دور المغرب في التعاون الأمنيلتحقيق الأمن الجماعي في الفضاء المغاربي

باحث في سلك دكتوراه

المغرب

ملخص

شكل التعاون الأمني في الفضاء المغاربي، المرتبط بجوار منطقة ساحل الغرب الإفريقي والمنطقة المتوسطية، ركيزة أساسية لضمان الأمن الجماعي فيه؛ من أجل مواجَهة التحديات المعقدة والمتنامية؛ بفضل موقع المغرب الجغرافي الاستراتيجي، ودوره الفاعل في مكافحة الإرهاب، في ظل التطورات الأمنية الراهنة؛ حيث يسعى المغرب إلى تعزيز الشراكات مع الدول المجاورة، والشركاء الدوليين؛ من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنظيم التدريبات المشتركة... ويُدرك المغرب، ها هنا، أهمية التوازن بين حماية مصالحه الوطنية، والمساهمة في تحقيق الأمن الإقليمي والدولي. ويتطلب ذلك تطوير استراتيجيات أمنية متكاملة، تشمل الجوانب العسكرية والسياسية والشُّرْطية، مع التركيز على مكافحة التهريب والتطرف، وتعزيز الأمن السيبراني. وعلى هذا الأساس، تم طرح الإشكالية المحورية الآتية: كيف يمكن للمغرب، كدولة رئيسية في المنطقة، تعزيز التعاون الأمني لتحقيق الأمن الجماعي، في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة، بما في ذلك التهديدات الإرهابية العابرة للحدود، والتغيرات السياسية والاقتصادية؟ وتتطلب الإجابة عن هذه الإشكالية النظر في كيفية ضمان التوازن بين حماية مصالح المغرب الوطنية، والمساهمة الفعالة في الجهود الدولية لتحقيق الأمن الجماعي في الفضاء المغاربي المرتبط بجوار منطقة ساحل الغرب الإفريقي والمنطقة المتوسطية. ويسعى هذا البحث إلى تحليل الإشكالية المذكورة ومعالجتها، بناءً على فرضية أساسية، مفادُها أن المغرب قادر على توسيع نطاق تعاونه الأمني، بشكل فعال، للتصدي للتهديدات الأمنية المعاصرة؛ من خلال تطوير استراتيجيات شاملة، تعزز قدراته على مواجهة التحديات المستقبلية. ولبلوغ ذلك الهدف، سنعمد أساسًا إلى استخدام المنهج الوصفي التحليلي، واتباع خطة متكاملة، تتألف من مقدمة ومبحثين، يتطرقان إلى تحديد السياق العام والإطار النظري لمفهومي "الأمن الجماعي" و"التعاون الأمني"، وإلى بيان دور المغرب في التعاون الأمني لتحقيق الأمن الجماعي بالفضاء المغاربي المرتبط بجوار منطقة ساحل الغرب الإفريقي والمنطقة المتوسطية..

مقدمة

في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجه الفضاء المغاربي، والدول التي تجاوره من ناحية ساحل غرب إفريقيا والمنطقة المتوسطية، يبْرُز دور المملكة المغربية، في هذا المجال، كطرف محوري في تحقيق الأمن الجماعي بالمنطقة. ويتجسد هذا الدور في التزام المغرب بتعزيز التعاون الأمني على مختلف الأصعدة؛ من خلال استراتيجيات متعددة الأبعاد، تهدف إلى تأمين الاستقرار الإقليمي، ومحاربة التهديدات المشتركة.

تشهد منطقة المغرب العربي تحولات متسارعة، تتطلب استجابة منسّقة وشاملة للتعامل مع القضايا الأمنية؛ مثل الإرهاب، والتهريب، والجريمة المنظمة. في هذا السياق، يلعب المغرب دورًا متقدمًا من خلال المبادرات الأمنية والإقليمية، التي تهدف إلى تعزيز التعاون بين الدول، والتعامل مع المخاطر المشتركة.

وتسعى المملكة إلى بناء شراكات استراتيجية مع دول الجوار والبلدان الإفريقية الأخرى؛ من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق العمليات، وتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية. ويعكس هذ التوجه الاستراتيجي إدراك المغرب لأهمية التنسيق والتعاون الدولييْن في مواجهة التحديات الأمنية المعقدة، التي تتجاوز الحدود الوطنية. ومن خلال مشاركته الفعالة في جهود الأمن الإقليمي والدولي، يساهم المغرب في تعزيز الأمن الجماعي، وفي بناء بيئة أمنية مستدامة، تَدْعم الاستقرار والتنمية في المنطقة.

ويطرح موضوع التعاون الأمني للمغرب تساؤلاً بخصوص كيف يمكن للمملكة تعزيز دورها الإقليمي في تحقيق الأمن الجماعي، والتعامل بنجاعةٍ مع التهديدات العابرة للحدود؛ مثل الإرهاب والجريمة المنظمة، في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها المنطقة. ويمكن للمغرب، من خلال تعزيز التعاون الأمني مع الدول المجاورة والشركاء الإقليميين والدوليين، أن يساهم بفعاليةٍ في بناء نظام أمني جماعي مستدام، يروم تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة.

وتكمن أهمية دراسة دور المغرب في التعاون الأمني في فهم كيفية إدارة التهديدات الأمنية بشكل جماعي، وتقييم مدى تأثير سياسات التعاون الأمني المغربية في تعزيز الاستقرار الإقليمي. علاوة على إبراز أهمية التعاون الدولي في مواجهة التحديات المشتركة، ورصد مساهمات المغرب في هذه الجهود.

ويمكن تحديد أهداف البحث الأساسية في تبيان دور المغرب في تعزيز التعاون الأمني مع دول الجوار والمنظمات الإقليمية، واستعراض استراتيجيات المغرب لمواجهة التهديدات الأمنية المشتركة، وتقييم تأثير جهود التعاون الأمني المغربية في تحقيق الأمن الجماعي بالمنطقة.

وستعتمد الدراسة على منهج وصفي تحليلي، يجمع بين التناول النظري والعملي؛ من أجل تحليل العوامل المهدِّدة والمحددات السياسية التي فرضت التعاون الأمني، وكشفِ دور المغرب في التعاون مع الاتحاد الأوربي، وإبراز مشاركاته في التحالفات الدولية الرامية إلى تحقيق هذه الغاية نفسها. Haut du formulaire

المبحث الأول: عواملُ التعاون الأمني ومحدداتُه السياسية

يتجسد مفهوم “التعاون الأمني” كإطار تنظيمي يعزز العمل المشترك بين الدول لضمان الأمن والاستقرار في مواجهة التهديدات المشتركة. وفي هذا السياق، يُعد هذا التعاون أحد الأركان الأساسية لنظام الأمن الجماعي؛ بحيث تسعى الدول الأعضاء إلى توحيد جهودها، وتنسيق سياساتها الأمنية لتحقيق أهداف مشتركة. ويتجاوز التعاون الأمني البُعد العسكري ليشمل مجالات أخرى؛ مثل الاستخبارات، وتبادل المعلومات، وتعزيز القدرات الدفاعية المشتركة. ومن خلال هذا التعاون، يتمكن النظام الأمني الجماعي من توفير استجابة فعالة للأزمات، ومن الحد من التصعيد العسكري، وتعزيز السلم العالمي. وبذلك، يمثل التعاون الأمني، في إطار الأمن الجماعي، أداة قوية لبناء الثقة بين الدول، وتحقيق الأمن الإقليمي والدولي بشكل مستدام، ومواجهة كل سياقات التهديد…

المطلب الأول: استدعاء التعاون الأمني الجماعي وأشكاله في سياق التهديدات

في ظل التهديدات المتزايدة على الصعيدين الإقليمي والدولي، أصبح من الضروري تكثيف التعاون الأمني الجماعي لضمان الاستقرار، وحفظ السِّلم بين الدول. ويتخذ هذا التعاون أشكالاً متعددة، كل منها مخصص للتعامل مع أنواع محددة من التهديدات والتحديات. ولعل أبرز هذه الأشكال هو الدفاع الجماعي؛ حيث تتعاون الدول لمواجهة عدو مشترك، وهو ما يعزز قدرتها على الردع المشترك. أما الأمن المشترَك، فيركز على تجنب النزاعات من خلال بناء الثقة ونزع السلاح، ويهدف إلى حماية المصالح المشتركة للدول الأعضاء. ومن جهة أخرى، يمتد الأمن الشامل ليشمل القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التي تؤثر في الأمن بشكل غير مباشر، وهو ما يعكس طابعاً أوسع لهذا النوع من التعاون. وأخيراً، يُعد الأمن التعاوني نهجاً متقدماً يركز على معالجة القضايا غير التقليدية؛ مثل التنمية المستدامة وحماية البيئة، عبر تعزيز التعاون الإقليمي القائم على الاعتماد المتبادَل.

ومع ذلك، يبقى من المستحيل القضاء تماماً على التهديدات، التي تتطور باستمرارٍ مع تقدم الحضارة، وتعقد الحياة. ولفهم التهديدات الأمنية بفعالية، من المفيد أولاً بيان ما نعنيه بـ”التهديد” أو الخطر، الذي يمكن تعريفه بأنه يحيل على مجموع المواقف التي تثير الخوف من فقدان القيم الأساسية؛ مثل الحياة. ويمكن تصنيف التهديدات على النحو الآتي: تهديد بالإيذاء – موقف خطير قد يؤدي إلى حدوث ضرر – ظروف قد تؤدي إلى خسارة إذا فُعّلت – مصدر خطر يؤثر في الصحة. كما يمكن تعريف المخاطر بأنها حالات نفسية، يتم فيها تقييم الظواهر بوصفها خطيرة أو غير مواتية؛ مما يسبب عدم اليقين والخوف واحتمال وقوع شيء سيء للغاية، لأن التهديد هو نية معلنة لإحداث أضرار أو أعمال عدائية على شخص ما[1]، وقد عرّف أحدُهم التهديدات بأنها “أفعال غير مواتية وخطيرة للمصالح الحيوية والقيم الأساسية لكيان معين (فرد أو جماعة)، يقوم بها مشاركون آخرون في الحياة الاجتماعية”[2]. وفي سياق ربط الأمن بالدولة وقوتها العسكرية، فإن التهديد الأمني يؤدي إلى “تهديد مؤسسات الدولة؛ من خلال استخدام دولة أخرى للصراع الأيديولوجي أو لقوتها المادية. وقد يصل التهديد إلى حد إعلان الحرب”[3]. وتعكس هذه الأشكال والتعريفات استجابة الدول للتحديات الأمنية المعاصرة، وتبرز أهمية العمل الجماعي في تعزيز الأمن والاستقرار على الصعيدين الإقليمي والدولي…

وفي عالم يتسم بالتغيرات السريعة والتطورات المتلاحقة، نشأ اتجاه أكاديمي وسياسي يميز بين مصطلحي “التهديد” و”التحدي”؛ باعتبار الأخير يشير إلى “المشكلات والصعوبات والمخاطر التي تواجه الدول في سعيها لتحقيق أمْنها الشامل واستقرارها ومصالحها الحيوية”[4]. ويمكن أن تظهر هذه التحديات في سياقات متعددة، بما في ذلك “الأمن الناعم”. ومن ناحية أخرى، يرتبط مصطلح “التهديد” بـ”الأمن الخَشِن”، ويُفهم كأفعالٍ مباشرة تهدف إلى إحداث أضرار، أو التهديد باستخدام القوة العسكرية. وبينما تكون التهديدات مباشرة، يمكن أن تستمر التحديات في التأثير على الأمن القومي أو الإقليمي بمرور الوقت؛ مما يتطلب استجابات متفاوتة[5]. وتبرز مصادر التهديد للأمن بوصفها عوامل متعددة ومتنوعة، تبعاً لتغير مصالح الدول، وتطور العلاقات الدولية. ومن بين تلك المصادر التهديدية، يمكن تمييزها عدة أنواع رئيسة، والتي تم تصنيفها تصنيفا قطاعيا للتهديدات والمتمثلة في[6]:

  1. الكوارث الطبيعية؛ مثل الزلازل والفيضانات والعواصف، التي تؤدي إلى حدوث أضرار واسعة النطاق، تؤثر في الاستقرار الإقليمي.
  2. زعزعة استقرار النظام البيئي؛ إذ يمكن أن تؤدي التغيرات المناخية والتلوث إلى تدهور البيئة، وزيادة المخاطر البيئية.
  3. أزمات الطاقة والغذاء والإمدادات الاستراتيجية؛ فنقص الموارد الحيوية يمكن أن يؤدي إلى توترات بين الدول، ويؤثرَ في الأمن الاقتصادي.
  4. الأزمات الاقتصادية؛ ذلك أن الانهيارات الاقتصادية، والأزمات المالية، تؤدي إلى عدم الاستقرار الداخلي، وتزيد من احتمالات حصول أشكال النزاع.
  5. الديموغرافيا والنظام الصحي؛ بحيث تؤثر الزيادة السكانية والأوبئة والأزمات الصحية في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
  6. الهجرة والاندماج؛ فالأزمات المرتبطة بالهجرة غير المنظمة والاندماج يمكن أن تثير توترات اجتماعية وسياسية.
  7. أزمات النظام السياسي والاجتماعي؛ من قبيل الصراعات الداخلية، والفساد، وفشل المؤسسات… التي يمكن أن يؤدي إلى تهديد الأمن الداخلي.
  8. أزمات نظام الأمن الداخلي؛ بحيث تؤثر الاضطرابات والتهديدات الداخلية في الاستقرار الوطني، وقد تشكل تهديدات أمنية حقيقية.

وضمن هذه القطاعات عدةُ سيناريوهات تهديد، يمكن مراقبتها لتجنب النزاعات؛ عبر مجموعة من الآليات والمبادئ، التي تتأطر في الدبلوماسية الوقائية، التي يمكن رصد بعضها في:

  • حالة الأمة (استقرار الدولة الداخلي وقوة مؤسساتها، والاعتماد على الحكامة الجيدة والتدبير الاستراتيجي، الإلمام بما يجري)[7].
  • البدء في رسم المسار السياسي مبكرا، وهذا يتطلب معرفة الفاعلين الأساسيين بصورة جيدة، ليس فقط المسؤولين السياسيين ولكن كافة طوائف المجتمع[8].
  • خلق الشراكات مع المنظمات الإقليمية والمؤسسات المالية العالمية وربط العمل السياسي قصير المدى مع عملية بناء السلام طويلة الأجل وجهود التنمية[9].
  • الإرادة السياسية من كافة الأطراف بشأن منع نشوب الصراعات[10].
  • سيادة القانون (احترام النظام القانوني والعدالة)[11].
  • احترام الحقوق الأساسية) حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية.[12] (
  • المجتمع المدني ووسائل الإعلام) دور الإعلام والمجتمع المدني في دعم الاستقرار).
  • العلاقات المجتمعية وآلية حل النزاعات (التفاعل الاجتماعي وحل النزاعات بطرق سلمية (.
  • إدارة الاقتصاد (إدارة الموارد الاقتصادية، والتخفيف من الأزمات المالية).
  • التفاوتات الاجتماعية والإقليمية (الحد من التفاوتات التي قد تؤدي إلى توترات).
  • الوضع الجيوسياسي (التغيرات في العلاقات الدولية والتوازنات الإقليمية).

وفي حالة عدم القيام بتنزيل هذه الآليات الاستباقية، تتزايد التهديدات الأمنية من قبل الجماعات الإرهابية وأعمالها التخريبية، واضطرابات إمدادات المواد الخام الحيوية، والتهديدات البيئية الخطيرة. كما أن الخدمات السرية الأجنبية تشكل تهديدًا محتملاً، في ظل تصاعد خطر الجريمة المنظمة، والهجمات الإرهابية على الصعيد الدولي.

وفي هذا السياق، يعد المغرب – نظراً لقربه الجيوستراتيجي، ومصادر التهديدات المحيطة به – مشاركاً فعالاً في جهود تحقيق الاستقرار العالمي. كما يمكن أن تشكل مواقع جغرافيته أهدافاً محتملة؛ بسبب موقعه، وسهولة الوصول إليه؛ مما يجعله معرضا لمخاطر تستهدف المؤسسات والشركات ومواطني الدول الأخرى.

وفي الوقت الراهن، تتسم طبيعة التهديدات والتحديات الأمنية بتغيرات متسارعة. وفيما تختفي بعض التهديدات، يبرز البعض الآخر بقوة متزايدة. وتتفاوت قائمة التهديدات والأولويات المرتبطة بها بناءً على الموقع الجغرافي، والسكان، والثقافة. فعلى سبيل المثال، أسهم انضمام بولندا إلى حلف شمال الأطلسي في تقليل خطر العدوان على البلاد بشكل كبير؛ من خلال تعزيز عامل الردع.

وتتزايد أهمية التفاوض والتوافق كوسائل لحل النزاعات والصراعات، في حين يتم التصدي للعدوان المحتمَل بطرق الوساطة[13]؛ بحيث إن لكل وسيط طريقته في التعامل مع المنازعات، التي هي مكون أصيل من مكونات الحياة، وغالبا ما تشكل اختلافا حول الاحتياجات والرغبات والقيم أو المعتقدات وأساليب التواصل وطرق التصرف وتفسير المعلومات والأولويات والموارد، سواء طبيعية أو غير طبيعية الصلاحيات في السلطة. وفي سياق المنازعات، تختلف الأساليب التي يتبعها الأفراد في التعامل معها بشكل كبير؛ ذلك أن بعض الناس يدافعون عن أنفسهم بشدةٍ خلال النزاع، ويسعون جاهدين إلى تحقيق أهدافهم، في حين يفضل آخرون تجاهلَ النزاع، وتجنبَ الحديث عنه، أو حتى تغيير الموضوع عند حدوثه. وهناك مَن يحاول التوصل إلى حل وسط عادل؛ حيث يحصل كل طرف على ما يريد، مقابل تقديم تنازلات. وعلى الجانب الآخر، قد يُبدي بعض الأفراد استعدادهم للتخلي عن شيء ما لتسوية النزاع، مفضِّلين إنهاءَ التوتر حتى لو تطلب الأمر تقديم تنازلات كبيرة[14]

أسلوبٌ آخر لإدارة المنازعات يتمثل في التحدث مع الطرف الآخر، ومحاولة فهم جوهر الخلاف؛ مما يؤدي أحيانًا إلى تسوية أكثر تعمّقًا وإبداعًا من مجرد الحلول السطحية. ويشبه هذا الأسلوب محاولة التوصل إلى حل وسط عادل، ولكنه يتسم بطابع تعاوني، ويمكن أن يشمل عمليات تسوية المنازعات؛ مثل الوساطة، ويكون مناسبًا في ظروف معينة[15]

ولا يوجد أسلوب واحد يمكن اعتباره الأمثلَ لتسوية المنازعات، بل يختلف الأسلوب الأنسب باختلاف الحالة والأفراد المعنيين. ومن المهم أن تدرك كيف تتعامل مع المنازعات وكيف تديرها، وأن تكون واعيّا بما إذا كان هناك أسلوب آخر، يمكن أن يحقق لك نتائج أفضل. وفي النهاية، يظل الهدف هو تحسين إدارة النزاعات، وتحقيق أفضل النتائج الممكنة[16]. ومع ذلك، فإن تقليص مخاطر الحرب، على نطاق قاري أو عالمي، يقابله تصاعدُ الأزمات المحلية، التي قد تتطور إلى صراعات إقليمية أو محلية. وتتنوع مصادر هذه الأزمات، بدءًا من النزاعات الدينية والعرقية، مرورًا بانتهاكات حقوق الإنسان والنزاعات الحدودية، وصولاً إلى نقص وسائل المعيشة الأساسية، والكوارث الطبيعية، وضعف أو تفكك هياكل الدولة، والانهيارات الاقتصادية والحضارية، وحتى الأوبئة.

وتشكل التهديدات السياسية المعاصرة قضية متعددة الأبعاد، في ظل الظروف الحالية للنظام السائد، المتمثل في تعدد الأقطاب المتمايزة، ومراكز القوى الدولية؛ بحيث إن ثمة نظاما لاقطبيا يتسم بمراكز متعددة شبه متعادلة، لها قوة، ذات معنى وتأثير، ولا مجال لنظام دولي واحد ذي عدة أقطاب، بل يمكن أن تتعاون وتنسّق فيما بينها، وتأخذ على عاتقها إيجاد صيغة انسجام القوى المتعددة، المعروفة باسم “كونسورتيوم”، لتلعب دورا قياديا، وتعمل على تأسيس قوانين اللعبة، ومعاقبة من ينتهكها. ولا يمنع، في إطار اللاّقطبية، أن تدخل القوى الرئيسة في تنافس بينهما، بيد هذا التنافس يتمحور حول توازي القوى، أو إنه تنافس تصارُعي في حالة انهيار التوازن القائم بينها[17]. فإلى جانب التهديدات القديمة المعروفة، تظهر تهديدات جديدة نتيجةً للتقدم في مجالات مختلفة من النشاط البشري، منها التهديدات السياسية، التي يمكن تصنيفها إلى فئتين: التهديدات الداخلية، التي تنشأ من داخل بنية سياسية معينة، وتؤثر بشكل مزعْزِع فيها؛ والتهديدات الخارجية، التي تأتي من الخارج، وتؤثر في الفاعلين السياسيين بشكل مُقْلِق. تتمثل أهمية هذا المجال في كيفية تأثير الأمن كمتغير رئيسي على العناصر الأساسية التي تشكل الدولة، مثل السيادة والوحدة الإقليمية. بشكل عام، يمكن فهم المجال السياسي للأمن الوطني باعتباره قدرة الدول على التفاعل بفعالية مع الضغوط السياسية التي تنشأ على المستوى الداخلي، مما يساهم في تحقيق الأمن من خلال ضمان أو فرض احترام الشروط التي تؤدي إلى الاستقرار والوحدة الوطنية. على الصعيد الخارجي، يظهر الأمن في قدرة الدول على التكيف مع الضغوط التي تهدف إلى إجبارها على تغيير مواقفها أو اتخاذ مواقف تتعارض مع المبادئ التي تعتنقها أو المصالح التي تسعى لتحقيقها.[18]

ويراد بالتهديدات السياسية الداخلية تلك التي تنشأ ضمن بنية سياسية معينة، وتؤثر في استقرارها، دون أن تمتد تأثيراتها إلى الخارج مباشرة. ومع ذلك، يمكن أن تنتشر هذه العوامل إلى الخارج؛ فتؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي في المناطق المجاورة، أو حتى على نطاق أوسع في بعض الحالات الاستثنائية.

ويمكن تفسير الاضطرابات السياسية والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في الدولة، إلى حد كبير، من خلال نقص الأسس الأخلاقية للأفراد في المؤسسات التي تُمنَح الثقة العامة.. هذه الأمراض تؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية، وانخفاض الثقة في الدولة والمؤسسات الديمقراطية، وتدمير السوق الحرة؛ مما يعمق الفقر وعدم المساواة الاجتماعية، ويؤثر سلبًا في الاستهلاك والاستثمار. [19]

وتجبر العولمة المتقدمة على رؤية هذه الظواهر كعلاقات مترابطة ومتعددة الأوجه. وقد تؤدي هذه التهديدات إلى الإطاحة بالسلطات الشرعية، وانتهاك مصالح الدولة، أو تقويض مكانتها على الساحة الدولية. كما تنتج التهديدات السياسية عن نقص التعاون الدولي الكافي، وانعدام الثقة، والمواقف التصادمية عندما تفتقر الدول إلى الحوار والتفاهم المتبادل؛ مما يزيد من احتمالات النزاع والعداء. وهذا النقص في التعاون والتفاهم يمكن أن يحوّل التحديات العالمية إلى أزمات تهدد الأمن والاستقرار الدولييْن.

وأمام هذه الوضعية، ولإرساء تعاون أمني فعال لمواجهة تلك التهديدات، يمكن اتباع عدة خطوات استراتيجية، منها: تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل؛ بحيث يجب أن تبدأ الدول بتعزيز الحوار المفتوح والشفاف فيما بينها لتبديد الشكوك، وبناء الثقة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال المؤتمرات الدولية، واللقاءات الثنائية، والمنصّات متعددة الأطراف.

  1. بناء تحالفات إقليمية ودولية؛ ذلك أن التعاون الأمني يمكن أن يكون أكثر فعالية عندما يتم تنظيمه من خلال تحالفات إقليمية أو دولية، تساعد في توحيد الموارد، وتنسيق الاستجابات المشتركة للتهديدات الأمنية.
  2. تقوية الأطر القانونية الدولية؛ إذ يتطلب التعاون الأمني إطارًا قانونيّا قويّا يدعم الالتزامات المتبادَلة بين الدول. ويمكن لتعزيز المعاهدات والاتفاقيات الأمنية الدولية وتحديثها أن يوفر الأساس القانوني للتعاون الأمني الفعّال.
  3. تبادل المعلومات الاستخباراتية؛ فمن خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية بشكل منتظِم بين الدول، يمكن الكشف عن التهديدات الأمنية مبكرًا، والتعامل معها بفعالية قبل تصاعُد حدّتها.
  4. تطوير آليات الردع المشتركة؛ بحيث يمكن أن يشمل التعاون الأمني تطوير آليات ردع مشتركة؛ مثل القوات العسكرية متعددة الجنسيات، وإنشاء أنظمة دفاع مشترك للتعامل مع التهديدات العسكرية والاقتصادية والسيبرانية.
  5. تعزيز القدرات الدفاعية والتدريب المشترَك؛ بحيث يمكن لتدريب القوات الأمنية والعسكرية من دول مختلفة أن يسهم في تعزيز قدراتها على الاستجابة للتحديات المشتركة، وتحسين التنسيق في أثناء أداء العمليات الأمنية.
  6. تشجيع الدبلوماسية الوقائية؛ بحيث يجب التركيز على الدبلوماسية الوقائية لتجنب النزاعات المحتملة، قبل أن تتفاقم. ويشمل هذا الأمر التوسط في النزاعات والتفاوض لحل الخلافات بشكل سلمي.

فمن خلال هذه الاستراتيجيات، يمكن للدول بناء أدوار أساسية لتعاون أمني قوي وشامل، يعزز الأمن الدولي، ويواجه التهديدات بفعالية، ويحقق الأمن الجماعي.

المطلب الثاني: المحددات السياسية الأمنية المغربية على المستوىَيْن الإقليمي والدولي

في ظل التحولات الدولية المتسارعة، باتت الحاجة إلى بلورة صِيغ أمنية استراتيجية بين المغرب والدول العربية والمغاربية والإفريقية والأوروبية أمرًا ملحّا. وتزداد أهمية هذه الصيغ بوضوحٍ في سياق التحولات الجيو سياسية التي تشهدها منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتي تتطلب تنويع آليات التعاون الأمني بشكل عام، وتخصيص اهتمام أوفر للأمن الإقليمي ومصالح شعوب المنطقة الاستراتيجية.

لقد تزايدت التحديات الأمنية في المنطقة؛ بفعل اتساع رقعة النزاعات والأزمات، التي تستند إلى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية. وتجسد الأحداث، التي أعقبت الربيع العربي في تونس وليبيا، أبرز مثال لهذه الديناميات المعقدة، التي دفعت المغرب إلى تبني مواقف مراقبة أولاً، ثم انتقل إلى دعم التحولات التي جرت، عبر تقديم مبادرات عديدة؛ مثل استقبال جرحى الثورة الليبية.

ومع ذلك، تتسم الاستراتيجية الأمنية المغربية في منطقة المغرب العربي ومنطقة الساحل بثلاثة محددات رئيسية، تتداخل بشكل معقد، وتؤثر في فعالية التعاون الأمني:

المحدد الأول: قضية الصحراء المغربية

يشكل النزاع حول الصحراء المغربية أحد العوائق الرئيسية التي تعترض سبيل تطوير شراكات أمنية فعالة بين المغرب والجزائر. وتؤدي العلاقة المتوترة بين البلدين، الناتجة عن هذا النزاع، إلى غياب الثقة، وتمنع إقامة تعاون أمني مشترك بينهما. وعلى الرغم من التصريحات التي تشير إلى أهمية مواجهة التهديدات الأمنية، فإن ملف الصحراء يظل عائقًا رئيسيّا أمام تحقيق تكامل أمني في المنطقة.

المحدد الثاني: الأوضاع في منطقة الساحل

تتعقد العلاقات الأمنية في منطقة الساحل؛ بسبب المواقف المختلفة للجزائر والمغرب. فالجزائر ترفض إشراك المغرب في الجهود الأمنية الخاصة بالمنطقة، في حين يرى المغرب أن الوضع في الساحل يشكل تهديدًا مباشرًا لأمنه القومي، ولاسيما بسبب الجوار الجغرافي مع دول؛ مثل موريتانيا. هذا التباين في الرؤى يُعيق التنسيق الفعال بين الدول، ويزيد من تعقيد التعامل مع التهديدات الأمنية القائمة.

المحدد الثالث: مطلب فتح الحدود بين المغرب والجزائر

يمثل إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر، منذ عام 1994، عقبة إضافية أمام تطوير التعاون الأمني بالمنطقة، علما بأن هذا الإغلاقَ يعزز تبادل الاتهامات حول ضعف المراقبة الأمنية، ويؤثر سلباً على الجهود المشتركة لمكافحة التهديدات الأمنية؛ مما يبرز الحاجة إلى إصلاح العلاقات بين البلدين لضمان استقرار الوضع الأمني الإقليمي. وتحت تأثير هذه الظروف، تبرز الحاجة أيضا إلى تطوير استراتيجيات أمنية مَرِنة، تشمل نهجًا إقليميًا وشراكات دولية لتجاوز العقبات الحالية، وتحقيق الأمن والاستقرار في كافة المنطقة.

إنّ الحماس والتنسيق الذي ساد، بالفعل، في منطقة المغرب العربي، خلال مرحلة ثورات “الربيع العربي”، يبدو أنه قد تلاشى، ليحُل محله واقع سياسي أكثر تعقيداً وتبايُناً في المصالح. فاليوم، يبدو أن كل دولة تتّبع سياساتها الخاصة، التي تتجاوز إطار الهوية الإقليمية للمغرب العربي، سواء من ناحية الجغرافيا أو التاريخ أو السياسة. فعلى سبيل المثال، بدأت ليبيا، بعد الثورة، تعيد ترتيب أولوياتها بشكل متزايد، بعيداً عن دول الجوار، حتى في مجالاتٍ مثل التعليم؛ حيث استعانت بمناهج من إندونيسيا، بدلاً من الانفتاح على جارتها تونس. وفي الوقت نفسه، يبدو أن المغرب يُعيد تقييم استراتيجيته الدبلوماسية، موجِّها اهتمامَه نحو دول الخليج، في محاولةٍ لتفادي عزلة محتمَلة، واستعادة الروابط التاريخية مع هذه الدول، وهذا يعكس تحولاً في الدبلوماسية المغربية نحو الاعتراف بالخليج كمنظومة متكاملة داخل مجلس التعاون الخليجي، بدلاً من التعاطي مع كل دولة على حدة. والجزائر، من جانبها، تحاول أن تستعيد علاقاتها مع فرنسا؛ مما يعكس تزايد اهتمامها بالقضايا الأوروبية، وإعادة ترتيب أولوياتها الإقليمية. وفي هذا السياق، يبدو أن كيان اتحاد المغرب العربي لم يعد له مكان كبير في الأفق القريب أو المتوسط، في ظل التحولات الاستراتيجية العميقة التي تمر بها المنطقة.

وفي السنوات الأخيرة، أثر عدم الاستقرار السياسي والجماعات الجهادية وأشكال متنوعة من الاتجار غير المشروع، بشكل سلبي، على شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء وغرب أوروبا. وهذا يعني أن المغرب ينتمي إلى منطقة تسودها أزمات الهوية والأمن والاقتصاد والسياسة، التي ولّدت عددًا من التهديدات المحدقة بالمنطقة.

ويشمل قطاع الأمن المغربي المؤسسات التي تتعامل مع قضايا العدالة والأمن، والأنشطة المرتبطة بالرقابة والإدارة. وتشمل هذه المؤسسات[20]:

  • القوات المسلحة الملكية (FAR)، الدرك الملكي، المديرية العامة للأمن الوطني (DGSN)، المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (DGST)، المديرية العامة للدراسات والمستندات (DGED)، الشرطة العسكرية، القوات المساعدة وشركات الأمن الخاصة.
  • الهيئات المكلفة بإنفاذ القانون (القضاء، نظام السجون، خدمات التحقيق والملاحقة القضائية).
  • هيئات الإدارة والرقابة التابعة للسلطة التنفيذية (الملك، رئيس الحكومة، وزارات العدل والداخلية والمالية والإدارة العامة والدفاع الوطني).
  • هيئات الإدارة والرقابة التابعة للسلطة التشريعية (البرلمان واللجان البرلمانية.(
  • الهيئات الرقابية، والمقصود بالتحديد المجلس الوطني لحقوق الإنسان (CNDH)، وديوان المظالم.
  • الهيئات الرقابية غير الرسمية (مراكز البحوث، منظمات حقوق الإنسان، الأحزاب السياسية، وسائل الإعلام).

حسب تصريحات عدة مسؤولين سياسيين ودينيين وأمنيين مغاربة، فقد وضعت المملكة استراتيجية أمنية وطنية شاملة واستباقية، تدمج بين الأبعاد الأمنية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. يسعى المغرب لأن يكون نموذجًا في إعادة تنظيم قطاعه الديني وتحديث نصوصه التشريعية والتنظيمية، وتعزيز وكالاته الحكومية المسؤولة عن الأمن والتنمية البشرية والتعاون الدولي؛ بحيث إن المغرب يواجه تحديات أمنية، تتميز بخصائص محددة؛ بسبب السياق الجيو سياسي الإقليمي. وفي ظل هذه التهديدات المتعددة الأوجه، يحتاج المغرب إلى فهم طبيعة وأبعاد الجريمة المنظمة العابرة للحدود التي تنتشر على أراضيه. وبالتالي، فهو بحاجة إلى استراتيجية أمنية فعالة للتصدي لهذه التهديدات والحد من انتشارها. [21]

وقد أكد العديد من المسؤولين السياسيين والأمنيين بوضوحٍ أن المغرب ملتزم بمكافحة الجماعات الجهادية. وتعتقد السلطات المغربية أن جميع أعضاء المجتمع الدولي مطالَبون بالمشاركة في مكافحة هذا الخطر بشكل جماعي. وقد قدمت هذه السلطات نهجها، متعدد الأبعاد لمحاربة التطرف الديني، خلال اجتماع نظّمه مدير اللجنة التنفيذية لمكافحة الإرهاب (DECT) في نيويورك، بتاريخ 30 سبتمبر 2014. ووفقًا لوزارة الداخلية، فقد ساعد هذا النهجُ البلادَ في قمع التهديدات التالية بين عامي 2002 و2015[22]، وذلك عن طريق ما يأتي:

  • تحييد 126 منظمة إرهابية، بما في ذلك 41 مرتبطة بمناطق ساخنة؛ مثل العراق وسوريا ومنطقة الساحل، واعتقال 2676 إرهابيّ، بمن فيهم 266 من العائدين.
  • تحييد 276 عملية ضارة، بما في ذلك 119 تفجير، استهدف مكاتبَ تستخدمها أجهزة الأمن، ومواقع سياحية، وبعثات دبلوماسية، وأماكن عبادة مسيحية ويهودية.
  • إفشال 109 محاولة اغتيال، استهدفت أعضاء من أجهزة الأمن، ويهودا مغاربة، وموظفين حكوميين، وشخصيات سياسية وأجنبية، وسُياحًا، بالإضافة إلى 7 محاولات اختطاف، و41 محاولة سرقة واعتداءات مسلحة.

المبحث الثاني: دور المغرب في التعاون مع الاتحاد الأوروبي، ومشاركاته في التحالفات الدولية

يلعب المغرب دورًا محوريّا في تعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبي، مستفيدًا من موقعه الجغرافي الاستراتيجي كبوابةٍ بين إفريقيا وأوروبا. ويسعى إلى تعزيز شراكات متينة مع هذا الفضاء الأوروبي؛ من خلال اتفاقيات متعددة، تشمل المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية وغيرها. وتمثل الشراكة المغربية- الأوروبية نموذجًا متقدمًا في مجال التعاون البَيْني؛ حيث يُعد المغرب شريكًا أساسيّا لأوروبا في مبادرات وميادين، تهمّ – في الأساس – مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، وتغير المناخ.

وعلى الصعيد الدولي، يشارك المغرب بفعاليةٍ في التحالفات الدولية، سواء عبر مساهماته في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أو من خلال التعاون مع الدول الكبرى في قضايا الأمن الدولي، ومكافحة التهديدات العابرة للحدود… ويتوخى المغرب، من خلال هذه المشاركات، تعزيز مكانته الدولية، وترسيخ دوره كفاعل رئيسٍ في استقرار المنطقة التي ينتمي إليها أولا، وفي تعزيز سُبُل التعاون الدولي بصفة عامة.

المطلب الأول: دور المغرب في التعاون الأمني مع الاتحاد الأوروبي

عزّز المغرب مكانته الإقليمية كـ”حاجز أمني” لدول شمال المتوسط، والفضاء الأورو متوسطي بشكل عام، مستغلاً استقراره السياسي، وغنى موارده الطبيعية؛ لتعزيز نفوذه وتأثيره في المنطقة. فمن خلال مشاركته الفعّالة في عمليات إعادة الاستقرار إلى بعض دول محيطه الإقليمي؛ مثل دوره المحوري في احتضان المفاوضات الليبية وإنجاحها، وتدخُّلِه في أزمة مالي، سعى المغرب إلى تعزيز علاقاته مع منطقة الساحل وشمال إفريقيا؛ مما جعله شريكًا استراتيجيّا موثوقًا به لدى أوروبا، وهو الأمر الذي يزيد من أهمية المملكة المغربية؛ بسببِ -كذلك – ما تتمتع به من موارد واستقرار سياسي، ولو نسبيّا، يجعلها مخاطَبا قويا بالنسبة إلى أوروبا، والبلدان الغربية عموما، لتحديد ملامح المرحلة الجديدة للتعاون السياسي والأمني في المنطقة الأورو متوسطية.

ففي نظر الاتحاد الأوروبي، يعد المغرب شريكًا أساسيّا لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة؛ بحيث أكدت عدة شخصيات أوروبية بارزة أهمية المغرب في استقرار المنطقة، وأشار المفوِّض الأوروبي المكلف بالهجرة والشؤون الداخلية والمواطنة إلى أن المغرب يعد شريكًا استراتيجيّا لأوروبا في مواجهة إشكالات وقضايا؛ من قبيل الهجرة والأمن، ورأى المؤرخ الفرنسي برنار لوكَان أن المغرب، على الرغم من الاضطرابات التي شهدتها المنطقة، ما يزال ملاذًا مستقِراً يمكن الاعتماد عليه في هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه.

وتتميز سبل التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي بأنها متعددة الأوْجُه، تتراوح بين التنسيق الثنائي مع دول البحر الأبيض المتوسط، وبين التعاون متعدد الأطراف ضمن إطار الاتحاد. ولعل من أبرز الملفات، في هذا النطاق، قضية الهجرة السرية، ومحاربة الإرهاب.

أولاً- ظاهرة الهجرة السرية:

تشكل ظاهرة الهجرة غير القانونية محورًا أساسيّا في العلاقات الأمنية بين المغرب وأوروبا، وذلك نظراً للجوار الجغرافي، وللإرث التاريخي الاستعماري، فضلا عن التفاوت الاقتصادي الكبير بين الطرفين… وبدأت موجات الهجرة غير الشرعية من المغرب نحو أوروبا قبل بضعة عقود، ولكنها لم تكن تُجرّم حينها؛ نظراً لاحتياج الدول الأوروبية وقتئذٍ إلى اليد العاملة. وبعد ذلك، بدأت أوروبا تُشدِّد الإجراءات ضد الهجرة غير الشرعية، ولاسيما مع دخول اتفاقية “شنغن” حيز التنفيذ عام 1995، التي فرضت تدابير صارمة في هذا الإطار؛ كالرقابة على الحدود، وفرض التأشيرات، وتحديد منح رخص العمل بشكل انتقائي.

وقد أدى هذا التشديد إلى تفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية من المغرب، الذي أصبح أيضاً محطة عبور رئيسية، وبخاصة عبر مضيق جبل طارق، الذي يُعد ممرّا مفضَّلا للعديد من المهاجرين الأفارقة من بلدان جنوب الصحراء.[23] وتزايدت التدابير الأمنية الأوروبية ضد الهجرة، بشكل ملحوظ، عقب الأحداث الإرهابية التي شهدتها أوروبا بعد 11 سبتمبر 2001، وانتفاضات “الربيع العربي” بدءًا من 2011. وتداخلت موجات الهجرة الجديدة مع ظواهر؛ من مثل: الإسلاموفوبيا، والعنصرية، وأعمال العنف، والتهديدات الإرهابية، والجريمة المنظمة… مما دفع أوروبا إلى تعزيز إجراءاتها الأمنية؛ كإنشاء معسكَرات الاحتجاز، وتشديد الرقابة الحدودية، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وتعقُّب مُهَرِّبي المهاجرين.

نظراً لأهمية الموقع الجغرافي للمغرب، الذي يُشكّل – كما قلنا – ممرّا رئيسًا مفضّلا للمهاجرين المغاربة والأفارقة من جنوب الصحراء نحو أوروبا، فإنّ المغرب يُعَدّ شريكاً أساسيّا في تنفيذ السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة، كما أنه من أكثر دول جنوب المتوسط تأثراً بالمقاربات الأمنية الأوروبية في هذا المجال، سواء على المستوى الثنائي أو متعدد الأطراف.

فقد كانت قضية الهجرة حاضرة في اتفاق الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي لعام 1996، الذي ركّز على مراقبة تدفقات الهجرة غير الشرعية، وتعزيز حقوق العُمال المهاجرين المغاربة. كما نُظِر إلى تدبير الهجرة، في إطار خطط العمل المشتركة، ضمن سياسة الجوار لعام 2005، والوضع المتقدم لعام 2013.

وتَعتمد أوروبا على آليتين رئيستين لمعالجة ملف الهجرة؛ الأولى تهدف إلى تقليل ضغط الهجرة على أراضيها؛ عبر تطوير هجرة انتقائية، وتوسيع قاعدتها؛ بتحسين إجراءات الإقامة القصيرة لبعض الفئات؛ مثل الطلبة والباحثين ورجال الأعمال. وتسعى الثانية إلى محاربة الهجرة غير الشرعية، والحدّ منها؛ عبر تعزيز التعاون في مجال إدارة الحدود، وتقديم الدعم التقني والمالي لمراقبتها، مع التركيز على إعادة المهاجرين غير القانونيين بناءً على اتفاقيات يتم إبرامُها.

فعلى الصعيد الثنائي، أبرم المغرب العديد من الاتفاقيات الثنائية بشأن الهجرة السرية مع عدد من الدول الأوروبية، ولاسيما المتوسطية منها؛ مثل إسبانيا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا. وتعد الأولى أنموذجًا بارزًا في هذا السياق؛ نظرًا لحساسية هذا الملف في العلاقات بين الجانبين، اللذين يمثلان أكثر الأقطاب تعرُّضًا لموجات الهجرة بين إفريقيا وأوروبا؛ مما يجعل من هذه القضية عاملاً مؤثراً في بلورة السياسات المستقبلية، وبناء العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا[24]؛ بحيث يرتبط هذان البَلَدان بشبكة من الاتفاقات الثنائية، التي تهدف إلى مكافحة الهجرة غير الشرعية، يعود أولُها إلى عام 1992، وقد تناول “تنقل الأشخاص، والعبور، وإعادة قبول المهاجرين غير القانونيين”. فوَفْقاً للمادة الأولى من الاتفاق، يتعهد المغرب بمنع المهاجرين السريين من استخدام أراضيه كمعبر غير شرعي نحو أوروبا، كما يلتزم باستقبال كل من دخل الأراضي الإسبانية عبر المنافذ المغربية، شريطة إثبات ذلك، وهو الشرط الذي ظل محل خلاف دائم بين الجانبين… وفي ديسمبر 1995، جدّد الطرفان هذا الاتفاق بعد انتهاء مدته، مُضيفين إليه بنداً جديداً، يُلْزم المغرب بتكثيف دوريات خفر السواحل لرصد تحركات المهاجرين غير الشرعيين. وفي عام 1999، أنشأ البلَدان لجنة دائمة، على مستوى وزارتي الداخلية فيهما، من أجل وضع آليات مشتركة لتتبُّع العمليات، وتبادل المعلومات. وفي 25 يوليو 2001، وقّعا اتفاقاً بخصوص “الهجرة المؤقتة للعمل”، تلاه اتفاقٌ آخرُ، في مارس 2007، للحَدّ من الهجرة غير الشرعية للقاصرين غير المرافقين. وبالإضافة إلى ذلك، تم توقيع عدة اتفاقيات تعاوُن في ميدان الشرطة والقضاء، أبرزها اتفاق مدريد للتعاون في مجال الشرطة عبر الحدود، الموقَّع بتاريخ: 16 نوفمبر 2010.[25]

ومن خلال استعراض هذه المتون القانونية، الكامنة في نصوص الاتفاقات، يتضح أن الآليات المتبّعة لمواجهة الهجرة غير الشرعية قد ركزت، بشكل كبير، على الجانب الأمْني؛ من خلال تعزيز التنسيق المعلوماتي، وإنشاء معسكرات الاحتجاز، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، فضلاً عن برامج الدعم المالي والتقني لمراقبة الحدود البحرية والبرية. ومع ذلك، يُلاحَظ غياب مقاربة شمولية ومتوازنة، ترتكز على البُعد التنموي كعامل أساس.

وممّا تقدم، فإن الهجرة ستظلّ مكوناً هيكليّاً في العلاقات بين دول ضفتي البحر المتوسط، وسيستمر هذا الأخير في كونه مسرحاً مأساويّا لقوارب الموت، في ظل التفاعل بين السياسات الحمائية الأوروبية، التي تسعى إلى جعل دول الجنوب حارسةً لحدود أوروبا بمقابل مالي، وبين الأطروحات المغربية التي تواجه صعوبة بالغة في إيقاف تدفق المهاجرين نحو أوروبا.

ثانيّا- محاربة الإرهاب:

أصبح الإرهاب من الظواهر الأكثر تعقيداً، التي تهيمن على العلاقات المغربية- الأوروبية؛ لِما يشكله من تهديد مشترك لأمْنَي الطرفين. وقد أثار هذا الخطر المتزايد، الذي طال المغرب وعدداً من الدول الأوروبية، تساؤلات كثيرة، ولاسيما في ظل ارتباطه، في المخيلة الغربية، بـ”الأصولية الإسلامية”؛ مما دفع الطرفين إلى تعزيز التنسيق والتعاون الثنائي والمتعدد الأطراف لمكافحة هذه الآفة المؤرقة.

وعلى الرغم من أن اتفاق الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي لا يتضمن بنداً صريحاً متعلقا بمكافحة الإرهاب، على عكس اتفاقيات الشراكة مع بعض الدول المتوسطية؛ مثل مصر والجزائر ولبنان، إلا أن هذا الملف يحتل مكانة بارزة في الحوار السياسي بين الجانبين؛ إذ أمسى موضوعاً للنقاش في مختلف اللقاءات الثنائية، وأسهم في تطوير الهيكل المؤسساتي للشراكة بينهما؛ من خلال إنشاء لجنة “العدالة والأمن”، التي تُعنى بقضايا الإرهاب، على سبيل التمثيل.

وفي إطار سياسة الجوار، أكد مخطط عمل المغرب والاتحاد الأوروبي ضرورة تعميق التعاون والحوار حول مكافحة الإرهاب؛ من خلال عدة نقاط رئيسة، أبرزُها:

  1. مواصلة التعاون في مكافحة الإرهاب؛ عبر تنفيذ القرارات الأممية، والمصادقة على جميع الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية المتعلقة بالإرهاب، مع تبادل المعلومات والخبرات بين الطرفين.
  2. تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وذلك بدعم المغرب في تنفيذ التشريعات المناهضة للإرهاب والقرارات الأممية ذات الصلة، وتطوير سبل التعاون بين المصالح المختصة في محاربة الإرهاب فيهما.
  3. التعاون لمكافحة تمويل الإرهاب؛ من خلال تبادل المعلومات حول التشريع الأوروبي والآليات الدولية، والتشريع المغربي في مجال مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
  4. التعاون في الأمن البحري وتعميقه؛ بهدف مكافحة الإرهاب، في إطار مقتضيات المدونة الدولية لحماية السفن، ومرافق الميناء.

هذه العناصر أو النقاط تُعد جزءاً من الإطار السياسي المهم، الذي يقدمه الوضع المتقدم للاتحاد الأوروبي لتطوير آليات التعاون في مجال مكافحة الإرهاب مع المغرب، الذي يظل – في هذا الإطار – شريكاً دوليّاً فاعلاً، أثبت قدراته في مواجهة هذه الظاهرة المعقدة.

المطلب الثاني: مشاركات المغرب في التحالفات الدولية الأمنية

ينطلق المغرب، من وراء انخراطه في التحالفات الدولية الأمنية بإفريقيا، من قناعة راسخة بأهمية الحلول السلمية للنزاعات، وهو التزام يتجلى في تبني المملكة نهجَ الوساطة، وتفضيل التفاوض والحوار، والمساهمة في عمليات حفظ السلام. ويعكس هذا التوجه المستمر للعاهل المغربي، جلالة الملك محمد السادس، حرصه على دعم الاستقرار في القارة، وتعزيز التعاون المشترك لتحقيق التنمية، في بُعديها الشامل والمٌستدام، وهو ما يحظى بتقدير إقليمي ودولي كبير.

تتجلى مساهمة المغرب في الحفاظ على الأمن بإفريقيا في مشاركته الفعالة في عدة عملياتٍ لحفظ السلام بعدة دول، تحت إشراف الأمم المتحدة؛ مثل الكونغو الديمقراطية وساحل العاج وإفريقيا الوسطى. كما لعبت المملكة دورًا محوريّا في الوساطة بين أطراف النزاع في مالي، بالإضافة إلى المشاريع التي ما زال يُطلقها المغرب في عدة دول إفريقية؛ لتحقيق التنمية البشرية وتعزيزها، ولمنع انتشار التطرف وغيره من الظواهر السلبية. ويندرجُ هذا الالتزام ضمن رؤية شاملة، عبّر عنها جلالة الملك محمد السادس في مناسبات عدة، منها رسالته السامية إلى المشاركين في القمة الفرنسية- الإفريقية حول السلم والأمن، المنعقدة في باريس (دجنبر 2001)، التي أكد فيها ضرورة انتهاج مقاربة متكاملة في هذا الإطار، تربط بين الأمن والتنمية البشرية والحفاظ على الهوية الثقافية.

ولا تقتصر مساهمة المغرب في حفظ السلام على الجانب الأمني فقط، بل تشمل أيضًا وساطات ومساعي حميدة لحل الأزمات الإفريقية؛ كما في استضافته قمة لرؤساء دول اتحاد حوض نهر مانو في الرباط، يوم 27 فبراير 2002، التي أسفرت عن نتائج ملموسة تصبُّ في خانة تعزيز السلام الإقليمي. واضطلع المغرب، كذلك، بدور فعال في تسوية الأزمة المالية، بعد أن استقبل جلالة الملك الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد؛ مما أدى عن تقوية جهود إرساء الاستقرار في مالي[26].

ولأن السلم المستدام يتطلب أكثر من مجرد حلول أمنية، فإن المغرب يُقَوّي دوره؛ من خلال مقاربة شاملة، تهدف إلى التحصين العَقَدي ضد نزعات التطرف، وتعزيز التنمية في الدول الإفريقية… ومن بين المبادرات الملكية البارزة، في هذا الإطار، تكوين 500 إمام مالي، مثلا، وذلك ضمن برنامج يهدف إلى نشر تعاليم الإسلام الوَسَطي في مناطق مهددة بالتطرف في القارّة[27].

وعلى صعيد التنمية، يواصل المغرب تعميق علاقاته وجهوده مع الدول الإفريقية؛ عبر مبادرات إنسانية، وتعاون اقتصادي متعدد الأطراف. وتشمل هذه الجهود إرسال مستشفيات ميدانية، وتقديم مساعدات إنسانية، بالإضافة إلى تقوية الاستثمارات المغربية في إفريقيا. كما قررت المملكة إلغاء الديون المستَحَقة على الدول الإفريقية الأقل نمواً؛ ما يعكس التزامها بالتنمية المستدامة، ومكافحة الفقر فيها… وهو ما يكرّس دور المغرب كفاعل رئيس في تعزيز الأمن والسلام في إفريقيا، كما يكرّس مكانته كقطبٍ للاستقرار والتنمية في القارة السمراء.

ولدمْج التنمية البشرية في إفريقيا وربطْها بالبُعد الأمني، اعتمدت المملكة على نهج شامل، يجمع بين الجهود الأمنية والتنموية؛ مما يعزز الاستقرار في القارة، ويسهم في اجتثاث جذور النزاعات وأشكال التطرف؛ عبر ما يأتي[28]:

أولاً- من خلال عمليات حفظ السلام، التي يشارك فيها المغرب تحت مظلة الأمم المتحدة؛ بحيث لا يقتصر الدور المغربي على الجوانب العسكرية والأمنية، بل يمتد ليشمل دعم السكان المحليين؛ عبر مشاريع تنموية مباشرة، تركز على تحسين الظروف المعيشية للسكان المتضررين من النزاعات؛ مما يقلل من فرص انزلاقهم نحو التطرف أو العنف.

ثانيّاً- عبر وساطاته الدبلوماسية في حل النزاعات؛ بحيث يسعى المغرب إلى تحقيق تسويات سلمية، تكون التنمية جزءًا لا يتجزأ منها. ولا تستهدف هذه الوساطات وقف القتال فقط، بل تروم أيضا إرساء أسس لتنمية مستدامة، تدْعم السلام بالمنطقة على المدى الطويل.

ثالثاً- تبنّت المملكة مبادرات تنموية مُعزِّزة للاستقرار؛ عبر دعم التنمية البشرية بشكل مباشر؛ مثل تدريب الأئمة في مالي -مثلا- لنشر قيم الإسلام الوسَطي، الذي يسهم في تحصين المجتمعات ضد الفكر المتطرِّف. كما أن المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، التي يَدْعَمُها المغرب في إفريقيا؛ كالمستشفيات الميدانية، وتطوير البنية التحتية، تلعب دورًا مهمّا في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يقلل من المخاطر الأمنية إلى حدّ بعيد.

إنّ هذا التكامل بين التنمية البشرية والجهود الأمنية يسهم – بلا شك – في خلق بيئة مستقرة، تنمو فيها المجتمعات الإفريقية وتتطور بسلام؛ مما يقلل من الأسباب الجذرية للنزاعات، ويعزز الأمن على المدى البعيد.

ويعتمد المغرب، في علاقاته مع الدول الإفريقية، على مبدإ “رابح-رابح”، الذي يقوم على تحقيق الفائدة لجميع الأطراف المشارِكة في أي تعاون أو عمل استثماري. ويعكس هذا المبدأ فلسفة المملكة في بناء شراكاتٍ مستدامة وتعزيزها؛ شراكاتٍ قائمة على التعاون المتبادَل والمنفعة المشتركة، بدلاً من العلاقات التقليدية، التي تعتمد على استغلال الموارد أو الهيمنة الاقتصادية[29].

وانطلاقا من هذا المبدإ، يسعى المغرب إلى تعزيز التنمية في إفريقيا؛ من خلال استثمارات متنوعة، تشمل البنية التحتية والزراعة والطاقة والخدمات المالية. ولا تقتصر هذه الاستثمارات على ضمان تحقيق أرباح اقتصادية للمغرب فقط، بل تساهم أيضًا في خلق فرص العمل، ونقل التكنولوجيا، وتطوير القدرات المحلية في الدول الإفريقية. فعلى سبيل المثال، تتيح استثمارات المغرب في القطاع البنكي بإفريقيا لدول هذه الأخيرة الوصول إلى التمويل والخدمات المصرفية الحديثة؛ مما يدعم نمو الشركات المحلية، ويعزز الاقتصاديات الوطنية. وفي المقابل، تستفيد الشركات المغربية من دخول أسواق جديدة، وتوسيع نطاق أعمالها؛ مما يقوّي مكانتها الإقليمية والدولية.[30]

كما أن المغرب يعمل على نقل خبراته في مجالات، مثل الزراعة والطاقة المتجددة؛ مما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي والطاقي في إفريقيا. ولا شك في أن هذه الشراكات تسهم في تعزيز قدرة الدول الإفريقية على تحقيق التنمية المستدامة، وفي استقرار المنطقة أمنيّا، وهو ما يدعم البُعد الأمني، الذي يربطه المغرب دائمًا بالتنمية. وفي المجمل، يعكس مبدأ “رابح-رابح” رؤية المغرب لتحقيق تنمية متوازنة ومستدامة في إفريقيا؛ حيث يتم التركيز على تحقيق الفائدة المشتركة، وتعزيز التعاون “جنوب-جنوب”؛ مما يسهم في بناء شراكات قوية ومستدامة، تعزز الأمن والاستقرار في المنطقة.[31]

وإلى جانب قرار إلغاء الديون المستحقة على الدول الإفريقية الأقل نموًا، يساهم المغرب مساهمة فعالة في تنفيذ مجموعة من البرامج التنموية، التي تهدف إلى الحد من الفقر، وتعزيز التنمية المستدامة في القارة… وترمي هذه الجهود إلى توفير الدعم الإنساني والمشاريع التنموية، التي تُعنى بالبنية التحتية والتعليم والصحة؛ مما يسهم في تحسين مستوى المعيشة، وتقوية الاقتصادات المحلية.

ولا ريب في أن لهذه المبادرات أثرًا كبيرًا في تعزيز مكانة المغرب كفاعل نَشِط ومؤثر في إرساء السلام والأمن في إفريقيا. كما أن هذه الجهود تنسجمُ مع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي شهدتها المملكة خلال العُشرية الأخيرة؛ مما يعزز مكانتها كقطبٍ للاستقرار والتنمية في القارة بأكملها.

خاتمة:

في ظل التحديات الأمنية المعقدة التي تواجهها القارة الإفريقية، والعالم بأسره، برز التعاون الأمني المغربي كعامل محوري في تعزيز الأمن الجماعي والاستقرار بالمنطقة. ويُعزى ذلك إلى التزام المغرب العميق بالمشاركة الفعالة في مبادرات الأمن الإقليمي والدولي، مستنِدًا إلى تبني مقاربة شاملة، تجمع بين البُعدَيْن الأمني والتنموي.. هذا الالتزام لم يتوقف عند حدود التعاون الثنائي، بل شمل أيضًا التعاون متعدد الأطراف؛ مما أسهمَ في تعزيز استقرار العديد من المناطق، التي عانت من النزاعات والأزمات.

ومن خلال مشاركتها في عمليات حفظ السلام، ودورها في الوساطة بين عدد من الأطراف المتنازعة، وتبني استراتيجيات تنموية شاملة، نجحت المملكة في بلورة نموذج متكامل من التعاون الأمني، يعزز الأمن الجماعي، ويبرز إسهام المغرب في مكافحة التطرف، وتقديم الدعم الإنساني كجزءٍ من استراتيجيته الشاملة لتحقيق الاستقرار والتنمية في القارة الإفريقية.

وفي هذا السياق، تُظْهِر النتائج الرئيسة للجهود المغربية في مجال التعاون الأمني كيف أسهمت هذه الاستراتيجيات المتكاملة في تحقيق الأمن الجماعي، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وهو ما يؤدي إلى تسليط الضوء على فعالية النهج المغربي في مواجهة التحديات الأمنية، وإرساء قواعد السلام والتنمية المستدامة.

وفيما يأتي تلخيص أهمّ النتائج المتوصَّل إليها بشأن فعالية التعاون الأمني المغربي في تحقيق الأمن الجماعي:

  1. اتسم التعاون الأمني المغربي بالفعالية؛ من خلال التعاون الثنائي والتعاون متعدد الأطراف مع اتحادات ودول، وهو ما عزّز التنسيق ها هنا في مجال مواجهة التهديدات المشتركة.
  2. أسهمت البرامج التعليمية والتكوينية، التي أطلقها المغرب ونفّذها، في نشر قيم الوسطية والاعتدال، ومحاربة التطرف والعنف؛ مما عزز الأمن الجماعي من خلال تعزيز الاستقرار الفكري والثقافي في بعض بلدان القارة.
  3. استجاب المغرب لنداء الأزمات بإفريقيا؛ عبر تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية في أوقات الكوارث والحروب؛ مما عزز الثقة والتعاون بين الدول المعنية، وساعد على تحقيق الأمن الجماعي إلى حدّ كبير.
  4. لعب المغرب دوراً محوريّاً في بناء نظام أمني جماعي في منطقة المغرب الكبير وإفريقيا؛ بحيث أسهمت مشاركاته في التحالفات الدولية والمبادرات الإقليمية في تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة.

لقد أظهرت نتائج دراسة مدى فعالية التعاون الأمني المغربي في مجال تحقيق الأمن الجماعي أهمية مواصلة الجهود المبذولة، وتطويرها على كافة الصُّعُد. كما أكدت أن التعاون الأمني الحالي قد أسهم فعلا في تعزيز الاستقرار الإقليمي، إلا أن هناك مجالات أخرى تحتاج إلى تحسينٍ وتطويرٍ لمجابَهَة التحديات المستقبلية بفعالية أكبر.


والتوصيات الآتية تأتي بناءً على هذه النتائج؛ لتعزيز سبل التعاون الأمني المغربي، وتقوية أثره في تحقيق الأمن الجماعي؛ فهي تركز على تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول الإفريقية الكبرى والدول الشريكة، وتطوير القدرات الأمنية والبنية التحتية اللازمة لمواجهة التهديدات المتطورة. كما تشمل التوصيات دعم الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ من خلال مشاريع تنموية، وتعزيز الحوار السياسي؛ مما يسهم في تقليل عوامل النزاع والتطرف. ويمكن إجمال توصيات الدراسة في الآتي:

– تعزيز التعاون الإقليمي والدولي:

  • تطوير شراكات استراتيجية؛ من خلال توسيع التعاون مع الدول الإفريقية المجاورة والدول الكبرى، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع الاتحادات والمنظمات الدولية، وفي مقدمتها الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
  • تنسيق الجهود مع الشركاء الإقليميين؛ عن طريق تقوية التنسيق مع الدول المعنية في منطقة الساحل والصحراء لتبادل المعلومات والخبرات، وبناء استراتيجيات مشتركة لمواجهة التهديدات المشتركة.

– تعزيز القدرات الأمنية والبنية التحتية:

  • تحديث المعِدّات والتدريب؛ عن طريق الاستثمار في مجال تدريب فرق الأمن وتأهيلها، وتوفير التجهيزات الحديثة لمواجهة التحديات الأمنية المتطورة؛ مثل الإرهاب، والجريمة المنظمة.
  • تحسين البنية التحتية؛ عن طريق دعم تطوير البنية التحتية الأمنية في المناطق الحساسة؛ مثل الحدود البحرية والبرية لتعزيز الرقابة، ومنع التهريب والهجرة غير الشرعية.

– دعم الاستقرار الاجتماعي والسياسي :

  • تشجيع مبادرات التنمية المستدامة، وذلك عن طريق تنفيذ مشاريع تنموية في المناطق المتأثرة بالنزاعات؛ لتقليل معدلات الفقر، وتعزيز الاستقرار، وهو ما مِنْ شأنه أن يساعد على تقليل عوامل النزاع والتطرف.
  • تعزيز الحوار السياسي؛ عبر دعم مبادرات الحوار والمصالحة الوطنية في البلدان المتأثرة بالنزاع، بما في ذلك العمل كوسيط محايد في عمليات السلام.

– تعزيز التبادل المعلوماتي والتعاون الاستخباراتي:

  • إنشاء مراكز لتبادل المعلومات؛ أي: إقامة مراكز تبادل معلومات استخباراتية مشتركة مع الدول الشريكة؛ لتقوية سبل التنسيق، وتبادل المعلومات الحيوية بشأن التهديدات الأمنية.
  • تعزيز الأمن السيبراني؛ وذلك من خلال الاستثمار في تحسين القدرات السيبرانية لمواجهة التهديدات الإلكترونية، وحماية المعلومات والأنظمة الأمنية من الهجمات الرقمية المحتملة.

– تعزيز جهود مكافحة التطرف:

  • تنفيذ برامج توعوية في مجال مكافحة التطرف، تتوخى التصدي للإيديولوجيات المتطرفة، وتعزيز قيم التسامح والوسطية بين الشبان والمجتمعات المحلية.
  • تعزيز التعاون الديني والثقافي؛ عبرَ دعم المبادرات التي تعزز الحوار الثقافي والديني، بما في ذلك مشاريع تعليم الدين الإسلامي المعتدل، ونشره في المناطق المعرضة للتطرف والعنف.

– تطوير آليات التعاون الدولي في مكافحة الجريمة المنظمة:

  • تعزيز التعاون الأمني مع الدول والمنظمات الدولية في مجال مكافحة الجريمة المنظمة، والتهريب عبر الحدود.
  • تنظيم تدريبات مشتركة مع الدول الشريكة لمكافحة الجريمة المنظمة، وتحسين الاستجابة للحالات الطارئة.

فهذه التوصيات تشكل إطاراً متكاملاً، يهدف إلى تعزيز التعاون الأمني المغربي، وتطويره لضمان استجابة فعالة للتحديات الأمنية المستقبلية، وتحقيق أمنٍ واستقرارٍ طويل الأمد في المنطقة.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. Brauch, H.G. (2011). Concepts of Security Threats, Challenges, Vulnerabilities and Risks. In: et al. Coping with Global Environmental Change, Disasters and Security. Hexagon Series on Human and Environmental Security and Peace, vol 5. Springer, Berlin, P62 ↑
  2. HENRYK WYRĘBEK: NATIONAL SECURITY CHALLENGES AND THREATS, WIEDZA OBRONNA 2022, Vol. 279 No.2. ISSN: 2658-0829 (Online) 0209-0031 (Print) Journal homepage: http://wiedzaobronna.edu.pl DOI:


    https://doi.org/10.34752/2022-e279.

  3. عادل المطيري: أثر التهديدات التقليدية على أمن مجلس التعاون الخليجي، جامعة آل بيت، الأردن، 2017، ص45.

  4. سليمان عبد الله الحربي: “مفهوم الأمن: مستوياته وصيغه وتهديداته”، مجلة “المستقبل العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ع.19، 2008، ص28.

  5. سليمان عبد الله الحربي: “مفهوم الأمن: مستوياته وصيغه وتهديداته”، مجلة “المستقبل العربي”، ص45.

  6. أحمد فريحة: الأمن والتهديدات الأمنية في عالم ما بعد الحرب الباردة، دفاتر السياسية والقانون، ع.14، 2016، ص162.

  7. الأمم المتحدة: “منع نشوب الصراعات: أكثر الوسائل فعالية في الحد من المعاناة الإنسانية”، يُنظَر الرابط الآتي: https://www.un.org/ar/globalceasefire/conflict-prevention

  8. نفســه.

  9. نفســه.

  10. نفســه.

  11. الدستور المغربي لسنة 2011، من الديباجة.

  12. المصدر نفسه.

  13. الوساطة واحدة من أكثر الوسائل البديلة لفض المنازعات استخداما في جميع أنحاء العالم؛ لكونها توفر حلولا أسرع وأكثر وأفضل مما قد توفره الوسائل التقليدية في هذا الإطار. ينظر: مجموعة البنك الدولي: “سلسلة الوساطة: أساسيات الوساطة”، مؤسسة التمويل الدولية، 2016. تاريخ النشر: 2021. يُنظَر الموقع الإلكتروني: org.ifc.w، ص iv.

  14. نفســه، ص2.

  15. نفســه، ص2 وما بعدها.

  16. نفســه، ص3.

  17. عبد الأمير عبد الحسن إبراهيم: تحول القوة في السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب الباردة، دار سطور للنشر والتوزيع، ط.1، 2019، ص124.

  18. سمية أوشن: دور المجتمع المدني في بناء الأمن الهوياتي في العالم العربي -دراسة حالة الجزائر)، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، تخصص “سياسات عامة وحكومات مقارنة”، جامعة الحاج لخضر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، الموسم الجامعي: 2009/2010، ص57.

  19. المرجع نفسه، ص57 وما بعدها.

  20. by EL MOUSSAOUI EL AJLAOUI: SECURITY CHALLENGES AND ISSUES IN THE SAHELO-SAHARAN REGION THE MOROCCO PERSPECTIVE, SECURITY CHALLENGES AND ISSUES IN THE SAHELO – SAHARAN REGION, site: https://library.fes.de/pdf-files/bueros/fes-pscc/14022.pdf

  21. Ibid.

  22. Ibid.

  23. كريمة لهلالي: التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي، المركز المغاربي للإعلام والديمقراطية، تاريخ النشر: 12 يوليوز 2017. رابط النشر: http://www.mcmd.ma/news.php?extend.79.9

  24. كريمة لهلالي: التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي، المركز المغاربي للإعلام والديمقراطية، تاريخ النشر: 12 يوليوز 2017. رابط النشر: http://www.mcmd.ma/news.php?extend.79.9.

  25. المرجع نفسه.

  26. عبد اللطيف أبو القاسم: المغرب وإفريقيا.. حضور وازن للمملكة في مجال إرساء السلم والأمن على مستوى القارة، وكالة المغرب العربي للأنباء. تاريخ النشر: الإثنين: 17 فبراير 2014. رابط المقال: https://www.mapexpress.ma/ar/actualite/

  27. عبد اللطيف أبو القاسم: المغرب وإفريقيا.

  28. نفــسه.

  29. عبد اللطيف أبو القاسم: المغرب وإفريقيا.

  30. عبد اللطيف أبو القاسم: المغرب وإفريقيا.

  31. نفــسه.

Scroll to Top