منظومة القيم في ظل العولمة الإعلامية
باحثة في اللسانيات
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
المغرب
ملخص
إن عالم اليوم مبني على الانفتاح والانعتاق من بوتقة الزمان والمكان، تتقارب فيه المسافات وتتقلص فيه الاختلافات الثقافية واللغوية والفكرية... وكما انفتحت السوق العالمية في ظل العولمة على مصراعيها، انفتحت الشعوب والحضارات المختلفة على بعضها البعض... هذا الانفتاح أرخى بظلاله على جميع مشارب الحياة من سياسة، وقيم، وحقوق، واهتمامات بيئية، وفنية، وإعلامية... ولأن لكل خطوة يخطوها الإنسان إيجابياتها وسلبياتها، فإنه من الضروري الوقوف عند تأثير العولمة على مجال الإعلام، هذا ما يسمى بالعولمة الإعلامية التي كانت نتيجة التطور الرقمي والتكنولوجي الذي عرفته البشرية، وكذا انعكاساتها على منظومة القيم الإنسانية والأمن الفكري للشعوب، والحلول المقترحة للتصدي لمدها وعواقبها الوخيمة.
The contemporary world is characterized by openness and emancipation from the confines of time and space, where distances shrink and cultural, linguistic, and intellectual differences diminish. Just as the global market has opened up under globalization, so too have divers peoples and civilizations connected with each other. This openness has cast its shadow on all aspects of life, from politics and values to rights, environmental concerns, art, and media. As with every step humans take, there are both positive and negative consequences. Therefore, it is essential to examine the impact of globalization on the field of media, a phenomenon known as media globalization. This paper explores the effects of media globalization, which emerged from the digital and technological advancements experienced by humanity, on the human value system, intellectual security of societies, and proposed solutions to counter its overwhelming tide and detrimental consequences.
كلمات مفتاحية: العولمة الإعلامية، القيم، الأمن الفكري، الإعلام.
Keywords : Media globalization, values, intellectual security, media.
تمهيد:
عرفت المجتمعات قفزات نوعية في مجال استعمال وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، هذه الوسائل جعلت العالم قرية صغيرة، يعرف فيها الداني أخبار القاصي، ويتقاسم معه مجريات وتفاصيل الأحداث التي يعيشها في آنها، يتفاعل معها، ويبدي رأيه فيها، بل أكثر من ذلك، قد يسهم في صنعها وابتداعها.
لقد كان من نتائج تزامن الثورة الاتصالية والتكنولوجية مع ظاهرة العولمة، ظهور إعلام منفتح لا تحده المسافات ولا يقيده اختلاف الثقافات واللغات، هدفه الوحيد هو تشارك الأخبار والمعلومات والنماذج الثقافية للشعوب، والتعريف بالأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلدان.
إن لهذه العولمة الإعلامية من المزايا بقدر ما لها من السلبيات، ففي الوقت الذي أصبح فيه العالم يحمل هما واحدا يتمثل في العيش المشترك وتقريب وجهات النظر ونبذ العنف والنزاعات والحروب. أصبحت تطفو على السطح ممارسات غريبة وثقافات وليدة عن هذا التقارب الإعلامي، وقيم نمطية تتبناها فئات عريضة من الأفراد رغم انتمائهم إلى ثقافات مختلفة.
هذا التوجه الفكري والثقافي الجديد هو ما سنحاول استجلاءه في هذا المقال الذي يهدف إلى محاولة فهم انعكاسات العولمة الإعلامية على منظومة القيم سواء بشكل إيجابي أم بشكل سلبي، ودورها في ظهور متغيرات في القيم الإنسانية وتشكيل أنساق جديدة تهدد الأمن الفكري للحضارات، مع تقديم بعض الحلول التي يمكن اعتمادها لمواجهة هذا المد الإعلامي المُعَوْلَم.
- فماهي أهم خصائص العولمة الإعلامية ومختلف تجلياتها؟
- كيف تؤثر العولمة الإعلامية في أنساق القيم؟
- ما هي المخاطر التي تشكلها على الأمن الفكري للحضارات؟
- ما هي الحلول المقترحة للتعامل مع تأثيرات العولمة الإعلامية؟
سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال محاور مركزة يقارب فيها المحور الأول إيجابيات العولمة الإعلامية وسلبياتها. في الوقت الذي يتعرض فيه المحور الثاني إلى انعكاسات عولمة الإعلام على منظومة القيم وعلى الأمن الفكري للحضارات. وأخيرا بعض الحلول المقترحة للتعامل مع هذا المد الإعلامي العالمي، لكن قبل ذلك وجب التوقف عند الشبكة المفاهيمية المتضمنة في معرض هذا المقال.
مفاهيم أساسية:
قبل الخوض في تحليل علاقة العولمة الإعلامية بمنظومة القيم والأمن الفكري، والنتائج المترتبة عن الإعلام العابر للقارات، نتوقف ابتداء عند المفاهيم الأساسية المشكلة لبنية المقال لتحديد معناها واستجلائها.
أولا: مفهوم الإعلام
الإعلام هو شكل من أشكال الاتصال الذي عرفته الحضارات منذ القدم، وهو يهدف إلى الإخبار والبيان والمشاركة بين مختلف شرائح المجتمع. وقد قدمت للإعلام عدة تعاريف من بينها تعريف “أوتجروت” الذي يرى أن الإعلام هو “التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت.”[1]
كما يعرفه محمد خضر بأنه”عملية يترتب عليها نشر الأخبار والمعلومات الدقيقة التي ترتكز على الصدق، والصراحة، ومخاطبة عقول الجماهير وعواطفهم السامية، والارتقاء بمستوى الرأي.”[2]
أما منال أبو الحسن فتقدم التعريف التالي للإعلام: “هو نشر الحقائق الثابتة الصحيحة، والأخبار والمعلومات السليمة الصادقة، والأفكار والآراء، والإسهام في تنوير الرأي العام، وتكوين الرأي الصائب لدى الجمهور.”[3]
استنادا على التعاريف سالفة الذكر، يمكن القول بأن الإعلام من المفترض هو صلة بين مصدر موثوق ينقل الأفكار والأخبار بشكل موضوعي وحيادي، إلى جمهور مهتم بتحصيل هذه المعرفة أو الخبر، والهدف من هذه العملية هو تكوين وعي جمعي إزاء مواضيع معينة، وتحقيق التواصل والتقارب الفكري، وتوجيه الآراء والارتقاء بها، وتحصيل الفائدة أو المتعة.
ثانيا: تعريف العولمة
ظهر هذا المفهوم في أوائل القرن العشرين، وشاع استخدامه فيما بعد تزامنا مع هيمنة الرأسمالية الأمريكية. وهو يأتي في مقابل كلمة: Mondialisation في اللغة الفرنسية، وGlobalisation في اللغة الإنجليزية، أما في اللغة العربية، فنجد له عدة مترادفات مثل: الشمولية، والكونية، والكوكبة.
يسوق إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي تعريفا للعولمة مفاده أنها “مصطلح انتشر في السنوات الأخيرة، فكرته الأساسية ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أو في انتقال رؤوس الأموال، أو في انتشار المعلومات والأفكار وسرعة تدفقها، أو في تأثرهم بقيم وعادات وتقاليد وقواعد غيرها من الأمم… فالعولمة ما هي إلا رسملة العالم، وتتم السيطرة عليه في ظل هيمنة دول المركز وسيادة النظام العالمي الواحد؛ وبالتالي إضعاف القوميات وإضعاف فكرة السيادة الوطنية وصياغة ثقافة عالمية واحدة تضمحل إلى جوارها الخصوصيات الثقافية، والنمط السائد حاليا هو العولمة الأمريكية بمعنى أمركة العالم وسيادة الإيديولوجيا الأمريكية على غيرها من الأيديولوجيات.”[4]
نستشف من هذا التعريف أن العولمة تحيل على شمولية وكونية السلع ورؤوس الأموال والثقافات والقيم والأفكار، وبالتالي جعل العالم محكوما بأيدولوجية القوة المهيمنة اقتصاديا، وهي القوة الأمريكية بالدرجة الأولى.
ذهب الجابري في نفس الاتجاه عند تعريفه للعولمة، حيث قال: “هي العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع، وهي أيضا أيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته، أي محاولة الولايات المتحدة إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية.”[5]
تحدث جلال أمين عن العناصر الأساسية في فكرة العولمة وهي “ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات أو في انتقال رؤوس الأموال أو في انتشار المعلومات والأفكار أو في تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم.”[6]
نستنتج من خلال هذه التعاريف أن العولمة هي انفتاح الشعوب بعضها على بعض، والسماح بتبادل المصالح الاقتصادية والسياسية بدرجة أولى، والثقافات والأفكار بدرجة ثانية، وهذا الانفتاح ينتج عنه بالضرورة هيمنة قوة على أخرى؛ لأن الغلبة دائما للأقوى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا؛ وبالتالي فنحن إزاء سيطرة أمريكية على العالم، وهيمنة نموذجها في مقابل ذوبان وانصهار الحضارات والثقافات الأضعف.
ثالثا: العولمة الإعلامية
يعتبر مجال الإعلام الأرضية الخصبة التي تأسست عليها فكرة العولمة، فتحرير السوق العالمية يسبقه بالضرورة تحرير الأفكار والمعتقدات، وهذا لم يكن ليتأتى لولا الترويج له وغرسه عبر مختلف القنوات والوسائل الإعلامية، الشيء الذي أفرغ الرسالة الإعلامية من هدفها السامي والنبيل في التثقيف ونقل الوقائع الصحيحة ونشر الوعي، وحولها إلى أداة بيد الفئات المسيطرة تستخدمها لصالحها، وتحرك بها عجلات الاقتصاد والسياسة والثقافة… وهو ما يعبر عنه الجابري بقوله إن العولمة الإعلامية هي “العملية التي تقوم من خلالها وسائل الاتصال الحديثة كالأقمار الصناعية والإنترنت بالترويج لثقافة محددة تسعى لفرض قيم وفكر واتجاهات وأذواق استهلاكية محددة.”[7] كما يعتبرها بعض المفكرين أنها “عملية تستهدف التسريع المتصاعد والمستمر في قدرات وسائل الإعلام على تجاوز الحدود بين الدول والتأثير في المتلقين الذين ينتمون إلى ثقافات متباينة وذلك بهدف توحيد أسواق العالم ودمجها من ناحية، وتحقيق مكاسب للأطراف المهيمنة على صناعة الإعلام والاتصال من ناحية ثانية وهي الدول الغربية المتطورة بالأساس.[8]
هكذا نتبين من أن العولمة الإعلامية هي عبارة عن إعلام عابر للقارات، يسعى إلى نشر ثقافة وإيديولوجية واحدة، لا تحترم خصوصيات الثقافات المحلية، لأن الثقافة القوية تمحي وتهيمن على الثقافات الصغيرة أو غير المتطورة في مقابل نشر ثقافة وأفكار الحضارات المتطورة تقنيا وتكنولوجيا واقتصاديا… وذلك عبر تجنيد الوسائل الإعلامية المختلفة لخدمة أجنداتها. ومن بين هذه الوسائل نجد بالدرجة الأولى شبكة الإنترنيت، التي أحدثت ثورة في مجال الاتصالات، حيث استطاعت شبكة الإنترنيت أن تحتل مساحة واسعة من اهتمام الدول والأفراد، وحيزا كبيرا من تفكيرهم على امتداد العالم، بل وتغيرت جميع العمليات الإدارية، والخدماتية، والتواصلية، والإعلامية.. لتصبح مرتبطة بهذه الشبكة العنكبوتية. وثانيا نجد البث التلفزيوني الذي غزا بأفكاره وقيمه وتوجهاته جميع البيوت، ليصبح هذا الجهاز جزء لا يتجزأ من حياة الأفراد والجماعات، وصلة الوصل بين الثقافات والشعوب. وهنا لابد من الإشارة إلى هيمنة الشركات الأمريكية على هذا القطاع وسيطرتها على المحتوى المقدم وتوجيه مضامينه سواء في الأخبار والاتصال أو الترفيه وبرامج الأطفال… نظرا لأن كبريات الشركات الإعلامية تعود إليها، ومن بين هذه الشركات نجد: وارنر ميديا Warner Media وديزني Disney ونيوز كوربوريشن News Corporation
مفهوم القيم والأمن الفكري:
تتعدد التعاريف التي أعطيت لمفهوم القيم تبعا للزاوية التي يتم تناول هذا المفهوم من خلالها، نفسية أو اجتماعية أو دينية، ولكنها جميعا تتفق على كون القيم تحيل إلى المعايير التي نحكم بها على الأشياء بالقبول أو الرفض، وهي أيضا كل ما يجعل الشيء مرغوبا في ذاته؛ أي أنه يمتلك قيمة، وهذه القيمة تكتسب من خلال التفاعل مع الثقافة التي نشأ الشخص فيها.
يعرف عبد اللطيف محمد خليل القيم في كتابه “ارتقاء القيم” بأنها “عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد بالتفضيل أو عدم التفضيل للموضوعات أو الأشياء، وذلك في ضوء تقييمه أو تقديره لهذه الموضوعات أو الأشياء، وتتم هذه العملية من خلال التفاعل بين الفرد بمعارفه وخبراته وبين ممثلي الإطار الحضاري الذي يعيش فيه، ويكتسب من خلاله هذه الخبرات والمعارف”.[9] أما أنتوني غيدنز Anthony Giddens فيحددها بأنها الأفكار المجردة، “تضفي معنى محددا، وتعطي مؤشرات إرشادية لتوجيه تفاعل البشر مع العالم الاجتماعي.”[10]
تجدر الإشارة إلى أن القيم ليست مجموعة من الثوابت التي ترسم معايير لتقييم الأفعال والأقوال والحكم عليها، بل هي متغيرة تتحرك مع الزمن وفق معايير خاصة تواكب حركة التطور، وما يكتسب قيمة الآن لا يعني أبدا أنه سيحتفظ بها مستقبلا. وهو ما يشير إليه المفكر المغربي المهدي المنجرة بقوله “إن القيم تتحرك على سلم زمني مختلف تماما عما نعيشه في حياتنا اليومية.”[11] وهكذا نفهم أن الإنسان في سبيل الارتقاء إلى الأحسن، له القدرة على تمثل قيم ومعايير قد تناقض تماما القيم التي درج عليها. وهنا تكمن أهمية التنشئة الاجتماعية ودور باقي المتدخلين فيها من جماعة الأقران والمؤسسات التعليمية والإعلام في توجيه الفرد وتهذيب سلوكاته وبناء نسق من القيم، يجابه به القيم والثقافات الدخيلة فيما يطلق عليه بـ “الأمن الفكري”، والذي يعرف بأنه “صيانة وحماية فكر أبناء المجتمع وثقافتهم وقيمهم وكل شأنهم من أي فكر منحرف، أو دخيل، أو وافد، أو مستورد لا يتفق (انغلاقا أو انفتاحا) مع الثوابت والمنطلقات الرئيسية والأصيلة للمجتمع.”[12] ومن زاوية أخرى يوصف “الأمن الفكري بأنه عيش “الناس في بلدانهم وأوطانهم وبـين مجتمعاتهم، آمنين مطمئنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية، ومنظومتهم الفكرية.”[13] ففي غياب الأمن الفكري سيكون “هناك خلل في الأمن في جميع أنواعه؛ لأنه هو الأسـاس لكل أنواع الأمن الأخرى، وفي تحقيقه مدخل حقيقي للإبداع والتطور، والنمو لحضـارة المجتمع وثقافته، ويحقق حماية للمجتمع عامة، وللشباب خاصة، ووقاية لهم مما يرد عليهم من أفكار دخيلة هدامة.”[14]
المحور الأول: سلبيات وإيجابيات العولمة الإعلامية
لقد تعدد ت الآراء والمواقف حول الآثار التي خلفتها عولمة الإعلام على الفرد والمجتمع، فهناك من يعدد مزاياها وآثارها الإيجابية، وهناك من يرى أن هذا الإعلام المعولم لم يخدم غير أجندات جهات بعينها، وأنه سلاح مدمر ينضاف إلى باقي الأسلحة التي تمتلكها الدول المتقدمة. وفيما يلي عرض مركز للموقفين معا:
أولا: إيجابيات عولمة الإعلام
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى تعداد مزايا وإيجابيات عولمة الإعلام، حيث يعتبرونه إعلاما تفاعليا ومفتوحا يضمن المشاركة الواسعة للجميع، ويقارب المسافات والآراء بين الأفراد على اختلاف أعراقهم وجنسياتهم ولغاتهم ومعتقداتهم، كما أصبح المتلقي الذي كان في السابق وعاء يتشرب كل ما يصله من الإعلام الرسمي الوحيد، أصبح في ظل التطور التقني والشبكة العنكبوتية مشاركا وفاعلا ومقررا في صناعة الأحداث والتعبير عن الرأي وصناعته وتوجيه الرأي العام محليا ووطنيا وعالميا. فنحن “ننتقل دون أن ندرك من عالم سيطرت فيه العزلة الثقافية إلى عالم آخر يسوده التبادل الثقافي، من عالم يتميز بالاستقلالية الثقافية لجماعات معزولة تقليدية إلى عالم آخر هو عالم يسوده تعميم العلاقات المتبادلة والتواصل.”[15]
وفيما يلي بعض النقاط الإيجابية التي نتجت عن انفتاح الإعلام العالمي:
– تعرف الشعوب على حياة وثقافة ومستويات تطور الشعوب الأخرى، وما وصلته من تقدم في المجال العلمي أو الاقتصادي أو السياسي مقارنة مع التخلف والأمية والفقر الذي تعاني منه بعض الدول؛
– نقل العالم إلى مرحلة جديدة متطورة في الاتصال وتشارك المعلومات دون قيود أو حدود نسبيا، حيث أصبح كل فرد مسؤولا عن إيصال صوته للآخر، وقام بعمل المرسل وصانع المحتوى بعد أن كان متلقيا سلبيا لما تبثه وسائل الإعلام الرسمية؛
– الكشف عن الممارسات التي عرفتها بعض المجتمعات المنعزلة التي عانت من القهر أو التطهير العرقي أو التجويع، وإظهار هذه السلوكيات في سبيل القطع معها، ومد يد المساعدة إلى المتضررين منها؛
– تقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية بين الأشخاص من مختلف بقاع العالم، والفضل في ذلك يرجع إلى عولمة الإعلام بدرجة أولى، هذا الانفتاح محى صورة الغريب أو الدخيل من أذهان الناس، وجعلهم أكثر قدرة على التسامح والتعايش الثقافي وتقبل اختلاف الآخر؛
- مساهمة العولمة الإعلامية في الانفتاح الاقتصادي للدول على بعضها البعض عبر التسويق للمنتجات، وإيجاد أسواق جديدة تحتضن السلع، مما يسهم في تنشيط التبادل التجاري وما يرافقه من الرفع من الإنتاجية والحاجة إلى الأيادي العاملة ومحاربة الفقر والهشاشة.
ثانيا: سلبيات عولمة الإعلام
صحيح أن العولمة الإعلامية لها يد أساسية في الانفتاح الاقتصادي والثقافي للشعوب على بعضها البعض، ولكن ذلك لا يعني أن هذا المكسب تحقق لدى الجميع، وذلك راجع للأسباب التالية:
أولا: الهيمنة الأمريكية على الإعلام الدولي.
ثانيا: سيطرة الشركات العملاقة على الإعلام الدولي.
ثالثا: عولمة الإعلام لا توفر حرية التبادل الثقافي.
رابعا: تقلص دور الدول – وخاصة الدول النامية في شغل فضائها الإعلامي وحمايته من محاولة الاختراق نظرا لضعف هياكلها التمويلية والفنية.
خامسا: إشكالية التخمة المعلوماتية. [16]
يتضح إذن، أن الإعلام أداة بيد الدول الكبرى خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبالتالي فهي تعمل على توجيهه لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية ولو على حساب الشعوب الأخرى، إذ “تعد صناعة الإعلام وتكنولوجياته في الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى نشاطا صناعيا جديدا يسمى بصناعة الرأي العام أو تشكيل اتجاهات الجماهير أو صياغة الفكر، وكل ذلك يتم في إطار الترفيه الذي يعد الطابع العام للإعلام في تلك الدول.” [17]
فيما يلي بعض النتائج السلبية للعولمة الإعلامية:
– تقليد الثقافات المستوردة، حيث تؤدي العولمة الإعلامية إلى تشجيع البلدان على تقليد الثقافات الغربية، وذلك عن طريق تلقي المعلومات والتوجيهات من الإعلام؛
– تهديد الازدواجية الثقافية وطمس هوية الشعوب المتخلفة، وتوجيهها والتحكم فيها بسبب احتكار مؤسسات الإعلام، مما يحرمها من حقها في استخدام تكنولوجيا الاتصال لتأكيد هويتها الثقافية، وحضورها كثقافة محلية أصيلة وعريقة؛
– النزاعات الثقافية، فالعولمة الإعلامية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التوترات الثقافية والترويج للعنصرية الثقافية عن طريق التقليل من ثقافات معينة والإعلاء من شأن أخرى. أو المساهمة في اندماج الثقافات بطريقة غير متوازنة، مما ينتج عنه ثقافة وليدة هجينة؛
– تسويق اللهجات العامية على حساب اللغات الوطنية، بل أكثر من ذلك، إضعاف اللغة الأم أو اللغة الوطنية لصالح اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة الحضارة المسيطرة اقتصاديا، وسياسيا، وإعلاميا، وعسكريا؛
– قطع الصلة بالتراث الثقافي مقابل تعزيز مفهوم الثقافة الكونية الواحدة والتراث العالمي الموحد؛
– الترويج للثقافة الاستهلاكية وجعل الفرد أداة تجارية مستهلكة غير منتجة، وهو ما أصبحنا نلمسه أكثر وأكثر في الإشهار والإعلانات وما يروج له “المؤثرون” عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛
التعتيم على بعض الأخبار المهمة؛ كالتطهير العرقي والمجازر التي عرفتها بعض المناطق، أو التجارب النووية التي تقوم بها الدول الغربية على أرض غير أرضها؛
– تنميط الذوق وتكريس نوع معين من الثقافة تتسم بالسطحية والإثارة؛
فقدان السيطرة على تدفق الأخبار والمعلومات عبرة وسائل التكنولوجيا الحديثة.
وهكذا يمكن القول أن الوعي بالآثار المترتبة عن وسائل الإعلام، جعل من هذا القطاع صناعة أساسية تدخل ضمن أولويات الدول المتقدمة، تحركه وفق سياساتها وأهوائها، وتخدم به أجنداتها وخططها، “فآلة الاعلام لا تقل أهمية وخطورة عن الآلة الحربية، في أهدافها الإستراتيجية، ولكنها قد تكون إحدى أدوات الاستراتيجيات العسكرية.”[18]
ثانيا: منظومة القيم والأمن الفكري في ظل عولمة الإعلام
يحوز مجال القيم والأمن الفكري اهتمامات الأمم بدرجة كبرى، لأنه يمس حياتها ومعتقداتها واستقرارها وأمنها، كما يمس خصائصها الدينية، والتاريخية، والقومية، والسياسية، خاصة في ظل عولمة الإعلام، وانتقال الإنسان من مرحلة الثقافة المحلية والوطنية إلى مرحلة الثقافة العالمية، فبعد أن كانت الناشئة تتشرب قيمها ومعارفها وثقافتها من قنوات شرعية تقليدية كالأسرة والمدرسة والإعلام الوطني، أصبحت تنهلها من شبكة إعلامية ووسائط رقمية عالمية تنشر ثقافتها الغربية في قوالب تسلب الألباب، وتهدم في طريقها كل القيم المحلية والوطنية في مقابل نشر قيم وثقافة نمطية عالمية، بمعنى أن العولمة الإعلامية ما هي إلا عنف رمزي تمارسه الدول المهيمنة اقتصاديا وسياسيا على باقي الدول الأخرى، وما يرافقه من قهر للثقافات الأصيلة وتغييرات في السلوكات والقيم والتوجهات، “حيث إن لوسائل الإعلام تأثيرا كبيرا على المعرفة الاجتماعية والسلوك، وبالتالي على ترتيب القيم والاتجاهات والأفعال المرتبطة بها.”[19]
وهكذا نجد أن العولمة الإعلامية تعمل على:
– تهديد السلام العالمي: حيث يؤدي الانفتاح المتزايد بين الثقافات إلى دخولها في صراعات عالمية، كما يسهم في هيمنة قيم الحضارات القوية والمهيمنة اقتصاديا وعسكريا على ثقافات وقيم الشعوب النامية. وهو ما يعبر عنه صمويل هنتنغتون Samuel Huntington بشكل صريح في كتابه صراع الحضارات بقوله إنه “في هذا العالم الجديد لن تكون الصراعات المهمة والملحة والخطيرة بين الطبقات الاجتماعية، أو بين الغني والفقير أو بين جماعات أخرى محددة اقتصاديا، الصراعات ستكون بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة.”[20]؛
– تكريس قيم دخيلة تتجلى في العنف والانحلال الأخلاقي والجنس وإشاعة الفاحشة والإباحية والمثلية ضد جميع القيم الدينية ومقومات الأخلاق الإنسانية، وخاصة لدى فئة المراهقين والشباب؛
– إحداث شرخ قيمي وفكري بين الأجيال نتيجة تبني قيم وأفكار دخيلة على المجتمع، الشيء الذي يتسبب في تباعد الرؤى والصراع بين الأجيال السابقة واللاحقة التي لا تتشارك نفس وجهات النظر، ونفس الميول والمعتقدات، وبالتالي تهديد التماسك الاجتماعي للشعوب. وهو ما يؤكده عبد الرزاق الدليمي بقوله أن” تماسك المجتمع مبني على وحدة قيمه وانتشارها وتوافقها، وبدونها يعم الصراع والتناقض.”[21]؛
تصوير القيم الغربية باعتبارها المعيار الدي توزن به باقي القيم الإنسانية، ولذا يسعى الأفراد وخاصة فئة الشباب والمراهقين إلى تقليدها تحت شعار التمدن والتحضر والخروج من المعتاد؛
– الشعور بالاغتراب والعزلة الاجتماعية والتمرد على القيم، حيث أصبحت موجة الاغتراب وحالات فقدان الإحساس بسبب عولمة الثقافة والفكر تنمو وتتقوى في ظل تسارع نمو الفردانية في المجتمع المعاصر. وهو ما يعبر عنه خالد منصور بقوله:” لقد أصبح شبابنا يعيش حالة من العزلة والاغتراب والقنوط واليأس من عالمي المعاش، فلم يعد قادرا على التفكير والتخطيط في المستقبل، وإنما هدفه مرتبط بعالم خيالي ومثالي صورته له وسائل الإعلام والاتصال في مخياله، مما يؤدي به إلى الانعزال عن هذا المجتمع أو التمرد على قيمه وقوانينه.”[22]
بعد استعراض بعض الآثار التي تحدثها العولمة الإعلامية في البنى الاجتماعية والقيمية والثقافية للشعوب، نتوقف عند الحلول التي يمكن من خلالها تفادي كل ما يمكن أن يمس تماسكها الاجتماعي وأمنها الفكري، والعمل على تعزيز القيم الإيجابية، والحد من الآثار غير المرغوب فيها، والتي قد تكون سببا في ضياع واستغراب أجيال كاملة.
فيما يلي بعض الحلول والأفكار التي يمكن اعتمادها لمجابهة المد الإعلامي المعولم:
الحل الأول: التوظيف الأمثل للعولمة الإعلامية
يتأسس هذا الحل على فكرة مفادها أن سياسة المنع تؤول دائما إلى الفشل، وأن الثقافة لا تتطور بانغلاقها على ذاتها، وإنما بالتبادل الحر مع الثقافات الأخرى والتلاقح الثقافي على أساس الاحترام المتبادل، وبالتالي وجب إتاحة المجال أمام انفتاح الشعوب على بعضها البعض، وتعلم كيفية مجابهة القيم والأفكار التي لا تتناسب مع خلفيتها وطبيعتها وكل ما يهدد تماسكها الاجتماعي.
الحل الثاني: التصدي للعولمة الإعلامية
هذا الحل ينطلق من فكرة أن إفساح المجال أمام العولمة الإعلامية بحمولتها الثقافية والرمزية والفكرية، يعني فتح الباب على مصراعيه لتبني ثقافات غريبة أو هجينة والتطبيع معها، وهي قطعا لا تتماشى مع النمط السائد محليا، وهو ما سيؤدي إلى تصادمات وصراعات داخل البنى التي يتشكل منها المجتمع، كما وسيتسبب هذا الغزو في اضمحلال الثقافة المحلية وسيادة الثقافات الدخيلة، وخاصة في المجتمعات غير المتحضرة، أو النامية التي تحتفي بكل ما هو أجنبي ودخيل. وهو ما يشير إليه عبد الرزاق الدليمي بقوله:” ينبغي على تلك الشعوب وضع خطط واستراتيجيات للتصدي لهذا السلاح البارد والخطير الذي يجعل من التأثير على الرأي العام بشكل سلبي، وسيلة وغاية لتحقيق انتصاره عليه، فلا بد أن تقوم دول المواجهة باعتماد الخطط والاستراتيجيات الإعلامية للتخفيف من حجم تلك الأخطار المحدقة والمتربصة بها.”[23]
الحل الثالث: التوسط والاعتدال
هو حل ينبني على فكرة مفادها الاعتدال في التعامل مع الإعلام العالمي باعتبار أنه يعود بالعديد من المزايا على المجتمعات مثلما قد يؤثر عليها سلبا، فعولمة الإعلام سلاح ذو حدين، ولا بد من نشر الوعي بين أفراد المجتمع الواحد لتوجيه الإعلام في الاتجاه الصحيح، وتسخيره لخدمة قضاياه ومصالحه والدفاع عن قيمه الوطنية، في هذا الصدد يقول القرضاوي:” العولمة يبدو أنها قدر مفروض علينا، والهرب من ضغطها وحصارها غير ممكن، فلابد لنا أن نقف منها موقف الانتقاء، وأن نتعاون على تجنب سلبياتها، لتطوير أنفسنا وإمكاناتنا، وتجنيد طاقاتنا ومواجهتها مجتمعين لا منفردين. فيد الله مع الجماعة.”[24]
ختاما:
لا بد من الإشارة إلى أن أي تقدم ورقي في اتجاه المستقبل تستتبعه تغيرات كبيرة إن لم نقل تغييرات جذرية في حياة الإنسان ومصيره، وما العولمة الإعلامية إلا واحدة من مظاهر وأشكال تطور الإنسان، وانتقاله إلى مرحلة تواصلية عالمية، تساهم بدورها في تغيير الأفكار والرؤى والقيم و تشكيل أنماط سلوكية جديدة ومواقف واتجاهات هي وليدة التعرض المستمر لوسائل الإعلام، وليس هناك من سبيل لتعزيز السلوكات الجيدة والقيم الوطنية ورفض الدخيل منها مما لا يتناسب مع توجهات الشعوب إلا بالوعي بها، وتحسيس الأفراد والجماعات بالآثار المحتملة على هذه التقنيات الحديثة ودعم الإنتاج الثقافي المحلي والتسويق للقيم الأساسية للمجتمع.
الإحالات:
[1] – عبد اللطيف حمزة، الإعلام: تاريخه ومذاهبه، القاهرة: دار الفكر العربي،1965، ص23.
[2] – محمد خضر، مطالعات في الإعلان، مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، ط 1، 1987، ص13.
[3] – منال أبو الحسن، أساسيات علم الاجتماع الإعلامي النظريات والوظائف والتأثيرات، مصر: دار النشر الجامعية، ط1، 2006، ص 23.
[4] – اسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي. معجم مصطلحات عصر العولمة. (مصطلحات سياسية اقتصادية واجتماعية ونفسية وإعلامية)، قويسنا: 2024، ص 334-335. (كتاب إلكتروني يحمل قانونيا على الرابط: https://archive.org/details/20210716_20210716_2028)
[5] – محمد عابد الجابري، “العولمة والهوية الثقافية- عشر أطروحات،” المستقبل العربي، مج 20، ع 228، 1998، ص137.
[6] – جلال أمين، العولمة، القاهرة: دار الشروق، ط 1، 2009، ص17.
[7] – رائد أحمد البياتي وعبد الله حسين بطلان. “التأثيرات السلبية للعولمة الإعلامية على الهوية الثقافية للمجتمعات العربية،” مجلة كلية التربية جامعة الإسكندرية، المجلد السابع والعشرون. (ع الرابع، ج الثاني) 2017: ص 306.
[8] – البياتي وبطلان، م، س: ص 306.
[9] – عبد اللطيف محمد خليل، ارتقاء القيم دراسة نفسية، الكويت، سلسة عالم المعرفة، رقم 160، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أبريل 1992، ص 51.
[10] – أنتوني غيدنز، علم الاجتماع، تر. فايز الصياغ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2005، ص 82.
[11]– المهدي المنجرة، قيمة القيم، الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، ط4، 2008، ص1.
[12] – محمد شاكر سعيد وخالد الحرفش، مفاهيم أمنية، الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، ط 1، 2010، ص 15.
[13] – السديس عبد الرحمن، الأمن الفكري وأثر الشريعة الإسلامية في تعزيزه، الرياض: مدار الوطن للنشر، ط1، 2016، ص 29.
[14] – السديس، م. س، ص32.
[15] – جيرار لكلرك، العولمة الثقافية، الحضارات على المحك، تر. جورج كتورة، بيروت: دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط1، 2004، ص 23.
[16] – رضا عبد الواجد أمين، الإعلام والعولمة. دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2007، ص 146 – 149.
[17] – رحيمة الطيب عيساني، مدخل إلى الإعلام والاتصال، المفاهيم الأساسية والوظائف الجديدة في عصر العولمة الإعلامية، الأردن: دار عالم الكتب الحديث ودار جدارا للكتاب العالمي للنشر والتوزيع، ط 1، 2008، ص 214.
[18] – عبد الرزاق محمد الدليمي، مدخل إلى وسائل الإعلام الجديد، عَمان: دار المسيرة، ط 1، 2012، ص215.
[19] – الدليمي، م. س، ص 204.
[20] – صامويل هنتنغتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، تر. طلعت الشايب، بغداد: دار سطور الجدية، ط 2، 1999، ص 46.
[21] – الدليمي، م. س، ص 207.
[22] – خالد منصور، تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة واغتراب الشباب، العين: دار الكتاب الجامعي، ط1، 2016، ص 135.
[23] – الدليمي، م. س، ص 216.
[24] – يوسف القرضاوي، المسلمون والعولمة، ص3. كتاب إلكتروني تم تحميله من موقع القرضاوي على الرابط:
https://www.al-qaradawi.net/sites/default/files/pdf/28917-almoslimon-waelawlama.pdf.