ذكاء اللغة والخطاب في الانتقال من حوار الثقافات إلى أطروحة الصراع والهيمنة الثقافية

أستاذ محاضر
المدرسة العليا للتربية والتكوين
جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب

ORCID : 0009-0005-0733-2942

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه
مختبر التراث الثقافي والتنمية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب

ملخص

لا شك أن المجتمعات البشرية كما الأفراد تماما، بحكم ارتقائها في النوع تنحو نحو التواصل والتفاهم والتعايش والسلم، لكن بحكم غريزتها فهي لا تخلو أيضا من النزوع إلى الصراع والرغبة في الهيمنة ونفي الغير بغرض تثبيت الذات وضمان البقاء. فإذا كانت الحضارات القديمة قد عرفت صراع الإمبراطوريات الزراعية الكبرى في العصور البدائية، وتلتها فترة نزول الرسالات السماوية التي ساقت العالم إلى حوارات الأديان في العصور الوسطى، فإن السعي وراء مراكمة الأموال في ظل الصراعات التجارية والاقتصادية سيعود من جديد في العصر الحديث وفي الأزمنة المعاصرة، مما سيمكن القوى الكبرى في العالم من اكتشافات جغرافية وقارية مهمة كانت السبب في حلول حقبة جديدة من الثورات والحروب والأطماع الاستعمارية التي وسمت الدول الإمبريالية، ما إن تخلص منها العالم حتى آل إلى الحرب الباردة والصراعات الإيديولوجية التي أفرزت بدورها أخطر أنواع التنافس والاحتكاك، وأضحى بعدها الرهان الثقافي والعولمة الثقافية حاضرين بقوة.

Abstract

There is no doubt that human societies, just as individuals, are moving towards communication, understanding, coexistence and peace, but by virtue of their instinct they are also a tendency to conflict, a desire to dominate and exile others for the purpose of self-determination and ensuring survival. If ancient civilizations had known the struggle of great agricultural empires in primitive times and followed by the descent of the heavenly messages that led the world to medieval religious dialogues, we find also the trade and economic conflicts will resume in modern times and in contemporary times for accumulation of funds which will be able the world's major Powers to make significant geographical and continental discoveries that were the cause of a new era of revolutions, wars and colonial ambitions that characterized imperialist States, No sooner did the world get rid of it than the cold war and ideological conflicts were started, which in turn gave rise to the most dangerous types of competition and friction, after which cultural betting and globalization became strongly present.

مقدمة

إن الحديث عن الحوار أو الصراع الثقافي عبر التاريخ يقتضي منا تحليلا شموليا وإدراج الموضوع ضمن مختلف فروع العلوم الإنسانية والعلوم التقنية والحقة على السواء، وضمن مباحث متعددة للمعرفة والفكر الإنساني مستعينين بكل مناهج الأبحاث العلمية على اختلافها.

نطرح على سبيل المثال لا الحصر جحافل اللسانيين وعلماء الثقافة والاجتماع الذين أسهبوا في دراسات الثقافة والحضارة والحوار والصراع وغيرها من المفاهيم ذات الصلة، بحثا عن دلالاتها المفاهيمية وتتبعا لتطورها وانزلاقاتها – خاصة حين يتم نقلها من بيئة ثقافية إلى أخرى-، وكشفا لمختلف البنى المشكلة لها ووظائفها الاجتماعية والثقافيةـ.

كما نجد المؤرخين والمفكرين قد تأملوها وما يفتؤون يبحثون في خلفياتها وأبعادها وتداعياتها الأنطولوجية والإبستيمية والعناصر المحركة لها عبر التاريخ للخلوص إلى دور الانسان في تاريخ حوار الثقافات أو صراعها؛ لنطل أخيرا على مختصي علوم السياسة والقانون الذين يتباينون في طروحاتهم بين منظرين قد أفردوا كتبا ومجلدات في المجال، لبسط الطريق أمام مختلف الاتفاقيات والسياسات العالمية سعيا لخلق نموذج تواصلي كوني يرتكز على منطق العقل والحق والعدالة بين الافراد والأمم والشعوب من جهة، وبين ممارسين للسياسة والقانون وماسكين بزمام السلطة الذين يجنحون إلى الصراعات والحروب بدعوى القوة والغلبة وبدافع الهيمنة.

إن أهمية البحث في مواضيع الثقافة والحضارة والحوار أو الصراع راجع إلى كونه محط اهتمام الإنسان ومتعلق بوجوده، بل يعد الإنسان نفسه عنصرا محوريا في كل عملياته. فاستمرار النوع البشري يقتضي تحقيق التعايش بين الأفراد على اختلاف فراداتهم وتمايزاتهم، وبين الجماعات باختلاف خصوصياتها العرقية والثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ومهما تفاقمت الاختلافات فإن ضرورة العيش المشترك تقتضي بالضرورة الارتقاء في مدارج المدنية والبحث عن سبل التعايش الإنساني السلمي ونبذ العنف والصراع، وتلك هي الأطروحة التي نسعى إلى الدفاع عنها في متم هذا البحث الذي سنجريه وفق التصميم التالي:

مدخل

  1. إشكاليات البحث:
  2. مفاهيم مفاتيح في البحث:
  3. مفهوم الثقافة
  4. مفهوم الحضارة
  5. ذكاء اللغة والخطاب في الانتقال من حوار الثقافات إلى أطروحة الصراع والهيمنة الثقافية
  6. ذكاء اللغة والخطاب بين الحوار الثقافي / الحضاري ومأزق الايديولوجيا
  7. ذكاء اللغة والخطاب بين الحوار الثقافي/الحضاري ومأزق العولمة

خاتمة

مدخل

يقصد بحوار الحضارات أن يخف التوتر بين الشعوب في حوار على مستوى الثقافة بعيداً عن السياسة ومشاكلها والاقتصاد وهمومه. ولا بد في مجتمعاتنا التي تتزايد تنوعا يوما بعد يوم من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معا فيما بين أفراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية.

ولا بد من الاعتراف بالتنوع الثقافي بصفته مكونا أساسيا للحقوق الإنسانية، رغم كون مساره المديد يتسم بالنزاعات في ظل التعريفات المادية للثقافة والتفاعلات وظواهر الإثقاف أو التثاقف التي طبعت حياة المجتمعات، ثقافة عابرة للدول ثم عولمة ثم تكور في ظل التطور الفائق للتقنية ووسائل الاعلام وتكنولوجيا الاتصال والتواصل ولا بد من الوعي بمأزق التواصل والحوار المفضي الصراع وتعميق الاختلاف والحرص على إيجاد فرص التفاهم والائتلاف بدل الصراع والاختلاف وذلك لتيسير التعايش وتحقيق المبادلات الثقافية وازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة العامة والخاصة.

I. إشكالات البحث ورهاناته:

إن موضوعا دسما من قبيل البحث في الحوار أو الصراع الثقافي والحضاري هو موضوع ذو شجون ينفتح على كثير من الفروع العلمية والمعرفية، كما تتجاذبه مختلف المدارس والاتجاهات العلمية المتضاربة، وهو بهذا الامتداد يفترض حصر الموضوع وضبط مادته المفاهيمية، إذ لا بد من رصد مفاهيم الثقافة والحضارة والحوار والصراع وغيرها من المفاهيم ذات العلاقة، ثم تتبع مختلف قضايا الحوار والصراع عبر التاريخ واستعراض أهم مظاهرها اعتمادا على نماذج وشواهد حية نوردها من خلال كتب ومؤلفات تعنى بموضوع البحث من جوانب لغوية وثقافية وحضارية وتاريخية وغيرها، منطلقين من الإشكالات الآتية:

ما مفهوم الثقافة؟ وما مفهوم الحضارة؟ وما الخلفيات الفكرية التي تحكم تعريف المفهومين في الثقافة الغربية وفي الثقافة العربية الإسلامية؟

هل تصمد تعريفات الباحثين الأكاديميين لمفهومي الثقافة والحضارة وما يتعلق بها من مفاهيم متناسلة (مثل التعدد الثقافي والتنوع والهوية الثقافية والتواصل والحوار الثقافي…) حين يتم تنزيلها إلى حيز الممارسة والتطبيق وحين يتم استعمالها من طرف الحكام والساسة؟ ألا يطالها بعض التحريف عن جادة الصواب حين تصطدم بمأزقي الإيديولوجية والعولمة التي بدأ صداها يتسع مع تطور تكنولوجيا التواصل وتقنيات الإعلام والاتصال، وتؤثر بالتالي على علاقة الذات بالغير أو الآخر المختلف ثقافيا؟

ما طبيعة العلاقة بين الذات والغير/ الآخر؟ هل يطبعها القبول والاعتراف بالغير/الآخر المختلف ثقافيا المؤدي إلى الائتلاف، أم يطبعها النفي وعدم الاعتراف والنفور المفضي إلى تعميق الاختلاف والخلاف؟ وما الأصل في العلاقات الاجتماعية البشرية؟ هل هو الصراع والعنف والاضطراب، أم التعايش والسلم والاستقرار الحضاري؟

وما الأسباب الكبرى التي كانت وراء نشوب الصراعات والحروب الضارية بين مختلف الحضارات والثقافات والشعوب الإنسانية وبخاصة منذ الثورة الصناعية إلى اليوم؟ وهل هناك من فرص الحوار والتواصل الثقافي/ الحضاري لتحقيق التعايش والسلم ليعم الإنسانية جمعاء؟

II. مفاهيم مفاتيح في البحث

1. مفهوم الثقافة:

يصعب وضع تعريف مفهومي اصطلاحي للثقافة ذلك أن “دلالاتها تقوم على التوظيفات في شتى المجالات والأنظمة” (أرمان ماتلار،2008م، ص13)، كما يجب التمعن في لفظة الثقافة ومتى تم استحداثها وما المعاني التي وضعت لها، إذ المؤكد أن المفهوم كان مجهولا في الماضي لدى الإكليروس الذي شن في العصر
الوسيط البعيد حرب إبادة على منتوجات الأزمنة القديمة
(Walter BENJAMIN,1971,p485)، ومنذ أن تم استحداثه ما برحت انزلاقات المعاني تزداد وتتشدد، حين ينتقل المفهوم من بيئة ثقافية إلى أخرى.

ظهر مفهوم الثقافة عند الغرب نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، وعرف بكونه الأعقد في اللغة اللاتينية نظرا لتطوره عبر التاريخ وانتقاله بين لغات أوربية متعددة (عبد الرزاق الدواي، 2013م، ص06)، بل بات ينزاح ويستعمل لمفاهيم هامة في مجالات ثقافية متعددة وفي نظم فكرية مختلفة بل ومتضاربة أحيانا (ريموند وليامز، 2007 م، ص94). وإذا كان قد بدأ تداوله على أوسع نطاق في البيئة الثقافية الغربية فإن مقتضى الموضوعية يفرض البدء بتعريفه لغة واصطلاحا عند الغرب أولا، ثم في الثقافة العربية الإسلامية بعد ذلك.

يشتق مفهوم (الثقافة) Culture في اللغة الفرنسية القديمة من جذرين لاتينيين أساسيين (ريموند وليامز، 2007 م، ص. 95) يتمثلان في لفظتي: Cultura وColere، فالأولى تعني حراثة الأرض وزراعتها والعناية بها، كما تشتق من لفظة Colère دلالات ثلاثة(عبد الرزاق الدواي، 2013م، ص07) وهي: culte التي تدل على العبادة والتقديس، و colunusالتي تفيد إعمار الأرض والاستيطان، و Culturaالتي تعني حراثة الأرض زراعتها. وكيفما كانت الجذور الأصلية فالقواميس اللغوية الغربية تكاد تتفق حول معاني التهذيب والعناية والتقدير الفائق لدرجة العبادة.

عبر المفهوم في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي إلى اللغة الإنجليزية وكان معناه الأساسي يتمثل في رعاية الحيوان والنبات والعناية بالنمو الطبيعي (ريموند وليامز، 2007 م، ص96). ومنذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر انتقل المفهوم إلى اللغة الألمانية*(Emile Tonnelat,1930, pp 64-65) مقترضا من اللغة الفرنسية وبمعنى واسع، حيث امتد مفهوم العناية بالنمو الطبيعي للحيوان والنبات ليشمل العناية بالتطور الذهني البشري دون أن يُعلم من هم رائدوه الأوائل في هذه اللغة، ولكن المؤكد أن المفكرين الفرنسيين فولتير وفوفنارك قد استخدماه بهذا المعنى في القرن الثامن عشر نفسه.

أما على مستوى الاصطلاح فقد استخدم العالم الأمريكي فريدريك تايلور في كتابه الثقافة البدائية سنة 1871م -وهو نفس ما أكده كذلك في كتابه الأنثروبولوجيا الصادر سنة 1881م- وقد جاء فيه: “الثقافة هي ذلك الكل المركب الكلي الذي يشمل المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع” (معن زيادة، 1987، ص34). وقد ظل هذا التعريف سائدا باعتباره جامعا مانعا لفترة طويلة من الزمن.

أما الثقافة في اللغة العربية فيعرفها أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة (أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، والنشر، 1979، ص ص 382/ 383) على أنها مشتقة من الجدر الثلاثي (ث_ ق_ ف) ومنها تؤخذ باقي الفروع، ويقال ثقفت القناة إذا أقمت عوجها، وثقفت هذا الكلام من فلان أي أخذته، ورجل ثقف لقف وذلك أن يصيب علم ما يسمعه على استواء، ويقال ثقفت به إذا ظفرت به. كما يعرفه المعجم الوسيط بنفس المعنى اللغوي (ابراهيم أنيس وآخرون، 2004، ص 98)، إذ يركز على معنى الفطنة والحذاقة في فعل ثقف، وعلى إدراك الشيء والظفر به وهو المعنى الوارد في الآية: “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” (مصحف القرآن الكريم، سورة البقرة، آية 191) وثقَّف الشيء بتضعيف عين الفعل إذا قوم اعوجاجه وسواه، وإذا وقع الفعل على الإنسان أفاد معنى التعليم والتهذيب والتأديب.

والثقافة في اصطلاح العرب وردت في كتابات ابن خلدون باعتبارها لفظة لغوية شائعة ذات اشتقاقات مختلفة وغير مستقرة على المفهوم السائد حاليا، كما أن مضامين تعريفاتها لدى بعض المحدثين العرب لم تسلم من التأثر بالسياق الفكري الغربي الذي أنتجها ، وهي لا تخلو من استعارات واقتباسات أُخذت من المنظور الغربي لمفهوم الثقافة(معن زيادة، 1987، ص08) ، لأن جميع المعاني الممكن استخلاصها من المصدر العربي الاشتقاقي لكلمة ثقافة لا تمت بأي صلة مباشرة إلى موضوعات مثل العبادة والاستيطان والحرث والزراعة كما رأيناها في القاموس الغربي؛ يشهد على ذلك المفكر التنويري العربي سلامة موسى الذي يقر أنه هو من أفشاها إلى الأدب العربي الحديث وقد انتحلها من ابن خلدون إذ وجده يستعملها في معنى شبيه بكلمة culture السائدة في الأدب الأوروبي، ويضيف أن شيوع اللفظة الآن على أقلام الكتاب العرب يدل على أننا كنا في حاجة شديدة إليها وأنها سدت معنى كان كامنا في نفوسنا(سلامة موسى، 1927، ص171). ثم هو يميز بين الثقافة والحضارة ف فيعتبر الحضارة مادية والثقافة ذهنية، ويمكن للإنسان أن يكون متحضرا دون أن يكون مثقفا والعكس صحيح أيضا، حيث إن الثقافة هي المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلمها الناس ويتثقفون بها وقد تحتويها الكتب ولكنها مع ذلك خاصة بالذهن، أما الحضارة فمادية محسوسة في آلة تخترع وبناء يقام ونظام حكومة محسوس يمارس ودين له شعائر ومناسك وعادات ومؤسسات (سلامة موسى، 1927، ص172). وسنأتي إلى تعريف الحضارة فيما بعد بتفصيل.

هكذا أخذت تعريفات الثقافة تتطور –وبخاصة لدى الغرب- متماشية مع تطور الحركة العلمية والفهم المتجدد للثقافة ودورها، ولم يقف الطرح الغربي لمفهوم الثقافة عند حدود المعنى اللغوي أو الاصطلاحي فحسب، بل تجاوز ذلك إلى العديد من التصورات الفكرية الفلسفية والنظريات المرتبطة بها، تلك المستقاة من مجال الفلسفة والفكر التي تناقش مفارقات موضوع الثقافة في براديغمات متقابلة: بين الجانب الستاتيكي الوصفي لها والجانب الديناميكي الذي يجعلها حية متحركة، بين أساسها الطبيعي وامتداداتها الثقافية؛ وفي علاقتها بالإنسان بين الفطرة والاكتساب، وكذا بين السلوك والتجريد وبين المادي والعقلي وبين الواقعي الملموس والميتافيزيقي المجرد. إنها في الحد والجوهر ظاهرة إنسانية صرفة تتجلى في قدرته على الترميز (معن زيادة، 1987، ص37) أي التعبير عن أفكار ومعان وعلاقات في النفس الإنسانية عبر الرمز والفكر. هكذا أصبحت تحظى أيضا باهتمام مختلف دارسي العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والثقافة وغيرها.

بعد تطور العلوم الاجتماعية والثقافية كان من الطبيعي أن يتطور المعنى الاصطلاحي ليتجاوز بعض جوانب النقص في تعريف تايلور للثقافة المتمثلة في طابعه الستاتيكي الوصفي وعموميته وإهماله لديناميكية الفعل الثقافي ولحامل الثقافة (الإنسان) وللمحيط والبيئة الخاصة بمجال الثقافة، ونتيجة ذلك يطالعنا رائد الأنثروبولوجيا الوظيفية البولندي والبريطاني برونسيلاف مالينوفسكي ليؤكد أن الثقافة هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركبا كليا متكامل المعنى متماسك الوجود قابلا للحياة (معن زيادة، 1987، ص35). وفي صميم هذه المجتمعات المتحضرة ظهرت الأنثروبولوجيا الثقافية التي كانت تعتبر المختلف ثقافيا عند الغرب في الفرنسية القديمة والوسيطة مرادفا لمفردات: متوحش وسيء وفظ (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص19)، كما عملت الأنثروبولوجيا الجرمية على تكوين تصور ينبذ حاملي الثقافات الدونية باعتبارهم مجرمين ماردين ومنحرفين وخارجين على القانون (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص20).

وفي هذا العصر أيضا (منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي الذي يصادف ظهور العلوم الإنسانية) سادت النظرية الانتشارية التي تفيد أن الثيار من ثقافة إلى أخرى يمر من الثقافة الأكثر نموا إلى الثقافة الأكثر بدائية ولا يمكنه أن يرجع في الاتجاه المعاكس، وخلفت إيمانا بالإسهام أحادي الجانب من طرف الرحم الغربية الحديثة أو العرق الأبيض في ترقية الثقافات البدوية المصنفة من منظورهم ضمن أسفل سلم الحضارات، الشيء الذي ولد شعورا لديهم بالعجز الإبداعي للثقافات المتخلفة، وهو المبدأ الذي سارت عليه الرحلات الاستكشافية في عهد الامبراطوريات الكبرى الممهدة لحملات الغزو والاستعمار الامبريالي. وفي نفس الحقبة طغى التفسير النشوئي لموضوع الثقافات التي لها أطوار لا بد من عبورها عبر التاريخ، هي مجمل النظريات التي شحذت العقلية الاستعمارية الغربية وأخذت تُسيل لعاب ممارسي الشأن العام الإقليمي والدولي وتستأثر باهتمام المؤرخين وعلماء السياسة والاقتصاد.

وفي علاقة الثقافة بالسياسة والاقتصاد أصبح المفهوم يتيه في ملامح هاربة وبات يطرح إشكالات عويصة أعقبت فترات الحروب الدموية التي شهدها القرن العشرين وبعدها الحرب الباردة وشبح العولمة الذي بدأ بمجال الاقتصاد والمال ليمتد إلى كل المجالات بما فيها الثقافة نفسها، وفي ظل المنظور الجيوسياسي لإشكالية الثقافة الذي رافق تطور التكنولوجيا وتقنيات الإعلام والاتصال والتواصل التي نقل البشرية قسرا إلى عوالم الميتافيرس، وفي إبان نظام عالمي جديد أعاد تصور استراتيجيات القوة وأصبح يعتمد صناعة الثقافة وآليات المثاقفة والتثاقف وسيلة لتسيده على الساحة الدولية، كُتب على الثقافة أن تطرح إشكالات جديدة، تناقش الثقافة بين جمهورية التجارة العالمية المركوتنية وبين القيم الشمولية التي نادت بها فلسفة الأنوار، بين الاستعمارات العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية وبين نضالات الحفاظ على الهوية الثقافية، بين المجال الوطني المغلق وبين الشركات العابرة للحدود والقارات، بين فلسفة الخدمة العامة وبرغماتية اقتصاد السوق والتنافس الحر، بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية، بين الثقافة الراقية والثقافة البربرية الدونية. نتج عن هذه المفارقات تصورين اثنين يؤطران مفهوم الثقافة: تصور ينظر إلى الثقافة بوصفها رصيدا قيميا وروحيا ومعرفيا وسلوكيا، وتصور آخر ينظر إليها باعتبارها سلعة ووسيلة للترف المادي، وهو ما يؤشر على وجود قوى لا متوازنة تتجاذب المفهوم.

بلغ نقاش الثقافة ذروته في أواخر القرن العشرين وفي مستهل الألفية الثالثة مع بداية القرن الواحد والعشرين، خاصة بعد استحداث مفاهيم مرتبطة بها، مثل تنوع الثقافات وتعددها وحوار الحضارات/الثقافات أو صراعها، والعولمة ونهاية التاريخ وغيرها من المفاهيم الموجهة التي تبدو في ظاهرها فكرية صرفة ولكن في باطنها لا تخلو من السياسة.

2. مفهوم الحضارة:

تشتق لفظة civilization الإنجليزية من اللاتينية الوسيطة من القرن 16 الميلادي civilizare التي تعني جعل الأمور الجنائية مدنية، ومنها الفعل civilize بمعنى “يحضر” ، واستطرادا من ذلك تم إدراجها في شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، كما يشتق منها لفظتي civis و citizens بمعنى مواطن. وبحلول القرن السابع عشر والثامن عشر اكتسب المفهوم معنى “منظم وحسن التربية(ريموند وليامز، 2007 م، ص65) إذ أصبح هو الوصف الأنسب لمجتمع منظم civility و civilitas ويقابله المجتمع البربري والهمجي المتوحش.

أما الحضارة في الاصطلاح فيعرفها العالم الألماني غوستاف كالم (العصر الحديث) تعريفا علميا على أنها: “العادات والمعلومات والمهارات وتشمل الحياة العامة والخاصة في السلم والحرب والدين والعلم والفن، وتتمثل في نقل تجارب الماضي إلى الجيل الجديد.” (كلايد كلوهون مغيون،1964 م، ص71). وهناك من جعل الحضارة مرادفة للثقافة من أمثال تايلور الذي يورد اللفظين جنبا إلى جنب، ويؤكد ذلك مؤرخ الحضارات الفرنسي فرناند بردويل إذ يعتبر اللفظين يعبران عن مركب واحد من الظواهر الاجتماعية، وجه أول مادي ملموس يتعين في المستوى الذي بلغه التقدم العمراني والتكنولوجي عند أمة من الأمم، أو في مجتمع معين أو حقبة محددة، وكذلك في العلاقات الاجتماعية والعادات والمعتقدات وفي المؤسسات وأنظمة الحكم؛ ووجه ثان يتجلى في أنواع الإنتاج الأدبي والفني والفكري والعلمي، ومعالم الرقي الأخلاقي والروحي(عبد الرزاق الدواي، 2013م، ص56). وباختصار واضح يمكن القول إن للحضارة جوهرا ومظهرا، أما المظهر فهو الإنجازات المادية من قوة عسكرية واقتصادية ونظم سياسية وأشكال العمران وغيره، في حين أن الجوهر هو المعتقدات والقيم وأنماط السلوك الشائعة.

أصبح مفهوم الحضارة شائعا في منذ أواخر القرن الثامن عشر وبشكل ملحوظ في القرن التاسع عشر، كتب عنها إدموند بيرك E. Burke في البداية تعريفا يقرنها بالسلوك الإيجابي، أورده في كتابه Reflections of the french revolution : “سلوكنا manners، حضارتنا وكل الأمور الصالحة التي تتعلق بالسلوك والحضارة” (ريموند وليامز، 2007 م، ص66)، ثم كتب عنها ميل في ثلاثينات القرن التاسع عشر في تعريف موسع يشمل “كل أسباب الراحة الجسدية، وتقدم وانتشار المعرفة، وتلاشي الخرافات، ووسائل الاتصال بين الأفراد وتهذيب السلوك وانحسار الحروب والنزاعات الشخصية، والحد بشكل متزايد من هيمنة القوي على الضعيف، والأعمال العظيمة التي أنجزت حول العالم عن طريق تعاون الجماهير…” (ريموند وليامز، 2007 م، ص67).

أما الحضارة في اللغة العربية فهي مأخوذة من الحضر أي الإقامة والاستقرار والسكن (ابراهيم أنيس وآخرون، 2004، ص 98)، وفي اصطلاحها لا تخرج عن التعريفات الأكاديمية الغربية التي وضعت للمفهوم، فهي تحيل إلى نمط الحياة المدنية، ومقابلة للفظ البداوة (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور 1968 م، ص ص196-197) المرتبط بالتنقل وبنمط حياة الرحل، وبذلك تكون الحضارة مقترنة بأنشطة الزراعة والتجارة والحرف التي تتطلب الاستقرار، وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني وتدل على كل مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في الحضر أو المدينة.

أما المفكر التنويري مالك بن نبي فقد عرفها من جوانب مختلفة تاريخية وثقافية ونفسية واجتماعية ووظيفية، ولم يحصرها في التعريف الذي وضع لها من طرف الغربيين لتكون فارقة ومميزة بين عالمين أحدهما غربي متقدم والآخر بدوي ومتخلف، فهي في أبسط معانيها “ليست كومة من الأشياء المختلفة والمتنوعة، وإنما هي كل منسجم من الأشياء والأفكار ومن العلاقات والمنافع والمسميات، وهي بناء وهندسة وتجسيد لفكرة أو مثل أعلى، ولذلك فلكل حضارة في التاريخ سماتها المميزة” (فوزية بريون، 2010م، ص205)

أمام هذه التوصيفات المتباينة يبقى الإشكال الذي يطرح نفسه بإلحاح متمثلا في إمكانية صمود تعريفات المفكرين والباحثين الأكاديميين لمفهوم الحضارة حين يتم تنزيلها إلى حقل الممارسة وحين يتم استعمالها من طرف الساسة، بل حين تختلط بمفاهيم الأيدولوجيا والعولمة ويتسع صداها مع تطور تكنولوجيا التواصل وتقنيات الاعلام والاتصال، فنجد قادة العالم يتحدثون اليوم عن مفاهيم حوار الثقافات/ الحضارات وصراعاتها بشكل ملتبس بل متناقض أيضا، ويبقى الرهان أمامهم معقودا على اللغة وذكائها وعلى المواربة في تصريف الخطابات لإظهار الالتزام بالحكمة والعقل والتبصر في طرقها أمام الرأي العام العالمي من جهة، وللحفاظ على المصالح الخاصة من جهة أخرى، ولو كلفهم ذلك الانقلاب على مبادئ العقل والقيم والأخلاق النبيلة وإغراق العالم في دوامات الصراعات والحروب والمشاهد الدموية.

III. ذكاء اللغة والخطاب في الانتقال من حوار الثقافات إلى أطروحة الصراع والهيمنة الثقافية.

إن حاجة المجتمعات إلى ثقافة الحوار خلقتْ مفهوماً جديداً يسمّى حوار الثقافات، وهو مفهوم يشير إلى ضرورة تعزيز الحوار بين ثقافات الشعوب المختلفة وبناء تبادل ثقافي بينها، أي مشاركة الأفكار والآراء الثقافية المتنوعة بين فئات مجتمعية شعبية أو عرقية لفهم الاختلافات بين الثقافات والعمل على تقريب وجهات النظر حول موضوعات شائكة كاللغة والأخلاق والتاريخ والدين والهوية الثقافية وغيرها. ومن شروط ومرتكزات الحوار المشترك هناك الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة واحترام الخصوصيات الثقافية، وذلك لبناء جسور الثقة والتواصل، ومنع نشوب حروب ونزاعات إقليمية أو محلية أو عرقية. وفي ظل شبح العولمة الذي أصبح يخيم على المشهد العالمي، وفي ظل التطور السريع للتقنية، يحق لنا أن نتساءل عن سيرورة وصيرورة حوار الثقافات/ الحضارات بين مختلف الكيانات المجتمعية والقوى الدولية الكبرى، وكيف يتم استغلال ذكاء اللغة والخطاب لإظهار مبادئ الحوار والتسامح والتعايش والسلام وإخفاء نوايا التهديد والصراع والحروب؟

سنناقش ذلك من خلال عنصرين رئيسين، أولهما يتمثل في تسليط الضوء على ذكاء اللغة والخطاب في الانتقال من حوار الثقافات/الحضارات إلى أطروحة الصراع والهيمنة والعنف في ظل التطور السريع لتقنيات التواصل وتكنولوجيا الاعلام والاتصال وحلول شبح العولمة الذي يطال كل ميادين ومجالات الحياة الإنسانية، أما العنصر الثاني فيتجلى في وضع النقاط على لعبة اللغة وخداعها من خلال آليات إيديولوجية تمتلكها مؤسسات السلطة التي تعمل على قلب الحقائق وتشويه الواقع للانتقال أحيانا من بث مفاهيم الحوار والتسليم بالتنوع والتعدد الثقافي إلى أطروحة الاستبداد التي تفضي إلى الصراع والهيمنة والعنف. نناقش المحورين مركزين على فترة ارتفاع وثيرة الصراعات والحروب التي شهدها العالم بقيادة القوى السياسية الكبرى مع تعثر فرص التواصل والسلم خاصة منذ الثورة الصناعية إلى اليوم.

1. ذكاء اللغة والخطاب بين الحوار الثقافي/ الحضاري ومأزق العولمة

جسد إعلان مذهب الأخلاقية الحديثة وفلسفة المساواة التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية 1789م سعيا واضحا إلى اعتبار المواطنين متساوين في كل شيء وتسميتهم بالمواطنين القوميين والعالميين (أرمان ماتلار، 2008.، ص30). وظهر بعدها في الساحة الفكرية مفهوم الكوسموبولتي (Nataly Villena Vega, 2009 ; p01) cosmopolitisme مع مفكرين أمثال ناتالي فلينا وفركاس لوزا بهدف تحقيق السلم والتعايش والإيجابية في العلاقة مع الغير وهو ما يفضي إلى نفي الهويات والخصوصيات الثقافية وتحقيق المواطن الكوني، وعلى نفس النهج سارت منظمات الطبقة العمالية العالمية والحركة من أجل السلم أو حركات إلغاء العبودية في العالم وغيره (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص35).

في نفس الحقبة (القرن 19م) ظهرت فكرة الأدب العالمي مع ماركس وإنجلس في بيان الحزب الشيوعي 1848م، فما يصح على الإنتاج المادي يصح أيضا على الإنتاج الأدبي والفكري؛ حيث “وصل الأشخاص والمنتوجات والأفكار الى درجة خارقة من الحضارة العالمية…. فالإنسان يعيش الشمولية ويبحث عنها كخير … هكذا تكونت تدريجيا من كل الأفكار القومية والأثنية فكرة عالمية بفضل الرحلات والمنشورات والمؤتمرات والمعارض” (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص34).

وكان الرهان أيضا في مجتمع القرن التاسع عشر الصناعي على الشبكات التقنية وعلى الشبكات الاجتماعية لتنسج مكانا متضامنا يحتوي الجميع في ظل المساواة، لذلك لا بأس من التطرق لبداياتها الأولى إلى أن بلغت ذروتها؛ لكن هل استطاعت توحيد الإنسانية فعلا وإسعادها، أم أنها انقلبت على الإنسان سلبا؟

في العام 1880م عرض ألكسندر جراهام بيل لأول مرة جهازا أطلق عليه اسم الهاتف الضوئي photophone، وهو اختراع صاحب ظهور الهاتف الثابت téléphone، لكنه أتاح أول انتقال “لاسلكي” للصوت البشري. وكان يعمل من خلال تحريك شعاع ضوئي. بالطبع هذا ” الخيط من أشعة الشمس” هو بالتحديد ما نراه اليوم ممدودا حول العالم، إذ كان اختراع بيل هو أول أداة تستفيد من الضوء باعتباره حاملا لمعلومات معقدة؛ ذلك أن نقل شعاع الشمس عبر مسافات غير معقولة لم يكن يتطلب إلا عزل هذا الشعاع؛ واليوم تنظم أشعة بيل البيانات التي تعبر أسفل موجات المحيط، في شكل كابلات ألياف بصرية ناقلة للضوء، تنظم بدورها ذكاء العالم الجمعي وتتيح الاتصال بين بنى تحتية ضخمة للحوسبة تديرنا وتحكمنا جميعا (جيمس برايدر، 2022م، ص ص 27- 28). وفي العام 1884م ألقى الناقد الفني والمفكر الاجتماعي جون رسكن John Ruskin سلسلة من المحاضرات في معهد لندن بعنوان “سُحب القرن التاسع عشر المكفهرة” « The Storm Cold of the Nineteenth Century » وقدم خلال ليلتي الرابع عشر والثامن عشر من شهر فبراير نظرة عامة حول الطريقة التي صور بها الفنان الكلاسيكي والأوروبي مشاهد السماء والسحب، وطرح في تلك المحاضرات رأيه الذي يقول: (إن السماء كانت تضم نوعا جديدا من السحب أطلق عليه اسم السحاب المكفهر « Storm-cloud » وأحيانا اسم السحاب الوخيم « Plague-cloud . (جيمس برايدر، 2022م، ص ص 25- 26)

لقد أصبح كل شيء متعلق بالشبكة، وأصبحنا لا نستطيع أن نفكر إلا في إطارها ولم يعد أمامنا خيار سوى التفكير عبرها أو فيها؛ هكذا أكملت الشبكة الكثيفة من الأسلاك والكابلات المدفونة تحت البحار محاصرة العالم، ليس بالتواصل والشبكات الجامعة فحسب، بل حتى الاقتصاد والأموال والتأمينات والصحافة والأدب والعلوم والفن ومختلف مجالات الثقافة. يتحدث أوتلي ولافونتين عن فكرة دائرية الكوني والمحلي ليؤكدا أننا “نستشعر كلنا ونتأثر ولو أننا في أمكنة متباعدة وفي بلدان مترامية بالأحداث التي تجري خارج حدودنا.

هذه المنظومة العالمية للكابلات تحت البحرية التي تقف وراء الاحتكار شبه الكامل لرأس الشبكة أصبحت اليوم مملوكة من طرف القوى العالمية المتمثلة في الشركات العابرة للقارات ذات الشبق المهيمن

libido-dominandi (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص39)، فماذا عساها تفعل بمصير البشرية وهي تمسك بزمام كل القطاعات الحيوية التي تهم الإنسان، وتتوغل في كل مجالات الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات؟

لقد أضحى الابتكار التقني سلاحا حاسما للغزو الثقافي، وقد استوعب العالم الغربي فكرة السوسيولوجي ميشال كروزييه )سنة (1951 الذي اعتبر التواصل مفهوما أساسيا للهندسة الاجتماعية؛ ومع تطور تقنيات التواصل والإعلام وأشكاله ووسائله التكنولوجية وتعدد أساليبه ووسائطه المادية والافتراضية، تمازجت المقاربة الثقافية مع المقاربة الإعلامية وأدت إلى قفزة نوعية في المجتمعات الغربية على مستوى صناعة الرأي العام والهندسة الجديدة للإجماع خاصة مع والتر ليبمان وهارولد لاسويل 1922م من رواد سوسيولوجيا الاعلام وصناعة الرأي العام (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص39). وبحلول سنة 1944 وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية أقر الكونغرس الأمريكي مبدأ التدفق الحر للمعلومة والدوران الحر للأفكار بالكلمة وبالصورة حتى أصبحت عقيدة رسمية لهذه الدول الامبريالية.

إنها الإمبريالية الثقافية التي يعرفها المفكر هربرت شيلرHerbert SHILLER (رائد الاقتصاد السياسي للتواصل والثقافة) بكونها مجمل المسارات التي بموجبها يدخل المجتمع في صميم نظام عالمي حديث تنجر طبقته القيادية بالإغواء أو الضغط وبالقوة أو الفساد إلى تنميط المؤسسات الاجتماعية لكي تتوافق مع بنى وقيم مركز النظام السائد(أرمان ماتلار، 2008ـ، ص56). وهي إذ تنطلق من المركزية الغربية فهي تعتمد فكرة أساسية كما يقول المفكر Vittorio LANTERNARI مفادها أن “الشعوب الأخرى إما أن تضع نفسها على صفحة الحضارة الغربية وإما أن تكون غير جديرة بالاعتبار ككيانات قابلة للاحترام” ( أرمان ماتلار، 2008ـ، ص16) ، مما يعني إعمال طريقة المحو الثقافي للخصوصيات الثقافية والهويات المميزة أو عولمتها(Bourdiau et Wacquante,2000, p06) ، هكذا آلت الصيرورة الثقافية لدى الغرب إلى فخ السلعنة وإلى قياسها بقيمتها السوقية (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص76) ، صناعة ثقافية موجهة الأهداف وثقافة صناعية تحمل سلسلة أغراض، منها علامة التصنيع والتسلسل والتنميط والقولبة وتقسيم العمل وفكرة التيلورية، وإلى هذا الحد تأكدت فكرة تمييع الثقافة(أرمان ماتلار، 2008ـ، ص81). بعبارة أخرى فالإمبريالية الثقافية تسعى إلى تشبيك علاقات غير متكافئة تذكي رؤية مادية ونظامية للثقافة وترسخ تمثلات لنظام العالم بوصفها الرؤية الوحيدة الممكنة العقلانية والمعقولة، وتروج لنموذج وحيد للحداثة في كل المجالات التقنية واللغوية والاقتصادية والسياسية والحقوقية والتربوية والدينية وغيرها في إطار العلاقات النيوكولونيالية مع الشعوب الأخرى كما جاء على لسان المفكر العربي التنويري إدوارد سعيد.

إذا كان هذا حال الحتمية التقنية التي أدت إلى عولمة ثقافية بلبوس إمبريالي كولونيالي، فكيف يمكننا فهم الشعارات والمبادئ المثالية التي تسعى الآلة الإعلامية الغربية إلى نشرها وغرسها في وجدان الرأي العام العالمي، وتدعي الدول الكبرى والتكتلاث الإقليمية إظهارها في الواجهة والدفاع عنها وحمايتها من قبيل تشجيع حوار الثقافات والدفاع عن الهويات الثقافية وحقوق الإنسان والتعاون الدولي والتنمية المستدامة والتضامن بين شعوب العالم، تدعي ذلك من خلال تأسيس منظومة مؤسسات دولية كتلك المنبثقة عن الأمم المتحدة سنة 1945م بأجهزتها المتمثلة في الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية ومحكمة العدل الدولية والأمانة العامة للأمم المتحدة، وتلك المنبثقة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO) والتي تتمثل رسالتها الأساسية في إرساء السلام واستثباب الأمن في العالم من خلال التعاون الدولي في مجال التربية والعلوم والثقافة وإحلال الاحترام العالمي للعدالة ولسيادة القانون، ناهيكم عن مختلف الهيئات المنبثقة عن المنظمة ذاتها في مجال الحريات الأساسية وحقوق الإنسان المنشأة بموجب مواثيق ومعاهدات؛ إنها مؤسسات دولية بقدر ما تبدي مبادئ فضلى لتحقيق الحوار والسلم والتعايش والاستقرار فهي تمنح الغطاء والشرعية لمختلف الصراعات والحروب الدموية التي مايزال العالم يرزخ تحت عنفها وبطشها، وبقدر ما تتسلح بتكنولوجيا التواصل وتقنيات الإعلام والاتصال لإراحة الإنسان، فقد جعلته أيضا يعاني من أساور مضاعفة، فهو من جهة أولى أسير التقنية وعوالم الميتافيرس التي تطوق وجوده وتقلص من حريته بل وتتحكم في أذواقه ورغباته، ومن جهة ثانية هو أسير شبح العولمة بجميع تلاوينها ولعل أخطرها عولمة الإعلام والثقافة التي تحدد وعيه وتوجهه وتصنع ثقافته وتوحد أشكال القول والقراءة بين جميع بني البشر، وبالتالي تتحكم في مواقفهم من مختلف الأحداث البارزة والمسيطرة على العالم، كل ذلك باستعمال خدع اللغة وحيلها واللعب بالمصطلحات والألفاظ، فتقنع الرأي العام العالمي على أن الحرب على العراق وأفغانستان ليست حربا على الإسلام، بل هي حرب على الإرهاب والتطرف؛ وتبدع بالقوة والسلطة معاني قادحة لمفاهيم(فريديريك نتشه، ص130) [1]*الأصولية والرجعية والظلامية التي تؤدي إلى صناعة الإسلاموفوبيا؛ كما تقنع العالم أيضا أن المجازر التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني الأعزل ليست بجرائم حرب بل هي مجرد دفاع الكيان اليهودي على أمنه القومي، كما أن اغتصاب الأراضي الفسطينية التاريخية ليس استعمارا بل هو تنزيل لوعد بلفور وتحقيق للدولة القومية اليهودية وهكذا دواليك في كل الأحداث العالمية المشابهة.

إن استخدام ذكاء اللغة والخطاب في تزييف وقلب الحقائق حول مختلف الأحداث في العالم ترمي أول ما ترمي إليه خدمة مصالح القوى العاتية في العالم لتستمر في توسيع نفوذها وبسط سيطرتها على العالم وتضاعف من نهب خيرات البلدان النامية وتغنم ثرواتها وأموالها طوعا وكرها،حتى تضمن لنفسها اليقاء في موقع الريادة وبسط السيادة على كل أطراف المعمور، إنها تعرية وكشف لخلفيات الفكر الفلسفي السياسي الغربي، تلك التي تنطلق منها وبها تؤطر طبيعة علاقة الذات الغربية مع الآخر(جون بول سارتر، 1996، ص394)[2]* المختلف ثقافيا، وتوضح بجلاء ما يحكم منظورها من دسائس في رصدها لمفاهيم الثقافة والحضارة التي انطلقنا من تعريفها لدى الغرب في بداية البحث، والتي تؤكد بالملموس أن هذه الحضارة الغربية تؤمن بمركزيتها وتصنف كل من يخالف ثقافتها في موقع الهامش، كما تؤمن بتراتبية ثقافات المجتمعات عبر العالم، إذ هي رمز لمعاني التقدم والرقي والازدهار والحداثة وما دونها داخل في دائرة البداوة والتخلف والهمجية والشر… تلك هي الحقيقة التي صدع بها كثير من المفكرين الغربيين ومنهم على سبيل المثال صامويل هنتنجتون الذي كتب سنة 1996م خطاب صراع الحضارات في مؤلفه الذي حمل هذا العنوان، تم كتب موت الأيديولوجيات والأفكار القومية، وأكد على أن الثقافة تلعب دورا مركزيا وخاصة في بعدها الديني ليتسع الشرخ بين سبعة أو ثمانية كيانات ثقافية كبرى وهي الغربية والإسلامية واليابانية والصينية والهندوسية والكونفوشيوسية والسلافية-الأرثوذكسية وأمريكا اللاتينية وربما الأفريقية كذلك، لكن ما يفتأ يؤكد على أن الحضارات البارزة على خط النزاعات والتي تهدد الغرب بطموحاتها العالمية تتجلى في الكونفوشيوسية والإسلامية فقط، فالأولى متمسكة بأسباب القوة الاقتصادية فعلا، والأخرى لها أسباب قوة لكنها خامدة ويمكن في أي وقت أن تنبعث من جديد(أرمان ماتلار، 2008ـ، ص191).

2. ذكاء اللغة والخطاب بين الحوار الثقافي/ الحضاري ومأزق الإيديولوجيا:

الإيديولوجيا من منظور الفلسفة النقدية هي حاجز للفكر وشراك وقع فيه الإنسان منذ ظهور المجتمع ودخول الإنسان في علاقات اجتماعية خصوصا تلك التي تربط بين الآمرين والمطيعين (فريديريك نتشه، 1967، ص240). والإيديولوجية وعي سطحي لا ترقى في مدارج الفكر ولا إلى أعماقه، تحدد الفلسفة التأويلية لها وظائف أساسية ثلاثة (بول ريكور، 1986م، ص ص 419- 426)، تتجلى في تشويه الواقع وتزييف الحقائق ثم السعي إلى تبريرها حتى تصبح أفكار الطبقة المسيطرة أو الحاكمة هي المهيمنة على عقول الجماهير وبالتالي يسهل اندماجهم في حياة الجماعة وهذه الأخيرة غاية الوظائف. هكذا كانت الممارسات السياسية منذ ولادة مفهوم الدولة فديدنها استخدام الإيديولوجيا، ومن خلالها يسعى الحكام إلى تسويغ أفكارهم ولو حدا بهم الأمر إلى نشر الأوهام وقلب الحقائق وتزييفها عن طريق لغة السلطة وسلطة اللغة.

وفيما يلي نحصر حديثنا عن خداع اللغة لتصريف أطماع التوسعات الكولونيالية الإمبريالية التي تستطبنها القوى الغربية وتخفيها وتحاول تبرير أفكار العنف والصراع والحروب من خلال آليات الإيديولوجيا وتحت غطاء شعارات زائفة تضعها في واجهة الإعلام تتجلى في تهدئة الأوضاع لدى الشعوب غير المستقرة ونقل الحضارة إليهم وإخراجهم من الهمجية والتخلف، تماما كما كان تصورهم ومنظورهم لمفهوم الحضارة الذي أوردناه سلفا، وسنركز كلامنا على الحقبة ما بعد النهضة إلى الآن.

ظهر مفهوم الإمبريالية إبان عصر ما بعد النهضة، عصر الثورة الصناعية الأولى التي بلغت ذروتها في بريطانيا في عهد الملكة فيكتوريا ثم امتدت إلى أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، وإبان الانقضاض على القارة السوداء كانت الأهداف المعلنة تتجلى في تصدير الحِكمة والنظام إلى الشعوب المتخلفة لكن الأهداف الخفية هي التي ستظهر في العقد الأول من القرن العشرين تتجلى في السعي نحو هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص39)، وهو ما واصلت أمريكا العمل عليه حيث تنامت عقيدة جديدة للتوسع الامبريالي روجت لها شعارات مغرية تتجلى في تحقيق الحلم الأمريكي أو ما يسمى “أمركة العالم” كإشارة إلى حياة مثالية وإلى أنموذج حضاري جديد (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص40)، لكن الواقع والدافع الحقيقي هو توسيع النفوذ عبر كل دول العالم، حيث شن تيودور روزفلت سنة 1901م هجوما على كوبا وبورتوريكو والفلبين، واستطاع ضم كاليفورنيا وأريزونا وغير ذلك من الاراضي للولايات المتحدة الأمريكية لتوسيع المشروع الامبريالي للولايات المتحدة الأمريكية.

وفي سنة 1914م بدأت الحرب العالمية الأولى وكان السبب المباشر والمعلن هو حادثة اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يُدعى غافريلو برينسيب في 28 يونيو/حزيران عام 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو، لكن الدارسين يرصدون جملة من الأسباب العميقة وغير المباشرة، من أبرزها توتر العلاقات الدولية في مطلع القرن العشرين بسبب توالي الأزمات إثر حروب البلقان الأولى والثانية وتصارع الدول الأوروبية للسيطرة على منطقة البقلان وطرد الخلافة العثمانية منها، هذا بالإضافة إلى الصراع بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا على النفوذ في شمال أفريقيا وطغيان الأهداف التوسعية، فضلا عن دخول الدول الإمبريالية في تحالفات سياسية وعسكرية أدت إلى سباق التسلح بين الدول المتنافسة.

وبعدها سنة 1917 أصدر جيمس آرثر بلفور تصريحا مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد يتعهد فيه بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، سماه وعد بلفور وكان ذلك بدوافع إنسانية معلنة ولكن على حساب استعمار شعب عربي مسلم ما يزال يعاني من الاضطهاد والحروب الدموية إلى اليوم، وفي العمق وكما تؤكد بعض الصحف البريطانية حينها، فقد كان الوعد بنية حماية مصالح بريطانيا ومد نفوذها في المنطقة، ناهيكم على أنه لم ينطق ولو بكلمة واحدة حول حقوق الطوائف السابقة هناك في فلسطين(أرمان ماتلار، 2008ـ، ص43) ؛ ونفس الشيء تماما كما كانت الحروب الصليبية الأولى في القرن الحادي عشر الميلادي تحت غطاء ديني وتحت مسمى الحروب المقدسة وبأمر من بابا الكنيسة (كما يقول المؤرخ اللاتيني وليم الصوري الذي توفي سنة 1185م)، لكن الأهداف الخفية المضمرة هي ما أورده كثير من المؤرخين من أمثال المؤرخ الأميركي “توماس مادن” في كتابه “تاريخ موجز للحملات الصليبية” أن تلك الحملات الصليبية بعيدة عن كونها حروباً دينية ولم يكن الغرض منها توسيع نطاق أراضي العالم الديني المسيحي، بل هي ردة فعل ولو في وقت متأخر نوعاً ما، أي ردّة فعل على الغزوات الإسلامية في إسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا. ويعطينا المؤرخ الإنجليزي “ستيفان رنسيمان” في موسوعته عن الحروب الصليبية أبعادا أكثر قوة من الأبعاد الدينية للحروب ويستحضر بذلك عبارات البابا في مؤتمر كليرمونت: «إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، بل هي فردوس المباهج”.

وفي سنة 1939م اندلعت الحرب العالمية الثانية وكانت الفاشيّة الإيطاليّة في عشرينيات القرن الماضي، والعسكرة اليابانية وغزو الصين في ثلاثينيّات القرن العشرين، وكانت النازية الألمانية وسياستها الخارجية العدوانيّة، هي كلها من ضمن الأسباب. أما السبب المباشر فهو قيام ألمانيا بغزو بولندا في 1 سبتمبر 1939م، إضافةً إلى إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا في 3 سبتمبر 1939م. لكن الأسباب الخفية كانت تتجلى في تنافس القوى الدولية العظمى لتوسيع نفوذها واقتسام المستعمرات، انتهت بصعود معسكرين دوليين قويين هما معسكر الشرق ومعسكر الغرب الذين سينتقلان من الحرب العسكرية إلى الحرب الباردة.

أما في سنة 1990 فقد اندلعت حرب الخليج بقيادة أمريكا وبريطانيا ضد العراق وخارج إجماع مجلس الأمن، وكانت الأهداف المعلنة آنذاك هي تجريد النظام العراقي من أسلحة الدمار الشامل وتخلص دول الخليج والشرق الأوسط من الخطر الذي يداهمهم، إلا أن الأهداف العميقة كانت تتمثل في إبادة أعرق حضارات العالم في العراق وطمس معالمها حتى لا تقوم عليها الحضارة العربية الإسلامية من جديد، ناهيكم على إيجاد منطقة نفوذ لمراقبة المحيط الإقليمي ونهب الخيرات والثروات الطبيعة بهذه الدولة (اتفاقية النفط مقابل الغداء أنموذجا).

وفي سنة 2001م ومع أحداث 11شتنبر تم شن الحرب على دولة أفغانستان من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، وبرّرت كثير من القوى الغربيّة ذلك بخطابات سياسيًة وإعلاميًّة تروج لمفاهيم “إسلاموفوبيا” (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص44) “الإرهاب” “التطرف” استطاعت الآلة الإعلامية العالمية أن تصل بها إلى وجدان كل الأمم والشعوب، لكن الحقيقة غير المصرح بها هي محاربة الحضارة الإسلامية التي توجد في حالة كمون فقط وتملك من الأسباب ما يمكنها ما يجعلها منافسة للغرب.

وبناء على كل ما سبق، يبدو أن الأسباب المباشرة والمعلنة وراء الصراعات والحروب ما هي إلا تبريرات للايديولوجية الرأسمالية للقوى العالمية الامبريالية ذات الأهداف التوسعية الكولونيالية التي تسعى إلى الحفاظ عن قوتها وعنفوانها واستحكام قبضتها على بقية العالم مقابل اختلاق أسباب الصراعات والحروب ضد الحضارات الصاعدة والمنافسة، أما التذرع بالأسباب الدينية أو الخلافات السياسية فهي بمثابة أوهام ظل يروجها رجال الكنيسة والإقطاع في أوروبا بالقرن 11 الميلادي، وتغنت بها الرأسماليات الغربية والشرقية بالقرن 21.

وحصيلة القول فإن الصراع كان ولا يزال بمجمله وجوديا وحضاريا، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا بين المستغِلين والمستغَلين، وكل ما عداه فهو ذَرٌّ للرماد في العيون. وهو ما أثار بصيرة بعض المفكرين الغرب أنفسهم من أمثال الفيلسوف الألماني أوسولد شبنغلر إذ تنبأ بإفلاس الحضارة الغربية قائلا: “نحن الحضارات، نعرف الآن أننا حضارات فانية”( Oswald Spengler, 1923, p11)

خاتمة: آفاق وفرص حوار الثقافات وتحقيق التعايش والسلم

علاقة بموضوعنا المتعلق باستثمار ذكاء اللغة والخطاب في الانتقال من حوار الثقافات إلى فكرة الصراع والهيمنة الثقافية، وتأكيدا لأطروحتنا في البحث عن آفاق وفرص حوار الثقافات لتحقيق التعايش والسلم، ومن خلال تحليلنا ومناقشتنا للموضوع ورصدنا لإخفاقات الحوار في تحقيق التعايش والسلم من خلال مأزقين اثنين هما: مأزق الإيديولوجيا ومأزق العولمة، يمكننا الخلوص إلى ما يلي:

– لقد أخفق العقل الغربي حين انطلق منذ فجر العصر العلمي والتقني الحديث فاتحا ومستكشفا للكون رافعا شعار التملك والتحكم الذي نادى به ديكارت، فتطويره الخارق للتقنية والإفراط في استخدامها والتحكم المفرط في الطبيعة انقلب سلبا على الإنسان، وأصبح يعيش تهديدات وجودية حقيقة وفورية، أوضحها احترار مناخ الكوكب الأرضي وفساد أنظمته البيئية وتساقط الأمطار الحمضية وانتشار العواصف والأعاصير وغيرها من الكوارث الطبيعية، كلها أدلة أكدت إخفاق العلوم وآفاق التنبؤ المبتورة… وهي أمور مترابطة، فجميعها إخفاقات في التفكير والتعبير(جيمس برايدل، 2022م، ص ص 23-24).

لم تقف النكسات عند هذا الحد، بل إن التقنية مهدت الطريق أمام اكتساح شبح العولمة وغدت العولمة الثقافية تنذر بموت الإنسان حين سعت إلى إنتاج مواطن كوني شمولي، مسلوب العقل والإرادة، يغرق في الاستهلاك دون تفكير ويلازم عبادات ثلاثة (أرمان ماتلار، 2008ـ، ص211): عبادة الحاضر والعيش في دوامة المستجدات، عبادة الإعلام واستهلاك المعلومة، عبادة الثقافة التقنية الكونية أكثر من الثقافات الرمزية المحلية؛ مواطن شمولي دون مؤسسات ولا وساطة، ينحسر على المحلي وينسلخ عن هويته وخصوصياته الثقافية(أرمان ماتلار، 2008ـ، ص158). ويبقى الحل الوحيد هو الاقتصاد في استهلاك ثقافة التقنية والرجوع إلى التقليد والاهتمام بحضارة الرمز والكلمة، لأن الثقافة الحقيقية هي دائما ثقافة رمزية وتقليدية متجذرة في تاريخ عميق وفي أمكنة محددة (جلبير هوتوا، 2002، ص 54).

– الحفاظ على التنوع والتعدد الثقافي كما تشكل بصورة طبيعية بين المجتمعات البشرية، والحفاظ على الخصوصيات الثقافية للمجتمعات البشرية، وتنشئة الأجيال الصاعدة على التشبث بالهوية والخصوصيات الثقافية وبالقيم الثقافية المحلية والانفتاح على الكونية دون انصهار أو انسياق، كلها أمور أضحت ضرورية للانفلات من شبح العولمة بكل تلاوينها وإطلاق عنان التفكير وإحياء المواطن من جديد، مواطن قادر على تقييم الأحداث التي يشهدها محليا وعالميا واتخاذ ردود الأفعال المناسبة تجاهها دون وصاية أو تحكم أو توجيه، مواطن يرقى لفك ألغاز لغة السلطة وسلطة اللغة ويعيها تمام الوعي حتى لا تنطلي عليه خدع الإيديولوجيا وأوهامها وشراك العولمة وعقالها. ولأمثال هؤلاء يوجه مالك بن نبي خطابه قائلا: “إنني لا اكتب هذه المذكرات من أجل أولئك المثقفين (يقصد المثقفين المزيفين الموالين للاستعمار)، ولكن أكتبها للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقضي تلك الخرافات التي تعرض أحيانا أفلاما كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلفات العهد الاستعماري“(مالك بن نبي، 1984م، ص288).

– صناعة التاريخ لا تتم إلا بأفكار أصيلة تستجيب لسائر المشكلات على الصعيد الأخلاقي وميدان الأفكار الفعالة، لتجابه الإخفاقات التي خلفها العصر التقني والعولمة إذ “لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خطأ الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروبا جديدة” (مالك بن نبي، 1988م ص162) ونعيد النظر في فهمنا للعالم وفي مواقفنا تجاه التقنية مثلما كانت مطارق ثور (ثور هو واحد من أقوى الآلهة وأكثرها شعبية في الأساطير النرويجية) تدق في الأرض لتثير الرعد والبرق وتحمي من غضب الآلهة وكان يعتقد أنها أجسام سحرية هوت من السماء بسبب ما بينها وبين الصلبان من تشابه، وحين اندثرت الأغراض الأصلية منها صارت قادرة على الاضطلاع بدلالة رمزية جديدة، وهكذا، ينبغي علينا أن نعيد أسر مطارقنا – وجميع أدواتنا – كي تغدو أقل شبها بمطرقة النجار، وأكثر شبها بمطرقة ثور وبالأحجار الرعدية (جيمس برايدر، 2022م، ص 22).

تحميل المقال في نسخته الكاملة

Scroll to Top