التسويق العصبي: استراتيجية جديدة لتوجيه سلوك المستهلك

أستاذ التعليم العالي
أستاذ محاضر بالمدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بفاس
المغرب

ملخص

يعد علم التسويق العصبي من أحدث استراتيجيات التسويق الداعية إلى دراسة دماغ المستهلك، ومحاولة السيطرة عليه؛ لمعرفة ليس فقط بما يشعر به، أو يفكر فيه، أثناء عرض المنتج أمامه، بل والتنبؤ أيضا بقراراته الشرائية، وتحديد ميولاته وتفضيلاته المستقبلية. ويرى خبراء التسويق أن التسويق العصبي يمثل حلا ناجعا أمام الشركات العظمى؛ لتطوير علامتها التجارية، وإيصال ما ترغب فيه إلى المستهلك، لاسيما أن النتائج التي تحققها استراتيجيات التسويق التقليدية اليوم تبدو ضعيفة، ولا ترقى إلى المطلوب خصوصا عند مقارنتها بحجم النفقات المرصودة، ومستوى التطلعات المعقودة عليها.

Abstract

Neuromarketing science is one of the latest marketing strategies that calls for studying the consumer's brain and trying to control it. To know not only what he feels or thinks while displaying the product in front of him, but also to predict his purchasing decisions and determine his future tendencies and preferences. Marketing experts believe that Neuromarketing represents an effective solution for large companies. To develop its brand and deliver what it desires to the consumer, especially since the results achieved by traditional marketing strategies today appear weak and do not meet what is required, especially when compared to the volume of expenses allocated and the level of aspirations placed on them.

تقديم

 لطالما شكل سلوك المستهلك لغزا بالنسبة للمنتجين والمسوقين ووكلاء شركات الإعلانات خاصة، وذلك بسبب عجزهم عن فهم حقيقة هذا السلوك البشري المعقد الذي ظل ولسنوات طوال غامضا يصعب التكهن به، أ ومعرفة دوافعه، أو حتى رسم حدوده.  ولعل من التساؤلات التي أثارت حفيظة هؤلاء المتدخلين في العملية التسويقية ما يرتبط بكيفية اتخاذ المستهلك لقرار الشراء، وعلاقته بالسلعة أو المنتج أو الخدمة. ونورد من هذه التساؤلات ما يلي:

ما الذي يجعل المستهلك ينجذب إلى المنتج الفلاني؟ وما الذي يدفعه إلى تفضيل علامة تجارية ما، ووضعها على رأس قائمة اختياراته؟ هل فعل الشراء هو فعل إرادي، كما يظهر لنا، أم أنه محكوم بأنشطة عصبية هي التي توجه ردود أفعالنا السلوكية؟ كيف تساهم الخلايا العصبية في تعزيز الولاء للعلامة التجارية؟ وبمعنى آخر: هل نشتري الأشياء بعواطفنا أم أننا نحتكم إلى عقولنا؟ وما المناطق التي يستثيرها الدماغ عند اتخاذه لقرار الشراء؟

مبتعدا عن طرق التسويق التقليدية التي تدرس حالة السوق باللجوء إلى سؤال المستهلك عندما يكون في وعيه التام، يحاول التسويق العصبي أن يكشف عن رغبات الزبون وميولاته وتفضيلاته، باعتماد استراتيجية جديدة خارجة عن المألوف؛ وهي استراتيجية تنتقل من مخاطبة حواس المستهلك إلى محاولة السيطرة على دماغه باستثمار أجهزة الطب الحديث، فمن منظور علماء الأعصاب أن معظم السلوكات التي تصدر عن البشر هي سلوكات غير واعية تنبثق من دهاليز العقل الباطن، وسلوك المستهلك ليس بمعزل عن ذلك، إذ يخضع هو الآخر لسلطة هذا العقل. وعلى وجه التحديد، إنه يستجيب للتأثير الذي تمارسه السلعة على مناطق معينة من الدماغ، فكلما كانت السلعة أو العلامة التجارية مسجلة سلفا في الدماغ، زاد نشاط الخلايا العصبية المسؤولة عن فعل الشراء.

تعريف التسويق العصبي

يعد التسويق العصبي فرعا من فروع علم التسويق القائم على مخرجات البحث العلمي، وبالأخص ما انتهي إليه علم النفس وعلم الأعصاب وعلوم أخرى مجاورة مرتبطة بالتسويق، والملاحظ أنه رغم صلة علم التسويق الوثيقة بهذه العلوم فإن هدفه الأساس يظل هو التوصل إلى معرفة ما يجول في عقل المستهلك، بغية تحديد العوامل التي تتحكم في آليات الاختيار لديه، وتجعله يميل إلى انتقاء هذا المنتج دون غيره، أو اتخاذ هذا القرار دون سواه.

يعرف التسويق العصبي بأنه نهج تسويقي يسعى إلى السيطرة على دماغ المستهلك لمعرفة ليس فقط بما يفكر، أو يشعر به لحظة الانتشاء أو الرضا الوظيفي، بل التوصل أيضا إلى معرفة ماذا ينوي أن يفعله في المستقبل.[1] لقد أضحى بمقدور التسويق العصبي أن ينفذ مباشرة إلى أذهان المستهلكين، بفضل استعمال تكنولوجيات تصوير الدماغ، والتي تقوم بقياس الإشارات العصبية الصادرة عن أجزاء معينة من الدماغ، كما تقيس لنا أيضا تلك التفاعلات الفيسيولوجية المصاحبة والمتعلقة بحركة العينين، ودرجة حرارة الجسم، ومعدل ضربات القلب، واتساع بؤبؤ العين وغيرها. هذا كله من دون أن يعير أدنى اهتمام إلى المشاركة المعرفية- الواعية التي يبديها هؤلاء الأفراد. ويحرص التسويق العصبي على تزويد المعلنين بوسيلة أفضل لملاحظة الاستجابات العصبية للمستهلكين وفهمها على نحو أمثل، ومن ثم، معرفة ما الذي يحفز قراراتهم الشرائية.[2]

على هذا النحو نستطيع القول إن التسويق العصبي لم يعد يثق في الاستجابة الواعية التي يدلي بها العملاء عند استجوابهم، لأنه على قناعة تامة بأن هذه الاستجابة غالبا ما تأتي بنتائج غير مرضية، فقد يلجأ العميل أو المستهلك عند استفساره عن ر أيه بخصوص منتج أو خدمة ما، إما إلى المجاملة أو المخاتلة؛ وذلك لإخراج نفسه من وضعية الاستجواب التي قد تشكل بالنسبة له نوعا من الإحراج، أو يجد فيها فرصة للتباهي وربما تمرير المغالطات. ومن أجل تفادي ذلك كله، يتجه التسويق العصبي مباشرة إلى دماغ المستهلك لمعرفة ردود أفعاله الحقيقية عند رؤية المنتج، أو استشعاره، أو تذوقه، أو حتى القراءة عنه، مستثمرا في ذلك بطبيعة الحال ما توفره التكنولوجيات الحديثة من إمكانات هائلة لرصد مختلف أعضاء الجسم، والكشف عن حقيقة ما تخفيه المشاعر الباطنية. لقد توصل الباحثون في ميدان التسويق إلى أن الاستجابة التي يدلي بها مسبقا المستجوبون عند رؤية الإعلان، تكون غير دقيقة عند مقارنتها مباشرة بتلك العمليات الذهنية التي يتم تنشيطها داخل الدماغ طوال فترة المقابلة، وخصوصا ما يتعلق منها بعمليتي التذكر والإدراك.[3]

ينهض التسويق العصبي على مسلمة أن جزءا كبيرا من السلوك البشري، بما في ذلك سلوك المستهلك، يكون مدفوعا بعمليات غير واعية تقع في الدماغ، وهي عمليات من الصعب قياسها باستخدام تقنيات التسويق التقليدية مثل استطلاعات الرأي أو مجموعات التركيز (Focus groups). وفي المقابل، فإن التقنيات التي يعتمد عليها التسويق العصبي تسمح للباحثين بقياس استجابة الدماغ تجاه محفزات التسويق، بل وتمكنهم من الحصول على نظرة ثاقبة عن تلك العمليات.[4] ومن المتوقع أن تساعد هذه التقنيات الحديثة على تعزيز تأثير الإعلانات التجارية على عقول شرائح واسعة من الناس، والأكثر من ذلك أنها ستمد المعلنين بمعلومات هائلة حول رغبات المستهلك ونواياهم المضمرة.

ويرى البعض أن التسويق العصبي مشتق من علم الاقتصاد العصبي (Neuroeconomics)، وهو علم يؤلف بين عناصر علم الأعصاب والاقتصاد وعلم النفس، لاختبار الدور الذي يقوم به الدماغ أثناء إقدامه على اتخاذ خيارات تتعلق بالتسوق، وكيفية تحليل المكاسب والمخاطر المرتبطة بفعل الشراء. ووفقا للمجلة الدولية لعلم النفس الفسيولوجي فإن التسويق العصبي هو “تطبيق تقنيات علم الأعصاب لتحليل وفهم السلوكات البشرية ذات الصلة بمجال التسويق والمبادلات التسويقية”.[5]

يدرس التسويق العصبي، والذي يعرف أحيانا بعلم أعصاب المستهلك (Consumer Neuroscience) الدماغ للتنبؤ بسلوك المستهلك وقراراه الشرائي، وربما التلاعب به أيضا. إذ يقوم بقياس الإشارات الفيسيولوجية والعصبية للمستهلك، من أجل الحصول على معرفة دقيقة بخصوص دوافعه وتفضيلاته وقراراته، وهو ما يساهم في إنشاء إعلانات خلاقة، من شأنها أن تساعد على الرفع من قيمة المنتج، والتحكم في الأسعار، بالإضافة إلى دوره في مجالات أخرى تتعلق بالتسويق. وتعد تقنية مسح الدماغ التي تقيس لنا النشاط العصبي، والتتبع الفيسيولوجي الذي يقيس حركة العينين، وغيرهما من أكثر تقنيات القياس شيوعا.[6]

التسويق العصبي إذن هو استراتيجية تسويقية تتصل بالجانب اللاواعي والعاطفي عند العميل، تهدف إلى خلق رابطة قوية بين العميل والمنتج، وهو مجال متعدد التخصصات يجمع بين علم الأعصاب، وعلم النفس، وعلم التسويق. ويظل الحجر الأساس في التسويق العصبي هو تقييم ردود الأفعال الذهنية والعاطفية للمستهلك بالاستناد إلى تقنيات التسويق المختلفة.[7]

إن هذه الاستراتيجية الفريدة وربما الجريئة التي يتعامل بها علم التسويق العصبي مع العميل أو الزبون، خلفت في الواقع ردود أفعال متباينة تراوحت بين المبارك لها والناقم عليها، وإذا كان بعض المراقبين يعتبرونها بمثابة الكأس المقدسة لبحوث التكنولوجيا والتي ستميط اللثام أخيرا عن ذلك الغموض المتعلق بأسرار اختيار المستهلك وبطبيعة السلوك في الدماغ، فإنها عند البعض الآخر تمثل أساس الشر الذي سيمنح المسوقين والمعلنين في نهاية المطاف سيطرة مطلقة على عقولنا وأموالنا.[8]

آليات اتخاذ قرار الشراء في الدماغ

لكي نتمكن من فهم الطريقة التي يقوم خلالها العقل البشري باتخاذ قرار الشراء لا مناص من سبر مكونات الجهاز العصبي في المقام الأول، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاستعانة بعلم التشريح (Anatomy) كونه العلم الذي يعنى بدراسة أعضاء الجسد وتركيبها ومواقعها، وارتباطاتها الداخلية. ويعتقد علماء التشريح أن دماغ الإنسان يمثل البنية الأكثر تعقيدا في التاريخ البشري، وليس غريبا إذن أن تكون دراسته بطريقة نسقية (Systematic) مهمة محيرة للعقل في حد ذاته، لا سيما عندما نعلم أنه يحوي ما يناهز مائة مليار من الأعصاب (أو الخلايا العصبية) التي تترابط فيما بينها بأعداد هائلة من الروابط المتبادلة والمحتملة.[9]

قبل أن نجيب عن التساؤل المرتبط بكيفية اتخاذ الدماغ لقرار الشراء، دعني أولا اطرح عليك السؤال الآتي: هل تعلم أننا نتوفر على ثلاثة أدمغة أو عقول؟  بمعنى آخر، هل خطر ببالك يوما أن دماغ الإنسان ينقسم إلى ثلاثة أجزاء، وليس إلى جزأين (فص أيمن وفص أيسر) كما اعتدنا سماعه؟

ظهرت نظرية الأدمغة الثلاث في الستينيات من القرن الماضي على يد الطبيب الأمريكي وعالم الأعصاب بول ماكلين “Paul Mclean” ، وهي تستند إلى فرضية مفادها أن دماغ الإنسان لا يتكون من طبقة واحدة، وإنما من ثلاث طبقات أو أجزاء متباينة، تشكلت على نحو تدريجي عبر عدة مراحل.[10] ومع أن أغلبية علماء الأعصاب المعاصرين ينتقدون نظرية الأدمغة الثلاث، حيث يرون أنها لا تشرح بدقة كيفية عمل الدماغ في الحياة اليومية أو أثناء التعرض للضغط،[11]  غير أن ما يعطي لها قيمة في نظرنا ويجعلها تلقى صدى في وقتنا الراهن، هو أن التقسيم الذي يقترحه ماكلين ينسجم والآراء التي توصل إليها العديد من الباحثين في علم النفس الحديث، وذلك بتأكيدهم أن الدماغ البشري يتكون من ثلاثة أجزاء واضحة: منها جزء قديم، ومنها جزء جديد. بالإضافة إلى الجزء الأوسط. ولعل من المفارقات أيضا أن هذه الأجزاء أو الطبقات بالرغم من أنها تعمل كأعضاء منفصلة، ولها خلايا بنيوية ووظيفية منفصلة، إلا أنها تتواصل فيما بينها، وكل عضو مقيد بمهمة محددة ينجزها.[12]  ويمكن أن نوضح أنواع هذه الأدمغة وخصائصها فيما يلي:

الدماغ العقلاني: يتموقع هذا الجزء من الدماغ على مستوى طبقة القشرة المخية الحديثة المعروفة باسم (Neocortex) والتي تمثل الجزء الخارجي من الدماغ، ويطلق علماء النفس على هذا الجزء اسم (New Brain) أي الدماغ الجديد. وهو مسؤول عن عمليات التفكير العميق ومعالجة المعلومات والاستنتاج. وقد وجد علماء الأعصاب بأن الدماغ العقلاني بعد أن يطلع بهذه العمليات الذهنية، يلجأ مباشرة إلى مشاركتها مع الجزأين الآخرين. (أنظر الرسم 1).

رسم توضيحي 1: مكونات الدماغ من وجهة نظر علم التسويق العصبي

وتشير بعض الدراسات إلى أن الدماغ العقلاني يساهم بقوة في عملية إقناع العميل باتخاذ قرار الشراء، أو العزوف عنه، ولهذا وجب على مندوبي المبيعات، إن هم أرادوا النجاح في بيع منتج أو تسويق خدمة، تعطيل رقابة هذا الجزء أو تشتيت انتباه على الأقل بطريقة ما، حتى يتمكن الجزءان الآخران من الدماغ من السيطرة على الوضع. وتعد استراتيجية سرد القصص والحكايات وإثارة الذاكرة من أنجع التقنيات التي تصرف العميل عن التفكير المعقلن والتركيز على أشياء أخرى خارجة عن سلطة العقل. لكن وبالرغم من أهمية هذا الجزء من الدماغ ينبغي ألا نركز اهتمامنا عليه بالكامل، لأن الدماغ العقلاني لا يتخذ القرار النهائي، بل إنه يعمل بكل بساطة على معالجة المعلومات التي يتلقاها، ثم يحيلها على الدماغ القديم، والذي له السلطة العليا.[13]

الدماغ العاطفي أو الانفعالي: ويسمى أيضا بدماغ الثدييات (Mammalian Brain)، ويقع هذا الجزء في وسط الدماغ (Middle Brain) وبالضبط ضمن منطقة الجهاز الحوفي (Limbic System)، وهو يتولى مهمة توجيه المشاعر والأحاسيس التي تتحكم فينا أو تلك التي تنتابنا خلال فترات زمنية معينة مثل مشاعر: الشهوة والغضب والإعجاب والحب والخوف، والإحباط، والحسد، والغيرة. وعلى غرار الجزء السابق من الدماغ يظل هذا الجزء غير معني باتخاذ القرارات، إنه يعبر فقط عن ردود أفعاله العاطفية تجاه ما يرد عليه من مدخلات، ثم يحيل تلك العواطف إلى مركز القيادة على مستوى الدماغ القديم.

الدماغ البدائي: يطلق عليه كذلك اسم دمـــــــــاغ الزواحـــــــــــــــف (Reptilian Brain) ويعد أقـــــــــــدم جـــــــزء في الدمــــــــــــــــاغ (Old brain)، وفي هذا المكان تصدر جميع القرارات في نهاية المطاف. ومن الملاحظ أن دور الدماغ البدائي يكمن في أنه يستثمر المعلومات التي جمعها من الجزأين الآخرين، ويستخدمها لصياغة القرار الذي يراه الأفضل.

ويشير هذا الاسم في الواقع إلى حقيقة أن جميع الكائنات الحية تتوفر على هذا الجزء من الدماغ، والذي يقع في المنتصف مباشرة فوق العمود الفقري (راجع الرسم التوضيحي 1)، ويوصف بأنه الجزء الأكثر بدائية، ولهذا الوصف معنى لأنه يرتبط بغريزة البقاء. هذا مع العلم على أن دماغ الزواحف لا ينحصر دوره في وظيفة صراع البقاء على قيد الحياة، لأنه مسؤول كذلك عن الكثير من الوظائف العضوية مثل تنظيم عملية التكاثر، والدورة الدموية، والتنفس والنوم، وانقباض العضلات، والاستجابة للتحفيز الخارجي. وبالمجمل فهذا الدماغ لا يجعلنا أكثر من مجرد حيوانات تكافح للعيش وتستجيب لأي مثير.[14]

يذكر (Gerald Zaltman) الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال ضمن كتابه الأخير والمعنون بـ “كيف يفكر المســتهلكون: رؤى أساسية في عقل السوق” «How Customers Think: Essential Insights into the Mind of the Market  » أن 95 % من عملية الإدراك عند الإنسان، وهذا ينسحب على عملية اتخاذ قرار الشرار، تتم في العقل الباطن أو العقل اللاواعي، ومهمة المسوقين تكمن في فهم السلوكات والمواقف التي لا يدركها العملاء أنفسهم.[15] ونفهم من هذا أن العواطف هي ما يحرك سلوك الشراء وعملية اتخاذ القرار بشكل عام. فالعاطفة تتحكم في الكثير من الأحيان في سلطة العقل، صحيح أن الجزء القديم من الدماغ والمسمى بدماغ الزواحف هو من يملك سلطة القرار العليا، ولكنه قد لا يحكم إلا بما يمده به دماغ الثدييات والمعروف بطبيعته الانفعالية، وخصوصا عندما يتم التحايل على الدماغ العقلاني، وتشتيت انتباهه بكثرة المغريات. بحيث يتحول هذا الجزء من الدماغ إلى مجرد وسيلة للمصادقة على حالة عاطفية معينة، وربما محاولة إيجاد تفسير معقول لها، وهذا ما تؤكده المقولة الشهيرة (Human beings make decisions in a emotional manner and then justify them rationally) والتي تفيد أن الإنسان يتخذ قراراته بطريقة عاطفية، ثم يحرص على تبريرها بعقلانية.[16] وسرعان ما صارت هذه العبارة شعارا رائجا في مجال التسويق بعدما أثبت العلماء بأن الناس يشترون بالعاطفة ويبررون بالمنطق (People buy on emotion and Justify with Logic)، مما يفيد بأن القرار النهائي هو بيد الدماغ القديم، ولكن سلطته مستمدة من الدماغ العاطفي.

وما دام أن قرارات الشراء تصدر دون وعي؛ فقد توصلت الأبحاث المعاصرة إلى أنها ليست قرارات عشوائية أو ارتجالية، بل إنها تقوم على نظام معالجة عقلي وتجريبي دقيق، ومن مميزات هذا النظام أنه قادر على معالجة الملايين من المعلومات بكل سلاسة ويسر، وهو ما يعجز عنه العقل الواعي بسبب محدودية ذاكرته والتي بالكاد تسعفه لكي يعالج ما بين 3 إلى 4 معلومات جديدة في المرة الواحدة.[17] ويقضي هذا النظام بنقل القرارات غير الواعية والمتعلقة بفعل الشراء إلى العقل الواعي عن طريق العاطفة، ومن ثم يعمل العقل الواعي على إضفاء صبغة عقلانية عليها، بحيث يفسر لنا تلك الإشارات العاطفية التي تصل إليه تفسيرا منطقيا. ومن الواضح أن العاطفة هي التي تقود عملية اتخاذ القرار، إنها على الأرجح تسهل هذه العملية وتسرع من وتيرتها في الآن ذاته، كما أنها تقلل من تعقيد هذه المهمة، وتخفف من تلك الصراعات المحتملة التي قد تنتج عن وجود بعض الخيارات المتشابهة.[18]

سخر علماء التسويق العصبي جهودهم للعثور على ما يسمى استعاريا بزر الشراء (purchasing Button)، والمقصود به تلك الإشارات العصبية الصادرة عن مناطق معينة من الدماغ، والتي تنشط ضمن مستوى معين بفعل التأثير الذي تحدثه السلعة أو العلامة التجارية المعروضة على مرأى المستهلك أو سمعه. ويعد اكتشاف هذا الزر بمثابة ثورة نوعية في مجال التسويق، لأنه سيمكن الشركات الكبرى من فهم سلوك الزبون وتفضيلاته ورغباته الحقيقة. ومن ثم، مساعدتها على قراءة أفكار المستهلك، وبناء استراتيجيات تسويقية قادرة على التحايل على الزبون، ودفعه لشراء أشياء لم يكن ليشتريها بطريقة أخرى.

لقد استطاعت التجارب التي أنجزت لحد الساعة على عينة من المتطوعين، بالاعتماد على أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي، تقديم إجابات شافية عن المراحل التي يمر بها الدماغ البشري قبل أن يصدر قراره النهائي حول فعل الشراء. إذ لاحظ علماء التسويق بأن “بعض العلامات التجارية تحرك مراكز الإثارة والحماس في المخ، ولكنها لا تكفي لجعل صاحبه يهرع إلى الشراء، بينما هناك سلع أخرى تشعل مناطق الحسم في الدماغ. وعندما تضيء هذه المناطق، فإن الشخص يكون قد تخطى مرحلة المداولة إلى القناعة التامة بحاجته إلى السلعة.”[19] ومن هنا أدرك هؤلاء العلماء سر الخلايا العصبية المسؤولة عن قرار الشراء، بينما ظل هدفهم الأسمى تعزيز ولاء الزبون إلى علامات تجارية بعينها، وتقوية روابط الانتماء لديه، والتفكير في صياغة إعلانات تجارية جديدة كفيلة بدغدغة مناطق الإثارة لديه.

ربما تكون المراحل السابقة حاسمة من منظور الإشارات العصبية التي يبعثها الدماغ، ولكن من المؤكد أن هناك عوامل أخرى خارجية تؤثر بدورها في القوة الشرائية للمستهلك ومنها على سبيل المثال لا الحصر، محدودية ميزانية الشراء. فمهما بلغ إعجاب العميل بالمنتج وقناعته به، فإنه من غير المنطقي أن يغامر باقتنائه إذا افترضنا بأن السعر يتعدى قدرته الشرائية. وفي هذا السياق يمكن أن نتحدث عن حالة من الضمور تلحق تلك الخلايا العصبية التي كانت نشطة في مرحلة معينة، ولكن الإشارات الصادرة عنها بدأت في الانطفاء التدريجي بمجرد أن ظهر “بأن ثمن هذه السلعة المرغوبة عال أو أكثر من قدرة المشتري. وهنا تتدخل المناطق العليا في الدماغ لتفكر وتستخدم الخبرة المسبقة في اتخاذ القرار. فنشاط هذه المنطقة مرتبط بعملية الموازنة بين حسابات الربح والخسارة التي تثور عادة قبل اتخاذ قرار الشراء.. وهكذا صار بمقدور العلماء توقع ما إذا كان الشخص موضع الدراسة سيقدم فعلا على شراء السلعة المعروضة أمامه أم لا. إذ إنه متى ما بدأت مناطق المخ المرتبطة بعمليات الموازنة بين الربح والخسارة في زيادة نشاطها، فيعني ذلك أن الشخص سيقدم على الشراء، أما لو تم رصد سيطرة لمناطق قشرة الدماغ التي تنشط عند الإحساس بأن ثمن السلعة أعلى من فائدتها، فإن المتسوق غالبا لن يشتري”.[20]

قرار الشراء وسلطة العقل الباطن

بالرغم من أن العقل الباطن يحاول أن ينأى عن كل ما يثير إدراكنا أو اهتمام عقلنا الواعي، إلا أنه لا ينجح في مسعاه فقد ثبت بأن العديد من الأنشطة أو القضايا التي تشغل بالنا يتم معالجتها بشكل لا واع، حيث يقوم العقل الباطن بنوع من الإشعار بها أو الإسقاط لها عن طريق الحدس، أو التذكر المفاجئ، أو عبر أحلام اليقظة. ألم يحدث مرة أن أجهدت نفسك من أجل إيجاد حل لمشكل ما ولكن دون جدوى، وفجأة يأتيك الإلهام في لحظة من الاسترخاء، أو عندما تتوقف كليا عن التفكير في الموضوع. فما لا تدركه حينئذ هو أنه في الوقت الذي وصلت بك فيه الأمور إلى النفق المسدود وعجزت عن العثور على الحل، كان عقلك الباطن لايزال يشتغل على المشكل طوال تلك الفترة، ولم يستسلم أبدا، وبمجرد أن عثر على الحل المناسب ألهمك إياه إن العقل الباطن يسخر طاقته سرا لصالح عقلنا الواعي وهو يدرب نفسه على التعامل مع العديد من النشاطات العقلية، إذ يعمل على تقييمها ومعالجتها واتخاذ بعض الإجراءات النهائية بخصوصها، كأن يقوم مثلا بتخزينها في الذاكرة البعيدة المدى، أو بإسقاطها في وعينا بطريقة أو بأخرى.[21]

ويكمن الفرق بين العقل الواعي والعقل الباطن في كون العقل الباطن لا يملك القدرة على أن يصدر حكما من تلقاء نفسه، لأنه لا يستطيع إدراك أي شيء لوحده، لا يستطيع العقل الباطن أن يرى، أو يسمع، أو يلمس، أو يتذوق، أو يشم. يتعامل العقل الباطن بناء على المعرفة العميقة التي تم تجميعها بشكل واع تماما في الذاكرة بمختلف أنواعها (الذاكرة المعلوماتية، والثقافية، والعاطفية)، وبالمجمل إنه لا يتعامل سوى مع الذكريات التي تختزنها تلك المشاعر.[22]

قد يقول قائل إن العقل الباطن على هذا النحو ساذج أو طفولي، ولكنه في حقيقة الأمر ذكي جدا، ويستمد ذكاءه من كثرة التجارب التي خاضها أو  بمعنى آخر من خبرة السنين الطوال، فقد أفنى هذا العقل حياته في التعلم، سواء التعلم من نجاحاتنا أو من إخفاقاتنا، إذ تطور العقل الباطن بفعل عامل التجربة، وأصبح بمقدوره اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة لنا.[23]  ولأنه يشتغل في معظم الأوقات، فلا ضير في أن نضع ثقتنا فيه ونأمن له، لأننا الثقة فيه تعني الثقة في الحدس أو ما اعتاد البعض على تسميته بالحاسة السادسة أو علم الفراسة عند العرب. على اعتبار أن لهذه الحاسة القدرة على الشعور بالحالة الداخلية للجسم، وتأويل مختلف الإشارات الصادرة عنها، ولا سيما تلك المرتبطة بالأعصاب. يعرف الحدس بأنه القدرة على فهم الأمور غريزيا دون الحاجة إلى تفكير واع، ولذلك فعند الاطمئنان لحدسنا نفهم جيدا أي المنتجات سنقوم بشرائها، حتى ولو لم يكن هناك سبب عقلاني لذلك، ولو أن السبب في كوننا نعرف الشيء الذي سنقوم بشرائه، يتمثل في أننا وضعنا مؤشرات وجدانية، تكمن في عقلنا اللاواعي وتحتمل التفعيل الخفي.[24]

تقنيات التسويق العصبي وأدواته

استفاد خبراء التسويق العصبي خلال السنوات الأخيرة من التطور الهائل الذي عرفته الأجهزة التكنولوجية في المجال الطبي، لإجراء اختبارات تجريبية على عينات من المشاركين على اختلاف أعمارهم، والغاية من ذلك قياس ردود أفعالهم الذهنية والفسيولوجية عند عرض منتج أمامهم أو الاستعلام عنه بطريقة أو بأخرى. ونظرا لشيوع هذه الأدوات أو التقنيات، فإننا سنكتفي فيما يلي بتقديم أكثرها تداولا.

  • تقنية تخطيط كهرباء الدماغ (EEG)

تعد تقنية تخطيط كهرباء الدماغ تقنية قديمة نوعا ما، بيد أنها ما تزال تعتبر وسيلة فعالة لقياس نشاط الدماغ. وتسمى الخلايا المسؤولة عن الأساس البيولوجي لردود أفعالنا المعرفية بالخلايا العصبية، ويمتلك الإنسان أكثر من 100 مليار خلية عصبونية، ناهيك عن تريليونات من الوصلات المتشابكة فيما بينها والتي تمثل مركز الدوائر العصبية. ويلاحظ أنه في ظل وجود مثير ما كالإشهار مثلا تضيء هذه الخلايا وتنتج تيارا كهربائيا ضعيفا يأخذ في الارتفاع متخذا أشكالا وترددات مختلفة هي ما نسميها بالموجات الدماغيةـ يكون لها علاقة بمختلف حالات الإثارة أو التحفيز.

ويتم استخدام هذه التقنية في مجال التسويق عن طريق وضع أقطاب كهربائية على فروة رأس الشخص الخاضع للتجربة، وعادة ما يكون ذلك باستعمال خوذة أو رباط، مما يتيح إمكانية تسجيل الموجات الدماغية على فترات زمنية صغيرة جدا (انظر الرسم2 أسفله). ويمكن لبعض نطاقات تخطيط كهرباء الدماغ الحديثة أن تسجل ما يقارب 10.000 مرة في الثانية الواحدة. ويعد هذا المعطى مفيدا للغاية بالنظر إلى السرعة الهائلة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رسم توضيحي 2: تقنية تخطيط كهرباء الدماغ

التي تستقبل بها حواسنا المعلومات والأفكار.[25]

ونستطيع استخدام تخطيط كهرباء الدماغ (EEG) لاختبار فعالية الشعارات (Logos) والرموز والإعلانات المختلفة، لقياس مدى تأثيرها في نشاط الدماغ والحالة العاطفية، كمـا يمكن توظـــــيفها لقيـــاس استجابــــة الدمـــاغ تجاه بعض المثيرات التي تأتينا من العالم الافتراضي مثل: مواقع الويب ووسائل التواصل الاجتماعي، أو منصات التجارة الإلكترونية، بهدف تحسين تصاميمها وتسهيل استخدامها.[26]

  • تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI)

رسم توضيحي 3: تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي

تعتمد هذه التقنية من حيث المبدأ على نفس عناصر التقنية السابقة، أي التصوير المقطعي لاستجابة الدماغ أثناء التعرض لمحفزات خارجية، وجدير بالذكر أن نشير إلى أن جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) يستخدم موجات كهرومغناطيسية قوية؛ للحصول على صور تشريحية يمكن التمييز فيها بين أنواع الأنسجة المختلفة، وتحديد أماكنها بدقة عالية، بل والتعرف على حالتها الصحية. [27]

وعن الكيفية التي تشتغل بها هذه التقنية تفيد المعلومات الصادرة عن مراكز الدراسات العصبية أن الخبراء يعمدون إلى عرض مجموعة من الإعلانات التسويقية، سواء أكانت صورا ثابتة أم متحركة، أو أشرطة دعائية، أمام الشخص المستهدف. وبالموازاة مع ذلك يتم مراقبة ردود فعله العقلية وتصويرها، عن طريق أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI)، والتي تعمل على تتبع وقياس الهيموغلوبين الغني بالأكسجين في الدماغ من جانب، ثم قياس الهيموغلوبين الخالي منه تماما من جانب آخر. إذ يتمكن الباحثون في هذا المجال من الحصول على صور دقيقة وآنية لاتجاه سريان الدم، وأماكن الخلايا العصبية التي تنشط خلال هذه العملية.[28]  (انظر الرسم 3).

ويشيع استخدام تقنية (FMRI) في التسويق العصبي لفهم كيفية استجابة الدماغ أمام محفزات مثل: تغليف المنتجات، والإعلانات، والتسعير، وهي تقيس كذلك ترميز الذاكرة (Memory encoding)، والإدراك الحسي، والضغط العاطفي، والرغبة والثقة، والولاء للعلامة التجارية، أو تفضيل علامة تجارية بعينها والتعلق بها، إضافة إلى إمكانية استخدامها لاختبار المنتجات والحملات الإعلانية الجديدة وتطويرها، وتحديد اللحظات الحاسمة في الإعلان أو الفيديو، ومعرفة مدى ملاءمة تصميم غلاف المنتج والأسعار، وإعادة نشر العلامة التجارية، وكذا التنبؤ بالخيارات المتاحة، وتحديد الاحتياجات، والاختبار الحسي، والدعم الجماهيري.[29]

  • تقنية تتبع حركة العينين

تستخدم في هذه التقنية كاميرا صغيرة جدا تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وتقوم هذه الكاميرا بتسجيل حركة العينين وحجم البؤبؤ، واتجاه النظر أو موقع الحدقة بدقة متناهية. والغرض من توظيف هذه التقنية هو فهم أنواع العملاء، ومعرفة ما الذي يثير انتباههم عندما يجدون أنفسهم عرضة لمثير ما، وبشكل أدق عند دخول هؤلاء العملاء لمتجر تجاري من أجل التبضع أو الاستعلام عن العروض التفضيلية.

رسم توضيحي 4: تقنية تتبع حركة العينين أثناء التبضع

ويتم تثبيت هذه الكاميرا بعدة طرق، إما بتركيبها في نظارات يضعها الزبون بحيث تسمح بتتبع حركة عينيه، أو بتثبيتها في جهاز ثابت يقوم هو الآخر برصد العين، وغالبا ما يوضع هذه الجهاز في الجزء السفلي من شاشة العرض.[30] ومن شأن اعتماد علماء التسويق العصبي على هذه التقنية أن تزودهم بمعلومات كافية عن المنتجات التي تستفز نظر الزبناء، والأماكن التي تثير انتباههم أكثر، ومدة الانتباه، وطبيعة الاستجابة التي تتكون عندهم عند رؤيتها.  (انظر الرسم الموازي).

  • تقنية ترميز تعابير الوجه

تهدف هذه التقنية إلى تحليل ملامح الوجه بالاستناد إلى نظام معلوماتي دقيق؛ يعمل على ترميز عضلات الوجه ثم يقوم بفك ترميزها، لمعرفة كيف يشعر العميل لحظة قراءته لإعلان تجاري ما أو عند زيارته لموقع ويب أو أثناء شرائه لهاتف ذكي مثلا. وبحسب الأبحاث فإن كارل هرمان (Carl Herman) هو أول من طوّر نظاما لتشفير تعابير الوجه، وكان ذلك في أواخر الستينيات، وقد روّج لهذا النظام في أوائل السبعينيات كل من بول إكمان (Paul Ekman) وولاس فريزن (Wallace Friesen)، حيث قاما بالتركيز على دراسة التغيرات التي تطرأ على جوانب مختلفة من عضلات الوجه، وذلك لتحديد طبيعة الاستجابة العاطفية التي تنتج عنها.

ويرتكز النظام المقترح على مبدأ تصنيف عضلات الوجه في حالة انشراحه وانقباضه إلى وحدات تشغيل (action units) ذات ترميز خاص، حيث تعبر كل وحدة عن درجة حدوث نشاط في عضلة من عضلات الوجه أو أكثر. فعلى سبيل المثال تكشف الوحدة صفر (AU 0) عن تعبير محايد للوجه، بينما تشير الوحدة (AU 1) إلى أن العميل قد حرك الجزء الداخلي من حاجبيه، ويمكن أن يتوافق التعبير الواحد مع عدة وحدات تشغيل. بينما تقاس شدة التعبير بمقياس تصاعدي معدل الكثافة الأدنى فيه هو A وأما أقصاه فيرمز له بالحرف E، وهكذا يمكن أن يشير الرمز C1 إلى أن الزبون قد رفع الجزء الداخلي من حاجبيه بشكل واضح، ولكن دون أن يبلغ حد التقطيب.[31]

رسم توضيحي 5: تقنية ترميز تعابير الوجه

سبق لشركة Disney أن طبقت هذه التقنية في مسرح يتسع ل 400 مقعد مزود بأربع كاميرات تعمل بالأشعة تحــــــت الحمـــــــــراء، تقــــــوم بتصـــوير الجـــــمهور خـــــــلال 150 عـــــرضا سينمــــــائيا يشمل على تســـعة أفــــــــــلام رئيسية ومـــنها:    the Jungle book, Big Hiro 6, Star Wars, the Force Awaken, Zootopia »   «  وأسفرت هذه التجربة عن تحصيل 16 مليون علامة وجهية تعود ل 3179 فردا من الجمهور الذين تم وصل تعابيرهم بالشبكة العصبية.[32] وبفضل المعلومات المدرجة اليوم في مجال الذكاء الاصطناعي تستطيع الشركة التنبؤ، وخلال العشر دقائق الأولى من العرض، بردود أفعال الجمهور تجاه المشاهد المؤثرة في الفيلم، بالاستناد إلى تعابير وجوههم فقط. ويعتبر ذلك مؤشرا قويا لتقييم مدى نجاح أفلامها الأخيرة في إثارة الجمهور عاطفيا، كما أنه يعزز قدرة الشركة على سرد الحكايات، ويرفع من جودة أفلامها الروائية.

  • تقنية الاستجابة الجلدية

تستخدم هذه التقنية عادة في الأبحاث الطبية كنوع من العلاج المعروف باسم الارتجاع البيولوجي (Biofeedback therapy)، وتقيس استجابة الجلد الغلفانية (Galvanic Skin Response) أو ما يصطلح عليه كذلك بالموصل الجلدي التغيرات الكهربائية التي تحــدث عــلى مستوى الــجلد نتيجة نشــــاط الغــــــــــــدد العـــــــرقية (Sweat Gland) في أصابع اليد أو في راحتها. إذ من المعروف أن الجلد يميل إلى أن يصبح موصلا فعالا للشحنات الكهربائية، بمجرد تعرضه لضغط قوي أو فوق المعتاد، مثل الذي ينتج عن الإثارة السيكولوجية، ذلك أن جسم الإنسان يتفاعل بشكل لا إرادي عند تعاطيه لمثيرات داخلية أو خارجية مثل: الصوت، والضوء، ودرجة الحرارة، والعواطف، والكلمات، والوجوه. ويلاحظ أنه مع تغير مستوى الإثارة السيكولوجية لدى الفرد تتغير استجابته لاإراديا بحسب نوع الإثارة التي يواجهها (إيجابية، سلبية، محايدة)، فعلى سبيل المثال، يتعرق الناس بشدة عند الشعور بالحر، أو عند الحماس الزائد، أو الضغط العاطفي، كما يتسع بؤبؤ العين كلما دخل المرء إلى غرفة مظلمة، أو عند رؤيته لشخص ينجذب له.[33]

رسم توضيحي 6: تقنية استجابة الجلد الغلفانية.

ونظرا للأهمية التي تحظى بها هذه التقنية في وقتنا الحاضر، لم يعد استخدامها مرتهنا بالاطمئنان على الحالة الصحية أو النفسية للمريض، وذلك بعدما شاع استخدامها في ميادين أخرى لا علاقة لها بالجانب الطبي كالاستخبارات، حيث يوظف المحققون تقنية الاستجابة الجلدية ضمن جهاز الكشف عن الكذب.[34] للتأكد من صحة المعلومات التي يدلي بها المتهم، فقد بات في حكم المؤكد أن العديد من المشاعر الإنسانية وعلى غرار: السعادة، والهلع، والغضب، والاهتمام، والتوتر، هي مشاعر تخلق منبهات نستطيع تسجيلها انطلاقا من اليد، فالاستجابة العصبية التي ترتبط بالإثارة اليدوية قابلة للقياس والاستفادة منها.[35]  في مجالات عديدة، ومنها مجال التسويق.

ومع أن خبراء التسويق العصبي يعتبرون أن دراسة سلوك المستهلك، بالاستناد إلى المعلومات التي تزودنا بها الاستجابة الجلدية وحدها مسألة ممكنة، إلا أنهم لا يثقون في قدرة هذه الاستجابة على التنبؤ بردود أفعاله العاطفية. وبسبب ذلك فإنهم يفضلون أن يتم استخدام هذه التقنية بجوار أدوات أو تقنيات أخر مثل تلك المتعلقة برصد حركة العينين، إذ يمكن لاختبار (GSR) أن يدعم في الكثير من الأحيان تقنية ترميز العين ما دام أن “تتبع مسار العين في حد ذاته لا يفيد بالضرورة في معرفة السبب الذي يجعل المستجوبين ينظرون على نحو معين، وضمن هذا الإطار يمكن لــ (GSR) أن تتدخل من خلا تقديم قراءات آنية ومستمرة لنشاط الجلد، وربط حالات الإثارة بالنتائج التي تسفر عنها عملية تعقب حركة العين. لأن القيام بذلك سيساعد على تقديم تفسير علمي للنتائج، وليس مجرد التخمين.[36]

اختبارات التسويق العصبي

في عام 1975 قامت شركة بيبسي للمشروبات الغازية بدعوة العديد من المشاركين لإجراء اختبار أطلق عليه آنذاك اختبار التذوق الأعمى (Blind taste) وهو اختبار عشوائي يقوم على أساس مفاضلة المشاركين بين كل من مشروب بيبسي وكوكا كولا، دون معرفة اسم العلامة التجارية. ولم يكن مفاجئا حينئذ أن يختار الناس بيبسي، بعدما اعترفوا بأن مذاق بيبسي هو الألذ. والجدير بالإشارة أن هذه التجربة لم تتوقف عند هذا الحد، ففي عام 2003 أعاد Read Montague وهو عالم أعصاب طرح السؤال الآتي: إذا كان الناس يفضلون حقا بيبسي على كوكا كولا، فلماذا لا تهيمن مشروبات بيبسي على السوق؟[37]

وعلى أمل الإجابة عن هذا التساؤل، أجرى مونتاج تحدي البيبسي من جديد، وقد قام هذه المرة بإيصال الأشخاص الخاضعين للاختبار بجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي بغية تتبع نشاط الدماغ. وبالموازاة مع ذلك، طلب منهم تذوق مشروب معين دون إخبارهم بنوع العلامة التجارية التي ينتمي إليها. وفي البداية صرح حوالي نصف المشاركين بأنهم يفضلون مذاق البيبسي، ولكن ما أن تم اطلاعهم بحقيقة عينات كوكا كولا، تراجع هؤلاء عن موقفهم السابق؛ حيث قالوا بأنهم يفضلون طعم مشروب كوكا، وتحولت التفضيلات إلى 3 مقابل 1 لصالح كوكا كولا. ليس هذا فقط، حيث لوحظ أن هناك زيادة واضحة في نشاط قشرة الفص الجبهي، وهو الجزء من الدماغ المتحكم في التفكير العميق، هذا بالإضافة إلى وجود نشاط بارز على مستوى الحُصَين (بنية تشريحية في الدماغ) يتعلق بالذاكرة.[38]

وخلص مونتاج إلى أن دماغ الأشخاص الذين تعرضوا للاختبار كان يقوم باستدعاء وتذكر صور وأفكار لإعلانات تجارية سابقة، وبأن الأفكار والمشاعر المرتبطة بالعلامات التجارية تطغى على الجودة الحقيقية للمنتج. وفي سنة 2004، نشر مونتاج النتائج المتوصل إليها، وهو الأمر الذي شكل عاملا أساسيا في خروج علم التسويق العصبي من الظل إلى العلن. وقدمت هذه الدراسة دليلا علميا على قدرة تقنيات التسويق العصبي على التنبؤ بسلوك المستهلك، وذلك بعدما تبين جليا كيف أن الدماغ البشري يستجيب لتأثير العلامات التجارية والإشهارات بشكل عام “وكلما كانت العلامة التجارية مسجلة بالدماغ، كلما زاد هذا النشاط تأثرا بالإشهار… إن العلامة الأكثر تسجيل لدى المستهلك، تقوم بتنشيط الجزء الأيسر من الدماغ بعد الثانية الأولى من المشاهدة، ثم تقوم بتنشيط الجزء الأيمن بعد لحظات من ذلك”.[39]

خاتمة

لا مراء في أن التسويق العصبي سيفتح آفاقا كبرى أمام الشركات الضخمة لفرض هيمنتها على الأسواق التجارية، ومحاصرة الزبناء في مختلف نقط البيع والشراء، فبفضل التقنيات والأدوات المتطورة التي يعتمد عليها هذا العلم لم يعد فعل الشراء يمثل إشكالا أو لغزا محيرا على نحو ما كان عليه سابقا. هناك مناطق معينة في الدماغ هي المسؤولة عن قرار الشراء، ويكفي أن نقوم بدغدغة أحاسيس المستهلك وإثارة انتباهه؛ لتحفيز هذه المناطق وجعلها تتجاوب إيجابا مع الإعلانات التجارية التي ما فتئت تحكم قبضتها عليه في مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.

 

رسم توضيحي 2: تقنية تخطيط كهرباء الدماغ

التي تستقبل بها حواسنا المعلومات والأفكار.[25]

ونستطيع استخدام تخطيط كهرباء الدماغ (EEG) لاختبار فعالية الشعارات (Logos) والرموز والإعلانات المختلفة، لقياس مدى تأثيرها في نشاط الدماغ والحالة العاطفية، كمـا يمكن توظـــــيفها لقيـــاس استجابــــة الدمـــاغ تجاه بعض المثيرات التي تأتينا من العالم الافتراضي مثل: مواقع الويب ووسائل التواصل الاجتماعي، أو منصات التجارة الإلكترونية، بهدف تحسين تصاميمها وتسهيل استخدامها.[26]

  • تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI)

 

رسم توضيحي 3: تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي

تعتمد هذه التقنية من حيث المبدأ على نفس عناصر التقنية السابقة، أي التصوير المقطعي لاستجابة الدماغ أثناء التعرض لمحفزات خارجية، وجدير بالذكر أن نشير إلى أن جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) يستخدم موجات كهرومغناطيسية قوية؛ للحصول على صور تشريحية يمكن التمييز فيها بين أنواع الأنسجة المختلفة، وتحديد أماكنها بدقة عالية، بل والتعرف على حالتها الصحية. [27]

وعن الكيفية التي تشتغل بها هذه التقنية تفيد المعلومات الصادرة عن مراكز الدراسات العصبية أن الخبراء يعمدون إلى عرض مجموعة من الإعلانات التسويقية، سواء أكانت صورا ثابتة أم متحركة، أو أشرطة دعائية، أمام الشخص المستهدف. وبالموازاة مع ذلك يتم مراقبة ردود فعله العقلية وتصويرها، عن طريق أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI)، والتي تعمل على تتبع وقياس الهيموغلوبين الغني بالأكسجين في الدماغ من جانب، ثم قياس الهيموغلوبين الخالي منه تماما من جانب آخر. إذ يتمكن الباحثون في هذا المجال من الحصول على صور دقيقة وآنية لاتجاه سريان الدم، وأماكن الخلايا العصبية التي تنشط خلال هذه العملية.[28]  (انظر الرسم 3).

ويشيع استخدام تقنية (FMRI) في التسويق العصبي لفهم كيفية استجابة الدماغ أمام محفزات مثل: تغليف المنتجات، والإعلانات، والتسعير، وهي تقيس كذلك ترميز الذاكرة (Memory encoding)، والإدراك الحسي، والضغط العاطفي، والرغبة والثقة، والولاء للعلامة التجارية، أو تفضيل علامة تجارية بعينها والتعلق بها، إضافة إلى إمكانية استخدامها لاختبار المنتجات والحملات الإعلانية الجديدة وتطويرها، وتحديد اللحظات الحاسمة في الإعلان أو الفيديو، ومعرفة مدى ملاءمة تصميم غلاف المنتج والأسعار، وإعادة نشر العلامة التجارية، وكذا التنبؤ بالخيارات المتاحة، وتحديد الاحتياجات، والاختبار الحسي، والدعم الجماهيري.[29]

  • تقنية تتبع حركة العينين

تستخدم في هذه التقنية كاميرا صغيرة جدا تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وتقوم هذه الكاميرا بتسجيل حركة العينين وحجم البؤبؤ، واتجاه النظر أو موقع الحدقة بدقة متناهية. والغرض من توظيف هذه التقنية هو فهم أنواع العملاء، ومعرفة ما الذي يثير انتباههم عندما يجدون أنفسهم عرضة لمثير ما، وبشكل أدق عند دخول هؤلاء العملاء لمتجر تجاري من أجل التبضع أو الاستعلام عن العروض التفضيلية.

 

رسم توضيحي 4: تقنية تتبع حركة العينين أثناء التبضع

ويتم تثبيت هذه الكاميرا بعدة طرق، إما بتركيبها في نظارات يضعها الزبون بحيث تسمح بتتبع حركة عينيه، أو بتثبيتها في جهاز ثابت يقوم هو الآخر برصد العين، وغالبا ما يوضع هذه الجهاز في الجزء السفلي من شاشة العرض.[30] ومن شأن اعتماد علماء التسويق العصبي على هذه التقنية أن تزودهم بمعلومات كافية عن المنتجات التي تستفز نظر الزبناء، والأماكن التي تثير انتباههم أكثر، ومدة الانتباه، وطبيعة الاستجابة التي تتكون عندهم عند رؤيتها.  (انظر الرسم الموازي).

  • تقنية ترميز تعابير الوجه

تهدف هذه التقنية إلى تحليل ملامح الوجه بالاستناد إلى نظام معلوماتي دقيق؛ يعمل على ترميز عضلات الوجه ثم يقوم بفك ترميزها، لمعرفة كيف يشعر العميل لحظة قراءته لإعلان تجاري ما أو عند زيارته لموقع ويب أو أثناء شرائه لهاتف ذكي مثلا. وبحسب الأبحاث فإن كارل هرمان (Carl Herman) هو أول من طوّر نظاما لتشفير تعابير الوجه، وكان ذلك في أواخر الستينيات، وقد روّج لهذا النظام في أوائل السبعينيات كل من بول إكمان (Paul Ekman) وولاس فريزن (Wallace Friesen)، حيث قاما بالتركيز على دراسة التغيرات التي تطرأ على جوانب مختلفة من عضلات الوجه، وذلك لتحديد طبيعة الاستجابة العاطفية التي تنتج عنها.

ويرتكز النظام المقترح على مبدأ تصنيف عضلات الوجه في حالة انشراحه وانقباضه إلى وحدات تشغيل (action units) ذات ترميز خاص، حيث تعبر كل وحدة عن درجة حدوث نشاط في عضلة من عضلات الوجه أو أكثر. فعلى سبيل المثال تكشف الوحدة صفر (AU 0) عن تعبير محايد للوجه، بينما تشير الوحدة (AU 1) إلى أن العميل قد حرك الجزء الداخلي من حاجبيه، ويمكن أن يتوافق التعبير الواحد مع عدة وحدات تشغيل. بينما تقاس شدة التعبير بمقياس تصاعدي معدل الكثافة الأدنى فيه هو A وأما أقصاه فيرمز له بالحرف E، وهكذا يمكن أن يشير الرمز C1 إلى أن الزبون قد رفع الجزء الداخلي من حاجبيه بشكل واضح، ولكن دون أن يبلغ حد التقطيب.[31]

رسم توضيحي 5: تقنية ترميز تعابير الوجه

سبق لشركة Disney أن طبقت هذه التقنية في مسرح يتسع ل 400 مقعد مزود بأربع كاميرات تعمل بالأشعة تحــــــت الحمـــــــــراء، تقــــــوم بتصـــوير الجـــــمهور خـــــــلال 150 عـــــرضا سينمــــــائيا يشمل على تســـعة أفــــــــــلام رئيسية ومـــنها:    the Jungle book, Big Hiro 6, Star Wars, the Force Awaken, Zootopia »   «  وأسفرت هذه التجربة عن تحصيل 16 مليون علامة وجهية تعود ل 3179 فردا من الجمهور الذين تم وصل تعابيرهم بالشبكة العصبية.[32] وبفضل المعلومات المدرجة اليوم في مجال الذكاء الاصطناعي تستطيع الشركة التنبؤ، وخلال العشر دقائق الأولى من العرض، بردود أفعال الجمهور تجاه المشاهد المؤثرة في الفيلم، بالاستناد إلى تعابير وجوههم فقط. ويعتبر ذلك مؤشرا قويا لتقييم مدى نجاح أفلامها الأخيرة في إثارة الجمهور عاطفيا، كما أنه يعزز قدرة الشركة على سرد الحكايات، ويرفع من جودة أفلامها الروائية.

  • تقنية الاستجابة الجلدية

تستخدم هذه التقنية عادة في الأبحاث الطبية كنوع من العلاج المعروف باسم الارتجاع البيولوجي (Biofeedback therapy)، وتقيس استجابة الجلد الغلفانية (Galvanic Skin Response) أو ما يصطلح عليه كذلك بالموصل الجلدي التغيرات الكهربائية التي تحــدث عــلى مستوى الــجلد نتيجة نشــــاط الغــــــــــــدد العـــــــرقية (Sweat Gland) في أصابع اليد أو في راحتها. إذ من المعروف أن الجلد يميل إلى أن يصبح موصلا فعالا للشحنات الكهربائية، بمجرد تعرضه لضغط قوي أو فوق المعتاد، مثل الذي ينتج عن الإثارة السيكولوجية، ذلك أن جسم الإنسان يتفاعل بشكل لا إرادي عند تعاطيه لمثيرات داخلية أو خارجية مثل: الصوت، والضوء، ودرجة الحرارة، والعواطف، والكلمات، والوجوه. ويلاحظ أنه مع تغير مستوى الإثارة السيكولوجية لدى الفرد تتغير استجابته لاإراديا بحسب نوع الإثارة التي يواجهها (إيجابية، سلبية، محايدة)، فعلى سبيل المثال، يتعرق الناس بشدة عند الشعور بالحر، أو عند الحماس الزائد، أو الضغط العاطفي، كما يتسع بؤبؤ العين كلما دخل المرء إلى غرفة مظلمة، أو عند رؤيته لشخص ينجذب له.[33]

رسم توضيحي 6: تقنية استجابة الجلد الغلفانية.

ونظرا للأهمية التي تحظى بها هذه التقنية في وقتنا الحاضر، لم يعد استخدامها مرتهنا بالاطمئنان على الحالة الصحية أو النفسية للمريض، وذلك بعدما شاع استخدامها في ميادين أخرى لا علاقة لها بالجانب الطبي كالاستخبارات، حيث يوظف المحققون تقنية الاستجابة الجلدية ضمن جهاز الكشف عن الكذب.[34] للتأكد من صحة المعلومات التي يدلي بها المتهم، فقد بات في حكم المؤكد أن العديد من المشاعر الإنسانية وعلى غرار: السعادة، والهلع، والغضب، والاهتمام، والتوتر، هي مشاعر تخلق منبهات نستطيع تسجيلها انطلاقا من اليد، فالاستجابة العصبية التي ترتبط بالإثارة اليدوية قابلة للقياس والاستفادة منها.[35]  في مجالات عديدة، ومنها مجال التسويق.

ومع أن خبراء التسويق العصبي يعتبرون أن دراسة سلوك المستهلك، بالاستناد إلى المعلومات التي تزودنا بها الاستجابة الجلدية وحدها مسألة ممكنة، إلا أنهم لا يثقون في قدرة هذه الاستجابة على التنبؤ بردود أفعاله العاطفية. وبسبب ذلك فإنهم يفضلون أن يتم استخدام هذه التقنية بجوار أدوات أو تقنيات أخر مثل تلك المتعلقة برصد حركة العينين، إذ يمكن لاختبار (GSR) أن يدعم في الكثير من الأحيان تقنية ترميز العين ما دام أن “تتبع مسار العين في حد ذاته لا يفيد بالضرورة في معرفة السبب الذي يجعل المستجوبين ينظرون على نحو معين، وضمن هذا الإطار يمكن لــ (GSR) أن تتدخل من خلا تقديم قراءات آنية ومستمرة لنشاط الجلد، وربط حالات الإثارة بالنتائج التي تسفر عنها عملية تعقب حركة العين. لأن القيام بذلك سيساعد على تقديم تفسير علمي للنتائج، وليس مجرد التخمين.[36]

اختبارات التسويق العصبي

في عام 1975 قامت شركة بيبسي للمشروبات الغازية بدعوة العديد من المشاركين لإجراء اختبار أطلق عليه آنذاك اختبار التذوق الأعمى (Blind taste) وهو اختبار عشوائي يقوم على أساس مفاضلة المشاركين بين كل من مشروب بيبسي وكوكا كولا، دون معرفة اسم العلامة التجارية. ولم يكن مفاجئا حينئذ أن يختار الناس بيبسي، بعدما اعترفوا بأن مذاق بيبسي هو الألذ. والجدير بالإشارة أن هذه التجربة لم تتوقف عند هذا الحد، ففي عام 2003 أعاد Read Montague وهو عالم أعصاب طرح السؤال الآتي: إذا كان الناس يفضلون حقا بيبسي على كوكا كولا، فلماذا لا تهيمن مشروبات بيبسي على السوق؟[37]

وعلى أمل الإجابة عن هذا التساؤل، أجرى مونتاج تحدي البيبسي من جديد، وقد قام هذه المرة بإيصال الأشخاص الخاضعين للاختبار بجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي بغية تتبع نشاط الدماغ. وبالموازاة مع ذلك، طلب منهم تذوق مشروب معين دون إخبارهم بنوع العلامة التجارية التي ينتمي إليها. وفي البداية صرح حوالي نصف المشاركين بأنهم يفضلون مذاق البيبسي، ولكن ما أن تم اطلاعهم بحقيقة عينات كوكا كولا، تراجع هؤلاء عن موقفهم السابق؛ حيث قالوا بأنهم يفضلون طعم مشروب كوكا، وتحولت التفضيلات إلى 3 مقابل 1 لصالح كوكا كولا. ليس هذا فقط، حيث لوحظ أن هناك زيادة واضحة في نشاط قشرة الفص الجبهي، وهو الجزء من الدماغ المتحكم في التفكير العميق، هذا بالإضافة إلى وجود نشاط بارز على مستوى الحُصَين (بنية تشريحية في الدماغ) يتعلق بالذاكرة.[38]

وخلص مونتاج إلى أن دماغ الأشخاص الذين تعرضوا للاختبار كان يقوم باستدعاء وتذكر صور وأفكار لإعلانات تجارية سابقة، وبأن الأفكار والمشاعر المرتبطة بالعلامات التجارية تطغى على الجودة الحقيقية للمنتج. وفي سنة 2004، نشر مونتاج النتائج المتوصل إليها، وهو الأمر الذي شكل عاملا أساسيا في خروج علم التسويق العصبي من الظل إلى العلن. وقدمت هذه الدراسة دليلا علميا على قدرة تقنيات التسويق العصبي على التنبؤ بسلوك المستهلك، وذلك بعدما تبين جليا كيف أن الدماغ البشري يستجيب لتأثير العلامات التجارية والإشهارات بشكل عام “وكلما كانت العلامة التجارية مسجلة بالدماغ، كلما زاد هذا النشاط تأثرا بالإشهار… إن العلامة الأكثر تسجيل لدى المستهلك، تقوم بتنشيط الجزء الأيسر من الدماغ بعد الثانية الأولى من المشاهدة، ثم تقوم بتنشيط الجزء الأيمن بعد لحظات من ذلك”.[39]

خاتمة

لا مراء في أن التسويق العصبي سيفتح آفاقا كبرى أمام الشركات الضخمة لفرض هيمنتها على الأسواق التجارية، ومحاصرة الزبناء في مختلف نقط البيع والشراء، فبفضل التقنيات والأدوات المتطورة التي يعتمد عليها هذا العلم لم يعد فعل الشراء يمثل إشكالا أو لغزا محيرا على نحو ما كان عليه سابقا. هناك مناطق معينة في الدماغ هي المسؤولة عن قرار الشراء، ويكفي أن نقوم بدغدغة أحاسيس المستهلك وإثارة انتباهه؛ لتحفيز هذه المناطق وجعلها تتجاوب إيجابا مع الإعلانات التجارية التي ما فتئت تحكم قبضتها عليه في مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] – هلال، محمد عبدالغني حسن. 2012 “التسويق العصبي واللعب في العقول” الطبعة الأولى، دار الكتب المصرية، القاهرة. ص: 08
    [2] – Nguyen, Tu Anh. 2021 « Fundamentals of Neuromarketing An Interdisciplinary Field That Changes How Marketers Understand Consumers » SeAMK. School of Business and Culture.Thesis. p: 19
    [3] – Ramachandran, K, K. 2021 « Neuro Marketing- Exploring the Brain of the Consumer: A Review » Review of International Geographical Education. (RIGEO), 11(7), 1034-1049. Doi: 10.48047/rigeo.11.07.98.
    P : 1035.
    [4] – Misra, Lipsa. 2023 « Neuromarketing-Insights Into Consumer Behavior » IUJ Journal of Management.
    P : 145
    [5] – Katarzyna Wrona, M, Sc. 2014 « Neuromarketing- its Role in Building of Brand, Intoduction of Products Innovation, and advertising messages » Institue of aviation. Poland. Minib, Vol 11, Issue 1. Marketing of Scientific and resreach Organisation. PP : 4-5
    [6] – Harrell, Eben. 2019 « Neuromarketing : what you need to know » Harvard Business Review Digital Article. Retrieved from website : https://hbsp.harvard.edu/product/R1907A-PDF-ENG
    [7] – Solomon, Pravin Raj. 2018 « Neuromarketing: Applications, Challenges and Promises » Biomedical of Scientific Technical Research.India. P : 9136
    [8] – Genco, Stephen J , Pohlmann,, Andrew P, Steidl, Peter. 2013 « Neuromarketing For Dummies » Published by : John Wiley & Sons Canada Ltd., Mississauga, Ont. P : 07
    [9] – Zurawicki, Leon. 2010 « Neuromarketing: Exploring the Brain of the Consumer » Springer, Heidelber Dordrecht London. P : 03
    [10] – بغول زهير وآخران. 2017 “الدافعية والسلوك بين نظرية التدرج الهرمي لأبراهام ماسلو ونظرية العقل الثلاثي لبول ماكلين” مجلة أبحاث نفسية وتربوية، العدد 10- جوان 2017. ص:  14.
    [11] – Steffen Patrick, Hedges Dawson and Matheson Rebekka. 2022 « The Brain is Adaptive not Triune : How to Brain Responds to Threats, Challenge, and Change. Frontiers in Psychiatry Review. Volume 13, Article 802606. P : 01
    [12] – Renvoisé, Patrick and Morin, Christophe.2005 « Neuromarketing : is there a buy buttin in the brain ? how selling to the old brain will bring you instant Success »  p : 08
    [13] – Font, LIuis. 2016 « Neuromarketing: 3 Brain Theory Applied to Sales and Marketing » Retrieved from website: https://www.linkedin.com/pulse/neuromarketing-3-brain-theory-applied-sales-marketing-lluis-font/
    [14] – Ibid.
    [15]– Zaltman, Gerarld. 2003. « The Subconscious Mind of the Consumer (And How To Reach It) » Harvard Business Review, Interview by Manda Mahoney. Jan 13th ;
    https://hbswk.hbs.edu/item/the-subconscious-mind-of-the-consumer-and-how-to-reach-it
    [16] – Renvoisé, Patrick and Morin, Christophe.2005 « Neuromarketing : is there a buy buttin in the brain ? how selling to the old brain will bring you instant Success »  p : 10
    [17] – Cowan, Nelson. 2001 « The magical number 4 in short-term memory: A reconsideration of mental storage capacity ». Behavioral and Brain Sciences. P : 87-185
    [18] – Martinez-Selva el al. 2006. « Brain mechanisms involved in decision making » Article in Revista Neurologia, 2006, (7) : p : 411
    [19] – هلال، محمد عبدالغني حسن. 2012 “التسويق العصبي واللعب في العقول” الطبعة الأولى، دار الكتب المصرية، القاهرة. ص: 59
    [20] – فقيه، أشرف. 2007 “التسويق العصبي فن مخاطبة مخ المستهلك” مجلة القافلة الإلكترونية، المملكة العربية السعودية.
    [21] – Kumar Das, Krishanu. 2018 « Consciousness and its relation with subconscious mind : The Mystery probed. Department of Medicine, Asansol, India. P : 09
    [22] – Ibid.
    [23] – Kahneman, Daniel. 2011 « Thinking Fast and Slow » New York: Farrar, Straus and Giroux. P : 109-255
    [24] – هيث، روبرت. 2017 “إغواء العقل الباطن سيكولوجية التأثير العاطفي في الدعاية والإعلان” ترجمة محمد عثمان، الناشر مؤسسة هنداوي،  المملكة المتحدة. ص: 206
    [25] – Morlin, Christophe. 2011 « Neuromarketing : the New Sciense of Consumer Behavior » Symposium : Consumer Culture in Global Perspective, Springer Science Business Media. P : 133
    [26] – Faster, Capital. 2024 « Neuromarketing: How to Use Neuroscience to understand and Influence Your Customers with E marketing Strategy » » Retrieved from website :
     https://fastercapital.com/content/Neuromarketing–How-to-Use-Neuroscience-to-Understand-and-Influence-Your-Customers-with-E-marketing-Strategy.html
    [27] هلال، محمد عبدالغني حسن. 2012 “التسويق العصبي واللعب في العقول” الطبعة الأولى، دار الكتب المصرية، القاهرة. ص: 20
    [28] – المرجع السابق، الصفحة، 24
    [29] Misra, Lipsa. 2023 « Neuromarketing-Insights Into Consumer Behavior » IUJ Journal of Management.
    P : 152
    [30] Marques Martinez, Sandra. 2021 « Neuromarketing and Sensory Marketing : Are we owners of our purchasing decisions ? » Programa Internacional del Grado en Administración y Dirección de Empresas. UPNA, Espania. P : 24
    [31] – Idstats, Team . 2020 « Getting to Know Neuromarketing: Facial Coding » » Retrieved from Idstats website :  https://idstats.co/blog-1/getting-to-know-neuromarketing-facial-coding
    [32]Gianluca, Mezzofiore. 2017 « Disney is using facial recognition to predict how you’ll react to movies » Retrieved from mashable website : https://mashable.com/article/disney-facial-recognition-prediction-movies
    [33]– Dorwart, Laura. 2023 « what is the Galvanic Skin Response (GSR) ? » » Retrieved from verywell health website :  https://www.verywellhealth.com/galvanic-skin-response-6373883
    [34] – Narayanan, Surya and Raj, Praveen.2020 « Neuromarketing : The Science of Consumer Behavior » Indian Institute of Management Kozhikode, 04th International Conference on Marketing, Technology-Society.
    P : 03
    [35]– Solomon, Pravin Raj. 2018 « Neuromarketing : Applications, Challenges and Promises » Biomedical journal of Scientific § Technical Research. Volume 12- Issue2. India. P : 9140
    [36] – Explorer Research. « How the Smart Watch Trend Observes Consumer Behaviour » Galvanic Skin Response. Retrieved from:https://explorerresearch.com/gsr-market-research/
    [37] – NeuroSensum. 2018 «The Pepsi Challenge: How Neuroscience Discovered the Hidden Truth ». Retrieved from:
     https://medium.com/@neurosensum/the-pepsi-challenge-how-neuroscience-discovered-the-hidden-truth-e5da7997f046
    [38]– MarketingSchools. 2020 « Neuromarketing Explore the Strategy of Neuromarketing » . Retrieved from : https://www.marketing-schools.org/types-of-marketing/neuromarketing/#section-0
    [39] – خري، عبدالناصر. 2014 “التسويق العصبي. التوجه الجديد في علم التسويق”. مجلة العلوم التجارية، الجزائر، ص: 24
Scroll to Top