المنعطف المنهجي ودوره في إغناء الحوار بين التخصصات

سندس عفيفي

باحثة في سلك الدكتوراه
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة
المغرب

ملخص

تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على فكرة “المنعطف المنهجي ودوره في تعزيز الحوار بين التخصصات”، وهو موضوع يلبي النقاش الأكاديمي الحالي. تسعى هذه المساهمة إلى توضيح أن فتح قنوات التواصل وبناء جسور الحوار بين مختلف التخصصات يعد نتيجة طبيعية للتغيرات والتطورات الهامة التي شهدها مجال المناهج. فلولا الثورة الهادئة التي طرأت على الأدبيات المعتمدة في علم المناهج، لما كان بالإمكان فتح آفاق جديدة للحديث اليوم عن التعددية المنهجية، التي تستمر في دعوة إلى تقليص الفجوات بين التخصصات المختلفة.

Abstract

This article aims to shed light on the concept of the “methodological turn” and its role in enhancing interdisciplinary dialogue, a topic that aligns with current academic discourse. This contribution seeks to clarify that opening channels of communication and building bridges of dialogue between different disciplines is a natural outcome of the significant changes and developments that have taken place in the field of methodologies. Had it not been for the quiet revolution that has swept through the established literature in methodology, it would not have been possible to open up new horizons to discuss today what is known as methodological pluralism, which continues to call for narrowing the gaps between different disciplines.

مقدمــة

تنهض هذا المقالة بالفكرة الرئيسية التي  تَلقي الضوء على موضوع  “المنعطف المنهجي ودوره في إغناء الحوار بين التخصصات”، باعتباره موضوعاً يستجيب للنقاش الأكاديمي الراهن، وتهدف هذه المساهمة إلى توضيح التصوّر التالي: وهو أن فتح قنوات التواصل ومدّ جسور الحوار بين مختلف التخصصات يعتبر بمثابة ولادة طبيعية لحصيلة التغيّرات والتطوّرات الهامة التي مسّت بشكل مباشر حقل المناهج؛ إذ لولا الثورة الهادئة التي اقتحمت قلاع الأدبيات المعتمدة في علم المناهج ما كان بالإمكان أن تفتح آفاق جديدة كي نتحدّث اليوم عن ما يسمى بالتعدّدية المنهجية التي ما فتئت تجدّد النداء المستمر من أجل تقليص مسافة الحدود العابرة بين التخصّصات، وهذا ما أسِمَه هنا، باسم ” الثورة الصامتة ” التي جرت وقائع أحداثها الكبرى في النواة الحساسة المحركة لبنية التفكير العلمي دون أن تسترعي قدراً كافياً من الاهتمام والتفكير وربما حتى دون أن تثير انتباه وفضول الكثير من الباحثين لدراستها والوقوف عند تفاصيلها المثيرة، ولأنّه في الغالب ما يتمّ نقاش أو تحليل القضية بعيداً عن خلفياتها النظرية والفكرية ومسبّباتها الحقيقية، أرى أن قفزات الانتقال التي حقّقتها المناهج في بنيتها الداخلية هي العامل الرئيسي الذي يفسّر خروج عدّة تخصصات علمية من شرنقتها الضيّقة نحو الانفتاح. وحتّى يكون لمقتضى الحديث معنى في هذا المقام سيتأرجح كلامنا بين مرحلتين يبدو أنّهما مختلفتين من حيث السياق الزمني ومن حيث العوامل والمؤثرات الفكرية الثقافية والاجتماعية التاريخية التي طبعت كلّ واحدة بعينها. تحيل المرحلة الأولى على صيغة المناهج التقليدية في طور تأسيسها الأولي التي يمكن وصفها بمرحلة الانغلاق، فيما تضعنا المرحلة الثانية أمام صورة المناهج في طور الانفتاح والتي نستطيع نعتها بمرحلة الانفجار وتفريخ مناهج بديلة.

غني عن البيان أن مسألة حوار التخصصات تؤطرها أبعاد ونظرية وفكرية تصب في عمقها الابتعاد ما أمكن عن تقاليد البحث العلمي والأكاديمي القديمة التي تفرض حواجزاً وحدوداً فاصلة بين مختلف التخصصات العلمية وكأنها أنساق فكرية ومعرفية معزولة تماما عن الواقع الذي أنتجت فيه. فما هي الإرهاصات والمبادئ الفكرية التي تستمد منها هذه المقاربة مرجعيتها في الدعوة لخلق جسور حوار وتواصل بين عدد من التخصصات العلمية؟

تنطلق هذه المقالة من استحضار حيثيات الظروف المعرفية والفكرية ومختلف الشروط الإبستمولوجية التي أطرت سياق النقاش حول الدعوة إلى حوار التخصصات العلمية ودوره في إنتاج معارف جديدة وهو سياق تحكمه من جهة أولى شروط منهجية ارتبطت في مجملها بالتساؤل حول جدوى وأهمية المنهج الواحد في معالجة ودراسة ظاهرة معينة سواء كانت تلك الظاهرة ذات طبيعة إنسانية أو طبيعية، بمعنى أن تفجير النقاش بهذا الخصوص ارتبط في صلبه بطبيعة المنهج المناسب لدراسة ظاهرة ما؛ إذ سرعان ما انتبه الكثير من الباحثين إلى قضية قصور ومحدودية منهج معيّن إن في طريقة معالجته لطبيعة الظاهرة المدروسة وتعقيداتها المختلفة أو علاقة انفتاحه على مناهج مجاورة. وهنا سأقف بشكل مقتضب لأبرز دور هذا السياق المنهجي في تكسيره للحدود العازلة بين التخصصات ودعوته الصريحة إلى إلغائها.

من جهة ثانية لا ينفصل هذا السياق المتعلق بالجانب المنهجي عن الإطار الفكري العام الذي عرف بدوره من التحوّلات الكبرى التي أعادت النظر في الكثير من مبادئ العلم الكلاسيكي التي كانت تمثّل حجر الزاوية ضمن الأسس المعرفية والعلمية التي يقوم عليها. جلّ هذه التغيرات مثلت تلك الأرضية الخصبة التي كانت ممهّدة لطبيعة الانقلابات الثورية التي كان مسرحا لها العديد من ميادين العلم المختلفة؛ إن على مستوى النتائج أو الحقائق أو صياغة القوانين العلمية وبناء النظريات العلمية والمفاهيم المعتمدة في ذلك البناء مع نهاية القرن 19 وبداية العقد الأوّل من القرن 20؛ ولأنّ هذا القرن كان قد افتتح بظهور نظريتين شاملتين في الفزياء، وهما نظرية الكمّ لماكس بلانك ونظرية النسبية العامة والخاصة لألبرت إنشتاين، فقد كان لهما بالغ الأثر في تغيير بنية العلم وطرقه المنهجية([1]).

لقد تعرضت عروش وأركان عدد كبير من التخصصات العلمية مثل: الفيزياء، علم الطبيعة، الرياضيات، الفلسفة، المنطق، اللسانيات إلى هزات قوّية زعزعت معها كلّ الثوابت الصلبة التي شكلت بُنيان العلم القديم والحديث، بحيث أبّدت الثقة العمياء في أنساقه المغلقة وجعلت فروعه ومعارفه أشبه بجزر معرفية معزولة ومشتتة فيما بينها. كان لمجموع هذه العوامل والمؤثرات كاملة كلّ الفضل في نشأة العلوم المسماة إنسانية – علم الاجتماع / علم النفس/ الأنثروبولوجيا- التي تركت بصمة عميقة وبالغة الأثر على طرق التفكير والفهم والتفسير عند الإنسان، وأعادت بذلك، صياغة رؤية جديدة حول نفسه والعالم والحياة والكون. إن ســـؤال المنهج لم يكن بمنأى عن ساحة كل هذه التغيرات، بل قد لا نخطئ التقدير إن ذهبت للقول أنه كان المحرّك الرئيسي الذي قاد لغة العلم ومفاهيمه وأدواته المنهجية من لغة السكون والثبات إلى لغة جديدة متحركة ومتمرّدة ترفض الجمود وتنشد التغيير المستمر؛ لغة منهجية تغيّرت معها بشكل جذري أساليب وطرق بناء المعرفة داخل الانساق والنظريات العلمية، فانتقلت بموجب ذلك معها كلّ مجالات العلم والمعرفة الإنسانية من المقاربة الأحادية المنهج إلى المقاربة ذات التعدّدية المنهجية وهو الأمر الذي دفع ببعض الباحثين الذين اهتموا بتوصيف التغيّر الذي شهده تاريخ العلم بكونه ثورة في المنهج والرؤية التي يقوم عليها قبل أن يكون انقلاباً في المعارف والحقائق. فكيف ساعد هذا المنعطف المنهجي الجديد في ترسيخ الدعوة وبناء القناعة التي تهدف إلى مدّ جسور التواصل والحوار؛ لا القطيعة والحدود بين التخصّصات العلمية؟ ذلك ما سنتعرف عليه بشكل تدريجي في المحاور اللاحقة، من هذا المنطلق سأبدأ في بسط الحديث عن هذا الموضوع من إثارة النقطة التالية:

1 – السياق الابستمولوجي لتطوّر المناهج التقليدية:

لقد تبيّن، كما سبقت الإشارة لذلك في التمهيد، أن الهزات العنيفة التي مسّت أساس العلم لم تكن بسبب عوامل خارجية خالصة عنه، بل كانت ناتجة حتماً عن مصدر داخلي مرتبط بطبيعة المنهج الذي يعتمده كل تخصص علمي في تنظيم وبناء معارفه. ذلك أن استعمال وتوظيف المفهومين: العلم / المنهج أصبح يتمّ على سبيل الترادف والتلازم المستمر بينها؛ إذا لا يمكن الحديث عن علم ما بدون منهج يبنيه، لا يمكن الكلام عن منهج دون علم يحميه. فما الذي جعل المنهج يتمتع بكلّ هذه المصداقية؟ وكيف تمّ حدث الانتقال من المنهج الأحادي إلى التعدّدية المنهجية؟

شكل عصر النهضة لحظة مفصلية في ظهور أولى المحاولات التي قام بها “راموس” (1515 / 1572) من أجل تحديد منهج دقيق في العلوم غير أنّ محاولته لم تحمل معها تمييزاً بين المنهج الذي يجب اعتماده في مجال الأدب والبلاغة و بين المنهج الذي يمكن توظيفه في ميادين العلوم([2]). نتج عن غياب هذا التمييز ظهور الخطوة الحاسمة التي ستعمل على التأسيس الفعلي لمفهوم المنهج بمعناه العلمي المتعارف عليه بين الباحثين إلى حدود اليوم مع مطلع القرن 17م، حيث قام رواد المنهج التجريبي خلال هذه المرحلة وعلى رأسهم “فرنسيس بيكون” بتحديد أربع خطوات أساسية للمنهج يتم بواسطتها تنظيم المعطيات التجريبية في المختبر بغرض الوصول إلى نتائج ومعارف علمية مضبوطة أساسها التجربة. وهذه الخطوات هي: الملاحظة – صياغة الفرضية – اختبار الفرضية (اصطناع التجربة) – استنتاج القانون. ويعدّ مبدأ التحقق التجريبي في نظر هؤلاء أساس كل معرفة علمية و ما لا يخضع للتجربة فهو خارج عن نطاق و مجال العلم و منه اعتمدت النزعة التجريبية الحديثة على مبدأ الصرامة، أو لنقل مبدأ التعصّب المنهجي للتجربة؛ في هذا الخصوص نجد “آلان شالمرز” يوضح ما يلي: ” وقد كان “فرنسيس بيكون” أحد الأوائل الذين حاولوا تحديد منهج العلم الحديث ووضع أسسه الأولى. وقد أكّد في مطلع القرن السابع عشر أنّ العلم يسعى إلى تحسين مصير الانسان فوق الأرض، وهو هدف يمكن بلوغه بجمع عدد من الوقائع عن طريق ملاحظة منهجية تتولد عنها نظريات ومنذ ذلك الحين عرفت نظرية بيكون تعديلات وتحسينات على يد البعض، كما عرفت معارضة جذرية من طرف البعض الآخر…([3]).

في الاتجاه الآخر، مجّد مؤسس المنهج العقلاني “روني ديكارت” وأعطى الصلاحية المطلقة للعقل ودوره في تحصيل المعرفة، واعتبرته المصدر الوحيد لبلوغ الحقائق اليقينية عن طريق مختلف القدرات العقلية من شك و استدلال و برهنة، أمام هذا النقاش الإبستمولوجي المحمل بالأسئلة المثقلة بهاجس البحث عن أي المناهج يمتلك الأفضلية لحماية المعرفة العلمية من المتطفلين عليها، حتّمت ظروف العصر الحديث ضرورة بناء تصوّر جديد لمفهوم “المنهج العلمي” أفرزته طبيعة السجال العلمي الذي دار بشكل دائم بين أنصار النزعتين العقلانية والتجريبية. يصوّر المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” مستوى الجدل الذي جمع بين الفريقين حول فعالية المنهج الذي يجب الاعتماد عليه قائلاً:” العقليون (أي الذين تبنوا المنهج العقلاني) يرون أنّ في العقل مبادئ سابقة على التجربة، بواسطتها يستطيع اكتساب المعرفة عن العالم الخارجي، بل هو يفرض عليه مبادئه وقوانينه والمعرفة العقلية في نظرهم، وحدها المعرفة الحقّة لأنّها تتصف بثلاث خصال أساسية هي أنّها معرفة مطلقة وضرورية وكلّية….أما التجريبيون (أنصار المنهج التجريبي) فهم يرفضون وجهة نظر العقليين تماماً ويعارضوها بشدّة. إنّهم ينطلقون من مبدأ أساسي وهو أن جميع أنواع التي لدينا مستقاة من الحسّ والتجربة، وأنّه ليس ثمة في العقل إلاّ ما تمدّه به المعطيات الحسية. ولذلك فجميع معارفنا يمكن أن تحلّل – في نظرهم – إلى مدركات بسيطة مستمدة من التجربة ([4]).

عموما توضح المعطيات السابقة أن تأصيل الحوار بخصوص تبرير الأساس المنهجي الذي يجب أن يقوم عليه العلم قد ساهم في بناء الاستقلالية المنهجية للتخصص العلمي الواحد  حيث أصبح السعي الدؤوب بين أهل المنتمين إلى هذا التخصّص أو ذاك منصبا حول البحث عن أفضل الوسائل والتقنيات التي تقوّم اعوجاج منهج ما أو تعدّل قوامه حتّى يستقيم قوامه بالصورة المثلى التي تخدم أغراض وأهداف البحث العلمي فأصبحنا أمام عدّة منهجية متنوّعة مثل: المنهج التاريخي، المنهج المقارن، المنهج التحليلي، المنهج الوصفي، المنهج الاجتماعي، المنهج النفسي…  الشيء الذي جعل من إمكانية الحديث عن تخصص قائم الذات يهتم بتدقيق تفاصيل النقاش حول المناهج مسألة لا غنى عنها في تتبع وملاحقة أهمّ المستجدات والتغيّرات التي أصبح يعرفها هذا المجال.

يقدّم الأستاذ “فؤاد زكرياء” توصيفا دقيقا للروح العلمية التي طبعت التطوّر والانتقال المنهجي لعلم العصر الحديث من خلال النص التالي: ” تضافرت عوامل متعدّدة أدّت إلى الانتقال بأوروبا من أسلوب التفكّك السائد في العصور الوسطى إلى أسلوب التفكير العلمي الحديث، وكان بعض هذه العوامل داخلياً، يتعلّق ببناء المجتمع الأوربي ذاته، وبعضه الاخر خارجياً، كالتأثير الإيجابي الذي مارسته الحضارة الإسلامية على العقل الأوروبي… ومن الأمور التي تسترعي انتباه الباحث في هذه الفترة أنّ المفهوم الحديث للعلم لم يتشكّل على أيدي العلماء وحدهم، بل لقد أسهم فيه الفلاسفة بدور عظيم الأهمية. ولعلّ القول بأنّ الفلسفة مرآة للعصر، لا يصدق على أي فترة بقدر ما يصدق على هذا العصر الأوّل من عصور العلم الأوروبي الحديث؛ إذ كانت لفلاسفة ذلك العصر رؤية واضحة تمام الوضوح لمتطلّبات العلم، وكانت بصيرتهم النفاذة تدرك ما يحتاج إليه العقل البشري من مناهج للبحث وطرق للتفكير حتى ينتقل إلى عصر جديد([5]).

2- نشأة علم المناهج:

كانت أزمة ما أطلق عليه العلماء أزمة المنطق الأرسطي وأزمة اليقين في الرياضيات (ظهور الهندسات اللاأقليدية) من بين العوامل الأساسية التي ساهمت في نشوء هذا العلم فكيف حدث ذلك؟

اعتبر “أرسطو” أنّ المنطق أداة العلوم ، وآلة تساعد على ضبط استدلالاتها واستنباطاتها بطريقة منطقية، لكن سرعان ما كشفت  عدداً من البحوث عن عقم تلك الآلة وعدم فعاليتها في البحث العلمي، فظهر فلاسفة وعلماء يسعون إلى البحث عن مناهج فعالة تساعد على الكشف العلمي، ولا تجعل الباحث يدور في الحلقة المفرغة التي يُوقِع فيها القياس  الصوري الأرسطي، فتبلور مع الدراسات النقدية المنهجية والمنطقية التي تمت على يد العرب ( فلاسفة وعلماء، وفقهاء) من جهة، والدراسات النقدية التي تمّت مع  عصر النهضة الأوربية – على يد “ديكارت” و”فرنسيس بيكون” من جهة ثانية، والتي استمرت في التطوّر والنضوج إلى حدود المنتصف الثاني من القرن 19، تبلور مع تلك الدراسات ما سمي ب “مناهج العلوم” ” Methodologie” فما المقصود بهذا المصطلح؟

أ. المعنى الاشتقاقي لمصطلح ميتودولوجية

يرجع مصطلح Methodologie في أصله الاشتقاقي إلى ثلاثة كلمات يونانية وهي: “Meta” بمعنى “Vers” أي “اتجاه” أو “إلى” و”Hodos” بمعنى “Chemain” أي “طريق” أو ” نهْج” أو “سبيل” وتركيبهما “Methodos” ويعني “Poursuite” أو “Rechercher” بمعنى “تابع” و “بحث” و “نقّب عن” والكلمة الثالثة هي: Logos وتعني ” علم “، وهذ المعنى الاشتقاقي لمصطلح “ميتودولوجية” نجده متضمّناً كذلك في المعنى الاشتقاقي للمصطلح الذي يقابله في العربية “علم المناهج” و”مناهج العلوم”، “مناهح” (جمع منهج) مشتقة من فعل نهج بمعنى سلك ، وسار، واتبع، ومنها ” منهج” وهو اسم مكان من فعل نَهَجَ ويعني الطريق أو النهج أو السبيل ([6]).

ب. المعنى الاصطلاحي لمصطلح ميتودولوجية

يحدّد “علم المناهج” بكونه المبحث الذي يهتم بالمناهج المختلفة التي يتبعها كلّ عالم حسب اختصاصه من أجل الوصول إلى تفسير وفهم الظواهر التي يدرسها. والمنهج العلمي هو ” جملة من العمليات العقلية والخطوات العملية، التي يقوم بها العالم من بداية بحثه حتّى نهايته من أجل الكشف عن الحقيقة والبرهنة عليها، وتختلف تلك الخطوات العقلية من علم لآخر، ذلك أنّ لكلّ علم – حسب التصوّر الكلاسيكي لمناهج العلوم – منهاجه حسب طبيعة الموضوع الذي يدرسه. فالعالم الرياضي الذي يتعامل في براهينه ومحاكماته العقلية مع رموز وعلامات رياضية ملزم باتباع منهج خاص به هو “الاستدلال الرياضي” القائم على احترام قوانين منطقية، بينما العالم الفيزيائي أو الكميائي الذي يتعامل مع ظواهر ملموسة وذات طابع حسي (كالطاقة، والحرارة، والضوء، والكهرباء، والسرعة، والعناصر الكيماوية، والأحماض…) مضطر إلى اتباع منهج يختلف في خطواته العقلية والعملية عن البرهان الرياضي القائم على أساس الاستنباط العقلي، فالمنهج الذي يتبعه العالم التجريبي يقوم على أساس “الاستقراء التجريبي” والملاحظة والتجريب والسعي إلى صياغة قوانين تضبط الحتمية ([7]).        

ما كاد العصر الحديث أن يشرف على نهايته حتى أصبح تمييز المعرفة العلمية عن غيرها من المعارف الأخرى يقوم على أساس الكشف عن طبيعة المنهج الذي تمّ استخدامه لأجل بناء تلك المعارف، ومنه صارت كلمة الفصل الأخيرة للتطبيقات المنهجية في تحديد ما له صلة انتماء لمجال العلم وكلّ ما يبتعد عن مجاله. فإذا كان المنهج في أبسط تحديد له يرتبط بمجموع الإجراءات والخطوات التي يعتمدها الباحث لمعالجة ظاهرة ما أو دراستها بغية الكشف عن القوانين المتحكمة فيها. فإنّ أهميته تنبع من الوظيفة التاريخية في الإجابة عن الأسئلة العالقة وتطوير المعرفة العلمية والكشف عن موضع الزيف والخلل الفكري وبالتالي فمن اللازم لأي منهج يتمّ استخدامه في الدراسة أن يخضع لمجموعة من الاعتبارات يأتي في مقدّمتها استحضار التخصص العلمي ثم موضوع البحث وطبيعته ونوعية الأسئلة والأهداف التي يسعى من خلالها للوصول إلى إجابة عنها([8]).

ساهم احترام طبيعة التخصص العلمي في تحصين قلاع البحث العلمي من تسرّب الارتجالية والعشوائية داخل الممارسة العلمية وهذا شكل الأرضية الأولى لتأسيس ما أطلق عليه الباحثون “علم المناهج”. فما مهمّة هذا العلم؟ وكيف كانت ظروف نشأته؟

يذهب “عبد الرحمان بدوي” إلى تحديد هذا العلم بكونه: “العلم الباحث في الطرق المستخدمة في العلوم للوصول إلى الحقيقة” وتدين كلمة Méthodologie باستعمالها الأوّل للفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” حينما قسّم المنطق إلى قسمين: مذهب المبادئ، وموضوعه شروط المعرفة الصحيحة، وعلم المناهج الذي يحدّد الشكل العام لكلّ علم، والطريقة التي بها تكوّن أي علم كان([9]).

أمّا ” محمد عابد الجابري” فحدّد مهمته كما يلي: ” علم المناهج هو العلم الذي يدرس المناهج العلمية المختلفة باختلاف الموضوعات المدروسة، بمعنى أنّ المهتم ب ” الميتودولوجية” يحاول تحديد الخطوات العقلية التي يتبعها الرياضي في براهينه واستدلالاته كانطلاقه من ” تعريفات” و ” بديهيات” و ” مسلّمات” لينتهي إلى استنباط حقائق رياضية تلزم لزوما منطقياً عن تلك المنطلقات، أو يهتم الميتودولوجي بتحديد الخطوات التي يمرّ بها العالم التجريبي في مختبره كالانطلاق من “الملاحظة” وصياغة ” الفرضية ” و “التجريب” عليها والانتهاء إلى صياغة “قانون” ([10]).

نلاحظ أنّ تكوين هذا العلم قد جاء كاستجابة للبحث في المناهج التي يتبعها العلماء في أبحاثهم من أجل الوصول إلى الحقيقة كلٌّ في ميدان تخصصه، إلاّ أنه بمجرّد ما أن تحدّدت مهمة هذا العلم بهذه الصفة حتى قامت مشكلة مصاحبة لها تتعلّق حول من يمتلك أحقية القيام بمهمة مثل هذه أي البحث في المناهج التي يتبعها العلماء، هل العالم؟ أم الفيلسوف؟

قام “كلود برنار” في كتابه ” مدخل لدراسة الطبّ التجريبي” بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال كما يلي: ” أنّ العالم المتخصص المغلق عليه في ميدان محدود لا يستطيع أن يتبيّن الروابط الجامعة بين الميادين المختلفة للعلم، مع أنّ العلوم تتشابك في مناهجها بالضرورة، نظراً إلى وحدة العقل الإنساني، إلى حدّ كبير على الأقلّ. فلا بدّ إذن من أن يأتي شخص غير متخصص في علم واحد بالذات، ويحاول، باستقرائه للمناهج التي اتبعها العلماء المختلفون في ميادينهم المختلفة، أن يستخلص النماذج العامة للمناهج العلمية وأن ينحو نحو شيء من التعميم حتى يضع صورة إجمالية عامة للمناهج التي يتبعها العقل الإنساني في تحصيله للحقيقة في العلوم([11]).

تكشف إجابة ” برنار” أعلاه، عن تضمنّها لثلاثة لأفكار في غاية الأهمية أوّلها: أن العالم المنعزل في التخصص الواحد لا يمتلك المؤهلات الكافية ولنقل الكفاءة العلمية التي تسمح له بالبحث في مناهج علوم أخرى لا علاقة بتخصصه وبعيدة عنه وحتى إن تحدّث في هذا الجانب سيكون كلامه مجرّد تطاول لا فائدة ترجى من ورائه، لأنّ هناك روابط مشتركة بين مجالات العلم المختلفة لا يستطيع تبيّنها، ومفاد هذا القول أن لنزعة التخصص المغلق على ذاتها مساوئ تحجب الرؤية الحقيقية للأشياء من زوايا مختلفة.

ثانيها: إقراره الأهم بتشابك العلوم فيما بينها على المستوى المنهجي وأن هناك وحدة رابطة تؤلفها وأنّ قضية الفرقة المنهجية بين العلوم هي صنيعة منظومة الفكر الذي يعجز عن تقبّل الاختلاف والتنوّع داخله، وتلك هي أحد العلامات الأساسية لأزمة الفكر على حدّ تعبير “إدغار موران” يقول: “هكذا، يظهر أن إصلاح الفكر ونقد الفكر الأعمى هو المهمة الاستعجالية للفكر، يعني إصلاح الفكر إبداع أنطولوجيا / إبستيمولوجيا / منهج / منطق جديد تكون مهمته الجوهرية، ليس إغلاق العالم داخل جواهر وحقائق تقدّم كجواهر وحقائق طبيعية، بعدما يتم حجب جذورها التاريخية ومقدماتها المعرفية وأصولها الوجودية ورهاناتها الأنثروبوسياسية…”([12]). يبدو واضحاً إذن أن أزمة العيوب والنقائص التي ظلت تسكن الفكر الغربي ومادته المعرفية المشكّلة له، هي التي جعلته يستعجل مهمة توجيه النقد له والدعوة لإصلاحه.

ثالثها: التأكيد على ربط كفاءة وأهلية الشخص الذي يقوم بمثل هذه المهمة من خلال جمعه بين عدّة تخصصات علمية وليس تخصص واحد وهذا اعتراف ضمني بمحدودية التخصص الواحد ودعوة صريحة لانفتاح التخصصات على بعضها البعض.

يمكن القول أنّ هذه الاعتبارات بقدر ما لعبت دوراً أساسياً في تحصين وصيانة البحث العلمي من منزلقات التشويه والتضليل المعرفي، لذلك ظلّ العلماء حريصين كلّ الحرص على ضرورة احترامها والالتزام الحرفي بتطبيق قواعدها حتى جعلوا من مؤشراً أساسياً يدّل على أصالة العلمي ومصداقيته ومقياساً لعناصر قوّته أو ضعفه. هي نفسها التي ساهمت كذلك في تحويل الممارسة المنهجية داخل عدّة تخصصات علمية إلى عقيدة جامدة لا حياة ولا روح مجدّدة فيها تبعث على الابداع المنهجي.     

3- ميلاد العلوم الإنسانية

عرفت نهاية وبداية القرنين الماضيين ظهور أحداث معرفية بارزة؛ كان لها عميق الأثر على تغيير صورة الفهم لدى الانسان لذاته وللحياة والوجود، انطلق الحدث الأوّل مع نشوء العلوم المسماة إنسانية فتغيرت معه صورة فهم الإنسان لذاته وما يرتبط بطرق هذا الفهم من رؤية للحياة والوجود. الحدث الثاني كان في مجال الفيزياء وتمثل في ظهور ثلاث نظريات كبرى هي: نظرية النسبية الخاصة والعامة “لآلبرت انشتاين”، والنظرية الموجية لـــ “ماكسويل* وفارادي”، ثمّ النظرية الكوانطية* مع “ماكس بلانك”، والذي بفضله تغيّرت بشكل كلّي صورة الانسان للواقع والوجود، والحدث الأخير كان نشوء ” العلوم المعرفية” مع بداية خمسينيات ومنتصف ستينيات القرن الماضي والذي معه تمّ إعادة ترتيب الحدود والأوراق وصياغة مفاهيم جديدة داخل العديد من الحقول العلمية إلى الدرجة التي تمّ وصف الخلخلة التي أحدثتها في النواة الداخلية للكثير التخصصات العلمية بالثورة المعرفية. سأحصر كلامي هنا عن التداعيات التي تركها الحدث الأوّل، على أن يتمّ الإشارة إلى مخلّفات باقي الحدثين في ثنايا الحديث اللاحق.

يقصد بالعلوم الإنسانية تلك العلوم التي تختص بدراسة تصرّفات الناس وسلوكهم أفراداً كانوا أو جماعات، فهي علوم تبحث في كلّ ما يتصل بالإنسان وتقابل العلوم الطبيعية([13]).

يقول “جان دفينيو*” في معرض حديثه عن نشأة العلوم الإنسانية: ” ليست فكرة علم الإنسان فكرة بسيطة. إذ لم يكن من البديهي أن يحاول الناس إقامة “قوانين” للسلوك الفردي، ولا قوانين تفسّر علاقات العمل، وأشكال التضامن أو الحكم، والعلاقات الجنسية، وصور الموت أو صور العالم… كان لا بدّ للوصول إلى ذلك، من مسار طويل عبر القرون. وذلك لأنّ الفلاسفة أو “المفكرين” قد حاولوا، منذ القديم، البحث على وجه الخصوص عن “أفضل” أشكال التنظيم الاجتماعي أو السياسي. وكانت هذه الأشكال تلائم الفكرة التي يكوّنونها عمّا ينبغي أن تكون عليه ظروف الناس، دون الانشغال بواقع التجربة، كما هي في الواقع الحي.

لكن هل يستطيع الانسان أن يتساءل حول وجوده، إذا لم يتساءل أوّلاً عمّا فعل عملياً في العالم؟ وإذا لم يندهش تجاه مشروعية القوى أو الأحداث التي تقع له، والتي يبدو أحياناً أنّه مرد له؟(10).

يبدو واضحاً أنّ فكرة معرفة الإنسان كما هو منغمس في حياته اليومية واقعياً، وليس كما كانت تصوّره التصوّرات التي سبقت تأسيس علوم الانسان قد تمّ استنباتها بشكل تدريجي إلى جانب الحقول العلمية الأخرى.

يقف “جان دوفينيو” عند الصور الثلاث التي ساعدت على تهييئ ما يسمى “المجال الإبستمولوجي” للعلوم الإنسانية ويقصد بذلك ” مجموع المناهج وأنماط التفكير التي يمكن بواسطتها الحصول على معرفة بالحياة اليومية، الجماعية أو الفردية، في استقلاليتها وديناميتها الخاصين (11).

تنبثق الصورة الأولى من رحم القرن 16 عندما انفصل الأوربيون عن ماضيهم الخاص وطرحوا سؤال ما هو الإنسان؟ وكانت هذه الفكرة التي سيطرت على فكر ذلك القرن هي الإطار العام الذي يُشَكَّلُ فيه العالم الجديد للإنسان. لذلك ظلّت أصداء ذاك السؤال تتردّد بشكل أو بآخر في كتابات وأفكار كبار المفكرين أمثال: مونتين، إيرازم، مكيافيلي، موتيسكيو…(12).

تبزغ الصورة الثانية بشكل دقيق مع كتابات “روسو” وبعض معاصريه خلال القرن18 عندما ارتسمت في الأفق ملامح صورة أخرى للإنسان، إذ لم يعدّ التساؤل الذي يطرح نفسه من ليس هو: من أنا؟ ومن أكون؟ بل يُحْسَنْ أَنْ نعرف كيف شكّل الانسان العالم الذي يعيش فيه بنفسه وبواسطة قدراته الخاصة؛ كيف حدث أنّ مجموعة بشرية، أو عشيرة، أو فرداً أو أميراً قد نسب لنفسه الحق في تنظيم حياة الكلّ؟ من الذي أعطاه هذه السلطة؟ غير سلبية أولئك الذين وضعوا بين يديه المُشْتَهِيَيْن للسُلْطة حريتهم المشتركة، أي حقّاً سابقاً على كلّ تاريخ (طبيعي) في تسيير شؤونهم الخاصة بهم؟ وهنا تتشكل صورة جديدة للإنسان، صورة قائمة على التضامن الفعلي بين أفراد مجموعة بشرية، وعلى حق كلّ مجموعة في أن تُعْطي لحياتها شكلاً. هكذا تتعارض أشكال التنظيم الاجتماعي التي تَستمدّ فعاليتها من الحق والمشروعية عن التنظيمات التقليدية التي كانت تعتمد على قوّة السلاح وحق العنف (13).

في الصورة الثالثة والأخيرة: فرضت أسطورة “النحن” نفسها بقوّة مكان أسطورة ” النفس ” : النحن؛ الجماعة، المجموعة البشرية بتوتّراتها وبيقينياتها الحادّة والانفعالية وأمجادها التاريخية والاجتماعية، نحن الانتفاضة الجماهيرية لسنة 1792. نحن تاريخ الأمة ل “فيخته” ونحن المنتجون للتاريخ والبناء الاجتماعي والثروة لـــــ “سان سيمون” و “ماركس”(14).

يوضّح “جان دوفينيو” هذه الصورة قائلاً: “ليس هناك مجتمع تغيّر من الداخل بواسطة ديناميته الخاصة فأن تؤدي حركة مستقلة ومعبّرة عن القوّة الجماعية إلى طفرة عميقة في النظام القائم، وتُحْدِثُ انقلاباً في الأعراف والعادات التقليدية. فهذا ما ولّد تحوّلاً عميقاً في الفكر وتصوّراً جديداً للإنسان، الذي أصبح منذ ذلك الوقت محكوماً بقدرته على صنع ” تاريخه ” وبهذا المعنى أمكن القول بأنّ علوم الانسان وليدة الثورة (15).

تولّدت انطلاقاً من هذه الصور الثلاث السالفة الذكر، ثلاثة أفكار قوّية استطاعت أن توجه البحث في اتجاهات مختلفة، ومتناقضة أحياناً. ترتبط إحدى هذه الأفكار بالدينامية الداخلية للحياة الاجتماعية، وبهذه القدرة على تغيير النظام القائم للعالم من أجل تشكيل عالم جديد، وهذه الدينامية ليست غريبة عن الوعي الذي اكْتُسِبَ آنَذَاك بالتاريخ؛ أي بمعرفة قادرة على تفسير تلاحق الأحداث الإنسانية، بل بالعثور على منطق عقلي فيها (16).

تمخضت عن الفكرة السابقة فكرة قوّية أخرى قادت الناس نحو التساؤل عن مدى صلاحية المؤسسات وعن جدواها، ووظيفتها، وهنا تمّ اكتشاف الميدان الواسع والخصب للتحليل السوسيولوجي. فيما وجّهت ” الفكرة الثالثة ” اهتمام التفكير في اتجاه التساؤل حول صلاحية وصدق بعض ” الوقائع الاجتماعية ” التي تعتبر صفاتها مُتجذّرة في واقع إنساني لا تعدّله التغيّرات الخاصة أبداً (17).

أثناء تتبعه للمسار التاريخي والإبستمولوجي الذي أثمر ولادة العلوم الإنسانية يؤكد “دوفينيو” على الاستقلالية الذاتية لهذه العلوم بالقول: “هكذا أخذت تتحدّد بالتدريج فكرة علم مستقل للإنسان الفردي والجماعي، علم، يَسْتَمَدُّ من التجربة وحدها، المعطيات التي يحاول تشكيلها في ” قوانين ” أي في قضايا توحي بانتظام قابل للقياس أحياناً (18).

 وينهي ختام تحليله بالتصريح أن جميع هذه العلوم يبقى لها ترابط وتداخل كبير فيما بينها لا يمكن إنكاره أو نفي طبيعته عبر النص التالي: “كلّ هذه العلوم تحاول اليوم، منذ حوالي ثلاثين سنة، أن تتلاقى، وأن تتمازج، وراء التخصصات المختلفة والتقوقع البيروقراطي للجامعات. فميدان التاريخ وميدان علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا تتمازح غالباً فيه الدراسات المنصبة على المواقف الجماعية والذهنيات والدوافع. وميدان علم النفس وميدان علم الاجتماع يمتزجان غالباً وبصورة حميمية بميدان الإثنولوجيا. وكلّ شيء يجري كما لو أنّه تتشكل، تحت أنظارنا، أنثروبولوجيا بالمعنى الواسع للكلمة؛ أي نوع من المعرفة المنفتحة على تجربة هي من التنوّع بقدر ما هي غير محدودة (19).

أ. الموضوعية وتفجير النقاش حول صلاحية المناهج

لم تكن ولادة العلوم الإنسانية ولادة طبيعية، كما سبق التفصيل في ذلك، هكذا وجدت العلوم الإنسانية نفسها منذ لحظات ميلادها الأولى في وضعية ابستمولوجية حرجة ومقلقة تمركز صلب النقاش فيها حول مسألتين أساسيتين هما: طبيعة وخصوصية الظواهر التي تدرسها هذه العلوم، ثمّ نوع المنهج المناسب لدراسة تلك الظاهرة بهدف التحكّم في خواصها وتقديم نتائج مضبوطة بشأنها. فالظاهرة الإنسانية كما نعلم تبقى من صنع وإنتاج الانسان وهذا الأخير هو نفسه الذي يقوم بالبحث في الأسباب الكامنة وراءها، وهذا معناه أن الظاهرة المدروسة غير مستقلة تمام الاستقلال عن وعي الباحث وخلفياته الفكرية وحوامله الثقافية، فهل بالإمكان أن يتحقق الحياد والتجرّد الكافي في معالجته لها دون أن يقع في الإسقاطات أو التعميمات الذاتية بخصوصها وفي مثل هذا الوضع نصبح أمام

مشكل الخلط بين الذات (الباحث) والموضوع (الظاهرة المدروسة)؟ على عكس الظاهرة الطبيعية التي تقدّم نفسها بشكل مستقل عن الباحث الذي يسعى لاكتشاف القوانين المتحكمة فيها، وبالتالي يتحقق فيها شرط الانفصال بين الذات والموضوع. إذا على خلفية هذا التمييز الدقيق ظهر النقاش الإبستيمولوجي المرتبط بمطلب الموضوعية في دراسة الظواهر الإنسانية. فما المقصود بهذا المفهوم؟

يقصد بالموضوعية التزام الباحث بمعايير وشروط الحياد والنزاهة والشفافية والدّقة أثناء انكبابه على مواكبته وتتبعه لظاهرة إنسانية ما بالتحليل والدراسة بهدف الكشف عن خواصها ومميّزاتها وتقديم نتائج بشأنها ترقى إلى المواصفات التي يشدّد عليها البحث العلمي في صرامته المنهجية والعلمية وإلاّ فقدت تلك النتائج قيمتها ومصداقيتها لتصبح مجرّد تخمينات شخصية حول الظاهرة المدروسة.

والملاحظ أنّ هذه الشروط مرتبطة بذاتية الباحث وترمي بطريقة ما إلى ضرورة تخليق مواصفات وشروط البحث داخل هذه العلوم. لقد ساهم النقاش بخصوص الموضوعية في انقسام الرؤى بين أهل الاختصاص في هذه العلوم إلى فريقين تجنّد كل واحد منهم للدفاع عن موقفه باعتماد الوسائل المنهجية والمعرفية التي يراها مناسبة لذلك، فبالنسبة للذين يستعملون مصطلح ” العلوم الإنسانية” أو ” علوم الروح” أو ” الدراسات الإنسانية ” يؤكدون على إمكانية دراسة الإنسان، سواء على مستوى سيكولوجي أو سوسيولوجي أو تاريخي دراسة علمية، وأنّه بالإمكان التوصل إلى حقائق وقوانين موضوعية كما هو الحال في العلوم الطبيعية وذلك عن طريق تطبيق المنهج التجريبي. ويمثل هذا الموقف في علم النفس المدرسة السلوكية وعلى رأسها “جون واطسون “، وفي السوسيولوجيا نجد ” المدرسة الوضعية الفرنسية” مع “أوغست كونت” و “إميل دوركايم” التي تدعو إلى معاملة ودراسة الظواهر الاجتماعية كــــ “شيء” لضمان شرط الموضوعية، وفي ميدان التاريخ نلقى “المدرسة الوثائقية” مع ” لانغلوا” و”سينيوبوس” مثلا، ترى إمكان تطبيق نفس المنهج في التاريخ. يعتبر كلّ هؤلاء أنّ الحقائق التي يتوصل إليها العلماء في ميدان الظواهر الإنسانية تستحق أن تسمى علماً؛ خاصة إذا التزم العالم الحياد (20).

وعلى عكس من أنصار التيار السابق ذكره، نجد من يستعمل مصطلحاً آخر يفصح عن تصوّر خاص للظواهر الإنسانية، باعتبارها لا ترقى إلى مستوى الدراسة العلمية المعهودة في العلوم الوضعية، وكمثال عن ذلك “المدرسة الألمانية” التي تستعمل عادة مصطلح “العلوم المعنوية” أو “العلوم الروحية”، حيث يميّز “وليام دلتاي” ومعه أتباع المدرسة الفينومينولوجية مثل “ماكس شيلر”بين المادة والروح؛ ففي المادة كموضوع للعلوم الطبيعية يمكن تطبيق منهج يقوم على الملاحظة والتجربة، ونستطيع الوصول إلى قوانين دقيقة لأنّ “المادة” تخضع إلى حتمية طبيعية، ومن تمّ تكون لأحكامنا صبغة موضوعية. بينما الظواهر الإنسانية كفعالية روحية تتميّز عن “المادة” بتواجد الوعي وتَدّخُل الإرادة الشيء الذي يجعل من الصعب معالجتها بالطرق التجريبية، ومن ثمّ، علينا أن “نفهمها” لا أن نفسّرها ويرجع هذا التمييز في أساسه إلى ” كانط ” الذي فرّق بين عالمين: (عالم الضرورة) وهو الطبيعة / و(عالم الحرية) وهو الإنسان (21).

إذا كانت المدرسة الإنسانية ترى صعوبة تطبيق المناهج الوضعية على الظواهر الإنسانية دون أن تحط من قيمة المعرفة التي تحصل عليها بتطبيق طرق أخرى ملائمة، فإنّ هناك من يستعمل مصطلح “إنسانيات” أو ” الدراسات الإنسانية ” بحجة أنّ الظواهر الإنسانية لا يمكن نهائياً التوصل فيها إلى حقائق موضوعية، ويهدف هؤلاء مثل ” كارل بوبر ” إلى الحطّ والتنقيص من قيمة المعرفة المحصل عليها في مجال ” الانسانيات ” لكونها مفعمة بالمفاهيم الميتافيزيقية ويطغى عليها الطابع التأملي الفلسفي، ونفس الحذر والتشكيك نجده لدى أنصار المدرسة الوضعية المنطقية المعاصرة مثل: “أودلف كارناب” و ” هانز رايشنباخ” (22).

يختتم “محمد عابد الجابري” كلامه بخصوص مشكل الموضوعية قائلا: “بالنسبة لمشكل الموضوعية، حقيقة أن الظواهر الإنسانية من الصعب التوصل فيها إلى حقائق موضوعية صارمة، وذلك لتأثير ذات الباحث في الظاهرة المدروسة أو تأثره هو بها الشيء الذي يؤثر على نتائج البحث ومدى موضوعيته. إلاّ أنّه مع ذلك، إذا ما تجاوزنا المفهوم الكلاسيكي للموضوعية، وأخذنا بعين الاعتبار التطوّرات التي عرفتها الفيزياء الذرية في هذا المجال…فإنّنا نستطيع فهم الإنجازات التي حقّقتها العلوم الإنسانية، مثل الدراسات التي أُقيمت على الذكاء في علاقته بكلّ من الوراثة والبيئة الاجتماعية، حيث استطاع العلماء أن يضبطوا قوانينهم في معادلات رياضية ورسوم بيانية تحدّد الذكاء المتوسط والضعيف والمتفوّق. كذلك الأمر بالنسبة لظاهرة التعلّم أو الإدراك، فمن الصعب اليوم إنكار القيمة العلمية للأبحاث الإنسانية في هذا المجال، حيث استطاع العلماء تحديد شروط التعلّم العضوية والسيكولوجية والسوسيولوجية والعقلية. كما استطاعوا التمييز بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية في الادراك والتذكر…(23).           

ب. الفهم والتفسير ومسألة النموذجية

إنّ الحادثة التي يدرسها التاريخ ليست ظاهرة شبيهة بالظواهر الأخرى. إنّها حادثة ماضية لا يمكن ملاحظتها مباشرة كما أنّها حادثة فريدة لا تتكرّر؛ لأنّ الزمن الذي حدثت فيه لا يعود من جديد، والإطار الاجتماعي الذي اكتنفها لا يبقى هو نفسه (24)، انطلاقا من هذه الملاحظات الأولية حول خصوصية الظاهرة الإنسانية نتساءل: إلى أي مدى يمكن بناء نظرية تفسيرية داخل العلوم الإنسانية كالتي نجدها في الفيزياء مثلاً؟ وما هي الصعوبات التي تحول دون ذلك حيث تقف عائقاً دون الوصول إلى صياغة نظرية عامة موحدّة للعلوم الإنسانية؟

يرى العالم الألماني “ماكس بلانك” أنّ : “كلّ عملية الفكر العلمي، جهد مستمر لنزع كلّ العناصر الانثروبولوجية وإقصائها؛ أي علينا أن ننسى الانسان لندرس الطبيعة، ولنستكشف القوانين الطبيعية ونصوغها”، فهل  بالإمكان التحرّر من العناصر الأنثروبولوجية أثناء دراستنا للظواهر الإنسانية حتى نحقق ملاحظة موضوعية؟ وهل نستطيع أن ننسى الانسان عند دراستنا للإنسان؟ وهل نستطيع أن نصوغ قوانين يمكن الاتفاق عليها كما يتفق علماء الطبيعة في دراستهم لموضوعاتهم؟

بالنظر إلى ما تتمتع به الظاهرة الإنسانية حركية وتغيّر مستمرين في الزمان والمكان وهذا ما يجعلها ظاهرة نسبية وليست مطلقة إلى جانب اختفائها وانفلاتها من قبضة الوعي بين لحظة وأخرى، كلّ هذه الخصائص تعطيها بعداً معقّدا، ويقصد بالتعقيد هنا؛ ما يدخل في تركيبه أكثر من عامل أو عنصر في تحديد طبيعته بمعنى أنّ الظاهرة الإنسانية ليست بسيطة، فالتعقيد لا يمكن معه فصل أو تمييز المتغيرات البسيطة إحداها عن الأخرى. وهذا التعقيد يطرح صعوبات حقيقية في وجه تعليل الظاهرة وتحديد العوامل التي تتحكم في مسارها، وهذا التشابك والتداخل في كل ظاهرة إنسانية يجعل من ” الحادثة ” الفيزيائية بعلاقتها الرياضية مقارنة معها مثل لعبة أطفال…(25). فما هو المنهج المناسب الذي يمتلك القدرة على دراسة هذه الظاهرة دون أن يؤدي به الأمر إلى أن يتخلى عن كلّ هذه الخصوصيات ودون أن يعمل على عزلها وتشويه مكوّناتها الأساسية؟ وهل هي ظاهرة تتطلّب الفهم أم التفسير؟

رغم ما تتميّز به الظاهرة الإنسانية من خصوصية وتفرّد خاصين بها، تحمّس أولئك  الذين اقتنعوا بالنجاح الباهر الذي حققته العلوم الطبيعية منذ نشأتها في الوصول إلى حقائق دقيقة وقوانين تضبط العلاقات الموجودة بين الظواهر في مجال ” الفيزياء” “الكمياء”، فكان أن راود المهتمين بالظواهر الإنسانية حلم تطبيق نموذج الطرق الوضعية في الميدان الإنساني يستطيعون عن طريقه بناء نموذج تفسيري يضاهي ذلك استطاعت أن تبنيه العلوم الطبيعة، وحتّى إن كان ذلك الحلم سبيلاً لتحقيق النجاح الذي تأمله، فإنّه كما يرى البعض ينزل بهذه العلوم إلى وضع فقدان الاستقلالية المنهجية أمام العلوم الأخرى وبالتالي اتهامها التشكيك في مصداقيتها بناء على هذه الهشاشة المنهجية. ذهب في هذا الاتجاه ” فولهام ديلتاي ” فكان في طليعة الرواد الذين استشعروا بالعمق الحقيقي الذي ظلت تتخبط فيه العلوم الإنسانية عندما عزا مشكلة تخلّفها الرئيسية مقارنة بالعلوم الطبيعية إلى مسألتين: الأولى أن العلوم الإنسانية ما زال ينقصها تصوّر واضح ومتفق عليه عن أهدافها ومناهجها المشتركة والعلاقات فيما بينها، إذا ما قورنت بما هو سائد في العلوم الطبيعية. الثانية، هي أنّ العلوم الطبيعية تزداد منزلتها ومكانتها نموّاً واطراداً بحيث ترسخ في الرأي العام مثلاً أعلى للمعرفة لا يتلاءم مع التقدّم في العلوم الإنسانية(25). بناء على ذلك تعهّد “دلتاي”بتأسيس العلوم الإنسانية على نموذج منهجي أكثر إحكاماً من الناحية النسقية أساسه “الفهم”.

نستطيع القول بناء على ما سبق، أنّ إثارة الوضع الإبتسمولوجي للعلوم الإنسانية بالصورة التي تمّ بسطه أنه بقدر ما شكلّ فرصة حقيقية لهذه العلوم كي تدافع عن استقلاليتها المنهجية. وبالتالي، تثبت خصوصيتها المتميّزة انطلاقاً من طبيعة الظواهر التي تدرسها، بقدر ما مثّل من جهة أخرى منعطفاً تاريخي في ميدان الفكر المنهجي تبلورت معه رؤية أساسية تنطلق من اعتبار المناهج ليس غاية في ذاتها، كما ترسّخ الاعتقاد لزمن طويل وإنما يبقى كلّ منهج مجرّد وسيلة يوظفها الباحث للوصول للأهداف والنتائج التي يسعى إليها، وفي هذه الرؤية تحرير للمنهج من سلطة النمطية والاتباع نحو أفق الاجتهاد والإبداع.

  1. دور المقاربة العبر مناهجية في إغناء الحوار بين التخصصات

جدير بالذكر، أنّ أي نقاش حول سياق ظهور المقاربة عبر مناهجية هو حديث لا يستبعد بالمرة نوع الترابطات الموجودة بين حقب تاريخية معينة من مراحل تاريخ العلم والمعرفة وكذلك أوجه التداخل وجوانب التقاطع بين حقول معرفية في علاقتها بحقول أخرى. وهذا يعني أن التطرّق لمعالجة موضوع من هذا الصنف هو بالدرجة الأولى محاولة تروم أن تتحدّث بشكل ضمني عن تطوّر المناهج حتّى وإن جاء ذلك على سبيل الاختصار، وعليه فكل مناولة لهذا السياق لن يكتب لها السلامة والتكامل المنهجي السليم ما لم تضع نصب أعينها هذا المعطى الأساسي وهو أنه ما كان بالإمكان أن يكتب لهذه المقاربة الجديدة الظهور لو لم تصل المناهجية التقليدية إلى الأفق المسدود أو لنقل مستوى الأزمة. فما الذي نعنيه بهذه المقاربة؟ وما المضمون الذي تقوم عليه؟

يقع الاتفاق بين الباحثين الذين اهتموا بالبحث عن الخلفية التاريخية التي كانت وراء ولادة هذه المقاربة عبر مناهجية وخروجها إلى حيّز الوجود، فيُقرّون أنّها مقاربة حديثة العهد مقارنة مع المناهج التقليدية، وأنّ تاريخ بداية ظهور أولى الأفكار المنظرّة لها يعود إلى فترة السبعينات من القرن الماضي، يكتب أحد المنظّرين الكبار الذين ساهموا بشكل كبير في التأسيس الفعلي لهذه المقاربة عبر الدفاع المستمر عن توجهها الفكري والابستمولوجي وهو “بَاسَرَابْ نيكولسكي” الذي قام بصياغة البيان الذي أعلن ميثاقها التأسيسي، ما يلي: “لعَبْر مناهجية مقاربة حديثة العهد نسبياً، ظهرت، بعد سبعة قرون من المناهجية التقليدية، على يد الفيلسوف السويسري، وعالم النفس جون بياجيه (1896- 1980). ظهر المصطلح، أوّلاً، في فرنسا، عام 1970، خلال محاضرات جون بياجيه، وإريش يانتش Erich Jantsch، وأندريه ليشنيروفيتز André Lichnerowicz، ضمن ورشة العمل الدولية التي عُقِدت آنذاك تحت عنوان: “البين مناهجية، إشكاليات البحث والتعليم في الجامعات”، وبدعوة من منظمّة التعاون الاقتصادي والتنمية، بالتعاون مع وزارة التعليم الوطني في فرنسا، وجامعة نيس(26).

غير أن ظهور مفهوم العبر مناهجية في سياق الدراسات العلمية والأكاديمية ما كان له أن يتمّ بالبساطة المعهودة، دون أن يصاحبه ذلك الجدل الواسع الذي أثار زوبعة كبيرة من ردود الفعل المتباينة حتّى بين أولئك الذين أعلنوا اتفاقهم المبدئي حول قبولهم بالمرجعية النظرية والفكرية التي ينطلق منها هذا التصوّر الجديد لطبيعة المعرفة العلمية والقضايا الإشكالية المرتبطة بها، ولا سيما أن دعوة “جون بياجي” إلى تكسير الحدود الثابتة بين التخصصات أثناء  تحديده لمفهوم العبر مناهجية، قد ترك المجال مفتوحاً أمام عدد لا نهائي من الاجتهادات والتأويلات شبيهة بالفوضى الخلاقة، هذا إلى جانب إذا ما تمّ الأخذ بعين الاعتبار مسألة أخرى وهي أن اللحظات الأولى لبداية استعمال اصطلاح العبر مناهجية وانتشاره بين الأوساط العلمية والفكرية قد تمّ توظيفه على سبيل الترادف مع مفاهيم أخرى مجاورة له مثل: بين مناهجية، تعدّد مناهجية، ما بعد المناهج، وهذا ما يفسر طبيعة اللبس الذي ارتبط به منذ نشأته الأولى، بسبب أخده بمرادفات لكلمة “عبْر” باللغة اللاتينية ولم يأخذ بالمرادف “مابعد”، ولأجل تفادي مكمن أي سوء فهم ممكن يستدعي الأمر ضرورة تحديد تلك المفاهيم حتّى تتبيّن طبيعة العلاقة التي تجمع بينها وبين مفهوم العبر مناهجية. فما هي أوجه الصلة التي تربط هذه الزمرة المفاهيمية؟

أ. المفاهيم المجاورة لمفهوم عبر مناهجية

رفعاً لكلّ لُبس، وتجنّباً لأي سوء فهم قد ينتج عنهما استعمال لهذه المفاهيم في غير محلّها أو السياق الذي من المفترض أن توظّف فيه، لا بأس أن نقدّم في هذا السياق التحديد الذي يقدّمه لها “باسراب نيكولسكي” كما هو:

  • التعدّدية المناهجية Pluridisciplinaire: تشغل نفسها بدراسة موضوع بحثي دون حصره من خلال منهج واحد، بل من خلال عدّة مناهج في وقت واحد. سوف يتمّ إغناء أي موضوع بحثي، بشكل وافر، من خلال دمج المنظورات المتعدّدة للمناهج (27).

وتتميّز التعدّدية المناهجية عن العبر مناهجية حسبه بأنّها تقدّم إضافة إلى المنهج محلّ البحث. لكن تلك الاضافة هي دوماً في خدمة المنهج الأساسي. بلغة أخرى، التعدّدية المناهجية تتخطى حدود المناهج، لكن هدفها يظلّ في نطاق البحث المنهجي التقليدي.

  • المابين مناهجية Interdisciplinaire: تحمل المابين مناهجية هدفاً مغايراً للتعدّدية المناهجية، حيث تهتمّ بنقل الطرائق العلمية من منهج إلى آخر، وتُماثل التعدّدية المناهجية في تجاوزها للمناهج، لكن هدفها يظلّ محصوراً في البحث المنهجي التقليدي، فضلاً عن كونها تمتاز بقدرتها على استحداث مناهج جديدة(28).
  • ما بعد المناهج: تركزّ هذه الرؤية عن محدودية المعرفة المنهجية من داخل العلوم الدقيقة (الفيزياء مثلاً). كما تهتمّ كذلك بالنقطة الحساسة التي توجه منظور نظرية المعرفة داخل المناهجية التقليدية في رؤيتها للاستقلال التام الذي يجمع الذات في علاقتها بالموضوع المدرك، وترفض هذا الفصل الذي تبرّره أوهام المخيّلة عن طريق إخفائه تحت غطاء النزعة العلموية، ولهذا فهي ترفض أن يكون موت الذات هو الثمن الذي يجب دفعه من أجل موضوعية المعرفة وعليه يحيل مفهوم “ما بعد المناهج” كما يدافع عنه “نيكولسكي” إلى التداخل والترابط الجوهري بين الذات والموضوع حيث يقود هذا المفهوم، المعرفة نحو حدود مفتوحة وجديدة (الانفصال ¹ الاتصال)(29).
  • العبر مناهجية Transdisciplinaire: تمتاز باهتمامها بالمنطقة المسمّاة ب ” ما بين المناهج”، وكذلك بالمساحة التي تتخطى المناهج، وأيضاً بمساحة خاصة هي ما بعد كلّ المناهج. فهدفها هو فهم العالم بشكل واقعي، وأحد أهمّ طموحاتها هو توحيد المعرفة، فهي لا تعارض ولا تناقض بين مناهجية التقليدية بل يوجد تكامل خصب بينهما(30).

تُموقع العبر مناهجية نفسها في صلب القضايا العلمية والفكرية وفي معترك التطوّرات الهائلة التي شهدها القرن العشرين ولا سيما أعظم ثورتين عرفهما هما: الثورة الكوانطية والثورة المعلوماتية. غيّرت الأولى رؤيتنا للعالم تغييراً جذرياً اختفت معه صورة العالم القديم من الأذهان إلى الأبد، ولا زال يقودها نخبة من العلماء الطليعيين، أما الثانية فبقدر ما قدّمت للإنسان فرص العيش الجميلة بصورة أفضل و أطول، تفضي تقاسم ومشاركة الخيرات والمنافع والخبرات بين البشر أجمعين، ممّا هيّأ  كلّ الظرفية المناسبة لكي نحيى ونواجه نفس المصير الكوكبي المشترك، بقدر ما ينذرنا صوتها الخفي باحتمالية وقوع الخطر الوشيك في كلّ لحظة وآن، وتصاعد مدّ الفقر والكوارث والأضرار الناجمة عنه والأمراض الفتاكة المحدقة بالكائن البشري(31).

استطاعت المقاربة العبر مناهجية في خضم التحدّيات السابقة أن تجعل من نفسها رؤية منهجية جديدة للعالم تحمل مجموعة من الخصائص والمميزات التي تنفرد بها مقارنة مع المناهجية التقليدية.

 وبما أنّها رؤية جديدة لعالم فهي تقف من جهة عند حدود العجز التي وصل إليها الفكر الكلاسيكي لإيجاد حلول مناسبة للأزمة الكوكبية المدمرة التي تسبب فيها المتمثلة إما في الدعوة إلى ثورة اجتماعية، وإمّا العودة إلى عصر ذهبي مفقود، وكلا الحلول التي قُدمت ظلّت دون أية فعالية تذكر. لذلك تقترح العبر مناهجية الحلّ الثالث الذي هو: الأخذ بالتناغم الانسجام والتوافق والتوليف والربط والحوار بين العقلي والفكري بين العقليات. فكيف ذلك؟

أمام عجز اللغة المناهجية التقليدية عن تأسيس أرضية حوار بنّاء ومثمر تحت ذريعة نزعة التخصص المغلق، جاءت العبر مناهجية كمقاربة مستجدة لسدّ الفراغ الحاصل في هذا الجانب؛ بمعنى أنّها تبحث في صيغة ما لإيجاد صلات الربط بين نتائج المناهج المختلفة بدل الفصل والعزل الذي كان يمارس من قبل(32).

فرضت طبيعة التحدّيات التي يعرفها العصر، ولا سيما الأخلاقي منها عدّة متطلّبات جديدة مرتبطة بوجود كفاءات وخبرات مجموعة من المختصين في مجالات متعدّدة، وبناء على ذلك اقتضت الحاجة ضرورة بروز رؤية تعمل على الربط بين المناهج المختلفة، تُرجمت بظهور تعدّدية المناهج والبينماهجية أواسط القرن الماضي. يوضح ” باسراب نيكولسكي” قائلاً:” تختص تعدّدية المناهج بدراسة عدّة مناهج في آن واحد لموضوع واحد يتعلّق بالمنهج الواحد نفسه. فعلى سبيل المثال، يمكن دراسة لوحة لجيوتو من منظور تاريخ الفنّ متقاطعاً مع منظورات الفيزياء والكيمياء وتاريخ الأديان وتاريخ أوربا والهندسة. أو يمكن دراسة الفلسفة الماركسية من منظور الفلسفة متقاطعاً مع الفيزياء والاقتصاد والتحليل النفسي أو الأدب. وبذلك يخرج الموضوع أغنى بتقاطع عدّة مناهج. فتتعمّق معرفة الموضوع في المنهج المختص به بما يقدّمه من مقترب متعدّد المناهج خصب. البحث المتعدّد المناهج يقدّم شيئاً أكثر للمنهج المعني (تاريخ الفنّ أو الفلسفة في المثال)، لكن هذا الأكثر يكون في خدمة هذا المنهج عينه حصراً(33).

بناء على هذه المعطيات، تُنصِّب العبر مناهجية نفسها كرؤية جديدة مفتوحة ومنفتحة على العالم لا تمتلكها الرغبة الجامحة في الإقصاء، ولا في طيّ تعدّد مكوناته الغنية ضمن أطر فكرية وبنيات ذهنية جامدة كما فعلت النزعة العلموية مع العلم الحديث. إنها بهذا المعنى تعبير عن المشروع الحضاري والفكري والعلمي الذي ينهض به القرن العشرين على امتداد جميع مستوياته وتقاطعاته المختلفة وبشتى تعقيداته وروافده المغذية لاستمراريته ووجوده. هكذا تصبح العبر مناهجية مدوّنة فكرية وخبرة معيشة تميّزها ثلاثة سمات أساسية هي : الصرامة والمرونة والانفتاح لا يمكن أن يتمّ الفصل فيما بينها، إذ أنّ الخوف من الانزلاق نحو التطرّف بسبب “الصرّامة” الزائدة، نستطيع أن نقابله بالانفتاح، كما أن الانفتاح المفرط قد يؤدي إلى التساهل والتسامح المطلق، نقابله المرونة كوسيط ضروري لإعادة التوازن بين الطرفين، الصرّامة/ الانفتاح. طبقاً لهذا التسلسل العبر مناهجي نجد أنفسنا أمام ثلاث مستويات للواقع تتبادل التأثر والتأثير المتبادل يبن مراتب مكوّناته لا مجال لاستغناء أحدهما عن الآخر، ومنه تصبح المقاربة العبر مناهجية منظومة قائمة الذات تستمدّ قوّتها من الأدلة الواقعية التي تؤكدها وليس من المفاهيم المتعلّقة بالجدالات الفكرية العابرة.

خاتمة

بعد قطعنا كل هذه المحطات من التحليل بغرض استقراء مختلف الشروط والعوامل الفكرية والمعرفية الداخلية المؤسسة لبنية العلم في تفاعلها المستمر مع الدينامية والحركية المناهجية التي زعزعت في كلّ حقبة تاريخية من حقب تطوره، الخريطة الفكرية والبناء النظري للعلم عبر الصور المنهجية المتجدّدة التي كان يرسمها لنفسه خلال كل مرحلة حتى ينهض ليجدّد طاقته المعرفية وحتى يكشف أنه لم يقل كلمته الأخيرة ذات يوم، ما دامت روح المنهج تسكنه وتحرّكه من الداخل. ألم يقمّ “ديكارت” بثورة حقيقة في العلم وانقلاب جديد في عقول الأجيال اللاحقة بواسطة “المنهج”؟

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

[1]– السيّد نفادي، اتجاهات جديدة في فلسفة العلم، عالم الفكر المجلد الخامس والعشرون – العدد الثاني –  أكتوبر/ ديسمبر 1996،ص 89.

[2] – بدوي عبد الرحمان، مناهج البحث العلمي، الناشر، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977 ص 4.

[3] – آلان شالمرز، نظريات العلم، ترجمة الحسين سبحان وفؤاد الصفا، دار توبقال للنشر، الطبعة  الأولى1991، ص 11.

[4] – محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، دراسات ونصوص في الابستمولوجيا المعاصرة، الجزء الأوّل تطوّر الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، مطبعة دار النشر المغربية، ص 165 – 166.

[5] – فؤاد زكرياء، التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة العدد501 ديسمبر2022(طبعة جديدة ومنقحة) ص135.

[6]  – الفكر الإسلامي والفلسفة، من دون مؤلف/ مكتبة المعارف، الرباط، الطبعة الأولى 1979، ص 297.

[7]  – المرجع نفسه ص 298.

[8] – أسئلة المنهج، مؤلف جماعي، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، دولة قطر، 2021، ص 20.

[9] – بدوي عبد الرحمان، مناهج البحث العلمي، الناشر، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977 ص 7.

[10]– محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم الجزء الأوّل تطوّر الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، مطبعة دار النشر المغربية، ص 20.

[11]– المرجع نفسه ص 10.

[12]– إدغار موران ” الفكر والمستقبل” مدخل للفكر المركب، ترجمة: أحمد القصوار ومنير الحجوجي/ دار توبقال للنشر، ص 7.

* جيمس كلارك ماكسويل  James Clerk Maxwell(  1831 –  1879) زميل الجمعية الملكية لإدنبرة وزميل الجمعية الملكية، (13 يونيو 1831-5 نوفمبر 1879) كان عالم رياضيات وعالمًا اسكتلنديًا مسؤولًا عن النظرية الكلاسيكية للموجة الكهرومغناطيسية التي تصف الكهرباء والمغناطيسية والضوء على أنها تجليات مختلفة لنفس الظاهرة لأول مرة. أُطلق على معادلات ماكسويل للكهرومغناطيسية لقب «التوحيد العظيم الثاني في الفيزياء»، إذ وضع إسحاق نيوتن معادلة التوحيد الأولى، مع نشر عمل «نظرية ديناميكية للمجال الكهرومغناطيسي» في عام 1865، أوضح ماكسويل أن المجالات الكهربائية والمغناطيسية تنتقل عبر الفراغ على شكل موجات تتحرك بسرعة الضوء. اقترح أن الضوء هو تموج في نفس الوسط المسبب للظواهر الكهربائية والمغناطيسية. أدى توحيد الظواهر الضوئية والكهربائية إلى توقعه لوجود موجات الراديو. يعتبر ماكسويل أيضًا مؤسسًا في المجال الحديث للهندسة الكهربائية.

*  شهد عام 1900، ظهور اكتشاف “ماكس بلانك” للكمّ (الكوانتم)، وكان هذا الاكتشاف أوضح الأمثلة تعبيرا عن التغيّر الجذري الذي طرأ على مستوى فهم الواقع الفزيائي في القرن 20، فتبعاً لهذه النظرية تتألّف الطاقة من وحدات أوّلية، هي “الكمّات quanta” وحيثما تنبعث الطاقة أو تُستقبل، ينقل كوانتم واحد أو اثنان أو مائة كوانتم، ولكن لا يكون هناك أبداً جزء أو كسر من الكوانتم، فالكوانتم هو ذرة الطاقة، ولكن مع ملاحظة أ، حجم هذه الذرّة، إي كمية وحدة الطاقة، تتوقف على طول موجة الإشعاع الذي يُنقل به الكوانتم، فكلّما كان طول الموجة أقصر، كان الكوانتم أكبر.

[13]– المعجم الفلسفي، من دون مؤلف، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة،1983، ص 127.

* أستاذ علم الاجتماع جامعة تور (Tours)بفرنسا ورئيس شعبة علم اجتماع المعرفة فيها. من مؤلفاته: “شيبيكا” (غاليمار1968) وسوسيولوجيا المسرح (المطبوعات الجامعية الفرنسية1956) و”هبة لا شيء” (ستوك1978) و”لعبة اللعبة” (بالان1980).

10 – إدغار موران، لوي ألتوسير، بيير بورديو.. إشكاليات الفكر المعاصر، ترجمة، محمد سبيلا، سلسلة ضفاف منشورات الزمن، الطبعة الأولى 2009، ص 125.

11  – إدغار موران، لوي ألتوسير، بيير بورديو.. إشكاليات الفكر المعاصر، ص 126.

12  – المرجع نفسه ص 127.

13  – إدغار موران، لوي ألتوسير، بيير بورديو.. إشكاليات الفكر المعاصر، ص 128.

14  – المرجع نفسه ص 129.

15  – المرجع نفسه ص 130.

16  – المرجع نفسه ص 131.

17  – المرجع نفسه ص 132.

18  – المرجع نفسه ص 130.

19  – المرجع نفسه ص 137.

20 – الفكر الإسلامي والفلسفة، من دون مؤلف/  مكتبة المعارف، الرباط، الطبعة الأولى 1979، ص 388.

21  – الفكر الإسلامي والفلسفة، ص 389.

22  – نفسه.

23  – الفكر الإسلامي والفلسفة، ص 435.

24  – جمال الدين بوقلي حسن، قضايا فلسفية، المؤسسة الوطنية للكتاب / الجزائر، الطبعة الرابعة1986.ص 486.

25  – الفكر الإسلامي والفلسفة، من دون مؤلف/ مكتبة المعارف، الرباط، الطبعة الأولى 1979، ص 415.

25 – يمنى طريف الخولي، مشكلة العلوم الإنسانية تقنينها وإمكانية حلّها، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012 ص 35.

26 – باسراب نيكولسكي، العبر مناهجية كإطار لتجاوز جدال الدين والعلم، ترجمة، هادي قبيسي، المحجّة: العدد 23/ صيف – خريف/ 2011، ص، 145-146.

27 – باسراب نيكولسكي، العبر مناهجية كإطار لتجاوز جدال الدين والعلم، ترجمة، هادي قبيسي، المحجّة: العدد 23/ صيف – خريف/ 2011، ص 150.

28  – باسراب نيكولسكي، العبر مناهجية كإطار لتجاوز جدال الدين والعلم، ص 150.

29  – المرجع نفسه ص 149.

30  – المرجع نفسه ص 151.

31 – باسراب نيكولسكي، العبر مناهجية بيان، تقديم، أدونيس، ترجمة، ديمتري أفييرينوس، دار مكتبة إيزيس، الطبعة الأولى2000، ص 13.

32 – المرجع نفسه ص 53.

33  – باسراب نيكولسكي، العبر مناهجية كإطار لتجاوز جدال الدين والعلم، ص 54.

Scroll to Top