المنهج النقدي عند القاضي عياض (544ه)
من خلال”التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة”
دكتوراه في الفقه والأصول
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة سوس ماسة
المغرب
ملخص
سعت الدراسة إلى بيان المنهج النقدي عند عياض اليحصبي السبتي (544هـ) خلال كتابه الموسوم بـ” التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة”، ومن خلال مؤلفه هذا حاول القاضي عياض لم شتات مجموعة من المسائل الفقهية الغامضة بغية إيضاح ما استشكل من طرحها وتفسيرها. كما أنه اهتم بتصنيف مسائل الخلاف وعزو الأقوال فيها لكي يتسنى لأهل القضاء والفتوى والترجيح أن يكونوا على بينة من أمرهم. فقد كان منهجه منهجا استقرائيا واستنباطيا واستدلاليا، حيث كان يستقرأ الأدلة للوقوف على الأحكام الشرعية الكلية. كما يوظف استدلالاته عن طريق بناء الفروع على الأصول. أما من حيث الغوص في معاني النصوص الشرعية فكل من أتى بعده كان عالة عليه، ويؤكد هذا الكلام أقوال العلماء الذين شهدوا له برسوخ القدم في هذا الشأن.
The study sought to explain the critical approach of Ayyad Al-yahsabi Al-sabbati (544 AH) during his book marked with” warnings based on codified and mixed books,” and through this author, Qadi Iyad tried to disperse a group of mysterious Fiqh issues to clarify what was formed from their presentation and interpretation. He also took care of classifying the issues of disagreement and attributing statements in them so that the people of the judiciary, fatwa and weighting could be aware of their matter. His approach was an inductive, deductive, and deductive approach, where he used to extrapolate evidence to determine the total Sharia judgments. It also employs its heuristics by building branches on assets. As for diving into the meanings of the Sharia texts, everyone who came after him was dependent on him, and this is confirmed by the statements of the scholars who testified to him with a firm foot in this regard.
كلمات مفتاحية: النقد الفقهي– القاضي عياض – المسائل الفقهية-الاختلاف-المذهب.
Keywords: Jurisprudential Criticism – Qadi Iyad– Fiqh issues– Disagreement – Madhhab.
لقد عرف الفقه الإسلامي نماء وازدهارا، جعل أهله المتخصصين فيه، يتولونه بالدراسة والتمحيص والنقد والتهذيب، وتعميق أوجه التناظر والمحاججة والخلاف. كلها مجهودات فكرية جعلت الفقه وفروعه يساير العصور، بشكل يلائم التراث الفقهي الإسلامي ويدعم أواصره الحبلى بثراء فقهي أصيل صاف. فالفقهاء لم يحيدوا عن منهج المحدثين والمؤرخين وعلماء الكلام وعلماء الأصول، بل واصلوا المسير والنهج ذاته، حتى وإن اختلفت الصناعة والمعدات، خصوصا أن الفقه من العلوم الحيوية التي تتصل بواقع الناس بشكل دائم ومستمر.
ولعل بوادر هذه المجهودات الفكرية قد برزت مع إمام مذهبنا، الإمام مالك رحمه الله، بحيث نهج في موطئه “النقد” و”التمحيص” لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجه في أبهى حلة. فأسس بذلك “للنقد الفقهي”، إذ كان ينهج سبيل “النقد” في أحاديث موطئه حتى أصبحت تقل عن الستمائة في النسخ المتأخرة بعد أن كان يضم عشرة آلاف حديث في نسخه الأولى، وقد سار على دربه علماء كثر أغنوا الساحة العلمية ورسموا معالم صناعة “النقد الفقهي” وفق منهج علمي متين، وحافظوا على الفقه نقيا من كل الشوائب، انطلاقا من ضوابط ذللت لهم الصعاب، وأسس ذات بنيان صلب ورصين، أنتجت دعائم سليمة للفقه الإسلامي عامة، وللفقه المالكي بوجه خاص.
وللقاضي طول باع في مجال “النقد” في الحديث النبوي الشريف رواية ودراية بشكل لفت إليه الأنظار ووجه نحوه الأبصار. ومما يلفت الانتباه في تعامله رحمه الله مع تراثنا المالكي الحديثي اهتمامه الكبير في كثير من المواطن “بدراسة وتحقيق إسناد الروايات، وتجريح الرواة متبعا نقد النص والمتن، فيتناول النص فيدرس لغته وأسلوبه، ومادته، ثم ينص على الرواية التي اعتمدها، ويحدد طريقة أخذه ونقله قراءة أو سماعا، وعند اختلاف الروايات يرجع للأصل، ثم ما كان من زيادة ألحقت أو نقص أو خلاف مع تحقيقه، منبها على الخطأ والوهم والعلة”[1]. فضلا عن براعته في تفسيره الآيات وإيراد أقوال المفسرين وتعقبها بالنقد والمناقشة.
وتبرز الشخصية الواضحة القوية للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي المالكي (ت 544هـ)، بحيث يبدو رحمه الله أشد وضوحا في أحكامه التي يطلقها جازمة قوية، شأن العالم المعتد بعلمه، الواثق من صحة رأيه وسداد اختياره، فهو لم يكن مجرد ناقل، وإنما كان ناقـدا، ومحققا بصيرا، لا يحجم عن تأييد ما يراه حسنا ونقض ما يراه قبيحا.
ومما زاد منهجه صلابة وقوة، انتماؤه إلى “المدرسة النقدية” التي أسسها أبو الحسن اللخمي في القرن الخامس، والتي كان من روادها بالإضافة إلى القاضي عياض؛ علماء كثر. يقول الفاضل بن عاشور: «فهؤلاء هم الذين سلكوا طريقة جديدة في خدمة الحكم، هي: “الطريقة النقدية”، التي أسس منهجها أبو الحسن اللخمي، فصاروا في الفقه يتصرفون فيه تصرف تنقيح، وينتصبون في مختلف الأقوال انتصاب الحكم الذي يقضي بأن هذا مقبول، وهذا ضعيف، وهذا غير مقبول، وهذا ضعيف السند في النقل، وهذا ضعيف النظر في الأصول، وهذا مغرق في النظر في الأصول، وهذا محرج للناس أو مشدد على الناس إلى غير ذلك… وهي الطريقة التي درج عليها القاضي عياض في تعليقاته على المدونة التي تسمى “التنبيهات”»[2].
- المفاهيم الإجرائية: النقد الفقهي– القاضي عياض – “التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة“.
- حقيقة النقـد الفــقـــهي
لقد اقتضت فطرة الله ومشيئته أن يخطئ الإنسان ويصيب، ولذلك كان لزاما أن يتحلى بآليات العقل النقدية والتمحيصية المستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وهذا ما سار عليه الفقهاء قديما فاستعملوا “النقد” بآلياته وأدواته دون تعريفه أو تقعيده، وقد ظهرت أولى بوادر “النقد” في المذهب المالكي مع الإمام مالك رحمه الله، الذي أوصاه الخليفة المنصور قائلا: “يا أبا عبد الله ضم هذا العلم ودون كتباً وجنب فيها شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود وأقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة”[3]. ومن هذا المنطلق بدأ الإمام مالك ينتقي ويميز ويضع مقومات منهجية رصينة في تأليف كتابه الموطأ، وأما من جانب تلاميذه وأتباع مذهبه فإن الإرهاصات الأولى في هذا المجال تعود إلى زمن مبكر من مرحلة تأسيس المذهب، ولعل أقدمها تلك التي ظهرت على يد عبد الرحمان بن القاسم (ت191هـ)، حينما استدرك على شيخه الإمام مالك في كثير من فروع المذهب[4].
وأشار الحجوي الثعالبي إلى أن هذا العصر تميز بفقهاء مجتهدين منقحين للفقه و كان آخرهم القاضي عياض رحمه الله، حيث قال: ” إذا تأملت تراجم من سطرنا أمامك من الفقهاء، وتدحرج الفقه في تلك الأزمان تبين لك أن المجتهد المطلق لم يوجد من لدن القرن الرابع كما قال النووي، وإنما هو أهل “الاجتهاد” المقيد، وهم مجتهدو المذهب الذين لهم القوة على استنباط المسائل من الكتاب والسنة، وبقية الأصول، لكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم، وآخر هذا النوع كان في القرن الخامس كاللخمي، والسيوري[5] (ت460هـ)، والمازني(ت697هـ) وابن العربي(ت543هـ)، وابن رشد الجد، ومعاصريهم من المذاهب الأخرى، يظهر أن آخرهم في المغرب الإمام عياض في أواسط السادس.”[6]
ولعل من تولى حقيقة “النقد الفقهي” بالدراسة والتحليل وفق منهج أكاديمي، علماء هذا العصر وأساتذته، حيث اعتنوا بهذا المفهوم على شكل مركب إضافي وأذكر منهم:
الدكتور عبد الحميد عشاق الذي عرف “النقد الفقهي”: “بالعملية البحثية التي تروم تحرير مسائل المذهب، سواء من حيث الروايات والأقوال، أو من حيث توجيهها والتخريج عليها، بتمييز أصحها وأقواها من ضعيفها ومرجوحها، وذلك باعتماد طرق معلومة ومصطلحات مخصوصة”.
وعرفه الدكتور محمد المصلح بأنه: “تبيان الصحيح والضعيف من فروع المذهب انطلاقا من عرضها على أصوله وقواعده وضوابطه “.
والتعريفان معا قد ضبطا “النقد الفقهي” ضبطا علميا يشمل دراسة فروع المذهب ومسائله مع الإشارة إلى جوانب أخرى تتعلق بطرق عرض المادة الفقهية وطرق تدريسها[7].
وقد عرفته الدكتورة هاجر جميل بأنه: القانون الكلي الحاكم على معرفة جيد الأحكام الفروعية الاجتهادية من سقيمها، والمنسق الناظم لعناصر الحكم عليها على الأصول والقواعد، والضابط لفروعها حين طلب تحصيل نتائج أحكامها في الفروع[8]، فقد حاولت الباحثة وصف “المنهج النقدي” وهدفه ثم الإشارة إلى الكيفية المتبعة لملاحقة الهدف والنتيجة.
وخلاصة القول إن النقد الفقهي عبارة عن:” تقويم وتحرير وتنقية لمسائل المذهب وعرضها على أصول قويمة أصيلة دفاعا عن المذهب المالكي”.
- أغراض “النقد الفقهي” ووظيفته
يعتبر الفقه الإسلامي أكثر العلوم التي تحتاج إلى وضع مناهج نقدية أصيلة لكيفية التوصل إلى الحكم، ففهم النصوص ونقد نقولها يستوجب مجهودات فكرية ذات كفاءة عالية وموهبة في دقة الفهم وسلامة الاستدلال، وهذا رهين بوضع منهج نقدي يؤسس لتحرير المذهب، وإرساء دعائمه وفق ضوابط ومعايير متبعة في دراسة النصوص النقلية والأقيسة العقلية لاستنباط “الحكم الشرعي”، ولمنهج “النقد الفقهي” أهمية ووظيفة بالغة الأهمية تتجلى فيما يلي:
– “النقد الفقهي” يساعد على فهم “الأحكام الفقهية” بطريقة أفضل، إذ يكشف لنا عن كيفية استنباط الأئمة للمسألة من مصادرها، ويبين دقة النظر والبحث والتحقيق فيها، ثم كيفية المناقشة وإيراد الأدلة وردها، والكشف عن صحيحها وسقيمها.
– يجعلنا “النقد الفقهي” نقف على “أسباب الخلاف”، وكيفية نشوئها، وإلى أي الموارد تنتمي فيقدر الباحث من خلاله الثروة الفقهية ويحترم المذاهب، ويميز بين “الخلاف” المعتبر الصادر عن أهله وفي محله عن غيره، فينهج نهج الصواب في الفهم والاعتبار، وينأى بنفسه عن شواذ المسائل، وغرائب الأقوال، فيكتسب بذلك الدقة، وضبط النفس، وعدم التسرع في إصدار الأحكام[9].
– “بالنقد الفقهي” ينفتح باب المراجعة في المذاهب الفقهية، وذلك لأن الاستقرار على المذهب الفقهي دون مناقشة قد يضفي قداسة عليه، والعصمة لا تحق لأحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تم فباب المراجعة وارد وبقوة ويضمنه “النقد الفقهي” السديد[10].
- ترجمة مختصرة للقاضي عياض
ليس الغرض استقصاء حياة القاضي عياض، وإنما الغرض الوقوف على بعض معالم المنهج النقدي عنده رحمه الله.
هو الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي المالكي[11]. وقد ورد عند ابن الأبار في معجمه أنه: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي، أبو الفضل [12].
ويروي المقري في “أزهار الرياض” عن الشيخ أبي القاسم بن الملجوم تلميذ القاضي عياض: اجتاز علينا القاضي عياض عند انصرافه من سبته قاصدا إلى الحضرة زائرا لأبي بداره عشية يوم الاثنين الثامن لرجب سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة، وفي هذه العشية استجزته وسألته عن نسبه، فقال لي: إنما أحفظ: عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض. وأحفظ أيضاً بعد ذلك: محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض. ولا أعرف أن محمدا هذا هو أبو عياض أو بينهما أحد[13].
وما ذكره ابنه محمد هو الصحيح، ويقرب منه ما رواه المقري عن تلميذه ابن الملجوم المتقدم ذكره[14]. وما قاله ابن عياض في نسب أبيه قد اعتمده كثير من المحققين الذين ترجموا للقاضي، كمعاصره وتلميذه ابن بشكوال في الصلة، وابن الخطيب في الإحاطة في أخبار غرناطة، والمقري في أزهار الرياض، وابن فرحون في الديباج المذهب وغيرهم [15] .
2.2- نشأته العلمية
نشأ القاضي عياض في سبتة، في بيت علم ودين، وأسرة صاحبة رسالة ومدينة تعج بالعلماء، حيث كان رحمه الله: “عاملا مجتهدا، صواما، يقوم ثلث الليل الآخر لجزء القرآن الكريم، لم يترك ذلك قط على أية حالة حتى يغلب عليه، متدينا متورعا متواضعا متشرعا”[16] .
وعن نشأة القاضي عياض يقول ابنه أيضا: “نشأ أبي على عفة وصيانة مرضي الحال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفا بالنبل والفهم والحذق، طالبا للعلم، حريصا عليه، مجتهدا في طلبه، معظما عند الأشياخ من أهل العلم وكثير المجالسة لهم ، والاختلاف إليهم، إلى أن برع أهل زمانه، وساد جملة أقرانه ، وكان من حفاظ كتاب الله مع القراءة الحسنة والصوت الجهير والنغمة العذبة، والحظ الوافر في تفسيره”[17] .
ولما استوفى القاضي عياض الثلاثين من عمره أصبح عالما قد أخد من كل فن بطرف، ولكنه لم يقتنع بذلك فهمّ بالرحلة للمزيد من السماع والمزيد من الشيوخ طلبا لعلو السند وتحقيق العلم[18].
- “التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة”.
3.1 التعريف بكتاب “التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة”.
يعتبر أحد الكتب المهمة التي ساهمت في توثيق أقوال المدونة، وتصنيف مروياتها، قال ابن فرحون:” وكتاب التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة جمع فيه غرائب من ضبط الألفاظ وتحرير المسائل“[19]. ويقول الإمام المقري: ” وقد سلك القاضي عياض في تنبيهاته مسلكا جمع فيه بين الطريقتين، والمذهبين، وذلك لقوة عارضته[20].
وصنيع القاضي عياض يتمحور حول القضايا الآتية:
- شرح كلمات مشكلة وألفاظ مغلطة.
- ضبط حروف مشكلة على من لم يعتن بعلم العربية والغريب.
- تقييد أسماء رجال مهملة لا يعلمها إلا من تَهَمَّمَ بعلم الرجال والحديث.
- بيان معاني الألفاظ الفقهية، وكيفية تجوزها عن موضوعها، وأصل اشتقاق أصولها وفروعها.، مع نثر نكت من كلام المشايخ والحذاق وتعليقاتهم، مع استنباط ما بدا له من تنبيهات[21].
3.2 أسباب تأليف “”التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة”.”
أشار الدكتور محمد بن شريفة إلى أن القاضي عياض قد ألف كتابه التنبيهات لتحقيق غرضين؛ أولهما: فقهي، وهو ضبط مشكلات المدونة وتحرير رواياتها وتسمية رواتها؛ وثانيهما لغوي…، مع أن كتاب التنبيهات هذا جاء بعد المقدمات الممهدات لابن رشد في الموضوع نفسه؛ فقد أصبح كتاب عياض كما يقول المقري: ” عليه المعول في حل ألفاظ المدونة وضبط مشكلاتها وتحرير رواياتها وتسمية رواتها، وتحقيق ذلك أنه جمع بين شرح المعاني وإيضاحها وضبط الألفاظ وذكر من رواها.. “[22]، وإذا كان هذا الكتاب يمثل جهود عياض في الفقه النظري، فإن كتاب مذاهب الحكام في نوازل الأحكام يمثل أثره في فقه العمليات[23].
ولقد كان لكتابه التنبيهات الذي يعتبر بمثابة إيضاح وبيان عازل عن الشبهات والمتناقضات حفاظا على سلامة الأفكار التي يسعى الباحث إلى ترسخيها ومن تم كانت هذه التنبيهات ضرورية وملحة للاعتبارات التالية:
- صعوبة فهم الأساليب الفقهية لما تتميز به من طابع خاص يجعلها غاية في الدقة والإيجاز.
- صعوبة الوصول إلى مقاصد الفقهاء الذين ينفردون وحدهم أو صحبة جماعة قليلة من ذوي الاختصاص والاهتمام.
- تعذر وجود الكثير من العقول المتميزة بكل الملكات العلمية الكفيلة باكتشاف سائر المقاصد التي يطرحها الفقهاء بأساليب يخالف فيها المفهوم المنطوق…. في حين يريد عياض أن يكون فقه مالك مفهوما مطبقا لدى جميع الناس
- حماس عياض من أجل توطيد المذهب بالمغرب حتم عليه إعادة النظر في القضايا المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة من أجل تقريبها إلى أكثر طلاب العلم بشكل يحبب إليهم المادة ويغريهم بقراءتها.
لقد كان القاضي عياض بنهجه هذا يمثل عمق الغيرة الوطنية ومحبة الوطن الذي يريده موحدا في سياسته موحدا في عقيدته.. موحدا في اختيار المذهب الصالح لسلوك الجماعة المسلمة وقاية من الهبوط إلى مهاوي التناقضات[24].
إن عملية النقد الفقهي تؤدي لا محالة إلى الاطلاع على أسباب اختلاف الفقهاء، ومداركهم، وملكاتهم، وطرق استنباطهم، وكيف نشأ الخلاف؟ وكيف تطور؟ وكيف تستثمر الثروة الفقهية على اختلاف مشاربها، وتنوع مدراسها؟ وكيف نميز بين الاختلاف المعتبر والاختلاف المذموم، والصادر عن غير أهله، و في غير محله؟ ما يورث مرونة في التفكير، ودقة في الاختيار، وإبصار في نخل الأقوال وتصفيتها، وعدم التسرع في إصدار أي قرار فقهي، أو تفنيد قول من الأقوال[25].
وهذا العمل النقدي البناء يساهم في إحياء المذاهب المندرسة، وقبول الآراء السديدة القائمة على الحجة والبرهان.و سأورد نماذج لهذا القبيل على سبيل التمثيل لا الحصر من خلال كتاب التنبيهات للقاضي عياض رحمه الله.
4.2 بيانه لأسباب الخلاف، وما ينبني عليه من أصول
إن من بين الأسباب التي أدت إلى الاختلاف المذهبي في المسائل الفقهية حسب ما نص عليه القاضي عياض، اختلاف بعض فقهاء المذهب في بعض المسائل التي تعتبر أصولا تبنى عليها أحكام فرعية أخرى، من ذلك:
مسألة: اختلاف القول في المذهب في تكفير أهل الأهواء والبدع المعلنين لبدعهم الداعين لها.
وقد نجم عن اختلاف القول بتكفيرهم من عدمه واختلافهم في مسائل فقهية أخرى كالاختلاف في الصلاة وراءهم، والاختلاف في إعادة الصلاة لمن صلى وراءهم،
- مسألة: الاختلاف في حكم الصلاة وراءهم:
ب- مسألة: اختلاف إعادة الصلاة لمن صلى وراءهم:
قال القاضي عياض في بيان هذه المسائل: “وقوله: “الصلاة خلف هؤلاء الولاة”، إشارة إلى أئمة الجور من أهل السنة، وكلامه في إجازتها خلاف كلامه في أئمة أهل الأهواء وتوقفه في الإعادة خلفهم، والقول بالإعادة في الوقت أو لا إعادة، وأنه يصلي ابتداء وراءهم كيف كانوا، ما لم يكونوا مبتدعين أو غير مأمونين على الطهارة والصلاة أو مغيرين لها عن سنتها، فإن فعلوا ذلك صاروا في حكم المبتدعة لا يصلى خلفهم إلا أن يخافهم فيصلي ويعيد. واستحب ابن حبيب الإعادة خلفهم في الوقت[26].
وقوله في كتاب الجنائز: لا يصلى على أهل الأهواء، وظاهره يشعر أن قول سحنون[27] تفسير له، والخلاف في المسألتين مبني على القولين في تكفيرهم[28] “[29].
4.3 الاختلاف بسبب تعليل الحكم
ومن الأسباب التي أدت إلى الاختلاف عند المالكية اختلافهم في اعتبار العلة المنوط بها الحكم، وقد تفرع عن هذا الأصل مسائل واختلافات كثيرة، من ذلك:
مسألة: اختلافهم في علة منع اتخاذ الرحى في البيوت، هل لصوتها ودويها أم لإضراره بجدران الجيران؟
قال القاضي عياض: ” وقوله في الكتاب فيمن اتخذ رحى في داره يضر بجدران الجيران، أنه يمنع من ذلك”، فتأمل قوله: يضر بجدران الجيران. فإنما منعه لهذه العلة، لا لأجل دويها، وجعجعتها. فمفهوم الكتاب هذا،….. وهو قول أكثر الشيوخ بقرطبة، وغيرها، وبه أفتى أبو عثمان بن عبد ربه، وإليه مال ابن عتاب لأنه لا يراعى بضرر الصوت، وبه أفتى أبو عبد الله بن غالب من شيوخ بلدنا وأفتى غيرهم من القرطبيين بأن ضرر الصوت والدوي هو الذي يراعى[30]“.
4.4 توجيهه للاختلافات المنقولة عن الإمام مالك وابن القاسم، مثل توجيهه اختلاف ابن القاسم
مسألة الحلي المربوط معه الحجارة وزكاته
قال عياض: ” والأكثرون أن كلام ابن القاسم تفسير، وليس مراده عندهم بقوله الأول قولا ثانيا له، ولا اختلافا من قوله، وإنما هو لتقديم الكلام في المسألة. وسماعه منه القول في إحداهما قبل الأخرى، إذ هي ثلاث مسائل:..[31]“.
ثانيا: تنبيهه على ما أثر عن مالك من أقوال مختلفة في المدة التي تنقطع بها الشفعة:
وقد اعتبر الفقهاء كل تلك الآراء مذاهب لمالك فاختلفوا بسبب اختلافها.
مسألة المدة التي تنقطع بها الشفعة
قال القاضي عياض:” وقول مالك لم ير السنة مما تنقطع به الشفعة، فإذا جاوز السنة بما يرى أنه تارك سقطت شفعته، وله عنه في المبسوط أنها تنقطع بالسنة، وهي رواية أشهب عن مالك أيضا، فيحتمل أن رواية ابن القاسم في المبسوط موافقة لرواية أشهب، أن بتمام آخر يوم من السنة تنقطع[32]، إذ السنة حد في غير شيء من الأحكام كما قال عمر، أو يكون قوله في المبسوط موافقا لما في المدونة، ومراده أن السنة وما قاربها بمنزلتها كما قال في الرضاع، والزكاة وغير ذلك[33]“.
خاتمة:
لقد تميز القاضي عياض رحمه الله في كتابه التنبيهات” المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة”، بمنهج نقدي فريد من خلاله حل مشكلات المدونة، وضبط ألفاظها، ومع الاهتمام بما فيها من الأحاديث والآثار والرجال، بالإضافة إلى الجوانب الفقهية.
متأسيا في ذلك بمن سبقه من العلماء النقاد، ومؤسسا لمنهج نقدي مغربي متفرد يعرف القارئ بالفقه وأسباب الخلاف المذهبي بموسوعية، وبراعة. حيث أبان رحمه الله عن معاني الألفاظ الفقهية، وكيفية تجوزها عن موضوعها، وأصل اشتقاق أصولها وفروعها، مع نثر نكت من كلام المشايخ والحذاق وتعليقاتهم، مع استنباط ما بدا له من تنبيهات نقدية.
الإحالات:
[1]– ندوة الإمام مالك، دورة القاضي عياض: 207-218 /1
[2]– المحاضرات المغربيات، ص: 81-82، بتصرف
[3]– ترتيب المدارك للقاضي عياض، ج2/ص73.
[4]– منهج النقد الفقهي في المذهب المالكي للدكتورة هاجر جميل، ص:240.
[5]– اسمه عبد الخالق بن عبد الوارث، قيرواني، آخر تبعاته من علماء إفريقية، وخاتمة أئمة القيروان. وذوي الشأن البديع في الحفظ والقيام بالمذهب والمعرفة بخلاف العلماء. وكان زاهداً فاضلاً ديناً نظاراً. وكان آية في الدرس والصبر عليه. ذكر أنه كان يحفظ دواوين المذهب، الحفظ الجيد، ويحفظ غيرها من أمهات كتب الخلاف. ويقال إنه تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران، وطبقتهم، وقرأ الكلام والأصول على الأزدي، وعليه تفقه عبد الحميد، والمهدي، واللخمي، والذكي. وأخذ عنه عبد الحق، وابن سعدون وغيرهما، وبعدهم حسان ابن البربري، وأبو القاسم المنهاري، توفي سنة ستين وأربعمائة. ترتيب المدارك للقاضي عياض: ج8/ص65و66.
[6]– الفكر السامي لمحمد بن الحسن الحجوي: ج2/ص 449.
[7] – وتجدر الإشارة أن الدكتور رابح صرموم في تعليقه على التعريفين معا في اطروحته قد أغفل ما يتعلق بطرق عرض المادة الفقهية وما يتعلق بالدرس الفقهي وهو موجود في الأطروحتين معا، انظر على سبيل المثال الصفحة 60 وما بعدها من أطروحة “منهج النقد” و”الخلاف الفقهي” للدكتور عبد الجميد عشاق، والصفحة 166 من أطروحة الإمام أبو الحسن اللخمي وجهوده في تطوير “الاتجاه النقدي” في المذهب المالكي بالغرب الإسلامي للدكتور محمد المصلح.
[8] – منهج “النقد الفقهي” في المذهب المالكي بين المراجعة والانتصار للدكتورة هاجر جميل، ج1/ص77.
[9] – منهج النقد الفقهي في الفقه الإسلامي للدكتور رابح صرموم، ص: 105
[10] – نظرية النقد الفقهي للدكتور حسن يشو، ص:117.
[11]– أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري :1/23و24، و سير أعلام النبلاء للذهبي20/212، بتصرف، والقاضي عياض أشهر من نار على علم و لترجمته ينظر ما يلي : التعريف بالقاضي عياض لولده القاضي محمد،ص:4، الديباج المذهب، ص: 168، الإعلام بمن حل مراكش و أغمات من الأعلام 9/319. النبوغ المغربي: 1/95.
[12] – المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي :304، ونفس الكلام نقله ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان:483/3
[13]– أزهار الرياض للمقري :1/22و 23.
[14]– القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية للدكتور البشير علي حمد الترابي، ص:66.
[15]– القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية للدكتور البشير علي حمد الترابي، ص:66 و67.
[16]– التعريف بالقاضي عياض لابنه القاضي محمد، ص: 5.
[17] – التعريف بالقاضي عياض، ص:6 وأزهار الرياض :3/7.
[18] – القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية للدكتور البشير علي حمد الترابي، ص:72 و73.
[19] – الديباج المذهب لابن فرحون ،49/2
[20] – أزهار الرياض في أخبار عياض للقاضي عياض: 22 – 23/3.
[21] – التنبيهات المستنبطة للقاضي عياض :5-6/1
[22] – القاضي عياض سيرة موجزة للدكتور محمد بن شريفة، ص:66
[23] – المرجع نفسه، ص:66
[24] – ندوة الإمام مالك، دورة القاضي عياض، 164/1
[25] – نظرية النقد الفقهي للدكتور حسن يشو، ص: 122
[26] انظر تفصيل هذه المسألة في النوادر: 289/1، والجامع: 102/1.
[27] – رأي سحنون ألا إعادة على المصلي خلف المبتدعة، وانظر في الموازنة بين رأي مالك وابن القاسم في هذا كتاب “التوسط بين مالك وابن القاسم” لأبي عبيد الجبيري: 2/ 29 – 35. وهو بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا مرقون بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط من إنجاز الحسن حمدوشي في السنة الجامعية: 1413 – 1414/ 1993.
[28] -وفي الجامع لابن يونس: 1/ 103: قال ابن شعبان: اختلف أصحابنا في تكفيرهم بما يؤول إليهم قولهم.
[29] التبيهات المستنبطة للقاضي عياض، 167-168 /1
[30] التَّنْبيهَاتُ المُسْتَنْبَطةُ للقاضي عياض، 1952-1953 /3
[31] التبيهات المستنبطة للقاضي عياض: 1615 /3
[32] انظر المنتقى للباجي: 209 /6
[33] التبيهات المستنبطة للقاضي عياض ،1829-1830 /3