التوافق البياني في التفسير القرآني – آيات العربية عند بعض المفسرين أنموذجا –
باحث في العلوم الشرعية
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق - المغرب
ملخص
يحاول هذا البحث الكشف عن تفاسير بعض العلماء للآيات التي تحدثت عن عربية القرآن الكريم على وجه الخصوص، وإدراك الوجه البياني في توافقهم بما يؤكد على قوة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وهي الإشكالية التي يعالجها من خلال إبراز تجليات التوافق البياني بين أقوال المفسرين لآيات العربية في القرآن الكريم، وتتجلى أهدافه في كونه يساهم في الكشف عن التفاسير المختلفة للآيات التي أكدت على عربية القرآن الكريم ومكانتها في الخطاب الشرعي، بما يبرز قوتها ودلالتها الإعجازية، كما أنه ينطلق من المنهج الاستقرائي والاستنباطي والمنهج الوصفي التحليلي في وصف الموضوع وتحليل جزئياته، وقد توصلت من خلاله إلى أن العربية لها أهمية كبيرة في القرآن الكريم، وأن العلماء اتفقوا في تفاسيرهم على ذلك، من خلال التأكيد على أن العربية لغة القرآن، وهي بذلك حجة على أصحابها، كما أنها من باب التيسير والحفظ والفهم والتدبر، وهي من البدائع والإعجاز القرآني.
This research aims to uncover some scholars' interpretations regarding the verses that speak specifically about the Arabic language in the Quran. It explores their understanding of the linguistic aspect to affirm the power of the Arabic language in which the Holy Quran was revealed. The research sheds an important light on the manifestations of linguistic harmony among the interpretations of these verses by different scholars. Its objectives include revealing the different interpretations that affirm the Arabic nature of the Quran and its significance in religious discourse, emphasizing its strength and miraculous nature. The research adopts an inductive, deductive, and descriptive-analytical approach in describing and analyzing the topic and its details. The findings indicate that scholars agree on the great importance of the Arabic language in the Quran. They affirm that Arabic is the language of the Quran, serving as evidence for its authenticity. Arabic facilitates comprehension, preservation, and contemplation of the Quran, and it is considered one of its marvels and miracles.
كلمات مفتاحية: التوافق البياني؛ التفسير؛ القرآن الكريم؛ العربية؛ المفسرون.
Keywords : Linguistic Harmony, Interpretation, Quran, Arabic, Scholar.
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن علم التفسير من أهم العلوم وأجلها، بفضله يفهم كلام الله تعالى، وتدرك معانيه، وتحقق مقاصده، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أول مفسر يعلم الناس معاني القرآن، ويشرح ألفاظه، فسار الصحابة الكرام على طريقه في التفسير، فسار التابعون ومن ساروا على نهجهم من العلماء الكبار، متعمدين في ذلك علوم اللغة، فاشترطوا في المفسر أن يكون عالما بالعربية وعلومها، حتى يستطيع فهم أسرار القرآن، وإدراك المعاني الصحيحة، والشرح المناسب، بما لا يخرج صاحبه عن جادة الصواب، كالذين فسروا القرآن بهواهم فضلوا وأضلوا.
وقد نجد اختلافا واتفاقا بين المفسرين في تفسير الآيات والسور، إلا أنها كلها تسير وفق منهج علمي، يراعي قواعد التفسير وضوابطه، لأن الاختلاف لا يضر، ولكن الخروج عن المعاني الحقيقية للآيات هو الذي يسيء إلى صاحبه، فلا ينظر إلى تفسيره ولا يعتمد عليه.
لذلك فالبحث الذي بين أيدينا يحاول الوقوف مع أقوال بعض المفسرين، وإبراز توافقاتهم في التفسير، تخصيصا بالآيات التي تحدثت عن عربية القرآن، لعله يكون مفيدا ونافعا.
أهمية الدراسة:
لكل بحث أهمية تميزه عن باقي البحوث، وإلا لما كان بحثا إضافيا، لذلك فهذا البحث يحاول أن يكشف عن تفاسير بعض العلماء للآيات التي تحدث عن عربية القرآن الكريم على وجه الخصوص، وإدراك الوجه البياني في توافقهم بما يؤكد على قوة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
إشكالية الدراسة:
إن الحديث عن العربية وعلاقتها بالقرآن الكريم، حديث عن علاقة ترابطية توافقية، تحقق المقاصد والغايات التي جاء بها الشرع الكريم، فبها يفهم الخطاب القرآني، ويدرك الوجه البياني، والتفسير المنطقي الموافق لضوابط الشرع وقواعده، ومن خلاله تدرك التوافقات بين أقوال المفسرين، من خلال الاطلاع على تفاسيرهم وأقوالهم في معاني القرآن الكريم، ومن ذلك التفاسير التي وقفت عند تفسير الآيات التي أبرزت عربية القرآن الكريم، لذلك يمكن تلخيص إشكالية هذا البحث في السؤال المركزي الآتي:
ما هي تجليات التوافق البياني بين أقوال المفسرين لآيات العربية في القرآن الكريم؟
الفرضيات:
من الفرضيات المقترحة والتي تناسب خصوصيات هذا البحث:
- أن نزول القرآن الكريم باللغة العربية دليل على أهميتها وقيمتها بين باقي العلوم الأخرى؛
- أن القرآن الكريم نزل بالعربية لتيسير الفهم والحفظ والتدبر؛
- أن العلماء رغم اختلاف تفاسيرهم إلا أن المقاصد القرآنية واحدة، كما هو الشأن بالنسبة للآيات التي تحدثت عن عربية القرآن الكريم.
أهداف الدراسة:
تتجلى أهداف هذا البحث في الكشف عن التفاسير المختلفة للآيات التي أكدت على عربية القرآن الكريم ومكانتها في الخطاب الشرعي، بما يبرز قوتها ودلالتها الإعجازية.
منهج الدراسة:
بما أن الموضوع يرتكز على تفاسير العلماء للآيات التي أكدت على عربية القرآن الكريم، فسيتم الاعتماد في دراسته وتحليله على المناهج الآتية:
- المنهج الاستقرائي والاستنباطي: من خلال جمع المادة العلمية والوقوف عند بعض تفاسير العلماء للآيات الدالة على عربية القرآن الكريم، واستنباطها لتكون مفيدة من حيث المعنى والمبنى.
- المنهج الوصفي التحليلي: يمكن استخدامه لوصف وتحليل جوانب محددة من الموضوع، حيث يقوم بتحليل الجزئيات والتركيز على تفاصيلها.
خطة البحث:
نظرا إلى طبيعة الموضوع وإشكاليته والأهداف المرجوة، قسمت البحث إلى:
- مقدمة: تتضمن أهمية الدراسة وإشكاليتها، وفرضياتها، وأهدافها، ومنهجها.
- المبحث الأول: أهمية العربية في القرآن الكريم.
- المبحث الثاني: التوافق البياني في تفسير آيات العربية.
- خاتمة: تتضمن أهم النتائج المتوصل إليها من خلال هذا البحث بالإضافة إلى بعض التوصيات.
المبحث الأول: أهمية العربية في القرآن الكريم.
تشكل اللغة العربية أهمية كبيرة في حياة المسلمين، لكونها تجيب عن التساؤلات وتعالج المشكلات التي تعترض حياتهم، فتكون بذلك مفتاحا يفتح المجال للمفسرين والفقهاء لمعرفة معاني الآيات القرآنية واستخراج الأحكام الشرعية المناسبة للنوازل المستجدة.
ويعتبر تعلمها فرض عين، لأن فهم النصوص الشرعية مبنية عليها، لأن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.[1]
وعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهدة حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به القرآن.[2]
ثم إن النصوص الشرعية مستنبطة من الوحيين القرآن والسنة وكلاهما نزل بالعربية على لسان رسول عربي صلى الله عليه وسلم إلى أمة عربية تيسيرا لحفظه وفهمه.
وقد تحدث الشاطبي رحمه الله عن أهمية العربية في فهم النصوص الشرعية، ببيان أنه لا يعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف تصورت.[3]
كما يعتبر المعاني المستنبطة من القرآن الكريم، والتي لا تجري على اللسان العربية مبطلة ولا ينبغي الآخذ بها، وأن فهم كتاب الله تعالى لا يكون إلا عن طريق اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.
وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب، وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.[4]
وهناك من جعل العربية دليل على الإيمان الصحيح، وأن المؤمن الحق لا يتكلم في كلام الله إلا وهو ضابط للعربية وأسرارها، حتى لا يخرج المعاني عن حقيقتها.
فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب.[5]
وقد سار الصحابة الكرام على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في فهم الوحي المنزل من السماء، من خلال جريان استنباطاتهم وفق العربية، باعتبارها ذات أهمية في إدراك حقيقة المعاني وتنزيل الأحكام الشرعية بما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية وأهدافها.
فالقرآن الكريم نزل بلسان العرب، جاريا على معهودهم في الكلام، وعادم في الخطاب، فكل من كان من لسان العرب متمكنا كان للقرآن أشد فهما وأحسن إدراكا، ولا يعلم أحد أفصح لسانا وأسد بيانا وأقوم خطابا من أهل القرون الأولى المفضلة، وأولاهم في هذا الفضل والسبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون في الأمة من بعد القرون الأولى أحد أفصح منهم لسانا، ومن ثم فلا يقدر أحد أن يفهم القرآن من هذه الجهة – جهة كونه عربيا – أفضل ولا أحسن من أصحاب القرون الأولى، بل كل من جاء بعدهم فهو دوم في الفصاحة والبيان، والفهم والإدراك.[6]
وسار التابعون ومن جاء بعدهم من العلماء المعاصرين على نفس النهج، حيث اشترطوا فيمن يتصدر للإفتاء من الفقهاء المجتهدين أن يكون عالما بقواعد العربية ضابطا لقواعد التفسير وفقها، فلا يمكن فهم النصوص إلا بها، فإذا نزلت بهم نازلت رجعوا إلى كتاب الله أولا لكونه المصدر الأول للتشريع، ولا يمكن استنباط النصوص الشرعية المناسبة إلا بمعرفة العربية لأن القرآن عربي وآياتها عربية، تحتاج إلى لسان عربي فصيح يعطي المعاني حقيقتها والأحكام شرعيتها، لتكون وفق قواعد الشرع وضوابطه.
لذلك لا بد للمجتهد أن يعرف من اللغة والنحو القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال إلى حد يميز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه.[7]
وبذلك يمكن القول أن للعربية أهمية بالغة في القرآن الكريم، وعلى نفس المنهج الذي سار عليه الأولون ينبغي أن نسير، وقد تعددت كتب المفسرين، فكانت مرجعا هاما للطلبة والباحثين والعلماء، بل وهناك من الكتب المعاصرة التي فسرت القرآن الكريم بأسلوب مبسط يسير، حتى يستفيد منها المتخصصون وغيرهم، ولتشجيع القراء على فهم القرآن وتدبره، وإدراك حقيقته ومعانيه.
المبحث الثاني: التوافق البياني في تفسير آيات العربية عند بعض المفسرين
يعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وقد ميزه الله تعالى بميزة العربية، حيث إنه منزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بلغة العرب وقومه، وقد كانت العربية اللغة السائدة في عصورهم، فنزل القرآن بها، حتى يفهموا كلام ربهم ويدركوا حقيقته، ويصلوا بفضله إلى التصديق الجازم والإيمان الكامل، وقد اعترف غير واحد من كبار العرب وكفار قريش بصدق القرآن وإعجازه، من ذلك عتبة ابن ربيعة الذي دعا النبي عليه السلام إلى التنازل على النبوة مقابل ما يشاء من المال والسلطة، فقرأ عليه النبي عليه السلام بعضا من سورة فصلت، فرجع إلى قومه، مقرا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به، لقوة القرآن الكريم البلاغية والإعجازية، وقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثل القرآن، وتحدى كل المخلوقات من الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو تعاونوا على ذلك، بل إنهم لا يستطيعون كتابة جملة واحدة شبيهة بما جاء به القرآن الكريم، قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).[8]
والناظر في كلام الله تعالى يدرك إشارات قوية تعطي الجزم على صدقه وحقيقة آياته وسوره، لذلك تكلف الله بنفسه بحفظه من كل تغيير أو تزوير أو تضليل، إذ يقول عز وجل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).[9]
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معلم البشرية القرآن الكريم عربيا، بل وكان متحدثا بلغة القرآن معلما بها، يحث صحابته على نقل الحكم والأحكام بها، فساروا على نهجه ومنهاجه في تبليغ الدعوة وإحقاق الحق.
وقد نهج المفسرون منهج النبي عليه السلام وصحابته، في تفسير القرآن الكريم، فألفوا كتبا نافعة، كان ولا زال المسلمون يستفيدون منها، ويجعلونها مرجعا أساسا في حياتهم العامة، وفي تعاملهم مع القرآن الكريم وفك مفاهيمه خصوصا.
وهناك آيات قرآنية أبرزت عربية القرآن الكريم، وما يتمتع به من خصائص إبداعية، في لغته وقوة تأثيرها في نفوس الناس، ومنها ما خصت ببيان أن القرآن نزل بالعربية الفصحى لتيسير حفظه وفهمه وإدراكه، ومن هذه الآيات، قوله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}[10]؛ حيث توضح الآية الكريمة أن القرآن الكريم أنزل بأشرف اللغات وهي اللغة الأم بين جميع لغات العالم.
ففهم القرآن الكريم من خلال هذه الآية يقتضي عربية المفسر وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات.[11] فتكون بذلك عربيته دليلا على وضوحه وفصاحته وهي صفة للقرآن، وهو نفسه الذي يشير إليه القرآن الكريم بقوله: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق}[12]:
إذ أن عربية القرآن خاصة بمن أنزل عليه أي الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه نشأ في قبيلة العرب، حتى يفهموه ويكون حجة عليهم، وهو بذلك نزل بالعربية تسهيلا للفهم والحفظ، كما أن العربية خاصة بالنبي عليه السلام، اعتبار للغة قومه، فيكون الحكم مترجما بلغتهم حتى يفهموه ويدركوا حقيقته.
والعجم هم الذين لا يفهموا العربية ولا يتحدثوا بها، لذلك يؤكد الله تعالى على أن القرآن نزل بعربية واضحة، وهو ما ذكره الله تعالى بقوله: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )[13].
يقول الرازي: “… وقال أبو علي الفارسي: الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم”.[14]
كما أن عربية القرآن من باب ضبط اللسان والإقرار بأنه واضح، نفيا لادعاءات المشركين الباطلة من تعليم رجل أعجمي للنبي عليه السلام، فالقرآن خير دليل على عربية النبي عليه السلام وعلى عربية الوحي المنزل عليه.[15]
أي أن الكتاب المبين حال كونه قرآنا عربيا، فعلى تقدير أن السورة (الكتاب) تكون تسميتها قرآنا باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن، فتكون تسميته قرآنا واضحة وعربيا صفة لقرآنا أي على لغة العرب….[16]
ثم إن العربية التي نزل بها القرآن لها أهمية كبيرة من خلال جعل العرب نظمه وإعجازه وتفهم حقيقته، يقول عز وجل: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا)[17]:
فكونه عربيا لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه وخروجه عن جنس كلام البشر…[18]. فتكون بذلك عربيته دليلا على فصاحته حتى لا يجد فيه العرب أي لبس، أي وأنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي…”[19].
وفي قوله تعالى: (بلسان عربي مبين)[20]، يؤكد على نزول القرآن الكريم بالعربية وهي لغة العرب التي يتحدثون بها، وأن هذا يدل على أنه نازل بلغة العرب…[21]، حيث إن العربية كانت حجة على العرب لأنهم أهلها فيعرفون حقيقة ما جاء به القرآن.
يقول ابن كثير: “أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بينا واضحا ظاهرا، قاطعا للعذر، مقيما للحجة دليلا إلى المحجة”.[22]
فهو بذلك يوضح بأن عربية القرآن كانت حجة عليهم كذلك، لكونه فصيحا بفصاحة يفهمونها، ولو أنزل الله تعالى القرآن الكريم بغير العربية ما فهمه العرب.
كما أن عربية القرآن دليل على إعجاز المعارضين له فأنزله الله تعالى بغير عوج ولا خلل، لقوله تعالى: (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)[23]؛
فقد وصفه الله تعالى بصفات ثلاثة؛ أولها: كونه قرآنا، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[24]، وثانيها: كونه عربيا والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}[25] وثالثها: كونه غير ذي عوج والمراد براءته عن التناقض.[26]
أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عربيا، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا…وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب….[27]
ويقول البيضاوي: “فهو كتاب يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة ومترجما بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه وانتصابه على الحال…”.[28]
وهو ما يشير إليه القرآن الكريم ببيان أن العربية دليل على الوضوح والإعجاز، يقول عز وجل: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون)[29]؛
وفي حال كونه قرآنا عربيا بينا واضحا فمعانيه مفصلة وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)[30] أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه (لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)[31].[32]؛
وفي قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته آعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)[33]. يؤكد القرآن الكريم على أنه منزل بلغة العرب ولسانهم، وأن الله تعالى يرسل لكل أمة رسولا بلسان قومهم، لذلك أنزل بالعربية بلسان العرب، وهو ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير)[34]. حيث يبين أن العربية في القرآن من باب الفصاحة والوضوح والبدائع فيه ودليل على صدق لسان المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)[35]. يقول ابن جزي: “أي صدق ذا لسان عربي وهو محمد صلى الله عليه وسلم”.[36]
وفي قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)[37]؛ يبرز أنه منزل بلغة العرب فصيحا واضحا لعلهم يفهمونه ويتدبرونه، كما قال عز وجل: (بلسان عربي مبين)[38].[39] أي بلسان قريش، ولو كان غير عربي ما فهموه.[40]
وبالرجوع إلى تفاسير العلماء نجدهم يتفقون على كون القرآن الكريم أنزل باللغة العربية على العرب وهي أشرف اللغات، وقد أسمعه جبريل للنبي عليه السلام بلسانه ولسان قومه، فكان من باب تسهيل الفهم والحفظ، فأنزله الله فصيحا واضحا حتى لا يجدوا فيها لبسا أو غموضا، والعربية فيه من البدائع وهي دليل على صدق رسالة النبي عليه السلام، كما أنها من الإعجاز، فلأنه أنزله بلسانهم، كان من باب الإعجاز للمعارضين وإثبات تعنتهم وعنادهم لأنهم امتنعوا عن التصديق بما يفهموه ويدركوا حقيقته وقوته البلاغية والإعجازية التي أنزله بها، فيكون القرآن الكريم بذلك أفضل كتاب، لم يقدر أحد على الإتيان بمثله، فكان ولا يزال وسيبقى معجزة بقوة العربية والإبداع فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
خاتمة
توصلت من خلال هذا البحث إلى أن العربية لها أهمية كبيرة في القرآن الكريم، وذلك لأنه أنزل بها، وقد اتفقت تفاسير العلماء في الآيات التي تحدثت عن كون القرآن عربيا، رغم اختلافهم في تفسير الآيات القرآنية وفي تناولها بطرق متنوعة، إلا أن المقصد واحد، وهو أن العربية لغة القرآن، وهي بذلك حجة على أصحابها، كما أنها من باب التيسير والحفظ والفهم والتدبر، وهي من البدائع والإعجاز القرآني.
يمكن تلخيص أهم نتائج هذا البحث في الآتي:
- أن اللغة العربية لها أهمية كبيرة، لكونها لغة الوحي المنزل من السماء، وبها كان يستعين الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم من العلماء والفقهاء الكبار لفهم القرآن الكريم وإدراك أسراره وحكمه.
- أن اللغة العربية لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة الصحابة ولغة كل مجتهد، وهي من أهم الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيمن يتصدر للإفتاء، لتكون الأحكام الشرعية المستنبطة صحيحة من حيث المعنى والمبنى.
- أن التنوع في تفسير القرآن الكريم، ووجود مؤلفات في مجال التفسير، تختلف في طريقة التفسير وتتفق في المعاني والمقاصد دليل على قوة القرآن الكريم البلاغية والإعجازية.
- أن التفاسير المختلفة لآيات العربية في القرآن الكريم يبرز أهمية التوافق البياني في التفسير للقرآني لهذه الآيات، حيث نجد كل مفسر يتناول هذه الآيات بطريقته الخاصة، لكن المعاني تتفق على اعتبار العربية أشرف اللغات وأجلها، وهي لغة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتسهيل الفهم والحفظ، وهي من البدائع والإعجاز في القرآن الكريم.
- أن القرآن الكريم كتاب عربي بامتياز، يوحي إلى مكانة العربية بين جميع لغات العالم.
- أن الاهتمام بكلام الله تعالى وعربيته قراءة وفهما واجب كل مسلم، لأن الفهم والتدبر يؤدي إلى الإدراك والتأثر، فيرتقي بالمسلم إلى أعلى الدرجات، ويدرك أسرار الشرع ومقاصد التشريع الإسلامي.
التوصيات:
- ضرورة العناية باللغة العربية بتنظيم أنشطة علمية تبرز مكانتها في الدين الإسلامي؛
- المشاركة في ملتقيات علمية ودورات تكوينية في مجال اللغة العربية ودورها في تفسير القرآن الكريم؛
- الاشتغال على البحوث والدراسات التي تبين أهمية اللغة العربية في القرآن الكريم ومكانتها بين اللغات الأخرى.
والحمد لله ر ب العالمين
الإحالات:
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: ناصر عبد الكريم العقل، ط7: 1419هـ/1999م، دار عالم الكتب بيروت لبنان، ص 442. ↑
- الرسالة، الإمام الشافعي محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله، تحقيق: أحمد شاكر، ط1: 1358هـ/1940م، مصطفى البابي الحلبي، ص 51. ↑
- الموافقات – أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (توفي 790هـ) – تقديم بكر بن عبد الله أبو زيد – ضبط نصه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان – دار ابن عفان -، ج 5 ص 52. ↑
- الاعتصام، إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، دار الرحمة ط 1، 1988م، تقديم محمد رشيد رضا، ج2 ص 294. ↑
- البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، درا التراث، ج1 ص 292. ↑
- منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، عثمان علي حسن، 1412مكتبة الرشد، ج2 ص 506. ↑
- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، الدكتور يوسف القرضاوي، ط الأولى 1417هـ/1992م، دار القلم للنشر والتوزيع بالكويت، ص 34. ↑
- سورة الإسراء الآية 88. ↑
- سورة الحجر الآية 09. ↑
- سورة يوسف الآية 2. ↑
- تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، المحقق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة: الأولى – 1419 هـ، ج 4 ص 313 بتصرف. ↑
- سورة الرعد الآية 38. ↑
- سورة النحل الآية 103. ↑
- مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 ه، ج20 ص 271. ↑
- ينظر بتفصيل: تفسير ابن كثير، م.س، ج 4 ص 518 ↑
- فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)، الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى – 1414 هـ، ج3 ص 6. ↑
- سورة طه الآية 110. ↑
- تفسير الرازي، م.س، ج 22، ص 103. ↑
- تفسير ابن كثير، م.س، ج 5، ص 280. ↑
- سورة الشعراء الآية 195. ↑
- تفسير الرازي، م.س، ج 2، ص 251. ↑
- تفسير ابن كثير، م.س، ج 6، ص 146. ↑
- سورة الزمر، الآية 27. ↑
- سورة الحجر الآية 09. ↑
- سورة الإسراء الآية 88. ↑
- تفسير الرازي، م.س، ج 26 ص 249، بتصرف. ↑
- الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م، ج9 ص 326. ↑
- أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، المحقق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى – 1418 هـ، ج3 ص 190، بتصرف. ↑
- سورة فصلت الآية 02. ↑
- سورة هود الآية 01. ↑
- سورة فصلت الآية 41. ↑
- تفسير ابن كثير، م.س، ج7 ص 147. ↑
- سورة فصلت، الآية 43. ↑
- سورة الشورى، الآية 05. ↑
- سورة الزخرف، الآية 02. ↑
- التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي (المتوفى: 741هـ)، المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي، الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت، الطبعة: الأولى – 1416 هـ، ج 2،
ص 276. ↑ - سورة الأحقاف، الآية 11. ↑
- سورة الشعراء، الآية 195. ↑
- ينظر: تفسير ابن كثير، م. س، ج7، ص 200 بتصرف. ↑
- ينظر: فتح القدير للشوكاني، م. س، ج4، ص 144. ↑