في المشترك بين التداوليات والقانون
باحث في التداوليات القانونية وتحليل الخطاب
المغرب
ملخص
اقتحمت اللسانيات بأدواتها الإجرائية، دون تردُّد، مختلِف الحقول المعرفية؛ من أدب وسياسة وتاريخ ورياضيات ومنطق وفلسفة وعلم نفس وعلم اجتماع وقانون... ولعلَّ مَردَّ هذه الجرأة، في سَبْر أغوار هذه الحقول، راجع إلى موضوع اللغة، بوصفها الأداة الوحيدة التي تتقاسمها جميع العلوم؛ فكانت اللغة، بذلك، المِعوَل الناجع الذي نجري بواسطته تفكيك النصوص وتحليلها. كما كانت اللغة - وما زالت - الموضوع الذي تجرى عليه الأبحاث والدراسات؛ فلولا كونُها ذلك القاسِم المشترَك بين جميع الحقول والعلوم، لَما فكّرْنا في الوصل بين حقلين معرفيَّيْن متبايِنَيْن، وهما علم اللسانيات - وتحديدا التداوليات -، وحقل القانون. وعليه، فإن هذا المقال يتعقب بعض التقاطُعات المشتركة بين حقلَيِ التداوليات والقانون.
Linguistics with their procedural tools - without hesitation - stormed the various fields of knowledge; From literature, politics, history, mathematics, logic, philosophy, psychology, sociology, law... Perhaps the source of this audacity, in the vicinity of these fields, is the subject of language, as the only instrument shared by all sciences; Language was, by doing so, the effective reliance by which we dismantle and analyse texts. The language was - and continues to be - the subject of research and studies; If it were not the common denominator of all fields and sciences, we would not have thought of linking two different fields of knowledge, linguistics - namely pragmatics - and the field of law. Thus, this research follows some intersections between the field of pragmatics and the field of law.
كلمات مفتاحية: التداوليات - القانون - الخطاب القانوني - القاعدة القانونية - المشرِّع
Keywords : Pragmatics, law, legal discourse, legal rule, legislator
من المسائل، التي خمد حولها النقاش، مسألة اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى، إذ الجميع يأخذ بهذا الوصف. كما أنه – بشكل مواز للظاهرة الأولى – لم يعد يطرح خلاف أو جدال حول القانون؛ لكونه أيضا ظاهرة اجتماعية؛ بحيث لا يمكننا تصور مجتمع دون قانون، كما لا يمكننا قبول كلام عن القانون دون أن نستحضر على عجل المجتمع. ومن ثم، لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر، وهو الأمر الذي لا يختلف كذلك بشأن اللغة؛ إذ إن حضورها أو وجودها رهين بوجود فردين من المجتمع -على الأقل-، يشتركان في عنصر اللغة، ويتحدثانها، ويفهمان بعضهما بعضا لدى التواصل أو المحادثة. واستمرارية المجتمع مرتبطة أساسا باستمرار اللغة، بل إن تفاعله وتطوره جوهره اللغة.
إنّ اللغة، حسب ابن جني (ت 392ه)، “أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”[1]. فالملاحظ، من هذا التعريف، أنه تضمّن مبادئ لسانية تداولية؛ إذ اللغة أولا “أصوات”، ثم هي ثانيا “تعبير”، وهي ثالثا تحتاج إلى “متكلّم ومخاطَب”، وهي رابعا ذات “مقاصد وأغراض”، وهي خامسا “خاصة بكل قوم”. وجميع هذه العناصر جوهرية يستحضرها المتكلّم في كل عملية تواصلية، يقصد من ورائها إجراء تفاعل بينه وبين طرف ثان، يكون بمثابة مستقبِل لخطابه، وينتظر المخاطِب من متلقيه أن يكون على أتم الاستعداد لاستقبال هذا الخطاب؛ من أجل فهم محتواه، وتأويله للوصول إلى قصد المتكلم. وعند بلوغ هذه الغاية، يتحقق الهدف الأساس من مقول المتكلم، وهو توجيه مخاطَبه، وذلك لأحد هذه الأغراض: نهي، منع، نفي، إلزام، إخبار… أو غيرها من الأغراض التي يقصد المتكلّم إنجازها لغويا.
وإذا كان الأمر يتم من خلال اللغة الطبيعية، فإن ذلك ممكن أيضا بالنسبة إلى اللغة الاصطناعية، ونقصد هنا – بطبيعة الحال – اللغة القانونية. فجميع المتدخلّين في القانون (المشرّع، المحامي، القاضي، وكيل النّيابة…) يشتغلون باللغة. وما القانون، في بداية الأمر ونهايته، إلا لغة؛ فعمل كل طرف من الأطراف السالفة متوقّف على اللغة، وإن كانت هذه الأخيرة لها جانب من الخصوصية التي تتفرد بها عن غيرها. والتداوليات – كما هو معلوم – تُعنى بدراسة اللغة في سياق الاستعمال داخل مقامات تخاطُبية متباينة، وبما أن الخطاب القانوني/ القاعدة القانونية يصاغ باللغة، فلا شكّ في أن هذه القواعد محكومة بضوابط لغوية، تسهم بشكل أساس، في تيسير فهمها من لدن المتلقي/ المجتمع. كما أن تنفيذ هذا الخطاب، الفريد من نوعه، لا يتم إلا باللغة. ولتحقيق هاتين الخاصيتين الجوهريتين [الفهم والتنفيذ]، لا بدّ من مخاطبة ذلك المجتمع بلغته، التي يفهمها ويتواصل بها. وبعبارة أخرى، يجب مخاطبة أفراد المجتمع بلغة مفهومة، لا غموض ولا لَبْس يعتريها، كما يجب أن تكون خاضعة لقواعد وضوابط (نحوية، ودلالية) يؤطرها العلم الذي يدرس اللغة، وهو اللسانيات[2] البنيوية، والعلم الذي يُعنى بالاستعمال، وهو التداوليات.
إن العملية التداولية في الخطاب بشكل عام، وفي الخطاب القانوني بشكل خاص، متوقفة على عناصر مشتركة بين مختلف الأنماط التواصلية/ الخطابية، غير أنها تتباين من حيث مبدأ خصوصية كل نمط خطابي على حدة، وهو ما سنوضّحه في الشكل الآتي:
ويمكننا أن ندرج، أيضا، فيما اصطلحنا عليه “المشترك بين التداوليات والقانون”، طبيعة لغة القانون. فهذه اللغة إنجازية بطبيعتها؛ لكونها تنجز وتنشئ آثارا، وتخلّف نتائج.. إنها تجسيد لعلاقة اللغة بالفعل، وهذا راجع إلى صلة القانون الوثيقة بالواقع، ومعناه بذلك، لا يتحقّق إلاّ إذا تحوّل إلى منجز فعلي. كما أنّ القانون لا يكتسب قيمته الفعلية إلا عند تطبيقه في الواقع، وأن سريانه في الواقع هو ما يحقق إنجازيته؛ بدءاً بفعل القول وانتهاءً بفعل التأثير بالقول[3]. وعندما يؤشر قاضي الأسرة على عقد نكاح بين شخصين (امرأة ورجل) تجمعهما رابطة زواج، فإن فعله هذا، يكون فعلاً قانونياً وفعلاً إنجازياً في الوقت نفسه. إذ العديد من الملفوظات الإنجازية هي – في الآن ذاته – أفعال قانونية؛ بمعنى أنها تُحْدِث، بموجب وجودها، نتائج وآثارا في عالم القانون؛ فالقانون بمجرّد أن يتجلى يفعل؛ أي: ينجزها من خلال الأفعال المضمّنة في القواعد القانونية. وإن نجاح الفعل رهين بوجود معيار، يكون – في الأساس – عبارة عن رسالة/ خطاب يجمع طرفي العملية التخاطبية، مرسلين (Émetteurs) ومستقبِلين (Destinataires)، الذين ينبغي لهم منحها نفس المعنى[4]. وبذلك، يكون القانون – قبل كل شيءٍ – نشاطا للتواصل؛ ذلك أنه، في معظم الوقت، يتواصل القانونيون [أي: رجال القانون بشكل عام] بالقانون بطريقة أو بأخرى.
ويتمظهر المستوى الأدائي في اللغة القانونية أيضا لدى التمييز في القانون بين القواعد الآمرة (Les règles impératives) والقواعد المؤوِّلة/ المكمّلة(Les règles interprétatives/supplétives) . فهذه القواعد كلها قواعد قالَبية، تتضمّن خطابا لغويا، يقوم المشرّع بسنّه؛ ومن ثم توجيهه إلى مجموع الأفراد لحثّهم على إنجاز عمل ما، أو الامتناع عن عمل ما لغوياً. كما أنها قواعد ترِد في صيغة إلزامية، تصل حدّ الإجبار، الذي تختص به السّلطة العامة في حق كلّ مخالف لأحكام القاعدة القانونية؛ فقيام هذه القاعدة يشترط أن تكون ملزمة، ذات جزاء، يجعلها واجبة الاتباع. وما دامت وظيفة القانون متوقّفة على إقرار النّظام في المجتمع، فإن إحلاله لا يتأتّى إلا بتدعيم القاعدة القانونية بجزاء يُوَقَّع على من يخالف أحكامها[5].
وعادة ما تتصدّر القاعدة القانونية أفعال إنجازية، تحوي أحكاما قانونية، دالّة على الجواز أو الوجوب أو الامتناع، ومن أبرز العبارات تداولا في هذا السياق: يجب، يمنع، يعتبر باطلا، يتعيّن، لا يجوز… فهذه الألفاظ وغيرها تندرج تحت ما يعرف بـ”المعيار اللفظي/ الشكلي”، الذي من خلاله نميّز القواعد الآمرة من القواعد المؤوِّلة. بيد أنه، نظرا لغموض طبيعة بعض القواعد القانونية (آمرة أم مكمّلة؟) يلزم البحث عن معيار ثان، يكمّل نقص المعيار السابق، ويصطلح عليه بـ”المعيار المعنوي/ الموضوعي”، الذي يبحث عن خصائصه خارج النص؛ أي خارج ألفاظه وعباراته، وذلك من خلال تبنّيه مفهومين اثنين هما: النظام العام والآداب العامة؛ بحيث إنه إذا ثبت أن لقاعدة قانونية ما صلة بأحد هذين المفهومين، أو بكليهما، فإنها تدخل في عداد القواعد القانونية الآمرة بناء على الاحتكام إلى المعيار اللفّظي، وإلا عُدَّت من القواعد المكمّلة/المؤوِّلة[6].
الإحالات:
أبو الفتح عثمان بن جنّي، الخصائص، تح: محمد علي النجار، تقديم: عبد الحكيم راضي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2006، 1/33. ↑
– حافظ إسماعيلي علوي، بين اللسانيات والقانون (مقال).
رابط المقال:https://units.imamu.edu.sa/rcentres/Arabic_Literatures/Documents/coArabiclanguage/8/تمت زيارة الموقع بتاريخ: 14/05/2023 في الساعة 21:50 ليلا. ↑
– حافظ إسماعيلي علوي، بين اللسانيات والقانون (مقال).رابط المقال:https://units.imamu.edu.sa/rcentres/Arabic_Literatures/Documents/coArabiclanguage/8/
تمت زيارة الموقع بتاريخ: 14/05/2023 في الساعة 21:50 ليلا. ↑
– B. Barraud, “La linguistique juridique”, In: La recherche juridique (les branches de la recherche juridique), L’Harmattan, coll. Logiques juridiques, 2016, P. 153-165. https://amu.hal.science/hal-01367747 ↑
– نجيم أهتوت، مدخل إلى العلوم القانونية (محاضرات)، مكتبة العمران، سلوان، ط 2019، ص 12. ↑
– نفسه، ص 79 وما بعدها. ↑