات كثيرة إلا أنها استطاعت أن ترسم لنفسها مسارا خاصا ضمن مسارات الهجرة الدولية.
- النوع الاجتماعي في دراسات الهجرة: خفاء متواصل
افترضت عديد النظريـات المفسـرة للظاهرة الهجروية تزعم الرجال لموجات الهجرة الدولية منذ أزل بعيد[8]، واعتبرت في الاتجـاه المحادي أن النساء لعبن في الظـاهرة دور المعالات من طرف رجالهن، وأن حركتهن كانت تأتي وراء الزوج، أو الأخ، أو الأب، وعليه صورت الهجرة على أنهـا ظـاهرة ذكورية بامتياز، في حين أن النساء كن دوما حاضرات ضمن تدفقاتها ولو بمثل مازعموا، أي كبنات وزوجـات.
أحدثت هذه الرؤى تغييبـا مباشرا للنوع الاجتماعي من خانة تحليلات الهجرة، فعلى الرغم مما بذلته جهود الحركات النسائية من ستينيـات إلى ثمـانينيـات القرن العشرين، في سبيل تسليط الضوء على التقسيم الجنسي للعمل، الذي يتيح علاقات غير متكافئة البتة في الوصول إلى الموارد التي تميز الأفراد عن بعضهم البعض، إلا أنه لا يزال قائما في مسـار الهجرة، بحيث أن النظرة لازالت هي نفسها تجاه النساء ولم تتغير قط. وعلى الرغم أيضـا من الاعتبارات المعاصرة التي تذهب لحد التأكيد على أن تأنيث موجات الهجرة يشكل في المرحلة أحد الاتجـاهات الكبرى للعولمة،[9] وكذا تواجد أخرى تذهب لحد الإقرار بـأن هجرة النساء ستكون أكثر استقلالية وأقل عائلية[10]. إلا أنه ورغم ذلك، وأمـام كل هذه المتغيرات الدولية الجديدة التي لم تسلم منها ظاهرة الهجرة، يمكن أن نلحظ ببساطة أن التأنيث المتحدث عنـه هنا يهم أرقـام حضور النساء، وبالتالي ليس ببعيد عن التأنيث المتحدث عنه في الماضي، ولايقدم أي جديد لعلاقة النوع الاجتمـاعي بظاهرة الهجرة الدولية، بقدر ما أنه يبعث في تكريس الهوة الكائنة بين المتغيرين معا. والحال أن إحداث تغيير في علاقة متغيري الهجرة بالنوع الاجتماعي، يحتم بالأساس القضاء مع تلك التصورات التقليدية السائدة التي لم تسمح بتقدم أبحاث الهجرة الدولية.
بالتالي ظلت تيمة النوع الاجتماعي في علاقتها بالهجرة مخفية لفترات طوال بشيء مزدوج، كما تقر بذلك “ميرجانا موروكفاسيتش” Mirjana Morokvasic[11] بتعبيرها على أن ” لا البحوث المتعلقة بالهجرة، ولا تلك المتعقلة بالنوع الاجتماعي، قد أفلحت في أن تثير تقاطع الهجرة والنوع الذي امتد لحقب زمنية كبيرة، واتجه كل طرف في حاله دون أن يعرف كل منهما الأخر”. والواقع أن أقدمية واستمرارية الوجود النسائي في الهجرات الدولية يحتم علينا مراقبتها، وتتبعها بغرض التعرف على أنماطها المتغيرة، والتي لاتقتصر البتة على نوع واحد. فصحيح أنا ما زلنا نرى في المرحلة هجرة النساء كفرد من الأسرة في التجمعات، لكن هذا لا يعني على المطلق بأن هذا النوع لوحده هو الشائع والمسيطر، بل إن أنواع أخرى تحاصرنا مطالبة إيـانا بالتحليل والتتبع.
طبيعي إذن، أن تكون النساء في حالات عديدة مبادرات في عملية الهجرة، فعلى سبيل المثال يكفي أن نستحضر نموذج النساء المغربيات اللواتي يعملن في الحقول الموسمية الخاصة بإنتاج الفراولة بإسبـانيا، التي يفضل أصحابها أمهات الأسر المغربية شريطة أن يكون باقي أفراد عائلتها بالبلد،[12] وهو نموذج يكفي لأن نتبين عليه أن النساء اتخذن لأنفسهن استقلالية، ومبادرة ولو نسبية عن وسطهن الاجتماعي، وصرن يشكلن زاده الاقتصادي لاحقا. لكن من الغير المقبول في هذا الاتجـاه، أن يتم النظر إلى هذه الهجرة على أنهـا هجرة يد عاملة فقط، نظير حاجة السوق العالمية لهـا، فهي وحتى إن تم إسقاطها على النساء القادمـات من بلدان العـالم النامية، إلا أنه لا يمكن أن تقاس بنفس القدر على هجرة النساء اللواتي ينطلقن من بلدان تنعم على الأقل برخاء أفضل، وسبل عيش أحسن، كما هو الحال بالنسبة لهجرة الشابات الإسبـانيات اللواتي يتحركن بمفردهن[13] باتجاه فرنسا.
تستمد أسباب هذا الغياب المتواصل بالأسـاس من الصورة التي قدمتها الأبحاث الأولية على المهاجرين وعائلاتهم، والتي ذهبت غالبيتها لافتراض أن المهاجرين رجال. فلم تميز إحصائيا بينهم وبين النساء، ولا الأطفال، كما اعتبرت أن دوافع الهجرة واحدة، وأن علاقات المهاجرين بشبكاتهم الاجتماعية، وبهوياتهم الوطنية هي نفسها لا اختلافات بينها.[14] قس على ذلك، دور التمثلات الاجتماعية التي تتيح في كثير من الأحيان، هيمنة ذكورية بالغة النطاق في موجات الهجرة التي تصدرها بعض البلدان المحافظة، وبالتالي يكون الحضور النسائي فيها أقل وضوحا وكثافة، لدى غيره من جنسيات البلدان الأخرى. ما يؤدي إلى تهميش حالات حضور النساء على نطاق واسع.
مما سبق، لاينبغي أن يتـم النظر لهذه العلاقة على أنهـا محط اهتمام كبير، كي لايتم الرفع من التوقعات المنتظرة من تحليلاتها. بقدر ما أن الدعوة هنا تحتم علينا ضرورة الانتباه لها كحقيقة من حقائق الهجرة الدولية، التي استطاعت أن تفرض ذاتها منذ أمد بعيد، وتمكنت النساء على إثرها من أن يتخلصن من الخفاء الذي طالهن. والجزء الأخر من الرهان مرتبط بالبحث في تجاربهن الهجروية، بغرض ملئ الثغرات البحثية في هذا الصدد. وهو الجانب الذي لازال يحضر بنقص في المعرفة والتفكير. فرغم ارتفاع أعداد النقاشات والبحوث في هذا الصدد، إلا أنها لم تنجح في توليد معرفة متراكمة قادرة على إحداث تغيير، ما يجعل الحاجة لسد الثغرات الحاصلة في هذا المجال مستمرة.
لعل من أبرز الأدبيات التي سعت لسد هذه الثغرة البحثية طروحات “ساسكيا سين” Sassen Saskia التي عالجت علاقة الهجرة النسائية بتقلبات العولمة، بحيث اعتبرت أن شبكة العولمة سهلت من تنقلات المهاجرين، وهي حركات قد أمست تجارية بالأساس، واتسمت بالطابع الاقتصادي وحضر فيها العنصر النسائي في ثوب الضحية دائما، خصوصا في شق خذمات الاتجار بالنساء المهاجرات من دول العالم الثالث. يتضح أن الاتجاه هنا اتسم بتجاوز الأنظار التقليدية[15]، وألقى الضوء على الظروف الهيكلية المرتبطة بالتدويل الاقتصادي العالمي كنوع معين من الأشكال الحالية للعولمة الاقتصادية.
ثم طروحات “نانا أوشي” Nana Oishi التي انطلقت من معالجة المشاكل المتعددة للهجرة النسائية، التي أعقبتها تحليلات جزئية وافتراضات ضعيفة، وقدمت من خلال مقاربتهـا بديلا لذلك تذهب فيه لدراسة هجرة اليد العاملة الغير مـاهرة، معتبرة أن غالبية النساء المهاجرات يقبعن ضمن هذه الفئة، مستنتجة بأن التحليل صار يستدعي استحضار مختلف المستويات والتي حصرتها في ثلاث مستويات رئيسية ( مستوى الأفراد ـ مستوى المجتمع ـ مستوى الدولة ).
يصبح لزاما إذن بحث أسباب هذا الإخفاء المتواصل، والذي لن يفهم دونما الوقوف على مكانة النساء داخل المؤسسات الاجتماعية سواء في البلد الأصلي أو في البلد المضيف على حد سواء، والذي سيتيح لفت الانتباه إلى مكانة النساء في الهجرة الدولية برؤية جديدة مغايرة كليا، مع تفحص بعض المشاكل التي تعترض عملية هجرة هذه الفئة، مع فتح أفق تفكير للتصدي لها بغرض الاستفادة ما أمكن من محاسنها، ولعل من بين أبرزها التحويلات المالية، التي تعتبر بمثابة رافدة اقتصادية لعديد الدول المصدرة للمهاجرين.
- التمييز بين الجنسين كمحرك لدينامية الهجرة النسائية
تنطلق الهجرة الدولية من البلد الأصلي، وتأثر فيها كل من علاقات البلد الدولية، بحيث تبرز في مسـار هجرة أفراده لمكـان وتفضيله للهجرة دون غيره، كمـا تأثر فيها أيضـا المؤسسات الاجتمـاعية التي تعتبر عنصرا منميـا لموجات الهجرة الدولية، بل وفاصلا بشكل لا متساو فيما بين مرتاديها من الأفراد. وكذا فاصلا في التحليلات المعالجة للظـاهرة، والتي فسرت في الغالب تنامي موجات الهجرة النسائية بأنها نتاج ثانوي لهجرة الذكور، ولم تنظر لإمكـانية تـأثير المؤسسـات الاجتمـاعية في عمليات الهجرة الدولية، بترخيصها لمن يهـاجر، ومنعها لأصنـاف أخرى.
تلعب المؤسسـات الاجتمـاعية في قوالب الهجرة الدولية دورا لايستهـان به، فهي تحضر في مسـار الهجرة برمته، بحيث تبدأ مع المهـاجر من بلده الأصلي، وتصادفه أيضا في بلد الاستقبـال. بالتالي فدورها الهجروي لاينبغي أن يخفى عن قوالب التحليل، فبقدر ما أنهـا قادرة على منع البعض من الوصول إلى الموارد اللازمة لتحقيق الهجرة، فهي تتيح للأطراف الأخرى إمكـانية ذلك. مثال ذلك ترخيصها لهجرة الذكور ومنعها لهجرة النساء، بحكم الموقف الثقافي الذي تستند فيه إلى الأعراف والتقاليد. وهو توزيع لامتكـافئ يستبطن تمييزا واضحا مابين الرجـال والنساء في مسارات الهجرة، ويشتد وطأة في مجتمعات الاستقبال التي تسطر مجتمعاتها قوانين خاصة، وسلوكيات محددة، تلائم كل جنس على حدة.
على هذا الأسـاس، ليس من الغريب إذن أن تتبـاين أسباب ودوافع الهجرة، بحيث يشكل هذا التمييز القائم على أسـاس الجنس سببـا رئيسيا في عديد موجات الهجرة النسائية، فطالما يقيد وصول المرأة إلى بعض المناصب المستحسنة نسبيا في وسطها الاجتماعي الأصلي،[16] إلا ويدفعها في اتجـاه مقابل إلى التفكير في الهجرة بغرض تغيير الوسط وتغيير المكـانة. ومن ثـم فدراسة دور المؤسسات الاجتماعية في تحركات الهجرة النسائية، تعني بالأساس النظر في اختلافات هجرة الرجال مقارنة بالنساء والتي ترسخها أوجه عدم المساواة في كل من بلد المنشأ وبلد المقصد، وتشكل إثر ذلك عوامل طرد وجذب للمهاجرات الدوليات، كما أن التركيز على هذا العنصر يتيح إمكـانية النظر في الهجرة النسائية من زاوية تنموية قوية.
مع استمرار التدفقات الهجروية النسائية يوما بعد يوم، ومع بداية تزايد الاهتمام العلمي بحركية هذه الفئة، بات بالإمكـان النظر في العوامل المجتمعية كعوامل أسـاسية في هجرة النساء، بما في ذلك القيم الثقـافية والمعايير الاجتمـاعية التي تحدد نوع المهاجر وإذ كانت المرأة ستهاجر وكيف ستفعل،[17] وحتى مع من ستهاجر، أي أن عدم المساواة بين الرجال والنساء بسبب الجنس يؤثر بطريقة أو بأخرى في موجات الهجرة. وخلاصة القول فإن هذا التمييز بين الجنسين، والذي يحضر في المؤسسات الاجتماعية بالبلد المصدر،، والبلد المضيف على حد سواء، هو تمييز لايرفع من تعداد المهاجرات الباحثات عن موطن جديد فقط، بقدر ما أنه يرفع أيضا من المشاكل التي تطرحها هجرة هذه الفئة، التي تصبح معترضة من قبل حواجز اجتماعية جديدة في البلد المضيف تعيق اندماجها.
يظهر إذن أن الهجرة الدولية في عموميتها ليست في جوهرها حركية أفراد فقط. بل هي وعاء خصب لتبادل المعايير الاجتماعية أيضـا، خاصة تلك التي تتسم بالإيجابية من قبيل تعزيز المهاجرين للفعل الديمقراطي في بلدانهـم، أو في جلب فكر استثمـاري من البلدان التي هاجروا إليها. كما أنها فيما يخص جانب الهجرة النسائي تلعب دورا كبيرا في تمكين النساء على مستويات عدة، منها ماهو سياسي، بحيث يساهم الشتات في نشر قيم المساواة بين الجنسين، حالما يبدأ المهاجرون يدركون حقيقة أن الأوضاع السياسية للمرأة في البلد المضيف، أحسن بكثير من تلك الأوضاع والظروف التي تعيشها النساء في البلدان الأصلية. وعلى هذا الأسـاس نلحظ أن الهجرة صوب الدول التي تشهد تمكينا قويا للنساء في مناصب القرار، تزيد من الرغبة في التمكين السياسي للمرأة في بلد المنشأ.
- أوجه جديدة للهجرة النسائية : قوة اقتصادية
هيمن التردد منذ فترة طويلـة على مجريات بحوث النوع الاجتماعي والهجرة الدولية، في مختلف سراديب البحث في علاقة المتغيرين معا، وتأثرت به جدلية الاعتراف بالنساء المتنقلات كفاعلات في موازين القوى، بل حتى أن حضور المرأة في سوق العمل تعرض لزحزحة إزاء هذا الجدل. ذلك أن المرأة المهاجرة صارت تجد نفسها في مواجهة عديد الصعاب، وهو ما يؤكده تاريخ هجرة النساء، الذي يؤكد على أنه لطالما كانت النساء الأجنبيات المهاجرات الأكثر تعرضا للاستغلال،[18] والذي يصل بهن إلى حد جعلهن ضحايا.
اللافت للنظر أن تاريخ هجرة النساء اصطدم على الدوام بإشكالية سوق العمل الدولية، وهو ما توضحه الاتجاهات الأولية في تحليل علاقة النساء بالهجرة منذ مطلع الثمانينيات، التي ذهبت للفت النظر في وضعية النساء المهاجرات كقوى عاملة بأسواق العمل، عبر تسليط الضوء على مساهماتها في هذا الاتجاه وانخراطها في أعمال وقطاعات عديدة، من قبيل قطاع التصنيع، وقطاع الصحة، أو حتى كعاملات منزليات. بالتالي فما يلاحظ أن الأعمال المنزلية، وأعمال الرعاية، تستقطب النساء المهاجرات أكثر من أي قطاع أخر.[19] وعلى الرغم من تعقد وصعوبة هذه القطاعات بالنسبة للفئة المهاجرة النسائية، إلا أنها تمنحها استقرارا ماديا، يوازيه استقرار اجتماعي، يسمح لها بتحقيق اندماج اقتصادي، تعمل من خلاله هذه الفئة على تأكيد حضورها في بلدانها الأصلية، ما يجعل الحديث يشتد حول البعد الاقتصادي القوي لهذه الفئة، فكيف ذلك ؟
يمكننا أن ننظر، إلى أن الفعل الهجروي يساعد من زاوية معينة على تحسين الوضع المادي للمهاجرين وذويهم. ذلك أن عملية الانتقال هذه تتيح للمهاجرين تحقيق ذخل أعلى من جهة، وتسمح بالتأثير على بلدان المنشأ عبر التحويلات المالية المهمة التي تتم عبر خلق سيلان تدفقي للتحويلات في شكل التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر.[20] ورغم توليفة الاتجاهين المـاكرو اقتصادي، والاتجاه الميكرو اقتصادي، اللذين أضفيا الشيء الكثير في فهم الأبعاد الاقتصادية لفعل الهجرة الدولية، إلا أنهما بدورهما لم يتمكنا من إثارة الانتباه إلى الحضور الاقتصادي للنساء المهاجرات ومدى تأثيرهن في الرفع من اقتصاديات بلدانهم الرئيسية.
تضطلع النساء بدور كبير في التحويلات المالية المرسلة إلى بلدانهن الوطنية، ذلك أن هذه الفئة ترسل حصة أكبر من أرباحها إلى الوطن،[21] وفي الاتجاه الأخر تشكل النساء أيضا الفئة الكبرى المتلقية لهذه التحويلات، ثم إن هذه الفئة وفي حالة هجرتها الدولية نجدها تتجه لتحمل معيشة أسرها في دولتها الأصلية، وخصوصا النساء المهاجرات الأصغر سنا اللواتي يخصصن كامل نتاج عملهم لأطفالهم اللذين ظلوا ورائهم من قبيل المهاجرات الفيليبينيات والسيريلانكيات.[22] يتضح إذن، أن فهم علاقة متغيري النوع والتحويلات المالية في خصوصيتها بالهجرة الدولية، لا يمكن فهمها إلا انطلاقا من فهم طبيعة البعد الاجتماعي للمهاجرة، وذلك عبر معرفة كيف يؤثر الوسط الاجتماعي العائلي للمهاجرة في تحويلاتها المالية، باعتبار الوسط الأسري وسطا مليئا بالتعقيدات الاجتماعية المتناقضة، والتي تنتظم على قواعد أساسية عدة لعل من أبرزها، الجنس.
لا جدال أن الرفع من الذخل الاقتصادي يحفز النساء على الهجرة، ولا جدال أيضا أن هجرة النساء تتيح رفعا من وتيرة التحويلات المالية المرسلة، والتي تتجه في الغالب كما أشرنا على شاكلة مساعدات عائلية، وتشكل معها مصدرا هاما للذخل لعديد الأسر، ومعها أصبحت إيرادات المهاجرين التي يقدمونها لبلدانهم الوطنية أكبر بكثير مما تحققه اقتصاديات كبرى الدول، ولعل بلوغ التحويلات المالية المرسلة للدول النامية لنسبة 90 مليون دولار أمريكي سنويا خير دليل على القوة الاقتصادية التي تكنها هذه الفئة، والتي يصعب من خلالها الفصل بين الأطراف الفاعلة من ضمنها، حتى يستحيل معها النظر إلى من يرسل أكثر؟ الرجال أم النساء. إلا أن ما لاشك فيه أن المهاجرات يدفعن بتحويلات مهمة، يمكن اعتبارها أكثر من تلك التي يرسلها الرجال، خصوصا إذا ما أخذنا في عين الاعتبار عديد المتغيرات، من بينها استقلالية النساء العازبات اللواتي يهاجرن أكثر.
تلعب الاتصالات الأسرية والالتزامات الاجتماعية أحد الأسباب الكبرى في نسبة التحويلات المالية التي ترسلها النساء المهاجرات[23]، والتي تشكل جزءا كبيرا من ذخلها، وهي نسبة بقدر ما تحضر لدى المهاجرات الداخليات، فهي تصل بالحد قدره أو أكثر لدى المهاجرات الدوليات، رغما عن القدرة التعلمية التي تضطلع بها هذه الفئة أي أنه من الممكن أن يكون الذخل الخاص بها ضعيفا، إلا أن بعض الدراسات أثبت عكس ذلك، وأكدت على أن النساء ترسلن نسبة 25% أكثر من المهاجرين الذكور،[24] وخصوصا النساء المتزوجات أو المهاجرات العازيات.
لا مناص من الإقرار بأن الهجرة الدولية تساهم في جلب عديد المنافع للبلدان المضيفة، ولا هروب أيضا من الإقرار بأن النساء المهاجرات يسهمن في الرفع من جودة هذه المنافع،[25] ويسهمن بطريقة أو بأخرى في تدفق بعض الإيجابيات على الاقتصادات الدولية لبلدانهم الثانية، كما يفعلن أيضا في بلدانهم الأصلية عبر خارطة التحويلات المالية التي أشرنا إليها سلفا. ذلك أن هذه الفئة تسهم في هذا الجانب بشكل قوي وتملئ سوق العمل الثانوية التي يتجنبها المواطنون الأصليون في غالبية الأحيان، بالتالي فالهجرة المتحدث عنها والتي تروم تحقيق الفعل التنموي، لا تؤدي لخفض الأجور، أو لفقد الوظائف،[26] كما ادعى البعض في أكثر من مناسبة.
ما نريد التأكيد عليه هنا، أن حركة النساء المهاجرات صارت ذات بعد اقتصادي وجب أن يتم لفت النظر إليه، لا لإسهامهن في الرفع من الناتج الوطني العام لاقتصاديات بلدانهن، لكن نظير ما يتحنه ورائهن رفقة المهاجرين الذكور أيضا، من فرص عمل تشغلها الفئة الغير مهاجرة ، وتستفيد من منافعها، أي أن فرص العمل تزداد كلما خرجت فئة مهاجرة معينة، ونتيجة لهذا يستفيد الاقتصاد الوطني من الطرفين، أي من الفئة المهاجرة، ومن الفئة التي ظلت في حدود التراب الوطني. قس على ذلك أيضا العودة المحتملة للمهاجرين، سواء المشكلين لليد العاملة الدولية والمستجيبين لنداء أسواق العمل الدولية، أو بالنسبة للفئة التي تتمتع بمستويات معرفية كبيرة، أي أنهم كلهم مرشحين للعودة وحاملين لتجارب حياتية معينة وخبرات ومهارات، يمكن استثمارها فيما تبقى من فترات حياتهم في مشاريع تنموية ببلدانهم الوطنية، وحتى إن لم تكن أفكار، فسيكون هناك حتما رأسمال مادي لا بأس به.
إذن فالعودة النهائية لهذه الفئة المهاجرة، تسهم حتما في رسم بعض خيوط الفعل التنموي، وهو أيضا الحديث الذي يمكن أن ينزل على المهاجرين المتنقلين ذهابا وإيابا أي في شكل ( هجرة دائرية )، واللذين يمكنون البلدان المرسلة والمستقبلة من اقتسام بعض الفوائد.[27] وهي فوائد تبرز في شاكلة ( التفضيلات ) أيضا التي تصبح البلدان المستقبلة للمهاجرين تستوردها اقتصاديا بشكل كبير على غرار المأكولات، والمنتجات الثقافية.
- مشاكل وتحديات الهجرة النسائية
حال الحديث عن انقطاع الروابط الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة، يجادل “الان تورين” Alain Touraine بأن المجموعات الاجتماعية صارت تبدو كلها في أزمة، نظير ذخولها في متاهات وفراغات،[28] تضرب بنتائجها السلبية أكثر ما تضرب الفئات الأضعف، والأشد تبعية، والتي تمسي نظير هذا التهميش تشعر بفقدان الذات. ولعل أكثر من يشعرن بفقدان معنى ذواتهن هن النساء إلى جانب العمال والمهاجرين. وهي فئة شكلت على الدوام فئة تتحدد بدونيتها، ووصل معها درجة لم يعد بالإمكان فيها التستر عن تواتر العنف ضد النساء وارتفاع خطورته. سيما أن هذه الفئة لم تعد هي نفسها بالطريقة التي عهد إليها بها، بل صارت لها أدوار عدة متغيرة أدت لظهور ثقافة أنثوية جديدة،[29] وهي ثقافة ذات ميزات حسنة لها من القدرة ما يكفي في نظر الان تورين Alain Touraine لتحويل المجتمع لمكان أكثر إنصاف وعدل. ومن ثم لا تصبح المرأة في أي وضعية كانت ضحية سلبية للنظام، بل تصبح عاملة فاعلة، قادرة على تشكيل مصيرها الخاص. لكن هل يصح هذا الإسقاط على النساء المهاجرات في عالم اليوم، لاسيما ونحن نعاين تحول الهجرة النسائية إلى هجرة ذات أبعاد مغايرة ؟
رويدا رويدا، تم الانتقال من نهج بحث النساء المهاجرات إلى نهج جديد، سعى إلى موضعة النوع الاجتماعي كنظام اجتماعي في سياق عمليات الهجرة لكل من النساء والرجال،[30] وهو اتجاه بدأ بتسليط الضوء على الطرق التي تنظم بها بناءات الذكورة والأنوثة على فعل الهجرة ونتائجه، ولعل أهمها النتائج الاقتصادية التي صارت تتوخى من النساء المهاجرات النجاح في هذا الدور أيضا، إلا أن قيام فاعل اجتماعي ضمن أي مجال كان، لايمكن له أن لايضطلع بأي مشاكل، ولعل أهم ما يختلج مسار النساء المهاجرات نجد النظرة الدنيوية التي تختزلها في كونها امرأة، وتزداد حدة باعتبارها مهاجرة، من جنسية وثقافة أخرى، مايجعل من عملية اندماج هذه الفئة واستقرارها غير ثابتة، بل ومعرضة لتقلبات عديدة. ثم إن هكذا نظرة تزيد من شساعة العلاقات الاجتماعية التي من الممكن أن تخلقها النساء،[31] وتمكنها من الولوج لسوق الشغل وبالتالي تحقيق استقرار اقتصادي، وعليه تبقى المعاملة التي يسير بها المواطن الأصلي علاقاته مع الجالية المهاجرة مختلفة فيما بين المهاجرين باختلاف جنسهم. أي أن التعامل مع الرجل في قطاع الخذمات، وقطاع الصحة، وقطاع التعليم، وغيره… لاتحضر فيه نفس التصرفات والتفاعلات التي تعقد بوجود عاملة امرأة، وهو ما يفسر ارتفاع حالات التحرش في صفوف المهاجرات، ومعها أرقام الاغتصاب، والاستغلال والاعتداء الجنسي.
إلى جانب هذا، نجد أن مشاكل النساء المهاجرات يمكن تجسيدها كلية في غيابها الغير مفهوم ضمن قوالب السياسات العمومية سواء الدولية، أو الوطنية، المدبرة لإشكالية حركية هذه الفئة وهجرتها، والتي يبرز أن اهتمامها يشوبه الضعف نظير عدم مراعاته للنوع الاجتماعي في العوارض القانونية التي يسنها، والتي تقتصر فقط على بعض النقط الغير كفيلة بالإجابة عن إمكانية تحقيق الاندماج من عدمه. كما هو الحال بالنسبة للسياسة الكندية التي يتسم نهجها بإقصاء واضح للنوع الاجتماعي من ضمن عمليات طلب اللجوء للأراضي الكندية. فالتدفقات الجديدة للهجرة المكسيكية نحو كندا أبانت على حد تعبير مونيكا بويد Monica Boyd عن ” بداية الاتجاه ومن جديد نحو منظورات لاتراعي الفوارق الجنسية بين المهاجرين على الإطلاق “،[32] وذلك على الرغم من المشاكل والصعوبات التي تواجه فئة النساء ومطالبهن العادلة والمشروعة التي لازالت تواجه باللامبالاة، في حين أن وسائل الإعلام غالبا ما تصور فئة النساء المكسيكيات المهاجرات على أنها فئة متجانسة مندمجة في الحياة الاجتماعية. بالتالي يمكن القول، أن استمرارية اللامراعاة للفوارق الجنسية في تدبير مسألة الهجرة، وما يتبعها من اندماج، ثم تنمية، تظل عملية خطرة تعرض مطالب هذه الفئة للتهميش ولخطر استحالة الاستفادة من تجاربهن.
خاتمة
حري بنا أن نؤكد في الأخير، على أنه وفي ظل عالم معولم ينكر الوضوحيات وينبذها، فإن الحديث عن المهاجرين بوصفهم عملاء للعولمة يصعب حصره في اتجاه واحد. فكونهم حركيون ويد عاملة قوية تخفض الأجور، وتنشط في سوق الأعمال الثانوية، أمر صحيح، وكونهم أيضا ذوي طبيعة تكميلية إنتاجية، يخلقون المنافسة ويرفعون من الذخل، ومستهلكون للخذمات بوفرة، هو أمر صحيح أيضا. بالتالي ففي الوقت الذي لم يعد بالإمكان وقف سيولة الحركية هذه، وما يترتب عنها من مشاكل، فإنه صار من الجلي والواضح التعامل معها على أنها واقع اجتماعي، وجب بحث فرص استغلاله على أكمل وجه، وذلك عبر توجيه عوائده أيا كانت ( بشرية ـ مادية )، بغرض استثمارها على نحو أفضل خذمة للتنمية، ولعلها اتجاهات لا يمكن أن تستقيم دونما نبذ الفوارق المصطنعة ثقافيا وبصورة اجتماعية أكثر حول المهاجرين.
يبرز المهاجرون الدوليون بالتالي على اختلاف أجناسهم الوطنية، في المرحلة الأنية بشكل متحيز جزئي، والاختلاف هنا ليس اختلاف أصل، وهوية وطنية، بقدر ما أنه ينم عن اختلاف بيولوجي يفرق الذكور عن الإناث، وترفع من حدته أليات التغييب المتعددة ( الإعلام ـ النقاشات العمومية ـ الطروحات السياسية… ) والتي تسهم في إخفاء عديد المهاجرات، وأنشطتهن الاقتصادية، على الرغم من أن العنف المتفشي حول هذه الفئة صار من الصعب إخفاؤه أكثر، نظير دأبه على التكرر، وإعادة إنتاج نفسه، بصور جديدة ولعل انتشار صراعات الحجاب الإسلامي والتعدد الزوجي لا للحصر، خيرا دليل على بداية نقل النقاش من ضحايا متخفيات إلى ضحايا بارزات في الفضاءات العمومية.
الإحالات:
[1] Kofman, E., Phizacklea, A., Raghuram, P., & Sales, R. Gender and International Migration in Europe. Routledge,2000, p. 3.
[2] Eleonore Kofman, ‘Female “Birds of Passage” a Decade Later: Gender and Immigration in the European Union’, International Migration Review, 33.2, 1999, pp. 269–99.
[3] Natalie Benelli and others, ‘Migrations: Genre et Frontières-Frontières de Genre’, Nouvelles Questions Féministes–Revue Internationale Francophone, Antipodes, 2007, p. 7.
[4] Christine Catarino, Mirjana Morokvasic, and Marie-Antoinette Hily, “Femmes, Genre, Migration et Mobilités”, ‘Vol. 21-N° 1, 2005.
[5] Mary Kawar, Gender and Migration: Why Are Women More Vulnerable, Femmes et Mouvement: Genre, Migrations et Nouvelle Division International Du Travail, 71, 2004, p. 73.
[6] Tuba Bircan and Sinem Yilmaz, A Critique of Gender‐blind Migration Theories and Data Sources, International Migration, 61.4, 2023, p. 176.
[7] Nicolas Péridy, Un Modèle Généralisé Des Déterminants Des Migrations Internationales 1: Application Aux Migrations Des Pays Méditerranéens Vers l’ue, Revue Économique, 61.6, 2010, pp. 981–1010.
[8] Monica Boyd, Women, Gender, and Migration Trends in a Global World, in The Palgrave Handbook of Gender and Migration, ed. by Claudia Mora and Nicola Piper, Springer International Publishing, 2021,
p. 23.
[9] Stephen Castles and M. Miller, The Age of Migration. Basingstoke & New York, Palgrave Macmillan, 2003.
[10] Paola Tabet, La Grande Arnaque: Sexualité Des Femmes et Échange Économico-Sexuel’, La Grande Arnaque, 2005, pp. 1–211.
[11] Mirjana Morokvasic, L’(in) Visibilité Continue, Cahiers Du Genre, Vol. 2, 2011, p. 26.
[12] Chadia Arab, Les Aït Ayad: La Circulation Migratoire Des Marocains Entre La France, l’Espagne et l’ItaliePU Rennes, 2009).
[13] Morokvasic, L’(in) Visibilité Continue, p. 31.
[14] Mirjana Morokvasic, ‘Femmes et Genre Dans l’étude Des Migrations: Un Regard Rétrospectif’, Les Cahiers Du CEDREF. Centre d’enseignement, d’études et de Recherches Pour Les Études Féministes, 16, 2008, p. 36.
[15] Saskia Sassen, ‘Women’s Burden: Counter-Geographies of Globalization and the Feminization of Survival’, Journal of International Affairs, 2000, pp. 503–24.
[16] Saw Ai Brenda Yeoh, Lan Anh Hoang, and Choy Fong Theodora Lam, Effects of International Migration on Families Left Behind, 2010.
[17] Elizabeth M. Grieco and Monica Boyd, Women and Migration: Incorporating Gender into International Migration Theory, Center for the Study of Population, Florida State University, 1998, p. 107.
[18] Annie Phizacklea, ‘Gender and Transnational Labour Migration’, in Ethnicity, Gender and Social Change, ed. by Rohit Barot, Harriet Bradley, and Steve Fenton, Palgrave Macmillan UK, 1999, p. 30.
[19] Kofman, Eleonore, and Parvati Raghuram, Gendered Migrations and Global Social Reproduction. Springer, Palgrave Macmillan UK, 2015.
[20] Zsoka Koczan and others, The Impact of International Migration on Inclusive Growth: A Review, International Monetary Fund, 2021, P. 4
[21] Ninna Nyberg Sørensen, Migrant Remittances, Development and Gender, 2005.
[22] Ninna Sorensen, Globalización, Género y Migración Transnacional, Migración y Desarrollo. Córdoba, Publicaciones CSIC, 2005. P. 21.
[23] Sara R. Curran and Abigail C. Saguy, Migration and Cultural Change: A Role for Gender and Social Networks?, Journal of International Women’s Studies,Vol 2.3, 2001, p. 62.
[24] David L. Collinson, Identities and Insecurities: Selves at Work, Organization, Vol 10.3, 2003, p. 533.
[25] Dean Yang, Migrant Remittances, Journal of Economic Perspectives, Vol 25.3, 2011, pp. 129–152.
[26] Amelie F. Constant, Do Migrants Take the Jobs of Native Workers? IZA World of Labor, 2014.
[27] Amelie F. Constant, Olga Nottmeyer, and Klaus F. Zimmermann, The Economics of Circular Migration, in International Handbook on the Economics of Migration, Edward Elgar Publishing, 2013, p 63.
[28] Alain Touraine, Un Nouveau Paradigme: Pour Comprendre Le Monde d’aujourd’hui, Fayard, 2005, P. 128.
[29] Alain Touraine, Le Monde Des Femmes, Fayard, 2006.
[30] Pierrette Hondagneu-Sotelo, Introduction: Gender and Contemporary U.S. Immigration, American Behavioral Scientist, 42.4, 1999, pp. 565–576.
[31] David Cox, Lloyd Owen, and Cliff Picton, Asian Women Migrant Workers: Maximising the Benefits of Their Experiences, Regional Social Development Centre, Graduate School of Social Work, 1994.
[32] Monica Boyd and Joanne Nowak, A Gender-Blind Approach in Canadian Refugee Processes. Mexican Female Claimants in the New Refugee Narrative, Gender, Migration and Categorisation: Making Distinctions between Migrants in Western Countries, 2010, pp. 105–125.