في تعريف الاغتراب

أستاذ باحث
الرباط– المغرب

في تعريف الاغتراب

كثيرةٌ هي المفاهيم والقضايا التي استأثرَتْ باهتمام الباحثين في العلوم الإنسانية قديماً وحديثاً، منها – على سبيل التمثيل لا الحصْر – مفهوم “الاغتراب” (Aliénation)، الذي تُنُوول في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب والفنّ ونحوها منذ وقت مبكّر، في الغرب كما في الشرق.

وقد كان فلاسفة اليونان الأقدمون من السَّباقين إلى معالجة قضية الاغتراب، ومحاولة تحديد مفهومه؛ إذ كانوا يُريدون بالاغتراب حرمان الإنسان من حقه الطبيعي أو القانوني، وكان أفلاطون – الذي اغترب عن أخلاقيات عصره ومجتمعه، ودعا إلى إقامة جمهورية فاضلة، يحْكمُها الفلاسفة، حتى يتحقق العدل – يَقصد به ابتعادَ الإنسان عن عالم المُثل، وعيْشه في عالم أرْضيّ طارئ بدون إرادته…

ومع انطلاق عصر النهضة في أوروبا، صرْنا نلْمَح الاغتراب بوُضوح؛ كما عند رونيه ديكارت، الذي دعا إلى العيش وَفق رؤية جديدة، تعتمد العلم؛ من خلال شعاره المعروف بـ “الكوجيطو” (Cogito). فالاغتراب، في نظره، إنما هو اغتراب الذات عن نفسها في الأساس. كما أن الاغتراب في الفلسفة الديكارتية يظهر في عدة مجالات، منها[1]:

أ- الكوجيطو الديكارتي؛ حيث يتبين اغتراب الأنا عن ذاته، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه اسم “الاغتراب الميتافيزيقي” (Aliénation métaphysique).

ب- الاغتراب الأنطولوجي؛ حيث ترَدُّ الحياة الانفعالية إلى آلية الأرواح الحيوانية.

ج- الاغتراب الوجودي؛ حيث تعيش الذات تجربة الانفعال في نطاق الـ “أنا أفكر”.

ثم إن الذي يطَّلع على سيرة ديكارت يكشف – من كثبٍ – أنه كان يوثِرُ حياة الاعتزال والاغتراب، إلى درجةِ أن بعض الباحثين يصفون حياته بكونها “حياة فيلسوف مغترب”. وينتفي العجب إذا علمنا أن ديكارت عاش أكثر حياته خارج بلده فرنسا، وفي عزلة بالغ فيها، إلى حدِّ إخفاء مقرِّ إقامته عن مَعارفه! وقد طبع هذا كلُّه فلسفة ديكارت العقلانية… وبعد ذلك، سوف نرى الاغتراب، بقُوة، في بريطانيا مع طوماس هوبّز، الذي كان يرى أن استمرارية الاغتراب بين الفرد والمجتمع رهينٌ بانغلاق الفرد على نفسه، على حين ينتفي ذلك بمجرد انْضمام الفرد إلى المجتمع، وتسليمه لنواميسه ومبادئه.

لقد تعمَّق مفهوم الاغتراب في العصر الحديث؛ بسبب تعقُّد العلاقات الاجتماعية، ونُمُوّ المجتمعات البشرية، وظهور الحركة الإمبريالية بوصفها تتويجاً لتطور الرأسمالية الغربية، التي تقف عقَبَةً كأداءَ تَحُولُ دون تحقيق التطلعات البشرية، وتكْبَح حرية التفكير والتعبير. وموازاةً مع هذا، تناولت الفلسفة الحديثة أطروحة الاغتراب بعُمْق وتفصيل، ولمَعَت فيها أسماء رائدة، كان لأفكارها بالغُ الأثر في هذا المجال. ونخص بالذكر فريدريك هيجل وكارل ماركس.

ومن المعروف أن مصطلح “الاغتراب” لم يصبح مصطلحا فلسفيّاً في الغرب إلا مع فشته (1762-1814م)، الذي استخدم الكلمة الألمانية (Entaeussering) بمعنى تخارُج الذات عن الموضوع.

ويَعتبر بعضُ الباحثين هيجل “أبا الاغتـراب”؛ وذلك بالنظر إلى ريادته في هذا المضمار، وإسْهامه الواضح في دراسة الاغتراب، ومحاولة معالجته بالطرق التي تتلاءم وطبيعةَ فلسفـته. لقد رأى هيجل الاغترابَ في صميم بنية الحياة الكلية، وعالجه بكيفية مجرَّدة، تنأى عن الواقع الحسي؛ فتبيَّن له أن الاغتراب عن البنية الاجتماعية يترتب عنه اغترابٌ عن الذات، وهذان الاغترابان يُفْضِـيَان إلى الاغتراب عن العقل؛ معنى هذا أن ثمة “اغتراباً كليّاً”. والسؤال المطروح، ها هنا، هو: كيف يمكن تجاوُز الاغتراب؟ يتم ذلك، لدى هيجل، بتنازل الفرد عن ذاته، حتى يتم الالتحام بينه وبين البُنية الاجتماعية، وهذا الالتحام يؤدي إلى عودة النشاط الطبيعي إلى العقل.

والاغتراب عند هيجل كان -أيضاً- اغترابا دينيّاً طبْقاً للتصوُّرات المسيحية عن الخَطيئة والسقوط والطرْد والحِرْمان، وهذا المعنى سيتعمَّق أكثر لدى الهيجليّين الشُّبان؛ من أمثال باور (1792-1860م)، وفيورباخ (1804-1872م)، وشتراوس (1808-1874م).

يرى فيورباخ أن الكشف عن الاغتراب لا يتم إلا من خلال فلسفة الدين. فالاغتراب -أساساً- هو الاغتراب الديني، والاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب فلسفي، أو اجتماعي، أو نفسي، أو بدني[2]. والواقع أن في فكْر فيورباخ وآرائه تهجُّماً بيِّناً على الدين والثوابت المسيحية المقدَّسة! لذا، فقد اتُّهِم بالإلحاد، وعَدَّه اللاهوتيون مدمِّراً للدِّين إلى الأبَد.

وإذا كان هيجل قد تناول الاغتراب بعيداً عن الواقع، فإن ماركس ربطه بالواقع الاقتصادي، وأسْبَغ عليه طابعاً إمبريقيّاً وسوسيولوجيّاً. فالاغتراب، في نظر ماركس، متجَلٍّ في حالات اغتراب العامل عن نَتاج عمله، حتى ليغْدُوَ هذا الإنتاج غريباً ومستقلاً عن مُنتِجه، وذلك راجعٌ إلى طبيعة آلية الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، الذي لا يُهِمُّه سوى تحصيلِ الأرباح، بأيِّ وسيلة كانت. ويرى ماركس أن اللجوء إلى الثورة، ومحاربة القائمين على النظام السائد المستغِلّ، هو السبيل الأقْوَمُ إلى تجاوُز حالات الاغتراب المَعيشة.

وعقب ذلك، اتسعت حدود الاغتراب في كتابات الكثير من رجالات الفلسفة، ولاسيما لدى أولئك الذين ضاقت بهم السُّبُل، ورأوا في المجتمع الرأسمالي خاتمة المجتمعات البشرية، وأنه لا مَهْرَبَ من الإذعان لعَصَاه السحرية. ففي ألمانيا -مثلاً- برز شوبنهور، الذي أكَّد أن الإنسان مغترِبٌ بالضرورة في كتابه “العالم كإرادة وامتثال”، وأيضاً نيتشه، الممهِّد لميلاد النازية، الذي ذهب إلى أن الاغتراب يظل قائماً، وإلى أن الإنسان السوبرمان (Superman) هو وَحْدَه الذي يستحقُّ العيش.

ومن الواضح أن الاغتراب شكَّل في الفلسفة الوجودية أرضاً مَرِيعَةً ترْعَى فيها أقلامُ الوُجودِيّين، الذين يركِّزون على الوُجْدان الذاتي، ويحْرصون أشدَّ الحِرْص على حرية الإنسان في مجتمع متمدِّن، لم يعُدْ يَعْنيه إلا الربْح السَّريع. ولقد بدأت هذه الفلسفة في النمو مع الدانماركي كيركجّارد، الذي رأى أن الفرد مغترب عن ذاته وعمّا حوله، وأن اليأس صفة داخل نَسيج وُجوده. وقد اتضح له أن تجاوز الاغتراب يتم عن طريق الدين. ثم تطورت هذه الفلسفة، واعتنقها فلاسفة عديدون، فانقسمت إلى اتجاهين اثنين؛ أحدهما متديِّن، والآخر مُلحِد. ولكلٍّ منهما نظرته الخاصةُ إلى الاغتراب. ومهما كان الأمر، فالوجودية تيار لاعقلاني يرى الاغتراب في “البُعد عن الوجود العميق؛ بحيث لا يكون الإنسان ذاتَه، وإنما مجرد صِفر على الشِّمال في الوجود الجَمْعي للجماهير، أو مجرد تُرْس في نظام صناعي”[3]. ويضيف الوجوديون أن الإنسان مُدانٌ بالاغتراب، وأنه مهما حاول التملُّص من سَطْوَته، فإنه سيموت مُغترباً؛ لأن الحياة نفسَها اغتراب[4]. ويظهر الاغتراب – بصورةٍ أجْلى – في كتابات ممثِّل “الوجودية الجديدة”.. الإنجليزي كولن ويلسن، الذي اتضح له – بعد تحليل جملة من أعمال الوجوديين السابقين – أن “اللاّانْتِـماء” صفة لازمة، تطبَع نفسيات العديد من الكتاب والمفكرين والفنانين…

وبمُكْنَتنا الحديث، كذلك، عن الاغتراب عند الفرويدية، التي تركِّز على عنصر “اللاّشُـعور”. فقد تطرق سيغموند فرويد إلى مسألة الاغتراب لَمَّا تناول العلاقة بين الفرد والحضارة؛ بحيث رأى أن كل فرد – في الواقع – هو عَدوٌّ للحَضارة؛ هذه الحضارة التي صنعها الإنسان دفاعاً عن ذاته إزاء عُدوان خارجي، يتمثل بالطبيعة، بيد أنها جاءت على نحْوٍ يتعارض وتحقيقَ أهدافه وطموحاتِه؛ إذِ الحضارة تقوم على كبْت الغرائز؛ ولهذا فهي “عصابية” الطابَع[5].

بوُدِّنا أن نتحدث كثيراً عن الاغتراب في الفلسفة، ولكنّ ضيق المجال لا يسْمح بذلك… وتجب الإشارة إلى أن هناك ثلاثَ ملاحظات رئيسةٍ، لا يمكن أن يغْفل عنها المطَّلعُ على كلام الفلاسفة السالف ذكرُه، وهي كالآتي:

* تناول الفلاسفة – قدماؤُهم ومُحْدَثوهم – ظاهرة الاغتراب؛ فحاولوا تحديدَ مفهومها، وتِبْيان مولِّداتها المختلفة، وطرْح الحلول النظرية والعَمَلية لتجاوُزها.

* يتعقد الاغتراب بتقدُّم المجتمعات البشرية وتطورها؛ إذ “الاغتراب يتضخَّم ويتشعَّب كلما تعقدت المجتمعات البشرية وتطورت”[6].

* نستطيع القول إن “كل المعاني الفلسفية الحديثة -تقريباً- لمصطلح “الاغتراب” تدور حول محور واحد، وهو الانفصال”[7].

وقد انتقل مفهوم الاغتراب من إطار اللاّهوت والفلسفة إلى المضامير الإنسانية والعلمية؛ فتشعّبت معانيه، وارتبط أكثرَ بواقع الإنسان الداخلي والخارجي. وهكذا، فقد كان لعلم الاجتماع أولاً – ثم للأنثروبولوجيا فيما بعْدُ – أثر عميقٌ في مجال دراسة الاغتراب، وبلْوَرَة مفهوماته ونظرياته. ويتفق السوسيولوجيون على أن التغيُّر الاجتماعي السريع، والتطور التكنولوجي الهائل، من الأسباب الرئيسة التي تقبَع وراء قيام حالات اغترابية كثيرة في المجتمعات الرأسمالية المصنّعة. فالاغتراب، من وجهة نظر علم الاجتماع، ظاهرة عالمية، تكشف النِّـقاب عن انْخلاع الإنسان، وابتعاده عن الواقع المَعِيش، الذي تحكُمه الممارسات الشاذة والمستَبِدّة. وفي الوقت نفسِه، فإنّ الاغتراب مهمٌّ لفَضْح تناقُضات المجتمع الغربي، وعلاقاته الاستغْلالية… وعلى هذا الأساس، فقد استُخْدِم “لوَصْف مجموعة مختلفة من الظواهر، تتضمَّن الإحساسَ بالانفصال وعدم الرضا عن المجتمع، والإحساس بوجود انهيار أخلاقي في المجتمع، وبالعجْز عن مواجهة المؤسسات الاجتماعية والطبيعة اللاإنسانية للمؤسسات البيروقراطية”[8].

أما علماءُ النفس، فيَعتبرون الاغتراب سلوكاً مَرَضِياً، يَعْكس موقفاً إنسانيّاً من الذات خاصةً. وهذا المعنى يمتاز، من سائر المعاني، بكوْنه يَنْطوي على شعور الفرد بانفصاله وانْسلاخه عن ذاته. ويُعَدُّ ما كتبه إريك فرومّ، في هذا الشأن، من أهمّ البُحوث دقة وعمقاً. فقد تناول هذا العالِم موضوعَ الاغتراب من زاوية “تكوين الشخصية”؛ فرأى أن الاغتراب هو نمطٌ من التجربة، يرى الفرد نفسَه فيها كما لو كانت غريبة عنه. فالفرد يصير – إذا جاز هذا التعبير – منفَصِلاً عن ذاته[9].

ولا ريبَ في أن الاغتراب يحضُر أيضاً في الأدب والفن، ويدخل – كما هو متداوَل بين كثيرين – في تركيبة كِيانات الأدباء والفنانين على اختلاف مستوياتهم العلمية؛ فمن الصواب – حَسَبهم – أن نقرَّ بأن “كل رائد – مهما كان طابعُه – يَحْوي بذورَ اغترابٍ في بُنيانه الداخلي، وأيضاً كل عمل أدبي أو فني… لا بد أن نعثر فيه على جُذور للاغتراب منذ أقدم العصور، وحتى الآن، مع التأكيد على أن الاغتراب يَميل نحو التضخم والتشعُّب كلما تقدمنا إلى الأمام؛ أي إنه يمُدّ جذورَه أكثر كلما اقترَبْنا من العصور الحديثة، وخاصة في مجتمعنا المعاصر”[10].

ففي الأدب القديم، نستطيع أن نقرأ الاغتراب في ملحمة هوميروس “الإلياذة والأوديسة”، وفي مسرحيات سوفوكليس، وفي الأدب العبري القديم[11]… وإذا تقدمْنا نحو الأمام، وتوقفنا عند مسرحيات وليام شكسبير (1564-1616م) قليلاً، فإننا نتلمَّس ظاهرة الاغتراب بجلاءٍ، ونتبيَّن “أن معظم شخصيات مسرحياته إما هم مغتربون عن الآخرين، أو عن العالم الخارجي، أو عن ذواتهم”[12]… وفي القرن العشرين، نجد أن الفكرة المحورية في مسرح برتولد بريخت هي مشكلة الاغتراب. ولمَرْكزيتها، فقد جعل بريخت من مقولة الاغتراب تكتيكاً مسرحيّاً، حاول من خلاله علاجَ هذه المشكلة، بوصفها مرضاً خطيراً رافقَ تطور المجتمع الرأسماليّ[13]. وقد عبَّر المسرح العربي الحديث والمعاصر عن مشكلة الاغتراب؛ من خلال جملة من النصوص لمسرحيين كِبار، نذكر منها، هنا، على سبيل التمثيل، مسرحية سليمان الحزامي “مدينة بلا عقول”، التي تكشف عن تسيُّد الآلة على مُبْدع الآلة، واستحالة الإنسان إلى عَبْدٍ للآلة، ومنه سيادة جَـوٍّ من الاغتراب في مدينةٍ ذات بُعْد أحادي (المادة)[14]

وصوَّرت الرواية – من جهتها – مشكلة الاغتراب. ويمكن أن نمثل لذلك برواية “المَسْـخ” لفرانز كافكا، الذي حاول أن يقدّم لنا – من خلالها – صورة شاملة وحَيّة عن الاغتراب الذي كان يعيشه إنسانُ عصْره. يقول إبراهيم محمود: “إن رواية “المسخ” هي رواية الاغتراب… الاغتراب الذي يُفْرِزه المجتمع الرأسمالي”[15]. كما يشكل الاسْتِلاب (أو الاغتراب) “أهمّ سمة تميِّز شخصيات فرانز كافكا في رواياته”[16]. ونلحَظُ الاغتراب بارزاً في روايات بلزاك، وزولا، وهيجو، وتولسْتُوي، ودوستويفسكي، وغيرهم كثير. كما أنه قد تجَذَّر في الرواية الواقعية والمعاصرة خاصة، سواء في الغرب أو في الشرق. والثابتُ أن الرواية العربية قد صوَّرت – هي الأخرى – واقع الاغتراب، وحاولت معالجته[17]. والذي يقرأ، مثلاً، رواية “نهر الجُـنون” لتوفيق الحكيم لا بُدَّ من أن يكون قد أدرك أن الرواية تحاول أن تعالج، بطريقتها الخاصة، مشكلة الاغتراب[18].

ولم تنْجُ الفنون الجميلة؛ كالموسيقى والرسم والتصوير، من تأثير مَقولة الاغتراب، بل إن الفنان المعاصر يعيش حالة من الاغتراب الشمولي الحادّ. وهذا ما صوَّرتْه التيارات الفنية التي ظهرت في الديار الغربية، حينما عَكست الواقع المَوْبوء، والتجأت إلى خَلْق دُنيا أخرى من الأوهام والهلوسات.

وليس من النّصفة أن نُنكر إسْهام الشعر العربي – قديمه وحديثه – في تصوير الاغتراب، بمختلِف صُوَره وملامِحه؛ فقد عبَّر شعراء العربية، منذ الجاهلية إلى يومنا هذا، عن الاغتراب المكاني والنفسي والاجتماعي… ويبرُز الاغتراب، بإلحاحٍ، في قصائد الشعراء المعاصرين؛ إذ يمثل “ظاهرة عامة في حركة الحداثة في الأدب العربي المعاصر، وما الاختلافُ إلاّ في الدرجة، وفي مدى تلاحُم هذا الاغتراب بمحاولات التحديث “التجريب”، وانعكاس كل ذلك – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة – في حركة أدبنا الحديث”[19].

إن ظاهرة الاغتراب (أو الغربة) ليست نَتاجاً لفرد معين، وليست وليدة هذا العصر بالذات، بل تضرب بجُذورها في عُمْق التاريخ؛ فهي تحضر في أشعار عرب الجاهلية[20]، وشعْر الفُتوح الإسلامية، وقصائد العبّاسيّين؛ كأبي نواس وأبي الطيب المتنبي، وكذا في أشعار الأندلسـيين[21]، وأشعار شعراء العصر الحديث؛ كجُبْران خليل جبران[22]… ولم تفُتِ الشعراءَ المعاصرين؛ كأمل دنقل ومحمود مفلح وحسن الأمراني، فرصةُ تناول مسألة الاغتراب. وعليه، يمكن أن نؤكِّد “أن الاغتراب من طبيعة الإنسان، بل يمكن القول – والتوكيد على ذلك – أنه دافع أساسي من دوافعه. وهو يختلف من إنسان لآخر، ومن عصْر لآخر؛ وذلك لأنه يتلوَّن بطبيعة صاحبه، وبطبيعة المجتمع، بما فيه من مؤسسات سائدة، وبطبيعة العصر؛ بقيَمه وأعْرافه ومَعارفه”[23].

ويتخذ الاغتراب ثلاثَ صور رئيسةٍ، هي:

أ– اغتراب الإنسان عن وطنه وأهله: وهذه غربة عادية نتلمَّسُها في شعر عدد كبير من الشعراء العرب وغير العرب، في القديم والحديث معاً. وتسمى هذه الصورة الاغترابية “الغربة المكانية”.

ب– اغتراب الإنسان عن مجتمعه الذي يحْيا فيه: وهذا من أعْجب أشكال الاغتراب، وأقساها. ويبرز، بقوة، في المجتمعات التي تسطو على الأفراد؛ لتسْلبهم فاعليتهم وحُريتهم وإنسانِيتهم.

ج– اغتراب الإنسان عن ذاته: ويتولَّد عنه شعور حادٌّ بالتوتر، والقلق، وانعدام الثقة، إلخ.

ومن الأمور الأكيدة أن الاغتراب ظاهرة إنسانية شاملة. ولكنّ الملاحَظ أنها أكثر حِـدَّة في المجتمعات الرأسمالية؛ نتيجة لِما عرفته من تطور اقتصادي هائل، وتغيُّر اجتماعي صارخ، قاد إلى تحكُّم الآلة والمادة في الإنسان، الذي أمْسى ذا بُعْد أحادي؛ كما يقول هرْبرت ماركيوز (H. Marcuse). أما عن واقع الاغتراب في المجتمعات العربية، فيقول زكريا إبراهيم: “إن الاغتراب ليس مجرد قطيعة تتم بين الطبيعة والمجتمع، أو مجرد تصدُّع يحْدُث بين التكنية والإنسانية، وكأنما هو وَقْف على المجتمعات الصناعية التي بلغ فيها الإنتاج الاقتصادي أعْلى مَداه، وإنما الاغتراب أيضاً تعبيرٌ عن الحرمان والضياع، خصوصاً حين يجيءُ المستعمِرُ؛ فيَسْرق من الجماعة التي يستعمرها أرضَها وحضارتها ولغتها وشخصيتها… ومن هنا، فإن الإنسان العربي، الذي ذاق مرارة الاستعمار، لم يلبثْ أنْ وَجَد نفسه غائباً عن أرضه وعمله، غريباً في صميم وطنه وفوق تربة أجْداده! وهكذا، كان الشعور بالاغتراب – لدى الإنسان العربي المعاصر – بمثابة إحساس أليمٍ بالحرمان المادّي والضياع الروحي، وكأنَّ المستعمِر قد سَلبه شخصيته وثقافته، قبل أن يسْلُبه أرضه وخيرات بلاده”[24]. إذاً، فالاغتراب واقعٌ عاشه – ويعيشه – المجتمع العربي، ولم يعد يقتصر على المجتمع الغربي (أوروبا وأمريكا)، الذي بلغت فيه المَدَنِيّة أوْجَهَا. ويكمُن السِّرّ في الاغتراب الذي يتخبَّط فيه المجتمع العربي، وغيره من دول العالم الثالث، في “أنه مجتمع منتزَعٌ من صميم ماضيه، غائبٌ عن حاضره، وإنْ كان يعمل – بجُهد ومشقَّة – في سبيل بناء مستقبَله”[25].

وللاغتراب آثارٌ جَمَّة، إنْ على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع. فالمجتمع الذي يعيش الاغتراب يسوده جوٌّ من الاضطراب والفوضى، وتتراجع فيه المَعايير التي تضبط سلوك الأفراد، وتختلُّ فيه العلائق الاجتماعية… وأمام هذا، يلجأ كثيرٌ من أفراد المجتمع إلى إيثار حياة العزلة على الاندماج في النسيج الاجتماعي. وفيما يخصّ الفرد الذي يعاني الاغتراب، فلا شك في أن صحته النفسية تتدَهْور وتتأزَّم، و”يكون عُرْضة للاضطرابات النفسية، وتضطربُ علاقاته مع الآخرين، ويظهر ذلك في عدم تعاطفه مع الناس، ويُؤْثِر الاغتراب في العمل والإنتاج بأنواعه المختلفة؛ فإذا كان الإنسانُ عاملاً هبَط إنتاجُه، وإذا كان طالباً فتَرَ اهتمامُه بالدراسة… وتتفاعل هذه الجوانب بعضها مع بعض؛ فيؤدي أحدُها إلى الآخر”[26].

ولا يجب أن يُفهم من هذا أن الاغتراب ذو طابع سَلبي دائماً. بل يغدو -أحياناً- أمراً مُهمّاً لفضْح التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، وكشْف الممارسات السياسية الشاذة والمستبدّة في المجتمع الرأسمالي خصوصاً.

وأمام هذا الوضع المُزْري، كان لا مناص من البحث عن حلول ناجعة لتجاوُز حالة (أو حالات) الاغتراب الذي أخذ في الاستفحال. وقد جاءت الاقتراحات، ها هنا، متفاوتة الأهمية، مُتمايزة الطبيعة. فقد رأينا آنفاً أن هيجل يرى في تنازُل الفرد عن ذاته لصالح المجتمع السبيلَ الأنجعَ لتخطّي واقع الاغتراب وتجاوُزه، وأن ماركس يركز على الثورة ومحاربة المِلكية الخاصة لتحقيق الغاية نفسِها، وأن كيركجّارد يزعم أن التمسك بالدين المسيحي هو القمينُ بتخليص الفرد والمجتمع من بَراثِن الاغتراب الجاثِم على صدْر الكِيَان الغربي. أما مُراد وهبه، فيرى أن مِنْ شأن الوعي الكوني، المترتب عن الثورة العلمية والتكنولوجية، أنْ يزيل الاغتراب[27]، على حين يزعم آخرون أن “الوَعْي بالاغتراب هو أولُ مراحل رفْع الاغتراب والتغْيير”[28]. وهذا الرأي الوَجيهُ هو الأقربُ إلى الصَّواب في نظرنا.

جماعُ القول أنه، على الرُّغم من كثرة ما كُتب عن موضوع الاغتراب – وربّما بسبب هذه الكثرة، وتضارُب الآراء والأقوال -، فإن مفهوم الاغتراب ما زال يعاني اللُّبْس والغُموض في العلوم الإنسانية. وربّما كان ذلك أمراً طبيعياً؛ إذ من العسير تحديد المفهومات الأساسية تحديدا دقيقاً، وتعريفها تعريفا جامعا مانعاً نهائياً؛ كما قال المرحوم محمد عابد الجابري (1935-2010م).

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] – حبيب الشاروني: الاغتراب في الذات، مجلة “عالم الفكر”، الكويت، ع.1، مج.10، 1979، ص70.
  2. [2] – للاستزادة، يمكن الرجوع إلى (حسن حنــفي: الاغتراب الديني عند فيورباخ، عالم الفكر، ع.1، مج.10، 1979).
  3. [3] – عبده بدوي: الغربة المكانية في الشعر العربي، عالم الفكر، ع.1، مج .15، 1984، ص13.
  4. [4] – فاطمة طحطح: الغربة والحنين في الشعر الأندلسي، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط.1، 1993، ص34.
  5. [5] – للاستزادة، يمكن الرجوع إلى (مراد وهبه: الاغتراب والوعي الكوني، عالم الفكر، ع.1، مج.10، 1979).
  6. [6] – إبراهيم محمود: حول الاغتراب الكافـكاوي، عالم الفكر، ع.2، مج.15، 1984، ص85.
  7. [7] – أحمد حماد: الاغتراب في الأدب العبري المعاصر، عالم الفكر، ع.3، مج.24، 1996، ص38.
  8. [8] –  محمد ذنون زينو الصائغ: اغتراب وغرب، مجلة “آفاق الثقافة والتراث”، الإمارات العربية المتحدة، ع.33، س.9، أبريل 2001، ص ص 60-61.
  9. [9] – للاستزادة، يمكن الرجوع إلى (قيس النوري: الاغتراب اصطلاحاً ومفهوماً وواقعاً، عالم الفكر، ع.1، مج.10، 1979).
  10. [10] – إبراهيم محمود: حول الاغتراب الكافـكاوي، ص85، بتصرف.
  11. [11] – للاستزادة فيما يخص جذور الاغتراب في الأدب العِبْري، يمكن الرجوع إلى (أحمد حماد: الاغتراب في الأدب العبري المعاصر، م.س).
  12. [12] – إبراهيم محمود: حول الاغتراب الكافكاوي، ص86، بتصرف.
  13. [13] – للاستزادة، يمكن الرجوع إلى (منى سعد أبو ستة: الاغتراب في المسرح المعاصر من خلال مسرح برتولد بريخت، عالم الفكر، ع.1، مج.10، 1979).
  14. [14] – للاستزادة، يمكن الرجوع إلى (أحمد العشري: الاغتراب التيكنولوجي في “مدينة بلا عقول” – دراسة تحليلية مضمونية مقارنة، عالم الفكر، ع.1، مج.25، 1996).
  15. [15] – إبراهيم محمود: حول الاغتراب الكافكاوي، ص121.
  16. [16] – مجدي وهبه: معجم مصطلحات الأدب: مكتبة لبنان، بيروت، ط 1974، ص9، بتصرف.
  17. [17] – للاستزادة، يمكن الرجوع إلى (فيصل درّاج: الاغتراب في الرواية العربية، مجلة “الآداب”، بيروت، ع.7/8، س.49، 2001).
  18. [18] – أحمد أبو زيد: الاغتراب، عالم الفكر، ع.1، مج.10، 1979، ص12.
  19. [19] – عبد السلام محمد الشاذلي: حول قضايا التغريب والتجريب في الأدب العربي المعاصر، دار الحداثة، بيروت، ط.1، 1985، ص72.
  20. [20] – يُنظر مثلاً كتاب “ظاهرة الاغتراب عند شعراء المعلـقات” لمِـيّ يوسف خليف.
  21. [21] – يُنظر مثلاً كتاب “الغربة والحنين في الشعر الأندلسي” لفاطمة طحطح.
  22. [22] – يُنظر مثلاً كتاب “الحنين والغربة في الشعر العربي الحديث” لماهر حســين فهمي.
  23. [23] – إبراهيم محمود: حول الاغتراب الكافكاوي، ص78.
  24. [24] – زكريا إبراهيم: معنى “الاغتراب” عند الإنسان العربي المعاصر، مجلة “العربي”، الكويت، ع.194، يناير 1975، ص ص 153-154.
  25. [25] – نفــــسه، ص154.
  26. [26] – محمد ذنون زينو الصائغ: اغتــراب وغرب، م.س، ص64.
  27. [27] – اُنظرْ هذا الرأي في (مراد وهبة: الاغـتراب والوعي الكـوني، م.س).
  28. [28] – منى سعد أبو سـتة: الاغتراب في المسرح المعاصر من خلال مسرح برتولد بريخت، م.س، ص150.
Scroll to Top