السياسة في مواجهة العنف، قراءة في كتاب “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي” لعبد الحسين شعبان
أستاذة التعليم العالي
مدير تحرير مجلة "رؤى فكرية"
بنغازي/ ليبيا
يُعد عبد الحسين شعبان أحد فرسان الخطاب السياسي المعتدل في الفكر العربي المعاصر، بما أنجز من أعمال في مجالات النشاط الفكري والممارسة العملية، بالإضافة إلى اهتمامه بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ومبدإ التسامح، على امتداد أربعة عقود من الزمن، وقد ضمن ذلك انتشارا واسعا لإنتاجه الفكري داخل بلده وخارجه.
وكمدخل للحديث عن فكر د. شعبان، وفلسفته الحياتية، ومواقفه الحقوقية، نودّ أن نشير إلى دفاعه المستميت عن الحقوق والحريّات في الوطن العربي، وأخصّ بالذكر، هنا، مواقفه، التي لا تُنسى، بخصوص حقوق الإنسان الليبي؛ فقد أسهم بريادةٍ في إطلاق حملة عربية ودولية لكشف مصير صديقه منصور الكيخيا؛ داعية حقوق الإنسان، والمؤمن بالحوار والمعارضة السلمية ذات البُعد الوطني، وقد كانا معًا عضوين في مجلس أمناء “المنظمة العربية لحقوق الإنسان”، وحضرا اجتماع القاهرة (ديسمبر 1993)، الذي اختفى (اختُطف) بَعْده الكيخيا قسريًا من فندق السفير بالدُّقي (القاهرة)؛ حيث كانا يقيمان.
لقد شمّر شعبان عن ساعديه ليدير حملةً، بدأت من لندن لتجلية مصير الكيخيا؛ فنظّم أربع ندوات عن ظاهرة الاختفاء القسري (الكيخيا أنموذجًا)، وأسّس لجنةً، برئاسة الشاعر الكبير بلند الحيدري، للغرض نفسه، وألقى محاضرات عنه في لندن وبرلين وواشنطن والقاهرة، وتعاون مع منظمة العفو الدولية لمتابعة تطوّرات قضيّته، وأسهم في إنتاج فيلم عنه، قام بإخراجه الفنان الليبي محمد مخلوف، عنوانُه “اسمي بشر”، وجرى عرضُه في المحافل التي نُظّمت للدفاع عن منصور الكيخيا، تضمّن شهادات للعديد من أصدقائه، إضافة إلى عائلته، التي ظلّت وثيقة الصلة بشعبان، كما كتبَ مؤلَّفا عنه بالعربية والإنكليزية، بعنوان “الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجًا”، أصدرته دار “شؤون ليبية”، عام 1998، وشارك بفعاليةٍ في تأسيس لجنة قانونية في القاهرة لمتابعة ملفّه.
ونحن الليبيّين نعرف كم كان ثمن ذلك باهظًا! إذْ إن السلطات آنذاك لم تكن تتورّع عن إسكات أي صوت ينتصر للحريّات وحقوق الإنسان في ليبيا؛ فقد تعرّض الرجل إلى تهديدات عديدة، مباشِرة وغير مباشرة، كما عُرضت عليه مُغْريات كثيرة للكفّ عن ذلك، لكنّه رفضها بإباء شديد، مفرِّقًا بين هدر حقوق الإنسان على المستوى الداخلي، وبين هدر حقوق الإنسان على المستوى الخارجي؛ بفرض الحصار على الشعب الليبي، الذي كان الوجه الآخر لانتهاك حقوق الإنسان.
وحين كُشف الستار عن مصير الكيخيا بعد ثورة 17 فبراير 2011، إثر اكتشاف رفاته في العام 2012، وَجّهت إليه رئاسة الوزراء الليبية دعوة، عبر وزارة الخارجية، بوصفه أحدَ أصدقاء ليبيا الكبار، الذين دافعوا عن شعبها في محنته خلال العهد السابق، وذلك في الاحتفال المهيب الذي نظّم لتكريم منصور الكيخيا، باعتباره يمثّل رمزيةً وطنية وحقوقية ليبية وعربية ودولية كبيرة، وألقى د. شعبان كلمةً بالمناسَبَة، إضافة إلى رئيس المؤتمر الوطني ونائبه ورئيس الوزراء وممثّل الأمم المتحدة في ليبيا، كما شارك في تشييع الكيخيا، في مدينة بنغازي، إلى مثواه الأخير، في احتفال رسمي أقيم له، وألقى شعبان كلمة في “ساحة الحريّة”، التي انطلقت منها الثورة في بنغازي. وإننا، إذْ نستعيد هذه الحقائق، فإنما نريد أن نُظهر مدى تمسّك شعبان بالجانب الإنساني والأخلاقي، دون وجل ولا خوف من التحديّات والضغوط التي تعرّض لها دفاعًا عن قيمه.
ولد عبد الحسين شعبان بمدينة النجف في 21 مارس 1945م، لأسرة عربية كبيرة، تعود جذورها إلى عشيرة آل شعبان، المنتشرة في العراق وبلاد الشام. وأمضى سنوات تعلمه من المرحلة الابتدائية إلى التعليم الجامعي في العراق، حتى تخرج، بدرجة البكالوريوس، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة بغداد، وواصل دراسته العليا في براغ؛ حيث نال درجة الماجستير في العلاقات الدولية والقانون العام، وحاز شهادة الدكتوراه في “فلسفة العلوم القانونية”، من أكاديمية العلوم بتشيكوسلوفاكيا.
واهتم شعبان بالعمل الثوري منذ أواخر الخمسينيات، وارتبط بالحركة الشيوعية في مطلع الستينيات، لكنه لم يتقيد بتعاليم ماركس، بل انتقدها بشدة، وحاول أن يُعيد قراءة الفكر الماركسي؛ من خلال إسهامات متميزة، تسعى – على نحوٍ واضح – إلى تجديد التيار الاشتراكي اليسارى بما يناسب التطور الحاصل في العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال. وخلال عمله السياسي، تعرض للملاحَقَة والاعتقال والتعذيب عدة مرات. وفي إحدى المرات، كاد أن يُعْدَم بسبب مواقفه السياسية؛ فاضْطُرّ إلى مغادرة العراق سنة 1980م، وأسس في بيروت صحيفة “المنبر”، ذات التوجه الشيوعيّ. وكانت له مواقف وطنية جريئة بخصوص القضية الفلسطينية، وأزمة الديمقراطية في العالم العربي، والحرب العراقية- الإيرانية؛ بحيث إنه أدان – مثلا – اتفاقية الجزائر، التي قدمت بموجبها الحكومة العراقية تنازلات لإيران، لم يكن لها من مبرر على الإطلاق!
وفي لندن، ومنذ أواخر 1990م، كان عبد الحسين شعبان من الشخصيات البارزة في المعارضة العراقية؛ بحيث شارك في العديد من المؤتمرات، وانتُخب عضوا في قيادة المعارضة في مؤتمر فيينا، لكنْ، بعد فرض الحصار والعقوبات الدولية على بلده، على عهد صدام حسين، انسحب من المعارضة رسميا، وندد بالتوجه المُمالئ للقوى الإمبريالية وأجهزتها الأمنية، وشخّص علل المعارضة، التي وصفها بالتعويلية على القوى الأجنبية، والمعزولة عن الشارع العراقي وهمومه؛ لكونه يرى أن نَصْب العداء للنظام أو الحكومة ليس مبررا للاستقواء بالأجنبي، أو للتعاون مع تلك القوى الخارجية، التي لا تضمر إلا الشر للبلدان العربية قاطبة، مؤكِّدا أنّ العنف يلوِّث القضايا النبيلة، سواء كانت باسم الدين أو القومية أو الاشتراكية، ويشوّه غايتها الإنسانية؛ فتكون نتائجه مؤلمة ومكلّفة وطويلة وملتَبِسة.
ومنذ ذلك الوقت، ابتعد شعبان عن العمل السياسي والصراعات الأيديولوجية، وانصرف تدريجيا إلى قضايا الفكر، ليصبح واحدا من رواده في العالم العربي خلال العقود الماضية؛ بحيث كانت له بصمة واضحة فيه نقدا وتنظيرا وممارسة، وألحّ على الدور التنويري للعلاقة بين الحكومات والشعوب، وألقى محاضرات في مجال حقوق الإنسان بالمعهد العربي، وكتب عددا كبيرا من المؤلفات، قاربت الـ60 كتابا في القانون والسياسة والأديان والفكر والأدب، بالإضافة إلى الأعمال المترجمة والبحوث المنشورة في كثير من المجلات العربية؛ مثل: المستقبل العربي، والفكر العربي، وشؤون فلسطينية، ومجلة “رؤى” الليبية؛ هذه الأخيرة التي شارك في تحريرها منذ صدورها في العام 2012م… وقد امتازت معظم كتاباته بالتمرد والاختلاف.
وما دامت هذه المقالة، التي تأتي في سياق تكريم الرجل بدولة الكويت، معنيةً بمحاولة قراءة مشروعه الفكري الغني، فإني سأتطرق إلى أحد المباحث، التي اعتنى بمعالجتها في كتابه “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة”، الصادر عن دار النهار عامَ 2005؛ لِما له من أهمية مؤكَّدة، وتأثير واضح في كتاباته اللاحقة عن التسامح الديني والتنوع الثقافي؛ مثل: “المسيحيون والربيع العربي/ 2012م”، و”المسيحيون ملح العرب/ 2013م”، و”أغصان الكرمة – المسيحيون العرب/ 2015م”.
يقــــــــــــــــــــــــــــــــع كتاب “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي” في 180 صفحة من الحجم المتوســــــــــــــــــــــــــــــــــط، ويتألف من خمسة فصول، بالإضافة إلى مقدمةٍ بقلم المطران جورج خضر، وخاتمة، والملاحق، وقائمة المصادر والمراجع، والفهرس العام. وقد فضّل المؤلِّف أن يبدأ كتابه بفقرة من دستور “اليونسكو”، مؤدّاها أن السلم يجب أن يقوم على أساس التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر، باعتبار هذه الفقرة تحمل ثمرة الفكر الليبرالي، الذي أخذ ينتشر في أوروبا بفضل الثورة الصناعية، وما أتت به من حرية اقتصادية وسياسية…
ويناقش المؤلف، في الفصل الأول، موضوع “الراهن والتاريخي في مسألة التسامح”، مشيرا إلى أن هذا الأخير في الفكر الغربي، وعلى المستوى الدولي، تراجع بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر 2001م، غير المتوقعة؛ إذ لم يكن يتصور أحدٌ مهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها! وفي هذا الصدد، يقول: “لقد اهتزت صورة التسامح، التي كانت تمثل الطابع السائد للحياة السياسية الغربية… وظهر الطابع الانتقائي للسياسة الغربية بخصوص الإسلام؛ فالمسلمون الأفغان هم “مجاهدون” أيام الاحتلال السوفييتي، لكنهم “أبالِسَة” عندما يتصدَّوْن للسياسة الأمريكية، والمسلمون الشيعة في إيران وجنوب لبنان “إرهابيون”، وهم غير ذلك إذا تعاونوا مع الولايات المتحدة” (ص50)… وليس هذا فقط، بل حتى بيان المثقفين الأمريكيّين الستين، الذي صدر في أعقاب أحداث سبتمبر، يؤكد الصورة النمطية، التي كرّسها، في المخيال الغربي، صموئيل هنتنغتون في “صدام الحضارات”، وفرانسيس فوكوياما في “نهاية التاريخ”.. وهي أن الإسلام أحدثُ تحَدٍّ فكري للنظام الليبيرالي الغربي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ ذلك بأن المجتمع الدولي ينظر إلى الإسلام نظرة مُريبة، ولا يفرّق – في أثناء ذلك – بين الإسلاميين والشعوب الإسلامية. وعليه، كثُر الحديث عن “الخطر الإسلامي”، وكأن غالبية المسلمين مجبولة على الإرهاب! ولعل السببَ في ذلك راجع إلى أن الغرب لم ينظر إلى التيار الإسلامي المتعصب بوصفه حالة موجودة في جميع المجتمعات الإنسانية؛ فهو، مثل سائر التيارات المتطرفة المسيحية واليهودية وغيرها، لا يمثل جميع المسلمين. ومن هذا المنطلق، حَرَص المؤلِّف على مناقشة فكرة التسامح في فلسفة عصر التنوير، التي انتشرت في أوروبا إبّان القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ بفضل فلاسفة كبار؛ من أمثال: مونتيسكيو وروسو ولوك وديدرو وفولتير، الذين أسهموا، بطرق مختلفة، في مواجهة الغيبيات، ودَعَوْا إلى الحرية الدينية والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين البشر… وفي هذا الصدد، تحدث عن آراء فولتير، التي تنادي بالأخُوّة البشرية؛ فقال: “لا يستلزم الأمر قدرة فنية عظيمة، أو فصاحة بلاغية متمرّسة؛ للبرهنة على أن على المسيحيين أن يتحمل كلٌّ منهم الآخَر. ومع ذلك، فإنني سأذهب لما هو أبعد.. علينا أن نعتبر كل البشر إخوتنا. ماذا؟.. التركي أخي؟ الصيني أخي؟ اليهودي؟ السّيامي؟… نعم، دون شك.. ألَسْنا جميعا أبناء الأب نفسه؟ إننا مِنْ خلق الرب ذاته” (ص62). كما أكد أن أطروحة فولتير عن الحرية الدينية أصبحت من الأمور المألوفة في العالم الغربي الحديث، حتى بين المؤمنين بالدين أنفسهم.
ويتطرق الفصل الثاني إلى بعض إشكالات التسامح في الفقه الدولي المعاصر، ولاسيما لدى الأمم المتحدة؛ بحيث انطلق من تناوُل تطور فكرة التسامح في الغرب؛ بدايةً من حظر تجارة الرقيق، وُصولا إلى ما بعد الحربين العالميتين، اللتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر؛ حيث تأسست هيأة الأمم المتحدة عام 1945م، في أعقاب مؤتمر سان فرانسيسكو؛ من أجل وضع حدّ للحروب بين الشعوب، وتعميم فكرة التسامح وحُسن الجوار والمساواة بين البشر. كما تناول “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، الذي صدر عام 1948م، والوثائق الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والفصل العنصري والإبادة الجماعية وحقوق الطفل ومسألة الأقليات. ولدى حديثه عن مفهوم “التسامح” في الإعلان الصادر عن منظمة اليونسكو سنة 1995م – الذي يحث على الاحتفال بيوم 16 نوفمبر من كل عام كيومٍ دولي للتسامح -، ذكر أن التسامح يَعني الاحترام، وقبول الآخر، وتقدير التنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير المختلفة، وللصفات الإنسانية لدينا، وكذا الإقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان، وحرياته الأساسية” (ص70).
إن الاختلاف في أسلوب العيش، وطريقة الحياة، أمر طبيعي بين المجتمعات البشرية، سواء من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية؛ وبالتالي، فإن إلغاء هذا الحق يسبِّب الجمود والجَدْب في المجتمع، ويؤدي إلى حالة من الاستبداد. وفي السياق نفسه، ذكر أن “قبول التعايش والتسامح يَعني الموافقة على ما هو مشترَك، حتى وإنْ كان – في نظر الآخَر – غير أخلاقي، أو ربَّما أقرب من فكرة الشر، وإن لم يكن شرّا بالفعل” (ص75).
ويبحث الفصل الثالث، الذي عُنْوِن بـ”الدين والتسامح- الماضي والحاضر”، مسألة التسامح في الديانتين المسيحية والإسلامية؛ ففي الأولى، نجد تحريما واضحا، في “العهد الجديد”، لاستخدام العنف، حتى وإنْ كان دفاعا عن النفس، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية، بتأثيرٍ من القدّيس أوغسطين ثم توما الأكْوِيني، قادت حملات شرسة ضد الآخَر؛ مثلما حدث في الأندلس أيامَ محاكم التفتيش، وإعدام الهراطقة، وإحراقهم في أجزاء كثيرة من العالم الغربي، إلا أن المسيحية – في العصور الحديثة – تغيرت بفعل الحداثة. وفي هذا الشأن، يقول المؤلِّف إنّ “المسيحية، في فكرها المعاصر، لا تدعو فقط إلى التسامح، ولكنها تقول بالتعاون في الفكر والاجتماع، في ظل المُواطَنَة في البلد الواحد، أو مجموعة من البلاد” (ص89). وضرب عدة أمثلة – من موقعه الشخصي، كرئيس سابق “للمنظمة العربية لحقوق الإنسان” في بريطانيا – لدفاع الكنيسة عن المسلمين في بلدان المَهاجر، التي قصَدوها هروبًا من الاضطهاد؛ إذ كان يتم إيواؤهم في الكنائس، والدفاع عن حقهم في اللجوء أمام سلطات البلد المستقْبِل… وقد أتيح له أن يطّلع بنفسه على حالات ومواقف إنسانية كثيرة هناك، تستحق الإشادة والثناء.
أما مسألة التسامح في الإسلام، فقد ذكر المؤلف أن القرآن الكريم تحدَّث عن الحرية الدينية في أكثر من 100 آية، وهو ما يؤكد عدمَ الإكراه أو الإجبار في هذا الدين، واحترامَ الآخر، غير أن خطاب الإسلام السياسي السائد اليوم (الفئة السياسية) يقف عائقا أمام مبادئ التسامح والحداثة؛ فظلت الثقافة الطاغية في المجتمعات الإسلامية هي ثقافة الإقصاء والعزل، مصحوبة بالتجريم والتحريم، على الرغم من أن للتسامح جذورا في تاريخ العرب الجاهلي والإسلامي، وثمة معاهدات ووثائق تاريخية تثبت ذلك؛ من مثل: “حِلْف الفضول” عام 590م، و”دستور المدينة”، و”صُلح الحديبية”، و”وثيقة فتح القسطنطينية”. وتستند هذه الوثائق – في نظر المؤلف – إلى فكرة مركزية أساسية، تعطي الحقوق، وتحدد الواجبات لبني البشر، مسلمين أو غير مسلمين.
ويَعْرض الفصل الرابع من الكتاب نماذج من تسامح الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع أعدائه في كثير من المعارك، التي دارتْ بين المسلمين والمشركين في بداية الدعوة الإسلامية؛ بحيث إنه تعامل مع الكفار بالرفق والعفو بعد فتح مكة، رغم ما تعرض إليه من اضطهاد وجحود بسببهم، ولكنه جابَهَ كل ذلك بغير قليل من التسامح، وقابل الكراهية بالمحبة، والإساءة بالإحسان. ولا شك في أن ذلك التسامح كان إحدى وسائل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. وهنا، يقول المؤلف: “تظهر العبقرية المحمدية، على نحوٍ ساطع، بإطلاق مبدإ التآخي بين المهاجرين والأنصار؛ حيث أصبح كلُّ مكي أخًا للمَديني، والسعي لترويض المتناقضات بين الأوس والخزرج، وبين اليهود والنصارى والمسلمين؛ بكفالة حرية العقيدة، والتعايش، والاعتراف المتبادَل بين ديانات متساوية الحقوق” (ص125).
ثم يعود المؤلف إلى العصر الراهن، ليناقش مواقف التيار الإسلامي المعاصر من مسألة التسامح، مركّزا – بشكل خاص – على آراء بعض المفكرين الإسلاميين؛ من أمثال: طارق البشري وفتحي عثمان وفتحي هويدي ورضوان السيد، ومشيرا إلى أن أفكارهم تبدو غريبة عن التيار الإسلامي السائد؛ إذ “مازالت الهُوة سحيقة بين الجمهور والنُّخَب القيادية والفكرية، وما زال تيار التجديد والإصلاح الإسلامي داخل التجمعات الإسلامية ضعيفا” (ص133).
وفي الفصل الخامس، وهو الأخير، يواصل المؤلف الحديث عن التسامح، ولكن هذه المَرّةَ في علاقته بخطاب التنوير العربي؛ من خلال إطلالةٍ على الفكر الإصلاحي الديني والليبرالي العربي- الإسلامي؛ فتوقف عند مقاربة الكاتب اللبناني فرح أنطون، بوصفها أول خطاب عربي معاصر عن التسامح؛ بحيث دعا، في كتابه “ابن رشد وفلسفته”، إلى ضرورة خلق وحدة قومية تتعدى الفروق الدينية، يشترك فيها المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة. وأشار أيضا إلى محاولات التجديد في الفكر الإسلامي، التي قام بها أمثالُ الكواكبي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ورفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي. ولعل الذي جعل المؤلف يلقي نظرة سريعة على آراء هؤلاء المفكرين الإسلاميين هو رغبته في تقديم صورة عامة عن مسألة التسامح في الفكر العربي التنويري الحديث.
وفي خاتمة الكتاب، يعترف المؤلف بأنّ العالم الإسلامي يعيش محنة كبيرة، على الصعيد الدولي، إزاء قضايا التسامح وحقوق الإنسان؛ ذلك بأن العديد من التيارات الإسلامية ما تزال تعيش في التاريخ الغابر، ولا تريد أن تخرج من الماضي! علمًا بأننا لا يمكننا ولوج تيار الحداثة، وعالم اليوم، ونحن مكبَّلون بسلاسل القديم، ولغة التمجيد التجريدية، بل لا بد – في المقابل – من نبذ ما عفى عنه الزمن، وتجاوزته الحياة. و”إن استلهام مثل التسامح يتطلب الاعتراف بالآخر المختلِف، وبالحق في الاختلاف، كما يتطلب قسطا وافرا من الحرية للمرأة ومساواتها مع الرجل، واعترافا حقيقيا بدور الأقليات وحقوقها العادلة والمشروعة” (ص153)، ونشرَ العدالة الاجتماعية، والإقرار بالخصوصية الثقافية والقومية والدينية.
*الصفحات، المشار إليها في الورقة، مأخوذة من كتاب “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة”، للدكتور عبد الحسين شعبان، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل/ إقليم كردستان العراق، ط.2، 2011م.