جدلية الحياة والحياة في رواية الحيّ الحيّ لعلي الشعالي
جامعة محمد الأول، وجدة
المغرب
مقدمة
تعد رواية الحي الحي باكورة أعمال المبدع الإماراتي علي الشعالي، وقد صدرت عن دار اللوهة للنشر بدبي عام 2019، وحصلت على جائزة العويس للإبداع عام 2020.
تقع الرواية في أربع وستين وثلاث مائة صفحة، من الحجم المتوسط، وتضم تسعة عشر فصلا، كل فصل يحمل رقما، لا يعكس بالضرورة التسلسل الزمني للأحداث، وعنوانا دالا على محتواه.
وقد نجح الشعالي، على مستوى الشكل، في خلق نموذج روائي بديع، وفي بناء رواية ذات بناء هندسي عجيب. وهذا ليس غريبا على رجل يملك خبرة طويلة، ليس في مجال الهندسة المدنية وإدارة المشروعات فحسب، وإنما في مجال الهندسة الإبداعية الأدبية أيضا، وهذا ما تؤكده إبداعاته الشعرية والنثرية.
لكن، رغم هذا النجاح، فإن اهتمامنا في هذا البحث، لن ينصرف إلى الاحتفاء بهذا الشكل البديع، وإنما سيركز على معنى الرواية وفكرتها، أي إيحاءاتها ومعانيها الممكنة أو المحتملة، وهو الجانب الذي لا يحظى غالبا بالكثير من عناية النقاد واهتمامهم، نتيجة تركيزهم على المبنى أو الصياغة تركيزا مبالغا فيه، قد يُنسي بعضَهم الالتفات إلى العناصر الأخرى التي ترتبط بالمعنى، وتحقق الفكرة.
ويمكن القول، إن الكاتب كان في روايته شاعرا فيلسوفا، أو فيلسوفا شاعرا، يمتلك خيالا واسعا، ويتفنن في استخدام اللغة، ويجيد نظمَ الكلام، وتوليدَ الصور، وتجسيدَ المشاعر والأفكار، فجاءت روايتُه مليئة بالحِكم والأمثال السائرة، كما جاءت لغة الرواية إشارية (الإشارة هي الأصل في القول الأدبي عامة، بخلاف القول العلمي والفلسفي الذي تعد فيه العبارة هي الأصل)، مليئة بالإيحاء والرمز والمجاز والاستعارة، ولذلك فهي تحتمل أكثر من معنى، وتقبل أكثر من قراءة.
من هنا، نؤكد أن ما كان يهم الكاتب في هذه الرواية، ليس هو “الإفادة” – بتعبير ابن خلدون في المقدمة، وهو يتحدث عن ملكة البلاغة في اللسان عند العرب- أي مجرد التعبير عن الفكرة، بأي لغة كانت، وإنما هو “كمالُ الإفادة” وتمامها، بتعبير ابن خلدون مرة أخرى، وهي الغاية التي لا تتحقق سوى بالتعبير عن الفكرة بلغة فنية مخصوصة، تتحقق بها الوظيفة الجمالية الفنية، إلى جانب الوظيفة التعبيرية، وتتحقق بها تلك المتعة السامية التي لا يمكن بلوغها سوى بالأدب والفن عامة. وهذا ما يجعلنا نقول: إن هذه الرواية بديعة مبنى ومعنى.
سينصب اهتمامنا في هذه الدراسة، إذا، على تحليل الرواية بحثا عن معانيها الفلسفية الوجودية الممكنة، وذلك بغرض استكناه تصور الكاتب للوجود وللعالم، ومعرفة كيفية إدراكه له، وتعبيره عن قضاياه ومشكلاته.
وهذا يحتم علينا الوقوف، أولا، عند عنوان الرواية، لما لهذه العتبة من معان وإيحاءات عميقة، تختزل دلالاتها ومقاصدها. والبحث، ثانيا، في دلالة بعض الرموز التي وظفها الروائي، وفي مقدمتها: رمز الفراشة.
- إيحاءات عتبة العنوان: من جدلية الحياة والموت إلى جدلية الحياة والحياة
يعد العنوان مفتاح النص، والعتبة التي تسمح لنا بالعبور إلى عالمه دلاليا ورمزيا. من هنا، أهميته وخطورته، فهو للنص بمثابة الرأس للجسد، وأي محاولة لفصله عنه، أو تجاوزه أثناء القراءة، يمكن أن تفضي إلى تشتت النص وتبعثره، وإلى ابتعاد القارئ عن عالم النص، وعن فكرته المركزية.[1]
يقوم عنوان هذه الرواية، على المستوى التركيبي، على تَكرار لفظة الحي مرتين (الحي الحي)، وهو تكرار نتج عنه تماثل صوتي ودلالي، جعل العنوان ذا طابع موسيقي خاص، يمكن أن يُحدث نوعا من التأثير الصوتي في المتلقي.
كما أن هذا التكرار يغني البنية الدلالية للرواية، ويجعلها أكثر عمقا وإيحاء. وهكذا، نجد أن عنوان الرواية يحيل، في مستواه الأول السطحي، إلى فضاء جغرافي محدد، هو الفضاء الذي كان يقيم فيه البطل يحيى سعيد حيث منزلُه بدبي.[2] وهذا ينسجم مع المعنى اللغوي للفظة “الحي”؛ إذ من معانيها، في اللغة، “القبيلة”.
لكن هذا العنوان يحيل، في مستواه الثاني العميق، إلى الحياة، أي إلى ضد الموت، وهي الدلالة نفسها التي يحيل إليها اسم البطل “يحيى”، كما يحيل إلى تصور معين للوجود، قد يكون هو تصور الكاتب نفسه، وقد لا يكون، خاصة وأن الشخصية الحكائية لا تحمل، في الغالب، أي دلالات إحالية مرجعية تربط النص بالسياق، وإنما تكون مجرد علامات نصية شبيهة بالعلامات اللغوية، لا تحيل إلا إلى داخل النص.
وهنا نجد أنفسنا أمام حياتيْن متداخلتين يحياهما البطل، وأمام ماضيين وحاضرين:[3] تبتدئ الحياة الأولى بولادة البطل بدبي، وتنتهي بلندن لحظة انتحاره، وهي حياة عاشها البطل يحيى عربيَّ الجسد، عربيَّ الذاكرة والهوية. أما الحياة الثانية، فهي تبتدئ بلندن، في اللحظة التي استيقظ فيها من موته، بعد انتحاره، ليجد نفسه مرتديا “جسدا لا يعرفه”.[4] وتتواصل بدبي دون أن تنتهي، وهي الحياة التي عاشها بلا هوية واضحة، حيث تحول فيها إلى “مسخ”، يتألف من مزيج من ذاكرة يحيى العربية المثقوبة، ومن قلبه وعقله ولسانه، ومن جسد الضابط الشجاع والقوي في الجيش البريطاني جوزف وليم،[5] والذي شارك في الحرب العالمية الثانية رفقة الزعيم البريطاني تشرتشل، ومات قبل موت يحيى في حادث بيومين فقط. يقول السارد: “سيدي، حادث السير الذي بين يديك كاد يودي بحياة ضابط استثمرت في تدريبه مئات الآلاف من الجنيهات، وكل ما احتاجه لكي يبقى على قيد الحياة كان قلبا حيا وذاكرة… ولحسن الحظ فقد قررت سيادتك أن تنتحر بعد الحادث بيومين فقط، وقد سمحنا بموجب العقد أن نستخدم قلبك، وأن نعتصر ذاكرتك ونضخها في جمجمة الضابط جوزف، وها أنت ذا ترتدي جسده وروحه… أنت يا حضرة الضابط تحمل قلب عاشق، وعقل دكتور بارع، وذاكرة مليئة بالقصائد والجمال”.[6]
وبين الحياتيْن خيط دقيق لا يكاد يُدرك، حيث ينتقل بنا السارد من حياة البطل الأولى إلى حياته الثانية بسرعة، وبشكل تتماهى فيه الحياةُ الثانية، حياةُ الإخفاء والغيابِ؛ إخفاءِ هوية يحيى وذاكرتِه في الجسد الغريب، وغيابِه عن أبنائه، مع الحياة الأولى، حياةِ الكشف والظُّهور والحضور، إن لم يكن على مستوى علاقات البطل بمحيطه، فعلى الأقل على مستوى الشكل واللون. يقول السارد متحدثا عن البطل: “الدكتور يحيى الذي قضى حياته الأولى غريبا في محيطه إلا من شكله ولونه، يعيش عربيا في ملامح غير عربية”.[7]
ورغم أن الحياة ضد الموت، لأن الموت هو عدم الحياة،[8] فإن الروائي يرينا كيف تتماهى الحياة مع الموت، وكيف تتعايش معها في ثنائية جدلية طرفاها الحياة والحياة، وليس الحياة والموت! كما يرينا كيف يذوب الموت في الحياة، فيختفي الموت، وتحل محله الحياة. وهذا ما يجعلنا ننتقل مع الرواية، من ثنائية الحياة والموت، إلى ثنائية الحياة والحياة، ومن الموت في الحياة، إلى الحياة في الموت.
ويلاحظ أن اسم يحيى نفسه يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه المعاني، فهو يرمز إلى الحياة والتجدد بعد الموت[9]. من هنا، جاء عنوان الرواية معبرا عن هذا الانتقال الرمزي والسريع من الحياة الأولى إلى الحياة الثانية. بل إن البطل ينكر أن يكون قد مات؛ حيث يقول في الرسالة التي تركها لابنته سارة عندما زار بيته في دبي وهو في هيئة جوزيف: “سارة بنت الحارة، أبوك لم يمت، إنما غير هيئة حضوره، جئت إلى البيت الليلة دون موعد، وأرجو أن نلتقي في المكان الذي أقمنا فيه آخر حفل شواء مع أمك، سأنتظرك مساء الغد، في اللقاء الأول تعالي وحدك وسأطلعك على مكان أبيك وكيفية الاتصال به”.[10]
ويتأكد انصهار الموت في الحياة وذوبانه فيه من خلال العنوان، وذلك بِعَدمِ وضع الكاتب بين لفظة الحي الأولى ولفظة الحي الثانية أي فاصل، سواء أكان حرف عطف أم فاصلة أم نقطة أم عارضة، لأن مثل هذا الفاصل كان سيوحي بوجود حياتيْن منفصلتين، والأمر بخلاف ذلك.
وإذا كان الموت من طبيعته أنه حد أو نهاية، فإنه في الرواية بداية لحياة أخرى جديدة،[11] وسبيل للعبور إلى الضفة الأخرى للحياة.[12] وإذا كان الموت يفضي في العادة إلى الفَناء، فإنه هنا يؤدي إلى الخلود. ثم إنه بعدما كان الموت يكمن في جوف كل حياة، صارت الحياة هي التي تكمن في جوف الموت.
من هنا، لم يعد هناك أي داع للخوف من الموت، أو للهرب منه. ولهذا نجد البطل يحيى لا يخشى الموت، فيقبل على الانتحار ببرودة دم وهو بفندق بلندن، حيث سينتحر باستعمال شفرة الحلاقة.[13] وكأنه توافق مع الموت وتصالح معه واستأنس به، فلم يعد يخشاه، لأنه يدرك بأنه لا يعني النهاية، وإنما بداية جديدة لحياة جديدة.
ولهذا، يمكن القول إن العنوان حقق مقاصد المؤلف، وعبّر عن تصوره للحياة وللموت، وعن تصوره للإنسان ولوجوده في هذه الحياة، وهو تصور يقوم، على تمجيد الحياة، والانتصار للإنسان وللقيم الإنسانية النبيلة؛ كالسلم والتسامح والتعايش والحب، ونقد الفكر العدمي المتطرف الذي يشرِّع للعنف والكراهية، ويمجد الموت، ويتسبب فيه بدون أي وجه حق، والذي تتبناه بعض الجماعات الدينية الإرهابية، التي شبهها السارد بالزنابير أو الدبابير، والتي ترمز إلى المكر والغدر المقيت وسفك الدماء، وهو ما يجعلها علامة “سوء”.[14]
وكأن السارد يريد أن يقول: إن الحياة هي قدر الإنسان، وليس الموت، وإن الإنسان ولد ليحيا، لا ليموت.
كما ينتقد السارد استخفاف العلم الحديث، بما حققه من تطور تكنولوجي كبير، بقيمة الإنسان، وذلك بإلغائه جوانبَه الجوانية الداخلية الروحية، وتعامله مع الإنسان وكأن كل شيء فيه قابل للتغيير والترميم، الأمر الذي نتج عنه اهتمام الناس بالمظاهر الخارجية وكأنها أسمى ما في الإنسان، واستعدادهم لدفع أي ثمن للحصول على قدر من الجمال، حتى ولو كان هذا الجمال مزيفا بلاستيكيا، ناتجا عن جراحة بلاستيكية.[15]
لقد تسبب هذا التطور التكنولوجي، في نظر البطل، في “انحسار الهوية”.[16] من هنا، نجده رغم افتتاحه عيادة التجميل بدبي، التي اختار لها شعار: “جسدي معبدي، وجهي هويتي”،[17] إيمانا منه بعظمة العلم، وما يمكن أن يحققه على مستوى الجسد والروح، فإنه كان يشعر بعدم الاهتمام عندما كان يتحدث صديقه وليد باستخفاف عن الإنسان وقيمته.[18] بل إن صوته المتهدج كان يفصح عن شعوره بالاستياء “من أطروحات وليد التي تنحو، باتفاق المجموعة، إلى استساغة العنف، والاستخفاف بقيمة الإنسان”.[19] أما ابنته سارة، فلم تكن تخفي شعورها بالاشمئزاز والتأسف بسبب ما آل إليه هذا التطور التكنولوجي.[20]
من هنا، لم يتردد البطل في تشبيه المستثمرين في مركز الأبحاث الذي كان محتجزا فيه، والذي غيّر هيئة حضوره، بإعادته إلى الحياة في جسد رجل آخر، بالزنابير، مثلهم مثل الجماعات الدينية المتطرفة في النفاق. يقول يحيى في رسالة وجهها إلى إدارة المركز: “أنتم كالزنابير تماما، تقولون ما لا تفعلون، وتهدرون أوكسجين الأرض فيما لا ينفع، الفرق أنكم تقومون بهذا بأناقة تناسب ربطات أعناقكم الحريرية…”.[21]
إن هذا النقد الذي وجهه السارد إلى التطور التكنولوجي، وما تسبب فيه من تشظٍّ للذات الإنسانية، ومن تسليع للجسد وتمجيده إلى حد الهوس، يذكرنا بالنقد الذي وجهتْه مدرسة فرانكفورت في ثلاثينيات القرن الماضي إلى مؤسسة العلم؛ وذلك حين رأت أن منتجات هذا العلم التكنولوجية، تحولت إلى جبرية تمارس سلطتها على الإنسان. كما أن هذا النقد يستدعي فكرة السيولة عند زيجمونت باومان Zygmunt Bauman، بوصفها نموذجا لنمط الحياة التي يحياها الإنسان في الوقت الراهن.[22]
لقد كان يحيى بانتحاره يبحث عن الحياة في الموت، وعن الذكرى في النسيان، غير أن هذا الانتحار لم يحقق له ما كان يرجوه، إذ سرعان ما عاد إلى الحياة، أو فلْنقل ظل حيا رغم انتحاره وموته، ولكن في جسد رجل آخر غريب، وبذاكرة مثقوبة، ومهددة بالمحو في حال لم يحترم بنود العَقْد الذي يربطه بمركز الأبحاث، ويتعاون معه بإنجاز المهام التي تسند إليه.
ثم تنتهي الرواية بعودة يحيى إلى عيادته مدربا في مجال التجميل، فتنتهي الرواية بذلك بما بدأت به، وتتخذ البنية السردية في الرواية شكلا دائريا، يعيد يحيى، ويعيدنا – نحن القراء – إلى نقطة البداية.
- دلالة رمز الفراشة في الرواية: تحولات شخصية البطل
يعد الرمز، بأنواعه المختلفة، من أهم الوسائل الفنية التي اعتمدتها الرواية المعاصرة للتعبير عن مقاصد المؤلف، وتجسيد أفكاره ومشاعره، لأن الرمز يستطيع التعبير عن المعاني المتعددة والمشاعر المتباينة، التي تحتجب وراء صورها.[23]
وتحضر في الرواية مجموعة من الرموز، وهي تتوزع إلى رموز طبيعية – حية وجامدة – مثل: دبي، ولندن، وبغداد، والرّقة بسوريا، والبحر، والفراشة، والطيور، والدبابير/ الزنابير. ورموز مرجعية سياسية واجتماعية، مثل: مظفر النواب، وتشرتشل، وهتلر، وروزفلت… غير أننا سنقتصر، لضيق المجال المخصص لهذه الدراسة، على الحديث عن رمز واحد من هذه الرموز، هو رمز الفراشة؛ حيث سنحاول البحث في المعاني التي يعبر عنها حضور هذا الكائن الحي الصغير والجميل والضعيف، في الوقت نفسه، في الرواية.
تحظى الفراشة، في أغلب الثقافات العالمية، بالكثير من التبجيل والتعظيم، حيث يمكن القول إن هذا الرمز كوني، يحضر في جل الثقافات، ويعبر عن المعاني نفسها في جميع الثقافات، فهي ترمز إلى الإنسان، وتدل على التحول والتغير والتقلب،[24] وعلى القدرة على الانتقال من حال إلى حال، ومن نمط حياة إلى نمط حياة آخر، كما تدل على إعادة الميلاد والتجدد والأمل، إضافة إلى أنها تمثل الروح، حيث يُعتقد في بعض الثقافات أنها تمثل الخلود والروح، وترمز إلى النفوس التي غادرت الحياة. من هنا يمكن القول بداية إن الروائي أراد باستخدامه هذا الرمز الكوني، إعطاءَ روايته، التي تعالج قضايا علمية إنسانية وجودية، بعدا عالميا كونيا.
ويحضر هذا الرمز في الرواية بشكل مكثف ومثير للانتباه؛ إذ افتتح به الروائي روايته، فجعل الفصل الأول منها بعنوان: “فراشة في حريق”،[25] وأورد في كلمة الغلاف الخلفي للرواية مقطعا روائيا يشير فيه السارد إلى شغف البطل بالفراشات. وبين عنوان الفصل الأول وكلمة الغلاف الخلفي للرواية، يتردد ذكر الفراشة في مواضع كثيرة.[26]
كما يحضر هذا الرمز في أعمال أدبية أخرى للروائي علي الشعالي، منها حضوره اللافت في ديوانه الشعري: للأرض روح واحدة؛ حيث وضعه عنوانا لإحدى قصائده،[27] وذكره في قصيدة أخرى.[28]
غير أن السارد يتحدث عن صنفيْن من الفراشات؛ فهناك من جهة الفراشة الخائفة المترددة، وهناك من جهة أخرى الفراشة الشجاعة، التي تجازف بكل شيء لتنفرد بالنجاح، وتتجاوز نقطة “اللاعودة” لاكتشاف عوالم أخرى جديدة. يقول السارد في مقطع يتحدث فيه عن البطل، وهو يشاهد برنامجا تلفزيونيا عن أطوار حياة الفراشة وسلوكها: “تقرر فراشة واحدة أن نورا بهذه الوفرة يستحق الاقتراب، فتجازف بكل شيء من أجل المزيد من الدفء، تتخطى نقطة الـ “لا عودة”، فخ تاريخي لكنه ينجح كل مرة إما بسبب حُمق الكائنات، أو شجاعتها البالغة. ينهي يحيى القصة الثانية من مجموعة جيمس جويس ويضم غلافي الكتاب ثم يضعه جانبا، شيئا فشيئا تهترئ أجنحة الفراشة، وتصبح الرفرفة دون جدوى، ذابت! لكنها نجحت أخيرا في العبور إلى ضفة لم تصلها صديقاتها، بل لم يتجرأن أن يحلمن بها، يسدل ذراعيه ويريح رأسه على الوسادة في استسلام جوهره انتصار، جفناه بابا قلعة ثقيلان، وكما يحدث دائما، سيعاهد نفسه صباحا أن تكون الجمعة التي تليها مختلفة، وأن يكون في مكان آخر، أو ربما عالم آخر”.[29]
ويمكن القول إن الفراشة التي تمثل البطل وترمز إليه هي هذه الفراشة الشجاعة التي استطاعت، بوصولها إلى العالم الجديد الذي عجزت الفراشات الأخرى عن الوصول إليه، أن تنتصر على الموت، رغم احتراقها و”ذوبانها”.
يظهر البطل في الرواية محبا للفراشات، منذ طفولته، شغوفا بها إلى حد الهوس. يقول السارد على لسان سعيد الصياد، والد يحيى، وهو يحدث صديقه خلفان عن رحلته رفقة أبنائه إلى لندن، عندما كان البطل طفلا: “ثم ذهبنا إلى متحف التاريخ الطبيعي، وكان يومها يحتفي بالفراشات بمعرض خاص، ولإمتاعك عليّ أن أذكر أن المعرض عنون باسم بطلك، أو فلأقل بطلنا تشرتشل، أسموه: “المخلوقات التي أحبها قائدنا”، استمتع الأبناء، وتعلمنا كثيرا، شغف يحيى بهذه الحشرة الطائرة، وظل يسأل عنها في مختلف مفاصل الرحلة، عن ألوانها، وسلوكها في الطبيعية، وأطوار نموها، كيف تحيا وكيف تموت”.[30]
وقد رافقه هذا الحب وهذا الشغف في كبره، حيث يُظهر البطل اهتمامه بالفراشة وشغفه بها في مواضع كثيرة، إلى درجة أن مشاهدتَه الفراشاتِ على التلفاز كان يساعده على الاسترخاء، ويشعره بالراحة، ويبعد عنه القلق والأرق.
ويبلغ هذا الشغف أقصاه حين تتماهى شخصية البطل مع الفراشة إلى درجة تجعل السارد يتحدث عن البطل وكأنه هي، وعن الفراشة وكأنها هو، وهذا ما يسمح لنا بالحديث عن البطل الفراشة لا البطل والفراشة![31]
وهو في شغفه هذا بالفراشات يشبه الزعيم البريطاني تشرتشل، الذي كان بدوره محبا للفراشات، شغوفا بها، يحرص على رعايتها رغم الاعتراضات التي كانت تصل، أحيانا، إلى القيادة.[32]
ويمكن القول، إن الفراشة، بما هي رمز كوني يدل على معاني التغير والتحول، والانتقال من حال إلى حال، إنما تعبر عن شخصية البطل يحيى، تعبيرا صريحا. ذلك بأن هذه الشخصية نامية، متغيرة ومتقلبة، وتؤمن “أن التغير سنة الحياة”،[33] وتدرك “أن خطوط الجسد وألوانه قابلة للتغيير”،[34] وترغب، خاصة بعد وفاة الزوجة ذكرى، في تغيير كل شيء، “بدءا من أقرب الأشياء”، وفي التجرد حتى من ثيابها الإماراتية التي هي جزء من هويتها، إلى درجة أن معالِجة البطل النفسية، الدكتورة مايا، كانت تخشى أن تنتقل هذه الرغبة العارمة في التغيير التي تتملك البطل، إلى “التملص من ألزم المسؤوليات وأقرب الأشخاص”، وأن يجعله هربه من حزنه الشديد على رحيل زوجته، يفكر في الرحيل، و”يقرر فجأة أن يزحزح عن كاهله عبء الوجود وأسئلته المضنية”.[35] وهذا ما حدث بالفعل، عندما أقدم على الانتحار، ووضْع حدٍّ لحياته الأولى.
وهكذا، عمل البطل، إيمانا منه بأهمية التغيير، على تغيير أجساد الناس في عيادة التجميل التي أنشأها بدبي، وذلك بترميمها وإصلاحها، وجعلها تبدو “براقة كإناء رخامي”.[36] مستغلا اهتمام الناس بالمظاهر، وحرصهم على دفع أي ثمن للحصول على منتَج تجميلي، يجعل أجسادهم تبدو “أفضل” من ذي قبل.
ولم يكتف يحيى بمعالجة الجسد الذي جعله معبده، وإنما كان يخطط للانتقال إلى معالجة الأرواح أيضا. يقول يحيى سعيد: “إننا ننتوي التوسع لنشمل عنصرا لا يقل أهمية ألا وهو الروح، وقد استحدثنا لأجل هذا صالةً لممارسة اليوجا، وقسما للاستشارات النفسية، وأردفناها ببرنامج أسبوعي لجلسات التأمل، وحصص مع ممارسي الطاقة”.[37]
كما أن البطل يحيى، رغم ارتباطه بالماضي، وانشداده إليه، وتشبثه به،[38] ورغم اعتنائه بذاكرته اعتناء جعل صديقه وليد يشبهه باعتناء المحارب ببندقيته الوحيدة، أو اعتناء الجندي المشرد في منطقة وعرة بحذائه الأخير،[39] فإنه طرأت عليه تحولات وتغيرات كثيرة، خاصة بعد وفاة زوجته ذكرى، وشعوره بالحزن وبالذنب، نتيجة عدم قيامه بواجب دعمها في رحلة علاجها من مرض السرطان قبل وفاتها، فانتقل من حال إلى حال، ومن حياة إلى حياة.
يظهر يحيى سعيد منذ بداية الأحداث وهو يحاول التجدد والتحرر من ماضيه، والتخلص من الحبال التي تشده إلى هذا الماضي، والخروج من ذاكرة ذكرى والماضي، والعبور إلى ذاكرته هو، غير أن محاولاتِه جميعَها باءت بالفشل. يقول السارد: “يهديه ابنه سعيد بعد مدة مجموعة من الأقمشة القطنية المنتقاة، فيهديها يحيى إلى إبراهيم، لأنه لم يعد إلى لبس العقال بعد تلك الحادثة، فهو بالنسبة إليه حبل يشده إلى الماضي؛ عائلة “بن راشد” وشاطئ جميرا، الخسارات ولمعة السردين والسباحة، كرة القدم وصوت الموج، ذكرى والمراحل الأخيرة من العلاج، وهو لا يريد إلا الانعتاق، يود لو أنه يستطيع الولوج إلى ذاكرته، واقتلاع نباتاتها المتمددة ذات الشوك، ثم وضعها في مطحنة، وذرّ المسحوق في عاصفة شرسة، لكنه لم ينجح بعد”.[40]
غير أن تغيراتٍ كثيرةً ستطرأ عليه بعد انتحاره بلندن، بتشجيع من صديقه وليد، وعودته إلى الحياة في جسد جوزيف، وبذاكرة مثقوبة ممسوحة جزئيا؛ حيث تحول إلى “مسْخ مرقّع من رَجُلين ميتين”.[41] ثم تحوله بعد ذلك من طبيب إلى “باحث اجتماعي”،[42] أو “جاسوس” يعمل لصالح المركز البحثي المستقل الذي يملكه مستثمرون عالميون هدفهم الأول، كما قال السارد على لسان مارك، “الحفاظ على السِّلم، وتجنيب البشر عذابات الحروب وفظائع الإرهاب”.[43] ثم تحوله بعد ذلك، بإيعاز من مارك، إلى نجم في منصات التواصل الاجتماعي.[44]
إن هذه التحولات، وغيرها، جعلت حاضر البطل في حياته الثانية، أثقل عليه من ماضيه، وذلك بخلاف ما كان عليه الأمر في حياته الأولى. وفجأة صار يهرب من هذا الحاضر إلى ماضيه، وأصبح يستحضر هذا الماضي كلما اشتد به الحزن، بعدما كان هذا الماضي هو الذي يثقله بالحزن والأسى. وهكذا أصبح “يسترجع لحظات الصمت التي قضاها في حضن من أحب؛ زوجته الراحلة، تلك هي اللحظات التي تمده بطاقة الاستمرار، يشتبك بخياله في شكل من المقاومة فريد، مقاومة سجنه داخل هذا الجسد الغريب، وتحت إمرة هذه الروح التي لم يقبض من ماضيها ولو حفنة، صار الحاضر، لبرهة وعلى عكس العادة، أثقل من أي ماض، أصبح في الأيام التالية يكتب يومياته وأفكاره”.[45]
كما أصبح “يرتشف الماضي ويستلذ به، يمنحه الحق في التسرب إلى عروقه، ينتشي به حتى يثمل، يحرك ذراعيه ويمثل مغمض العينين مشهدا يعتمل في ذهنه، يعيش أوقاتا محفورة في رأسه”.[46]
وتحرر بعد وفاته، وأصبح يعيش لهدف معين، هو استعادة الشغف الذي افتقده بعد رحيل زوجته ذكرى، وصار كل همه هو أن يشم رائحة زوجته في ثيابها التي تملأ خزانته، و”لا شيء آخر”.[47] وأن يرى أبناءه، وأن يحيا معهم ولو بما تبقى منه، وهو الذي كان “لا يمنحهم أكثر من نصف وقته ونصف انتباهه، وحينما يُرصد متلبسا ويطلب منه أحدُهم إعادة جملة أو قصة، تنطلق ضحكات مفادها أنْ عُدْ، فنحن بحاجة إلى أكثر من حضور فيزيائي لأب”.[48]
خاتمة
بناء على ما سبق، نقول إن الرواية تقوم على مفارقات كثيرة، زمنية ومكانية وفلسفية. وهذه المفارقات تعبر عن اضطراب شخصية البطل وتناقضاته، فهو الذي ينشر السعادة في الوقت الذي يعيش تعيسا حزينا، وهو الذي يرمم أجساد الآخرين ويجعل الجسد معبوده، ولكنه يدمر جسده حين يقدم على الانتحار.
كما تعبر الرواية عن تناقضات المجتمع المعاصر، الذي أصبح يهتم بالجسد، ويقلل من شأن جوانبه الداخلية الروحية، حتى صار الناس يحرصون على الاهتمام بمظاهرهم الخارجية وكأنها أسمى ما يملكون، ويدفعون أي ثمن للحصول على قدر من الجمال، حتى لو كان هذا الجمال مزيفا وغير طبيعي، الأمر الذي يفقد المرء هويته الحقيقية، أو على الأقل يؤدي إلى انحسارها، مما يؤدي إلى شعور الإنسان بالاغتراب.
أما القيمة الأسمى التي تنتصر لها الرواية، فهي قيمة الحياة؛ فالحياة هي قدر الإنسان، والإنسان ولد ليحيا، لا ليموت. وهذا الانتصار للحياة إنما هو في الحقيقة انتصار للفكر الإيجابي، وللقيم الإنسانية النبيلة؛ خاصة قيم السلم والتسامح والحب. وهذا ما سمح لنا بالحديث عن جدلية الحياة والحياة في الرواية، بدل الحديث عن جدلية الحياة والموت.
الإحالات:
- [1] للوقوف على أهمية العنوان بوصفه عتبة من عتبات النص، ينظر: Gérard Genette: Seuils, Éditions du Seuil, Paris, 1987, p: 54 – 97.
- [2] يقول السارد: “يحيى منشغل حتى الثمالة بدائرته القريبة، محطاته اليومية هي هي، العمل والصالة الرياضية والمقاهي الراقية في الحي الحي”. ص57. وانظر أيضا، ص132.
- [3] الرواية، ص274.
- [4] الرواية، ص261.
- [5] الرواية، ص234.
- [6] الرواية، ص188.
- [7] الرواية، ص271.
- [8] يقول محمد علي التهانوي معرفا الموت: “الموت هو عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا”. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق: علي دحروج وآخرون، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996، ج2، ص1868. وانظر تعريفه للحياة، ج1، ص721. وانظر أيضا: جميل صليبا: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ج2، ص440.
- [9] يقول السارد: “بعد عدة أسابيع أنجبت صفية آخر العنقود لسعيد، فسماه يحيى، وبعدها بأشهر انضمت المدن المتصالحة في دولة واحدة لتعلن طي الصفحة على كل ما كان، أشرق عهد جديد، وقامت دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي المدارس ترددت كل صباح مع مراسم رفع العلم رباعي الألوان: “نموت لتحيا…”. ص180.
- [10] الرواية، ص313. كما أن البطل اتصل مرة “بهاتف ذكرى وأخبرها أن بعضه ما زال حيا، وأن بعضه الآخر لا شك ينعم بصحبتها في أرجاء الكون الفسيح”. الرواية، ص249. ويقول أيضا مخاطبا ابنته سارة: “أما الآن يا حبيبتي فعلينا أن نمزق وهما جديدا، فأنا لم أمت، نعم.. أبوك حي بشكل ما!”. ص270.
- [11] الرواية، ص88.
- [12] نفسه، ص265.
- [13] الرواية، ص143.
- [14] يقول ابن سيرين في بيان دلالة الزنبور: “الزنبور: رجل من الغوغاء، والأوباش، مهيب، صاحب قتال… وقيل إنه الممسوخ، وهو رجل يجادل في الباطل، وقيل: هو رجل غماز، سفيه…”. ويقول عبد الغني النابلسي: “زنبور: هو في المنام عدو محارب… وقيل: الزنابير تدل على السَّاعِين والغمَّازين وسفّاكي الدماء. وقيل: الزنابير كلها دليل على أناس لا رحمة لهم. والزنبور: يدل على رجل سوء”. محمد بن سيرين وعبد الغني النابلسي: معجم تفسير الأحلام، رتبه وأعده: باسل البريدي، مكتبة الصفاء، أبو ظبي / اليمامة، دمشق – بيروت، ط1، 1429ﻫ/ 2008م، ص492.
- [15] الرواية، ص224، 59.
- [16] الرواية، ص45.
- [17] الرواية، ص181.
- [18] الرواية، ص70- 71.
- [19] الرواية، ص72.
- [20] الرواية، ص38.
- [21] الرواية، ص284- 285.
- [22] تنظر كتبه: الحداثة السائلة، والحياة السائلة، والحب السائل، والخوف السائل، والشر السائل.
- [23] المنجي بن عمر: الرمز في الرواية العربية المعاصرة، المركز الديموقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، ط1، 2021. ص4.
- [24] ينظر: – Jean Chevalier, Alain Gheerbrant: Dictionnaire des symboles: Mythes, rêves, coutumes, gestes, formes, figures, couleurs, nombres, Éditions Robert Laffont, Jupiter, 1982, p:727.
- [25] الرواية، ص5.
- [26] تنظر على سبيل المثال الصفحات الآتية: 14، 18، 19، 47، 74، 77، 79، 91.
- [27] علي الشعالي: للأرض روح واحدة، دار الهدهد، دبي، ط1، 1434ﻫ – 2013م، ص98.
- [28] الديوان السابق، ص63.
- [29] الرواية، ص19- 20.
- [30] الرواية، ص171.
- [31] تنظر على سبيل المثال، ص5، 174.
- [32] الرواية، ص74.
- [33] الرواية، ص115.
- [34] الرواية، ص271.
- [35] الرواية، ص24- 25.
- [36] الرواية، ص58.
- [37] الرواية، ص93.
- [38] الرواية: ص8، 11.
- [39] الرواية، ص11.
- [40] الرواية: ص25.
- [41] الرواية، ص188.
- [42] الرواية، ص258.
- [43] الرواية، ص193.
- [44] الرواية، ص358.
- [45] الرواية، ص200.
- [46] الرواية، ص212.
- [47] الرواية، ص233، 265.
- [48] الرواية، ص37.