المكان الصوفي في رواية “هذا الأندلسي!”

باحثة في تحليل الخطاب
طنجة - المغرب

مقدمة:

يمثل المكان بناء دلاليا، ونَسَقا جماليا. ولذا، أثار اهتمام الباحثين، وتنوعت دراساتهم وأبحاثهم في هذا المجال، في السياقين الغربي والعربي معًا. وقد اعتنى الروائي المغربي بنسالم حِمِّيش بهذا المكوّن الخطابي، مركزا أكثرَ على بُعده الروحي الصوفي العرفانيّ، على مستويات البناء والجمال والدلالة والمقصدية، وهذا ما يمكن للباحث تجليته، مثلا، من خلال مقاربة مَتْنه الروائيِّ الموسوم بـ”هذا الأندلسي!”، الذي صدر له عام 2007، في محاولةٍ نقدية للإجابة عن تساؤلات من قبيل: ما مدلول المكان الصوفي؟ وكيف تمكَّن الروائي من صوغ بنية المكان الصوفي، انطلاقا من تجربته السردية الخاصة؟ وما تجليات هذا المكان وأنواعه في روايته المشار إليها؟ وما دلالاته وأبعاده؟ وبالنظر إلى طبيعة هذا المقال، الذي تتحكم فيه جملة اشتراطات، فإننا لن نجيب عن المشكلات المطروحة كلها هنا، بقدر ما سينصرف اهتمامنا الأكبرُ إلى بيان معالم الأمكنة الصوفية، وتجلياتها الروحية في “هذا الأندلسي”، وكذا مَداليلها، علما بأنّ تلك الأمكنة توزعت، في الرواية، بين الفضاءات الطبيعية والدينية والأمكنة ذات المرجع الواقعي والتراثيّ. ويقوم منهجنا البحثي، في هذه الورقة، على أساسَي الوصف والتحليل، بوصفه الاختيار المنهاجيَّ الأنسب لتناول قضية هذا المقال ومشكلته الرئيسة.

أولا- في المكان الصوفي:

يرتبط المكان الصوفي ارتباطا وثيقا بفاعلية الشخصية الصوفية، التي تعكس تعدد أحوال المتصوف وتنوع مقاماته، والتي لا تحصُل فاعليتها إلا بالتعبير عن تجاربها الروحية. ولذلك، فإنّ المكان الصوفي يتلون بألوان رحلات المتصوف، ومسيرته العرفانية، وسياحته التي تصبو إلى العروج نحو الذات العلية، ومعانقة الحقيقة المطلقة. كما أن المبدع – من خلاله – “يعيش تجربة تفتقد توازنها وهُويتها كتجربة، ويحاول الانفلات من حدود تناهيه؛ فيخلق لذاته رموزا، تتجاوز كل الحدود، غير أنه يظل محكوما بشروط زمانيّته وتغيّراتها”[1]. ولا يخفى ما للحيز الفضائي من أثر في تجارب الإنسان ومواقفه، وفي أفراحه وأتراحه، وهو ما يتولد عنه، أحيانا كثيرة، إحساس بالقلق والمعاناة، يظل معه الإنسان مقيدا بالأفضية وسياقاتها، ولاسيما الأمكنة منها.

ومما لا شك فيه أن الرحلة والسفر الروحيين، بالنسبة إلى المتصوف، لا يكتملان إلا بتوظيف المكان، بكل أصنافه وأشكاله، التي تحيط بممارسات الصوفي، وتُعين على تصوير حالته العرفانية أو خبرته الحياتية؛ ذلك أنّ “الرحلة والسفر، واستكشاف أسرار العالم، هاجس داخلي من هواجس التجربة الصوفية.. إنه ينبع من داخلها؛ لأنه يلبي حاجة الصوفي في أن يكون حاضرا باستمرارٍ مع التجليات الإلهية الكونية… ولذلك، كان مفهوم “المكان”، داخل التجربة الصوفية، غير ثابتٍ ومستقرٍّ.. إنه مكان متحرك، أو – على الأصح – متغير ومتجدِّد؛ فليس هناك مكان واحد، بل أمكنة ولوحات. ولكل لحظة مكانها، تماما مثلما أنّ لكل صورة معانيها المتميزة. ولا تشابه مطلقا بين الأمكنة، تماما كما أنه لا مثلية بين الكائنات والصور الوجودية”[2].

ولما كانت هذه الفضاءات الروائية متعددة ومتنوعة، ما بين أمكنة مفتوحة وأخرى مغلقة…، فإنها تتجدد بحسب تنوع الأحوال والمقامات والممارسات الصوفية، التي تستدعيها المعرفة الذوقية؛ كما سبقت الإشارة. وعليه، يمكننا أن نرصد، في فضاء رواية حمّيش، أنماطا عدة، منها الفضاء الطبيعي، المتمثل في الجبل والبحر؛ مما يكشف أن الصوفي كان يلْمَس في الطبيعة أنسه وراحته وبُغيته. ومنها الأمكنة الدينية المقدسة، التي تجسدها الزوايا والمساجد والجوامع والحَلَقات، التي توحي بحضور نفحات روحية، ومناسك تعبدية. في حين ارتبطت جلّ الأمكنة المرجعية بالجوانب التراثية والتاريخية العريقة، وفي أكنافها يعيش الصوفي رحلة روحية ذوقية، تعكس تجربته الوُجدانية الخاصة، التي تُظهر، في روايتنا قيد التحليل، ما اعترى ابن سبعين من صعوبات جرّاءَ طيّ المسافات… وفيما يأتي بيان هذه الأنماط المكانية الصوفية: 

ثانيا- أنواع المكان الصوفي وتجلياته في رواية “هذا الأندلسي”:

1- المكان الطبيعي:

يتعلق الصوفي بالطبيعة تعلقا قويا؛ لأنها تعد بمثابة الملاذ، الذي يركن إليه المتصوف، بعيدا عن عادات المجتمع الرتيبة، وفوضاه؛ بحثا عن المطلق، ونشدانا له. ومن هنا، امتاحت تجارب المتصوف من السفر في أرجاء الطبيعة الفسيحة، ورامت استكشاف سياقات الجمال الإلهي المبثوث فيها؛ فـ”الطبيعة ليست مجرد أشياء وموضوعات جامدة، ولكنها جسد حيّ، يجول فيه الصوفي، لأنه يذكّره بالعهد القديم؛ العهدِ الذي كانت فيه الحقيقة الإنسانية متواجدة في النعيم الإلهي، ينعم بالقرب من أصلها الأزلي”[3]. وإذا كانت الطبيعة، بالنسبة إلى الإنسان، توفّر محْضنا وُجدانيا، يفصح من خلالها عن مشاعره وأحاسيسه، فإنها تعيد إلى ذاكرته – كذلك – حنينا إلى أوقات ماضية، في أماكن ما، أو في حالات خاصة. ومن أبرز الأمكنة الطبيعية في روايتنا الجبلُ والبحرُ.

   – الجبل:

يشير الجبل إلى معاني السمو والرفعة، ويدل على المكانة العالية. ولذلك، كان تبليغ الوحي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلال الجبل؛ أي: جبل حراء. كما اقترن الجبل برسالة سيدنا موسى، عليه السلام، الذي كلّمه الله تكليما، كما أقسم بالجبل تعظيما وتقديسا في قوله تعالى: ﴿وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِين﴾ [التين:1-3].

ومن هنا، يكتسب الجبل بُعده الصوفي، وهيمنت على ظلاله القدسية سياقات خاصة؛ فهو بقدر ما يعد فضاء مفتوحا في جميع الثقافات والديانات، شكل أيضاً – على مر العصور – محطة عبور، دلّت – مثلا – على إسراءٍ وعُروج إلى السماء، حيث التقى الإنساني بالإلهي؛ كما في عدة معتقدات. ولهذا، تتسم “الجبال، في جميع الثقافات، بكونها المكان الذي يتقابل فيه الإلهي والإنساني.. إنها محور العالم؛ حيث تلتقي الأرض بالسماء، ويشْعُر الإنسان أمامها بحقارته وضآلته. إن الجبل مكان مقدس بامتياز، والجبال مقدسة في جميع الثقافات… ويمثل صعود الجبل رحلة روحية من أسفل إلى أعلى، ومن الأرض إلى السماء”[4]؛ فأهمية الجبل تكمن في أنه يُتخَذ، في أحايينَ كثيرةٍ، مكانا قدسيا مبارَكا، يلتقي على مستواه الأرضي والسماوي، ويتوافقان معا؛ مما جعل العنصر الجَبَلي يرسخُ، لدى الإنسان، بعدا روحيا؛ عبر استدعاء رحلات المتصوف العلوية، التي يناجي فيها ربه، أو تسمو بها روحه النقية.

ولما كان الجبل فضاء رمزيا وروحيا، عمد ابن سبعين، في روايتنا المدروسة، إلى الصعود إلى قمته، حتى يَنْعَم بالأمان التام، ويظفر بالمسكن الخاص المُريح. وقد قدّم السارد لمحات دالة عن الجبل، ووصف ما واكب الصعود إلى قُنّته من أحداث وأمور؛ فقال: “لما بلغت قمة الجبل راجلا، تتبعني دابتي، قصدت للتوِّ الغار الخفيّ، الذي اعتدْتُ ارتياده آمنا عند الحاجة، وسمّيْته تيمنا وتبركا، منذ اكتشفتُه، حِرائي. من حوله، حتى فرسي أمسى يسعد بالكلأ الغني، والهواء الصافي. داخلَه صلّيت العصر، ثم جلست أرْمُق من فُوَّهته أشعة الشمس الأرجوانية، تخضّب أفق الجبال المترامية، وتعلن دُنُو المغيب”[5].

لقد استثمر الروائي أسلوبي السرد والوصف، ووظف الحقل المعجمي الدال على الطبيعة، وهو يتوخى إضفاء البعد الروحي على مكون الجبل، بوصفه يمثل فضاء عرفانيا مقدّسا، يُشْعِر قاصِدَه بالأمان والطمأنينة النفسية، ويحميه من كل الشرور؛ ليحظى بالخلوة بنفسه أحيانا، وليُمارس فيه الاعتكاف والتأمل، أو يؤدي شعائره التعبدية؛ فتغمره ثلة من الفُيوضات الربانية، القائمة على الخواطر والواردات والرؤيا أحيانا أخرى. وإلى جانب الجبل، يستحضرُ الروائي الغار، الذي أطلق عليه ابن سبعين اسم “حراء”؛ رغبةً منه في مزاولة طقوسه الدينية، والتبرك به عند الحاجة.

– البحر:

يشكل البحر حيزا مفتوحا، يحيل – من بين ما يحيل عليه – على معاني القوة والبطش. لذا يقول ابن عربي عن “سر البحر”؛ على حد تعبيره: “البحر اسم قطبي غيبي، وما أقطاب الأمم المكملين، في غير هذه الأمة ممن تقدمنا بالزمان؟ فجماعة ذُكرت لي أسماؤهم باللسان العربي، لما أشهدتهم ورأيتهم في حضرة برزخية؛ فكان منهم المفرق، ومداوي الكلوم والبكاء، والمرتفع، والواسع… فهؤلاء المكمّلون، الذين سُمّوا لنا، من آدم، عليه السلام، إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم”[6]. كما يقترن البحر، في أسْيِقة خاصة، بالحضرة الصوفية؛ لأنه يحيل على شطحاتها العجيبة، ويومئ إلى مكاشفاتها النورانية، التي ابتدأت مع الأنبياء عليهم السلام، وأسعفت في أداء وظيفتهم أو دعوتهم التبليغية، وأسهمت في شفاء العباد، أو – بالأحْرَى – مهّدت للنجاة من الضلال بالنسبة إلى الأمة الإسلامية بخاصّة.

وفي هذا الصدد نفسه، نجد أن البحر قد اكتسى، لدى ابن سبعين، في الرواية، طابعا صوفيا، بعَدِّ ذلك خاصية أساسيةً، استُنِد إليها في تصوير ممارسته العرفانية؛ فبدأ بالتسبيح لله في أمواجه، ثم عانق مخلوقاته الحية من أسماك ونبات، قبل أن يحلّق في عالم الطقوس الصوفية؛ من خلال ما انفرد بها من مقامات، تمثلت أساسًا في أحوال الصحْو والسكْر، في ضوء إشراقات البحر وبَرَكاته. يقول السارد: “حيَّ على البحر، وقد لامسَتْ سطحَه شمسُ الأصيل، ناشرةً حشاشةَ أشعتها سلاما ودفئا. آويْتُ إلى ركن من الشّط، لا بَشر فيه. خلعت لبسي، واتخذت عمامتي مئزرا. قصدت المياه مهلِّلا مكبِّرا. تقدمت فيها غير هيّاب؛ تارة أعلوها برأسي، وطورا أتركها تحضنني وتغمرني. وأخال أن أسماكا ونباتات وُلَعة خليعة، أخذت تستقبلني بالتلويحات والتحايا؛ فأردّ عليها صنيعها بأريحية وسخاء. عمْتُ، راقصا مصفقا للموج وفيه، وناجيت نفسي وما حولها. الصحو صُحبة هذا البحر ما أوسعه وأحلاه!، والسكر في حضرته ما أعقله وأتقاه!”[7].

فإذا تأملنا هذا المقطع السردي، نجد أنّ الروائي قد نسج خيوطَه بلغة متفردة، لا تخلو من خصوصية عرفانية وروحية، متوسلا بالسرد الصوفي، واللغة الإشارية ذات البُعد الطبيعي الدالّ على (النبات، أشعة الشمس، المياه…)، ليخلق صورة معبرة طافحة بالدلالات والظلال، تجسد العلاقة الوطيدة التي ربطت بين ابن سبعين والبحر، لتصف تجربته الخاصة، التي اغترفت من مَعين أسرار البحر وألغازه. ولهذا، استحضر الروائي معالم البحر الطبيعية، لينطلق منها إلى استشفاف مدلولاتها الروحية، استنادا إلى الطقوس والمظاهر الدينية الممارَسَة، وليُظهِر أبعادَ الشخصية في علاقتها الوثقى بتفاصيل المكان، وكذا سماتِ بنائه الصوفي وجمالياته ودلالاته.

ولما كانتِ الأمكنة الطبيعية تروم تحديد الأجواء النورانية، وسبر أغوار نفوس المتصوفة؛ لكي تزيل عنها أكدار الهموم، فإنها تستجلي بوصفها تتيح دواء روحيا، مليئا بالأسرار، يتوخى الصوفي منه بلوغ درجة التنعم بالهبات، والظفر بالبركات؛ للارتقاء إلى المعراج العرفاني. ولهذه الغاية، يستعين الروائي بعنصري الفضاء والشخصيات وغيرهما من مكونات الخطاب السردي، بكل ما تحمله من مؤشرات ودلالات وأبعاد، مستهْدِفا الكشف عن ممارسات الصوفي، التي تنطوي على بُعد رمزي ومجازي عميق.

2- المكان الديني:

يضطلع هذا المكان، في الرواية المغربية الجديدة، بدور أساس؛ نظرا لما يمتاز به من أنوار ونفحات قدسية، تجعل الصوفي مهتما بتحصيل المعرفة الروحية، التي تقوده إلى الحضرة الإلهية، وتتولد لديه نظرة عشق وشوق روحيّ إلى الفضاءات الدينية؛ فيصْدُر عنه تصور خاص، يتأتى من تقديمه أو وصفه الحيز المكاني، وذلك من شأنه أن يجعله محطَّ اهتمام أهل التصوف والعرفان، كما يقود إلى تزكية النفوس والرقي بها في مدارج الطهر والصفاء. و”لعل ذلك ما يفسر العلاقة الحميمية للصوفية ببعض الأماكن، التي يتم النظر إليها باعتبارها بؤرة المقدَّس، الذي لا يشبه جمالُه أي شيء آخر في الدنيا؛ نظرا لما اشتملت عليه تلك الأماكن. وفي هذا المعنى، يقول أبو سالم العياشي الرّحّالة: “إن شَرَف الأمكنة ليس لذاتها؛ إنما هو لما اشتملت عليه، وأودعه الله فيها. وشرف المسجد النبوي؛ لمجاورته لقبره ﷺ وبيته، وصلاته فيه مدةَ حياته، وغير ذلك”…”[8]. ومن أهم الأمكنة، ذات الصبغة الدينية، في رواية حمّيش، ما يأتي:      

– الزاوية:

يتجسد المكان الديني، لدى صاحب الرواية المحلّلة، في الزوايا والمساجد والجوامع والحلقات، التي لها سمات روحية مؤكدة، تجعله حمّالا لطابع عرفاني مبارك؛ مما يميّزه من بقية الأماكن الأخرى. ولعل من أبرز تمظهرات ذلك الفضاء وبنياته الزاويةَ، المعروفة في تاريخ المغرب الأقصى؛ بحيث إنه بُنيت أول الزوايا عندنا “بعد القرن الخامس الهجري، وسُمّيت بادئَ الأمر بـ”دار الكرامة”، على يد السلطان يعقوب المنصور الموحدي بمراكش. وأطلق لاحقا “دار الضيوف” على ما بناه المرينيون من الزوايا؛ كالزاوية العظمى التي أسسها، بخاصةٍ، سلطانهم المشهور أبو عنان المريني خارج فاس.  وتُعرَّف الزاوية بأنها التي يخضع فيها المريدون لنظام معين في التربية الصوفية، ويلتزمون بالمقررات الفقهية والعلمية، التي يقررها لهم شيخ الزاوية، وينتهجون فيها نهجا سنيا في مأكلهم وملبسهم ومشربهم”[9]. ولطالما اتخِذت الزاوية مركز الأحداث، واحتضنت أغلب سلوكات الشيخ مع مريديه في سياق استقطاب الزوار والمُرتادين، والذين يتراوحون ما بين المجذوبين والزّهاد والمعتوهين والمرضى، والذين يمارسون فيها طقوسا دينية خاصة، تحت إشراف شيخها. ولهذا، هيمنتْ فيها مقامات عرفانية، لا تكاد تُجاوِز، في الغالب، الصمت، والاعتصام أو الاعتكاف، والخلوة، قبل أن يَكثر بين جنباتها التسبيح وترديد الأذكار والأوراد، وبَعدهما التفكير والتأمل؛ من أجل ملامسة الحقيقة، وبلوغها؛ وهذا ما نجده أيضاً في الرواية[10].

وإذا تمعّنا في هذه المعطيات، واستحضرنا المقاطع الروائية التي تحوي هذا الفضاء المائز في المتن قيد الدراسة، فإننا نُلْفي المبدع قد ركز على توظيف السجع والكلام المحبوك، والتسريد الصوفي؛ بغرض إبراز المقامات والأجواء التي تَشْهَدها الزوايا، والتي تنِمّ عن دور هذه الأخيرة في تثبيت النزوع الصوفي لدى المريدين والزُّوار. ومما يوضح ذلك قول الراوي واصفا وساردا: “في عرصة الزاوية؛ حيث الكلامُ مباح، أذكر جلسة أخرى، كانت لي مع الجماعة نفسها، وقد زاد عددها؛ جلسةً بدأتها بالاعتصام بالصمت ساعة ويزيد، ثم تلتها ساعة، رأينا مجذوبا يجتازنا، مخاطِبا نفسَه بصوت مسموع؛ صمت صاخب، وتفاؤل ثاقب، وشوق هائم، ولو أن الكل مَشُوبٌ بالأكدار والمخاطر، وحياتي أكاد أُفْنيها في محاولات قطع الشكوك باليقين…”[11].

يستلهم هذا المقطعُ السردي النسق الروحي، القائم على مفاهيم الصمت والاعتصام والشوق، ويصف الأجواء واللحظات المباركة، التي يقضيها الصوفي مع مريديه وزواره في زاويته، معانقا التجليات الروحية، ومتجردا من كل الهموم الدنيوية، حتى يدنوَ من الحضرة الربانية والكشف الإلهي؛ فيتبدّى له العلم اللدني من الخبير العليم، ويرنو إلى نيل العطايا والمنح، ويحصل له اليقين بوحدة الخالق، ويتحرر من كل العلائق والمشاغل المعتادة.. وهذا إنْ دل على شيء، فإنما يدل – من بين ما يدل عليه – على مدى تشبُّع الصوفي ابن سبعين بفلسفة وحدة الوجود المطلقة، وإنْ جرّت عليه ما جرّت من الانتقاد.

وفي المقطع السردي الموالي، نلمس الملمح الصوفيّ للزاوية، كفضاء ديني؛ من خلال النفاذ إلى الكِيان الروحاني الذي يسكن متصوِّفَنا ابن سبعين، ويجعله عاشقا للقرب الإلهي؛ لأنه يتحصل على الراحة النفسية لمّا يهُمّ بارتياد ذلك المكان. وهنا، يستلهم الصوفي مقامات التجرد، والوصال مع الذات الإلهية الذي يبتغي من ورائه المتصوفُ الرحمات المبارَكات. يقول السارد عن الزاوية إنها “مبنى للصلاة، به محراب وضريح لأحد الصوفية…، أو مكتب أو مدرسة لتحفيظ القرآن، وغرفة تخصَّص للضيوف والمسافرين والطلبة. ويُلْحَق عادةً بها مقبرة لّلذين يُوصُون بالدفن فيها. وللزاوية شيخُها، الذي يعتكف بها، ويستقبل المريدين، ويشْرف على تربيتهم وتلقينهم الوظائفَ التي يكلّفهم بترديدها”[12]؛ فالزاوية، إذاً، فضاء للعلم والتعلم، تُزاول فيها اختصاصات وممارسات أخرى متنوعة، وتتوخى تحقيق مقاصد روحية ودينية واجتماعية، منها: استقطاب الناس وإيوائهم، وتنمية حسّ التكافل الاجتماعي، والقيام بتربية المريدين وتهذيب سلوكاتهم، وتزكية نفوس المتصوفة ترقيتها.

– الجامع:

يحضر الجامع، ها هنا، بوصفه مكانا دينيا مغلقا، وفضاءً مقدسا، يكتسي طابعا روحيا خاصا، ويناجي فيه المؤمن ربه؛ فيكشف له عن هباته، ويرزقه كراماته وبركاته. ولذلك، فهو محط اهتمام الصوفي ابن سبعين وتعلقه؛ إذ فيه تتحقق إحدى عباداته لله سبحانه وتعالى، وذلك عن طريق أداء الصلاة وقراءة القرآن. كما يتيح له فرص الاجتماع والالتقاء بالناس؛ من خلال تنظيم حِلَق الدرس أو العلم. ورد في الرواية، على لسان ابن سبعين، ما يأتي: “قصدت الجامع، والليلُ ساج؛ فتوضّأت، وصليت المغرب والعشاء وَحْدي في ركن شاحب الضوء، ثم أتْبَعت ذلك بالنوافل تلو الأخرى، وهمهَمْت بما تيسر لي من الآي، وفكري كلُّه منجذب إلى الله الصمد، الواحد الأحد، علام الأسرار والغيوب، الذي بيده المُلْك، وإليه نؤوب”[13].

فهُنا، استُحْضِر الزمنُ، متمثِّلا في الليل والمغرب والعشاء، لتصوير الأجواء الروحانية التي انغمس فيها ابن سبعين داخل الجامع، وللتعبير عن ممارسته الوُجدانية الذوقية؛ تقرُّبا إلى الحضرة الربانية، مستثمرا في ذلك البعد العرفاني للجامع؛ حيث يختلي المتصوف ليتنعم بالفُتوح والبركات. ومن هنا، تبرز للقارئ وظيفة الجامع الروحية؛ من خلال وصف سلوكات الشخصية الصوفية (البطل) وممارساتها العرفانية.

– المسجد:

يتسمُ المسجد بكونه حيّزا مغلقا كذلك، يحتضن شعائر تعبدية، تصل العبد بربه روحيا، وتقوّي أمر العبادة ومقاصدها السَّنِية. وعلى غرار الفضاءات التي تقدمت، والتي وجدت لها طريقا إلى التوظيف الإبداعي، يحضر المسجد هنا، كذلك، بوصفه “فضاء يساهم في بناء الرواية، ويشكل – إلى جانب الأماكن الأخرى – صورة مُضيئة، أتاحت للروائي توظيف الجناسات والسجع المحبوك والتسريد الصوفي… [فهو]، كمكان للعبادة، يجتمع الناسُ فيه لأداء الفريضة والتزودِ من أجل مواجهة ظروف الحياة الصعبة، ويدبّون إليه بحركة متكررةٍ خمس مرات في اليوم، يدفعهم إلى ذلك إلزام، نابعٌ من إيمانهم وارتباطهم بربهم، ويأتونه تقودهم رغبة روحية”[14]. فلِقَصْدِ المساجد مقصدٌ روحي وديني في الأساس، يتجلى في إقامة الصلوات، والدعاء والمناجاة والتضرع إلى الله، وترديد الأوراد والأحزاب، ونحو ذلك مما يسهم – إنْ مورست كما يجب طبعا – في تيسير مناحي الحياة، وتجنيب الناس ضغوطاتها، وبث الطمأنينة والسكينة في نفوسهم الضعيفة.

       وفي هذا الإطار، نورد هذا المقطع، الذي يوحي إلى جانبٍ من أدوار المسجد المهمة، ولاسيما ما يتعلق منها بتقديم الدروس للطلبة أو المريدين؛ ففيه – على لسان ابن سبعين – أنه “قبيل العصر، خرجت لأداء الصلاة في مسجد زغلو قربَ سماط العدول؛ فألفَيْتُ صِحابي – عدا خالد – في انتظاري، بمعية نفر من الشبان، المتزايد عددُهم من حولي، وأنا في الصحن أتوضأ. أخبرني علي أن عريضة المطالبة برخصة الدرس هي الآنَ في طور الإعداد. سألته عن خالد؛ فقال إنه منصرف إلى أمرٍ ينسيه ما سواه، ولم يوضح!”[15].

وإذا كانت وظيفة المسجد الأساسية هي إقامة الصلوات، مع إمكانية عقد حلقات الدرس فيه، وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفا، والتي تكشف كذلك عن  أجواء الطقوس الطهرانية في كنفه، فإن وظيفته الصوفية لا تتحقق باستقطاب الشيوخ ومُريديهم فقط، بل تتعدى ذلك إلى الإسهام في كافة المناحي الروحية، التي تقتضي أحيانًا  تجهيز المكان بالأطْيِبة والبُخور، فتتوالى الاحتفالات بوصلات متواترة، ترافقها تَلْبِيّات صوفية، يتجلى نبراسُها في الذكر والأوراد  والأمداح  والأحزاب الراتبة… وقد وجدنا صدى لهذا كله في رواية “هذا الأندلسي”، التي توسل فيها كاتبُها بالمكون السردي، علاوة على الوصف طبعا، واستخدم ضمير الغيبة… لكي ينقل إلى قرّائه أجواء الممارسة الروحية داخل المسجد، المرتبطة تحديداً بلقاء المريدين بمناسبة عقد الدروس، وإقامة الصلوات المفروضة. 

– الحلقات:

تشكل الحلقات، التي لا تقتصر – بالمناسبة – على المساجد والجوامع، تجمعات دينية وصوفية، وملتقيات روحانية كذلك، وتضطلع بمهامّ عدة، وترتبط بها طقوس وممارسات مختلفة؛ من قبيل: الأذكار والشطحات والجذبات والحضْرات الصوفية؛ بحيث “يتوزع الأتباع والزوار داخل الضريح في شكل حلقات، تجد الواحدة منها تمارس الذكر، والأخرى تمارس الحضرة جلوسا، في حين يتوافد الآخرون فرادى على قبة الضريح؛ حيث يضعون “زياراتهم” في الصندوق، ويتبركون، ثم يعودون للصلاة والدعاء”[16]. فمن الواضح أن ثمة تنوعا في الأنشطة والممارسات والاحتفالات المقامة في الحلقة، بالنسبة إلى المتصوف أو المريد، الذي يمارس فيها الشعائر التعبدية؛ نظرا للظروف والأحوال والسياقات الدينية المحيطة به. وفي مثل هذا المكان (الزاوية)، كانت تطرح العديد من الأسئلة والفتاوى على ابن سبعين؛ طلباً للإجابة عنها، والإفتاء فيها؛ فكان يبادر بعقد لقاءات وحِلَق، تخول له تلقين الدروس للطلبة، والإجابة عن النوازل والمسائل الموجّهة إليه.

بيد أنه يعمّ، أحيانًا، في فضاء الحلقة، جوّ من الضجيج والتخويف من لدن بعض الفقهاء؛ الأمر الذي كان يعرقل عمل ابن سبعين، ويحُول دون عقد مثل هذه الحلقات التي تجمعه بمريديه. جاء في الرواية: “انتصب جميع مَنْ في الحلقة واقفين، وردّد أكثرهم كلمات عدنان بالهتاف والتأييد. كاد الوضع ينقلبُ إلى هَرَج وفوضى، ويعم أرجاء أخرى، وسمعت الناظر يلْهَجُ بالتنديد والتهديد: “وتحث الأولاد على العصيان يا شيخ! إما أنْ تتفرقوا، أو أُحْضِر الشرطة والأعوان.. عندئذٍ وقفتُ، وأشرتُ على الجمع بالهدوء والذهاب إلى صحن الوضوء، وكذلك فعلوا”[17]؛ فقد وصف الروائيّ جو الحلقة العام، كما نقل نوعا من السلوك العشوائي فيها، عَكَسَ تعصب الفقهاء؛ مما منع ابن سبعين من مواصلة عقد حلقات الدرس والعلم في المسجد. ومردُّ هذا الوضع المزري إلى تدبير مؤامرات ودسائس، من قبل الفقهاء المتعصبين المتحامِلين على ابن سبعين، عبرت عن أحقادهم الدفينة تجاه الرجل ومكانته الصوفية المرموقة.

3 – الأمكنة المرجعية :

يمثل المكانُ المرجعي، في كثير من الأحايين، حيزا مغلقا، يعكس صدق الوقائع، ويَشي بتاريخيتها ومَيْسَمِها التراثي، ويفصح – في حالتنا نحن – عن أهميتها في التجربة العرفانية للمتصوف؛ مما “جعل هذا الفضاء المرجعي يتوهم حقيقته عن طريق الإخلاص للواقع المرجعي، ونقْله بكل خصوصياته وحيثياته، ويحدَّد بالاسم من أجل حمل القارئ على الاعتقاد بحقيقة التخيل، وعدم الفصل بين ما هو موجود في النص وما هو موجود في الواقع”[18]. وعلى الرغم من هذه الواقعية، يظل الفضاء المرجعي مغترِفا، بدرجة ما، من المتخيَّل في بناء صرحه، وبلورة دلالته وأبعاده. وقد استدعى الروائي جملة من الفضاءات المرجعية في عمله، الذي بين أيدينا؛ من مثل: سبتة وبجاية والقاهرة وبادية مُرسية ومكة المكرمة، صائغاً معالمها البنيوية والفنية والدلالية؛ من خلال الاشتغال باللغة الصوفية، والتخييل السردي… وفيما يأتي بيان ذلك باقتضاب:

– سبـتة:

        اتخذ المتصوف ابن سبعين هذه الكورة مركز استقراره؛ فمارس فيها شعائره الروحية، وتحصَّن بها من كل بطش. وقد وصف السارد موقعها الجغرافي، وذكر أنها محطة دفاع أو رباط منيع، ونقل جملة من الطقوس الصوفية التي كانت تقام في أنحائها… يقول السارد: “منذ حللْتُ بسبتة، ذات الجبال السبعة، اعتبرتها قاعدتي الخْلفية، وخطي الدفاعي، ورباطي. وعاهدت نفسي أنْ أقلب فيها الأحوال والمقامات، وأتلمس أسس السد الواقي. وأمثالي كُثر على ضفتيْ بحر الزُّقاق، في الثغور والحصون، وفي المدن والبوادي”[19].

فالروائي يمزج وصفه لمدينة سبتة بالطابع الصوفي؛ من خلال استثماره الحقل الدلالي الروحي، الذي يتصادى مع مكونات من الطبيعة، عادّاً موقع هذه المدينة استراتيجيا؛ مما شجع ابن سبعين على عقد اللقاءات والحلقات فيها، واتخاذِها منطلَقا لرحلته الصوفية، وقضاء أوقات روحية ماتعة بين أكنافها. ولهذا، بادرت زوجته “فيحاء” بابتناء زاويته هناك، التي ساعدته في نشر مذهبه الصوفي، وضمان استمرار تجربته بالمنطقة وخارجَها.

– بجـاية:

تشكل مدينة بجاية الجزائرية محطة بارزة في حياة المتصوف ابن سبعين؛ لكونها – من جهة – فضاء عبور بالنسبة إلى كثير من الصوفية، ولكونها مكانَ التقائه بصديقه وتلميذه أبي الحسن الشّشتري من جهة ثانية. لذا، عمد الروائي إلى وصفها؛ من حيث تصويرُ عمرانها وطبيعتها ومرافقها وسكانها… إذ يقول السارد عن مدينة بجاية، وما عرفَتْه تجربته الروحية طَوال مدة إقامته فيها، وما ا ستشعره من الراحة والأمان في كنفها: “في بجاية، التي وصلتها مساءً، طلبت المبيت في فندق؛ فتيسر. وبعد ليلتي الأولى، استطَبْتُ تمديد المقام في هذه المدينة، كأنما صِلاتٌ ما تشدّني إليها. بُعيد الإفطار، تعرفت إلى قيّم الفندق، وائتمنته على فرسي، ثم قصدت أقرب ﺣﻤﱠام للاغتسال من أدران السفر. في الجامع الكبير، أدّيت صلاة الظهر والعصر. وفي انتظاري المغربَ، خرجت أنظر أسوار قصر اللؤلؤ؛ فخر بجاية المعماري، فالجبال العلية المحيطة بالمدينة، وهي معلمتها الطبيعية، ثم عرّجت على الأحياء والأسواق، مستَلِذّا بغُربتي فيها، وبمغمورﻳﱠتي بين ﺳﻛﱠانها ورُﻭﱠادها”[20].

فقد ترابَطَ في النص المكان والزمن على نحو جليّ، وعمد مبدعُه إلى وصف معالمَ من بجاية وصفاً صاحَبَه توظيفُ السرد الصوفي، علما بأن السرد والوصف أسلوبان حكائيّان لا يقبلان الفكاك ولا الفصل، عمليّا، في أي إبداع روائيّ أو قصصي. وأتى على ذكر تفاصيل عن تجربته الروحية، ومنها ممارسته مهام دينية وشعائر هناك؛ من قبيل تأدية الصلوات، بما تحمله من فيوضات ربانية…

– القاهرة:

تعد القاهرة فضاء مرجعيا أيضا، وظفه الروائيون كثيرا في كتاباتهم، في مصر خاصةً، وتشكلت عوالمه تبعا لأبنيته وأبعاده الدلالية والروحية وغيرها، واستُدعِيت أجواؤه الطهرانية، أحيانا، في بلورة تجارب روحية ذوقية. وبالنسبة إلى ابن سبعين، فإن رحلاته لم تنتهِ بحلوله ببجاية، التي وقفنا عندها في النقطة السابقة، بل إنه سيواصلها؛ فرارا من المضايقات، بعدما طُرِد من هذه المدينة؛ بحيث استأنف مسيرَه بحثا عن الشّشْتري، لاسيما بعد أنْ ساءت الأحوال السياسية على عهد الأيوبيّين؛ نتيجةَ الاضطرابات والحروب مع الإفرنج. على أنه سيحُطّ رحاله بالقاهرة، التي وصف ملامحها أيضا، دون إغفال الأجواء الروحية بها طبعا؛ إذ يحكي السارد بعض مجريات الأحداث، عبر استعمال ضمير المتكلم، قائلا: “حللْت بالقاهرة حوالي منتصف المئة السابعة، وفيها حكم السلطان ثوران بن نجم، من الأيوبيين المتأخرين، المنْهَك جيشُه في صدّ أعقاب الإفرنج عن دمياط، وساحل البحر الشامي… في وسط المدينة، قريبا من الأزهر الشريف، سألت عن الشيخ أبي النجا النعمان؛ فدﻟﱠني على بيته بعض الباعة. وحين طرقْتُ بابه، صاح بي صائح أنِ ادْخُل. تخطّيت العتبة، وربطت حصاني في ردهة. قصدت مصدر الصوت، فإذا بي أمام رجل بزِيّ الصوفية، يدُﻟُّني على حجرتي، مرحِّبا بي صديقا موفدًا من لدن أبي الحسن الششتري، ثم يختفي عن ناظري”[21].

لقد تعلق ابن سبعين بالششتري؛ فحَمَله شوقه إليه إلى الوفود على القاهرة، والتجول في أرجائها الروحانية المقدسة، وقد وصف موقعها المتميز، وراح يسأل عن صاحبه هناك، متفقدا وباحثا عنه في كل شبر، وزار الأزهر الشريف، متقصّيا أخباره؛ حيث سيحظى – لحُسن حظه – بمساعدة الشيخ أبي النجا؛ الرجل الذي تميز بمنزعه الصوفي… وهذا ما دفع الروائي إلى وصف ذلك المكان بإفاضة، على غرار ما فعل مع فضاءات أخرى عديدة، وقد استعان الروائي – للتعبير عن رؤيته الصوفية – بتوظيف ضمير المتكلم المفرد، مشدِّدا على حضور أفعال الشخصية الصوفية، ومواقفها، وما يستشف من ممارساتها العرفانية، التي أظهرت جملةً من الدلالات التاريخية أو التراثية ذات الصلة بمدينة القاهرة العريقة.

– مكة المكرمة:

تختصّ مكة المكرمة بفضاءاتها القدسية، وبقاعها الطاهرة، التي يتوافد عليها الحُجاج من كل صوب وحدب. ومن هذا الامتياز، تستمد مكانتها وأهميتها لدى المسلمين قاطبة. وإنّ “هذا النوع من الأماكن، وإن كان له وجود حقيقي على أرض الواقع، إلا أن طبيعة التجربة الصوفية، وطريقة عرضه؛ عبر تقنية الوصف، تحّولانه إلى دلالة أخرى، قد تفارق المرجعية الواقعية لمكانٍ بعينه، وتُضفي عليه صفة اللاّ مكان؛ من خلال إخضاعه للرؤيا والحلم، أو السفر الروحي في المعْراج الصوفي”[22].

وقد نقلَ السارد، في روايتنا، تفاصيل الأجواء المباركة التي عاينها في مكة، وعَدَّد مناحِيَها القدسية وجوانبَها الطهرانية، دون أن ينسى وصف رحلته وجولته بمدينة مكة، ويبرزَ جملة من التجليات الروحية فيها، المتمثلة في إقامة الشعائر الدينية المعظمة، وتكرير ألفاظ التلبية والدعاء، في سياق تأدية العمرة، وباقي الطقوس المرتبطة بها. جاء في الرواية: “بُعيد صلاة العشاء، سِرْت في قافلة، مُسْهِما مع أصحابها في التلبية والأدعية، حتى وصولنا فجْرا إلى مكة المشرفة؛ حيث سرعان ما اختلطت في الحرم الإبراهيمي بوفود الرحمان، وأدّيت أولى شعائر العمرة…”[23].

– بادية مرسية:

ظلت مدينة مرسية، كفضاء ذي بُعد مرجعي، تحمل دلالة عظيمة بالنسبة إلى المتصوفة عامة، ولدى ابن سبعين خاصة؛ فقد شكلت منطلق رحلات كثيرين منهم، واحتضنت سلوكاتهم العرفانية، وأطّرت ممارساتهم الذوقية والروحية زمنًا. ومن هنا، فهي – بالنسبة إلى الصوفي المذكور – ليست مسقط رأسه، ومرتع صباه فحَسْبُ، ولكنها تشي ببداية تجربته الصوفية، وانطلاقة نزوعه الروحي العرفاني.

وإذا رجعنا إلى المتن الروائي قيد الدراسة، هنا، فإننا نرى ساردَه يصف موقع بادية مُرْسِية الجغرافي، ويصور مناظرها الطبيعية الخلابة، ويجرد ما كان يحظى به ابن سبعين من أراضٍ وممتلكات هناك… يقول على لسان البطل: “في بادية مرسية، شمال غربيّها، توجد قرية على سفح وادٍ، وافر المروج والأشجار، غزير المياه… يصلها الفارس في بضع ساعات، بها كان مولدي رجبَ ستمائة وأربعة عشر، ولي فيها ضيعة، كانت نصيبي من إرث الوالد يرحمه الله.. ضيعة وهبْتُها مناصفةً لميمونةَ؛ مطلّقة أخي الأكبر أبي طالب، ولأختي زينبَ الأرملة”[24]. يتضح، من هذا المقطع، من الناحية الفنية، انبناؤه على وصف وسرد معا، وركونه إلى ضمير التكلم، واستثمار سِجِلّ الطبيعة، الذي عمّق دلالات النص وأبعاده الروحية….

خاتمة:

 ختاما، نسجل تنوع الأمكنة الصوفية وتعددها في رواية “هذا الأندلسي”؛ بحيث تراوحت ما بين الفضاءات الطبيعية، كالجبل والبحر، التي أعانت – بلا ريب – في التعبير عن تجربة ابن سبعين الصوفية، والمقامات الدينية، المتمثلة خصّيصا في المساجد والزوايا والجوامع والحلقات، التي استعرض الروائي/ السارد جملة وافرة من الطقوس الصوفية والممارسات التعبدية والاحتفالات الدينية التي كانت تحتضنها؛ مما جعل تلك الأماكن تَزْخَر بأجواء طهرانية طافحة، وتكرّس بُعْد الرواية الصوفي الروحي. وفيما يتعلق بالأمكنة المرجعية (مكة المكرمة، بجاية، بادية مرسية، سبتة…)، فقد عُدّت محطات عبور وتنقل، أطّرت تصرفات المتصوف وتحركاته ومواقفه وتحولاته الحياتية، واحتضنت جزءا من زمن رحلته الروحية وسياحته الأرضية؛ ما دام قد واصل فيها مسيرته الصوفية الممتدة، ولاسيما في فترة معاناته جرّاءَ رمْيِه بتهمة الزندقة والكفر، التي أنْهَتْ حياته مقتولا بمكة غدْرا.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1]– عبد الحق منصف: “أبعاد التجربة الصوفية: الحب، الصمت، الحكاية”، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص6.
  2. [2]– المرجع نفسه، ص28، بتصرف.
  3. [3]– المرجع نفسه، ص110.
  4. [4]– سيزا قاسم: القارئ والنص – العلامة والدلالة، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2014، ص56.
  5. [5]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي!، دار الآداب، بيروت، ط.2، 2011، ص50.
  6. [6]– أبو بكر محي الدين بن عربي: الفتوحات المكية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1985، 2/567.
  7. [7]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص174.
  8. [8]– خالد التوزاني: جماليات العجيب في الكتابات الصوفية – رحلة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي أنموذجا، من منشورات الرابطة المحمدية للعلماء/ الرباط، مركز الإمام الجُنَيْد للدراسات والبحوث الصوفية/ وجدة، ط.1، 2005، ص 226-227.
  9. [9]– بوطالب بوناني: الحركة الصوفية في المغرب الأوسط خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين (14/ 15م)، أطروحة لنيل الدكتوراه، جامعة الجزائر، موسم 2008/ 2009، ص661، بتصرف.
  10.  [10] ‑ بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص ص 126-127.
  11. [11]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص128.
  12. [12]– محمد الكتاني: موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط.1، 2013، 2/1435.
  13. [13]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص283.
  14. [14]– الأخضر بن سايح: سطوة المكان وشعرية القص في رواية “ذاكرة جسد” – دراسة في تقنيات السرد، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2011، ص121، بتصرف.
  15. [15]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص262.
  16. [16]– نور الدين الزاهي: المقدس والمجتمع، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2011، ص92.
  17. [17]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص258.
  18. [18]– حورية الظل: الفضاء في الرواية العربية الجديدة وتمثل التجربة الصوفية، مجلة “الفجيرة الثقافية”، ع. يونيو 2015، ص80.
  19. [19]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص293.
  20. [20]– المصدر نفسه، ص341.
  21. [21]– المصدر نفسه، ص394.
  22. [22]– أنوار مصطفى أحمد عبد الفضيل: الحكي الصوفي عند ابن عربي، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، قسم اللغة العربية، جامعة القاهرة، موسم 2014/2015، ص20.
  23. [23]– بنسالم حميش: هذا الأندلسي، ص412.
  24. [24]– المصدر نفسه، ص27.

Scroll to Top