سبل انعتاق الأسرى المسيحيين بالمغرب خلال القرن 18م

طالبة باحثة في سلك الدكتوراه
مختبر: تاريخ، لغات، تراث وعمارة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة - المغرب

ملخص

يعتبر المغرب بحكم موقعه الاستراتيجي، من البلدان التي عرفت مسار تاريخيا، سمح له بأن يكون محط تنافس وأطماع أوربية مختلفة، تجلت خصوصا في العصر الحديث وما رافقه من صراعات قامت على السواحل المتوسطية، والتي طرحت مجموعة من القضايا من قبيل الجهاد البحري والقرصنة، فكان لعمليات الاستيلاء على سفن العدو نتائج مهمة تمثلت أساسا في الغنائم المادية والبشرية، والتي شكلت بدورها مواضيع تهم المغرب في علاقته بأوروبا، فطرحت مسألة الأسرى ضمن هذه العلاقات، وشكل موضوع افتكاك الأسرى محور مراسلات عديدة ومبادلات سفارية مختلفة، وضمن هذا السياق يعالج هذه المقال الموسوم ب" سبل انعتاق الأسرى المسيحيين بالمغرب خلال القرن 18م" الطرق التي تم من خلالها انعتاق الأسرى المسيحيين بمغرب القرن 18م، ونميز في هذا الشأن بين الطرق الشرعية المتمثلة أساسا في الافتداء والمبادلة بواسطة المفاوضات الديبلوماسية، وبين الطرق الغير شرعية من قبيل محاولات الفرار الفردية التي اعتمدها مجموعة من الأسرى المسحيين، ومنهم من دونها في مذكراته الخاصة برحلة الأسر.

Abstract

Morocco, due to its strategic location, has experienced a historical trajectory that has made it a focal point of European competition and ambitions, particularly in the modern era. This period was marked by conflicts along the Mediterranean coasts, raising issues such as maritime jihad and piracy. The capture of enemy ships had significant consequences, primarily in terms of material and human spoils, which in turn influenced Morocco's relations with Europe. The issue of prisoners emerged within these relations, and the matter of their ransom became a central theme in numerous correspondences and diplomatic exchanges. In this context, the present article titled "Methods of Liberation of Christian Captives in Morocco during the 18th Century" examines the various ways in which Christian captives were liberated in 18th-century Morocco. This study distinguishes between legitimate methods, primarily involving ransom and exchange through diplomatic negotiations, and illegitimate methods, such as individual escape attempts documented by some Christian captives in their captivity memoirs.

مقدمة

تحكمت مجموعة من العوامل في رسم سمات تاريخ المغرب الحديث في علاقته بأروبا، ولعل من بين هذه العوامل موضوع الأسرى مع ما يطرحه من إشكاليات، إما على صعيد الكتابات والدراسات التي تناولت ملف الأسرى، أو على مستوى الموضوع في حد ذاته، والذي يستدعي من الباحث استحضار عناصر أخرى على رأسها القرصنة والجهاد البحري، كعوامل تحكمت في العلاقات المغربية -الأوروبية، وهي قضايا لا يمكن على كل حال دراستها بمعزل عن بعضها، كما لا يمكن تبنيها بشكل فضفاض، لكننا ارتأينا أن نركز في هذه الورقة العلمية على إشكالية رئيسية وهي التي تندرج تحت عنوان ” سبل انعتاق الأسرى المسيحيين بالمغرب خلال القرن 18م”  حيث حاولنا من خلالها إبراز بعض العناصر التي يمكن اعتبارها وسائل ساهمت أو أدت إلى تحرر عدد مهم من الأسرى المسحيين وعودتهم إلى أوطانهم، لكن الإشكالية التي ينبني عليها مقالنا هذا وإن كانت تركز على الجوانب التي شكلت محط مفاوضات في ملف الأسرى وتحريرهم، إلا أنها حاولت أن تلامس جانبا آخر من  العناصر التي تحرر بسببها بعض الأسرى الآخرين ونخص بالذكر هنا تلك المبادرات الفردية التي قام بها الأسرى في شاكلة محاولات الفرار و التخطيط لها .

وتتجلى أهمية هذا الموضوع في كونه يسلط الضوء على جانب من جوانب العلاقات المغربية الخارجية خلال القرن 18م، ثم طبيعة القضايا التي كان يتم التداول فيها خلال ذات المرحلة.

ومن أجل بناء هذا المقال العلمي وفق منطق تاريخي منظم، وللإجابة إلى إشكاليته الرئيسية ارتأينا أن نقسم الموضوع إلى محورين رئيسيين:

  • المحور الأول: تناولنا فيه سياق تواجد أسرى مسيحيين بالمغرب خلال القرن 18؛
  • المحور الثاني: وميزنا من خلاله بين السبل الشرعية وغير الشرعية لانعتاق الأسرى المسيحيين بالمغرب.

المحور الأول: سياق تواجد أسرى مسيحيين بالمغرب خلال القرن 18

إن في حديثنا عن سياق تواجد أسرى مسحيين بالمغرب خلال القرن 18م لا بد أن نستحضر أولا الأوضاع الداخلية للمغرب خلال هذا القرن، ثم علاقاته الخارجية، وكذا المناخ العام الذي ميز المنطقة المتوسطية، والذي كان فيه المغرب حلقة تدور بين الضعف والقوة.

فرغم وجود فترات كانت فيها الدولة على قدر من الاستقرار خاصة خلال فترة السلطان محمد بن عبد الله وقبله المولى إسماعيل منذ 1672م والذي كان عليه ” أن يتولى مهام توطيد المكتسبات و[تشييد] أركان السلطة الفتية[1]، بالإضافة إلى مواجهة الثورات الداخلية و تمرد الزوايا  واسترجاع الثغور المحتلة، إلا أن هذا القرن رافقته العديد من الأزمات، فبعد وفاة السلطان إسماعيل اضطربت الأوضاع الداخلية للمغرب بشكل واضح  فتمخض عن  ذلك دخول البلاد  في  دوامة من الحروب الأهلية على امتداد 30 سنة من 1727 إلى 1757، اهتز خلالها الحكم  المركزي حيث ” تحول [الجيش] من أداة لحماية الرعية وضبطها إلى آلة دمار وتفكيك وإضعاف للسلطة التي أصبحت في يد العبيد يعملون فيها وبها ما يريدون “[2]، و إذا كانت فترة السلطان محمد بن عبد الله عرفت نوعا من الاستقرار السياسي والأمن الداخلي، فقد كان لابد من توحيد الدولة في ظل الصراع والتمزق الذي ميز أواخر حياة المولى محمد بن عبد الله واستمر بعد وفاته وتجاذب الحكم بين أبنائه[3]، ولحق ذلك مشاكل أخرى منها ما ارتبط بالرعايا في علاقاتهم بالسلطة ومنها ما هو مرتبط بالنخبة من الأعيان، ومنها ما تعلق بالبلاط نفسه، ونقصد هنا تلك الفتن والتمردات التي أضحت ميزة القرن التي لا تفارق سلطانا في ولايته، فكان تدبيرها تحديا حقيقيا أمام هؤلاء السلاطين، ناهيك عن إكراهات أخرى مرتبطة بالكوارث الطبيعية التي وثقتها مجموعة من المجاعات والأوبئة، ، ثم المشاكل الاقتصادية المتمثلة أساسا في تحديات تنظيم التجارة بشكل يحفظ المصالح التجارية المغربية، التي باتت مهددة أمام تزايد الضغط الأوروبي نتيجة مجموعة من المعاهدات اللامتكافئة وفتح أسواق المغرب أمام أوربا.

ويمكن اعتبار مسالة الأسر ضمن المجال المتوسطي، استمرار لمسلسل الصراعات التي شهدها هذا المجال في الفترات التي سبقت القرن 18م، والتي تفسرها الرغبة في السيطرة من جانب كل أطرافه، لكن مع غياب هذه السيطرة الواضحة للقوى المتوسطية خلال القرن 18، يبقى التعبير المناسب للوضع ما تصفه الكتابات بــــ”فترة اللاحرب واللاسلم”.

فقد كان المغرب إذن خلال القرن الثامن عشر أمام تحدي تدبير علاقاته الخارجية بالشكل الذي يضمن سيادته وسلطته على حدوده وهو الأمر الذي دفع بالسلطان سليمان إلى الاحتراز، بالإضافة إلى التحديات الداخلية التي ارتبطت بالاضطراب السياسي، والتراجع الاقتصادي. وطلية الفترات اللاحقة سيصبح المغرب حاضرا أكثر ضمن الاطماع الأوروبية.

ومن حيث سياق تواجد الأسرى المسحيين بمغرب القرن 18م في علاقته بالخارج فإن أهم ما ميز العلاقات المغربية الأوروبية خلال القرن 18، هو ذلك التجاذب السياسي الدولي الذي تجسد عبر مجموعة من القضايا التي نجملها أساسا في مسألة الثغور المحتلة، ثم قضايا القرصنة والجهاد البحري، هذه القضايا رافقتها عناصر أخرى ارتبطت بموضوع الأسرى، باعتباره نتاج للسياق الدولي الذي تميز به القرن 18م، وقد تشكلت هذه الملفات في شكل علاقات سياسية وديبلوماسية وتجارية كبرى.

أفرز هذا الوضع إذن وقوع مجموعة من الأفراد تحت الأسر سواء في هذا الجانب أو الجانب الآخر، وطرحت مسألة الأسرى بوصفها أهم غنائم الأنشطة البحرية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مثلما أفرز صنفا من المؤلفات الذاتية التي حاول هؤلاء الأسرى من خلالها إيصال صورة عن أوضاعهم وكل ما يتعلق بظروف أسرهم وعيشهم في ظله.

المحور الثاني: السبل الشرعية وغير الشرعية لانعتاق الأسرى المسيحيين بالمغرب

أولا: السبل الشرعية لانعتاق الأسرى المسيحيين

تعتبر مسألة افتكاك أو افتداء الأسرى الأوربيين من أكثر المعاملات التي تم التداول في شأنها داخل إطار العلاقات المغربية الخارجية خلال القرن 18م، فهي من جهة تعبر عن طبيعة العلاقات المغربية مع دول أوربا، ومن جهة أخرى تؤكد دور التدخل الديبلوماسي في افتكاك عدد مهم من الأسرى المسحيين. إلا أن عمليات الافتكاك كانت تتم عبر عدة أوجه، وحسب ما تستدعيه الضرورة السياسية.

وتسجل الكتابات أنه وفي البحر الأبيض المتوسط في العصور الحديثة، كانت هناك طرق متنوعة للهروب من العبودية سواء بالنسبة للأسرى المسحيين أو المسلمين أيضا ويمكن أن نجملها في:

  1. التحول الديني: كان التحول إلى المسيحية وسيلة شائعة لتحسين الظروف والحصول على إمكانية التحرر. على الرغم من أن التحول لم يمنح الحرية القانونية بشكل تلقائي، إلا أنه كان يؤدي غالبًا إلى معاملة أفضل، بما في ذلك تحسين ظروف المعيشة ودعم مادي معين. عادةً ما كان التحول يتطلب اعتماد اسم مسيحي جديد واندماج في ثقافة المجتمع المضيف. في بعض الحالات، أدى هذا إلى التحرر بواسطة الدولة أو من قبل مالك خاص.
  2. الهروب: كان الفرار وسيلة أخرى للبحث عن الحرية، ولكنها كانت تأتي مع مخاطر كبيرة، بما في ذلك تهديد القبض والعقوبة.
  3. الفدية أو شراء الحرية: كانت هذه الطريقة تتضمن دفع المال لتحرير النفس أو التفاوض على الإفراج من خلال السفراء أو الوسطاء. في بعض المدن في البحر الأبيض المتوسط، مثل لشبونة، كانت الفدية الذاتية ممارسة معروفة، على الرغم من أن القدرة على تحمل تكاليف الفدية كانت تختلف بين العبيد.
  4. عدم القدرة على العمل: كان العبيد من الأسرى الذين أصبحوا غير قادرين على العمل بسبب الشيخوخة أو المرض يُفرج عنهم أحيانًا، لأنهم لم يعودوا قادرين على المساهمة في عمل مالكهم. على سبيل المثال، كان يُعاد بعض العبيد الأكبر سنًا أو المعوقين إلى بلدانهم الأصلية، مثل تونس أو الجزائر، على أمل أن يتمكنوا من الحصول على فدية لآخرين.[4]

وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الطرق توفر سبلًا للحرية المحتملة، كانت فعالية وتوافر كل منها تختلف بشكل كبير حسب السياق القانوني والاجتماعي.

لكن الملاحظ أن عمليات افتداء الأسرى بالمغرب كانت تتم وفق شروط خصوصية، كما كانت تخضع هي الأخرى إلى المجهودات الجبارة التي قام بها السلاطين المغاربة خلال القرن 18م في سبيل افتكاك الأسرى المسلمين عموما، بحيث شكلت هذه النقطة وسيلة لانعتاق عدد مهم من الأسرى المسحيين، منذ عهد السلطان إسماعيل، الذي سخر مجموعة من السفراء للقيام بهذه المهمة، و لحقه  في هذا الاختيار من تولوا الحكم بعده، ودليل ذلك ما يذكره ابن زيدان حيث يقول: “أما علائقه [أي السلطان إسماعيل] مع لويس الرابع عشر ملك فرنسا فهي مشهورة معروفة، كم جرت بينهما من مراسلات في شؤون مختلفة كمبادلة الاسارى وقضايا القراصين البحرية وعقد المعاهدات السياسية والتجارية. وكم مشى بينهما في ذلك من سفراء ومندوبين”[5].

ولعل عمليات افتكاك الأسرى بصورها المختلفة قد امتدت طيلة القرن 18، حسب حاجات السلاطين المغاربة من الدول التي تعاملوا معها في ملف الأسرى، ومن أمثلة ذلك السلطان عبد الله بن إسماعيل، حيث يورد ابن زيدان رسالة له إلى لويس الخامس عشر ملك فرنسا يقول فيها:”إلى صاحب كلمة الفرنسيس لويز كينيز، السلام على من اتبع الهدى، وصلتنا براءتك مع صاحبك اندريس على شأن الفدية والصلح. فإذا أحببتم الفدية فادفعوا لنا البارود ونعطوكم النصارى. وإذا لم تدفعوا لنا البارود مالنا معكم كلام ولا سلام.”[6] ونستشف من ذلك طبيعة الفدية التي اقترح هذا السلطان، والمتمثلة في البارود. وقد كانت عمليات الافتداء تتم عن طريق المال أيضا، وفي هذا الصدد يقول ابن زيدان: “وأخذوا منهم أحد عشر قاربا واقتنص أكثرهم ووجهوا بهم للسلطان إلى مراكش، فبقوا هناك إلى أن جاءت رسل فرانسا بهداياهم يطلبون الصلح والفداء، وكانت هذه الدولة من ذي قبل تطلب إحكام الصلات بينها وبين المملكة المغربية، فأجابهم لذلك وعقد مع لويس الخامس عشر معاهدة سنة ثمانين ومئة وألف بواسطة سفيره بمراكش الكونت دي برنيون وسفير المترجم الرئيس أبي الحسن علي مرسيل الرباطي، الذي وُجِّه لفرنسا لاقتضاء مال فداء الأسارى الذين أخذوا بالعرائش، وتقرير الصلح المشار إليه وجلب المواد الحربية.”[7].

ونسوق مثالا آخر على ذلك من خلال ما جاء في البستان حيث يقول:”وفي ربيع الأول من عام خمسة وستين ومائة وألف[1751م]، قدم باشدور الاسبنيول بمائة ألف ريال دورو، وما يناسبها من الحرير والملف والكتان، وغير ذلك، بقصد فكاك أسرى جنسه، وقدم معه أهل تطوان بهدية فيها ثلاثون ألف مثقال، فقبض [السلطان عبد الله] المال وقال للباشدور: ” حتى يأتي أسرى المسلمين”. وأعطى للعبيد من ذلك المال ريالتين للواحد ولنسائهم كذلك، وكانوا ألفين ومائتين.” [8].

وفي سياق حديثه عن هجوم الفرنسيين على ثغر العرائش1179هـ/1766م يقول ابن زيدان: “وأخذوا منهم أحد عشر قاربا واقتنص أكثرهم ووجهوا بهم للسلطان إلى مراكش. فبقوا هناك إلى أن جاءت رسل فرانسا بهداياهم يطلبون الصلح والفداء. وكانت هذه الدولة من ذي قبل تطلب إحكام الصلات بينها وبين المملكة المغربية، فأجابهم لذلك وعقد مع لويس الخامس عشر معاهدة سنة ثمانين ومئة وألف بواسطة سفيره بمراكش الكونت دي برنيون [والسفير] أبي الحسن علي مرسيل الرباطي، الذي وجه لفرنسا لاقتضاء مال فداء الأسارى الذين أخذوا بالعرائش، وتقرير الصلح المشار إليه وجلب المواد الحربية.”[9].

وفي نفس الإطار يقول الكنسوسي:” وإذا انحازوا للشطين رماهم المسلمون بالرصاص إلى أن استأصلوهم وخالطوهم في الفلائك عموما، وكانت خمسة عشرة فلوكة، فيها ألف من العسكر أخذوا بين جريح وأسير وقتيل، وكل من قبض أسيرا توجه به للسلطان فأعطاهم وكساهم وبقي النصارى في الأسر الى أن توسط الاصبنيول في فدائهم بأموال كثيرة بعد صلحه، وفي هذا العام توجه السلطان للعرائش بقصد ترميمها واستصلاحها فبنى الصقائل والأبراج بها”[10]، ويؤكد ذلك الزياني بقوله: “وكانوا خمسة عشر فلوكة، فيها ألف من العسكر أخذوا بين قتيل وجريح وأسير، واختطفهم القبائل، وكل من أخذ أسيرا، توجه به للسلطان، فأعطاهم وكساهم وأقام النصارى في أسر السلطان، إلى أن توسط في فدائهم طاغية الإسبنيول بعد صلحه ففداهم بأموال معتبرة.[11]” و حول قيمة الفدية يقول الرباطي:”وفي اليوم الخامس عشر من المحرم عام واحد وثمانين ومائة [1768م] وألف أطلق السلطان مائة وثمانين من النصارى قبض في فداء كل واحد منهم سبعمائة مثقال، بعضهم قبض بالعرائش وبعهم قبض من السفن بالبحر.”[12].

ولا يمكن إغفال الجانب الديبلوماسي ودوره الحقيقي في تحرير عدد من الأسرى سواء المسلمين عامة بالديار المسيحية أو المسيحيين بالمغرب، ودليل ذلك البعثات الديبلوماسية المستمرة خاصة على عهد السلطانيين محمد بن عبد الله والمولى سليمان، وهذا لا يعني غياب  التواصل السياسي من قبل بين السلطان إسماعيل والبلدان الأوربية، فقد كان المغرب في فترة حكمه مهاب الجانب، وسعت مجموعة من الدول إلى ربط الصلات الديبلوماسية معه، وأرسل هو الآخر مجموعة من السفراء مثل ابن حدو والحاج تميم والغساني وغيرهم، وبالرجوع إلى عهد السلطان محمد نورد ما يسجله ابن زيدان، حيث يقدم جزءا من رسالة السلطان محمد بن عبد الله لملك فرنسا لويس الخامس عشر 1181هـ/1768م يقول فيها: “سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فقد ورد على حضرتنا العلية بالله باشادورك كونط دبرنيون المفوض له من قبلك في فداء أساراكم وطلب الصلح والمهادنة من جانبنا العلي بالله. وقد أجبناه لفكاك الأسارى وأسلمناهم إليه، وأنعمنا عليه بالإجابة للصلح ووقع العقد فيه معه بحكم النيابة والتفويض منك إليه في ذلك على شروط مرسومة في غير هذا. كما أنعمنا عليه بسراح أسارى آخرين من جنسك، غنمهم أحد قراصنتنا المظفرة المؤيدة بالله.”[13] .

وقد اعتمد السلطان محمد بن عبد الله على صيغة المبادلة رأسا برأس بين الأسرى المغاربة والأسرى الأوربيين يقول ابن زيدان في هذا الشأن: “وفي سنة واحد وتسعين ومائة وألف [1778م] أرسل السلطان سفارة أخرى للويس السادس عشر برئاسة القائد الطاهر فنيش، كبير الطبجية، صحبة جماعة من الفرنسيين غرق مركبهم بالصحراء أقصى المغرب، ووجه معه هدية، وكلفه بمفاوضة الحكومة الفرنسية في جعل معاهدات، أراد السلطان مفاوضة الدول في عقدها. مضمنها أن يقع افتداء الأسارى من الجانبين فورا رأسا برأس، وإن لم يكن رأس مقابل من إحدى الجهات فيكون الفداء مقررا قانونا بمائة ريال، دون فرق بين غني وغيره وقوي وضده، ويسرح الهرم صاحب السبعين والمرأة حالا دون فداء، حسبما جاء بالظهير السلطاني الذي توجه به فنيش.” [14].

ونضيف إلى هذا النشاط السفاري في عملية افتكاك الأسرى، أنشطة الفرايلية من أجل تحرير وسلامة الأسرى، حيث ساهم الفرايلية الفرانسيسكان بصفة كبيرة جدا في سلام وحرية الأسرى النصارى، فكانوا السبب في حرية الآلاف منهم مستخدمين نفوذهم مع سلاطين المغرب وملوك اسبانيا. كما كانوا يحاولون كسب حرية الأسرى النصارى، من طرف سلاطين المغرب بصيغة هدايا موهوبة لإسبانيا، في مقابل إفلات الأسرى المسلمون الذين هم بأيديهم في البلاد الأخرى. وقد أشرنا سابقا إلى ظهيرين شريفين يتحدثان عن توسط الفرايلية الفرانسيسكان السلطان لدى مولاي إسماعيل، كما أنه هو نفسه وجه مكتوبا إلى ملك إسبانيا
20 مارس 1716 يطلب منه حرية الأسرى المسلمون بتوسط من الفرايلية الفرانسيسكان مقابل تحريره الأسرى النصارى.”[15] .

ثانيا: السبل غير الشرعية (محاولات الفرار: الأسير طوماس بيلو أنموذجا)

تعتبر محاولات الفرار الفردية أو الجماعية من الأفكار التي راودت الأسرى المسيحيين بالمغرب خلال القرن 18م، وعملوا على تحقيقها في ظل فشل محاولات الانعتاق الأخرى، أو رغبة منهم في تقليص مدة الأسر، بغض النظر عن ظروف وحالة أسرهم، ذلك لأن الرغبة في العودة إلى الوطن الأم، وضمان الحرية في التصرف والتدين هو أمر طبيعي ومشترك بين فئات الأسرى،  ومن خلال تتبعنا لمذكرات بعض الأسرى الذين تحرروا بهذه الطريقة، يمكن أن محاولات الفرار هذه كانت مسبوقة بتخطيط قبلي محكم، ولكن السؤال هنا هل كان يفلح هؤلاء الأسرى في الفرار ؟

 في هذا الصدد نستحضر الأسير الإنجليزي بيلو[16]، الذي كان محظوظا إلى حد كبير باقترابه الشديد من السلطة، وبالتالي حظي بمعاملة خاصة ومميزة، الأمر الذي سمح له بأخذ هامش من التخطيط في محاولات فراره.

 بالنسبة للأسير بيلو وبالرغم من كل الامتيازات التي حضي بها من طرف السلطة المغربية، بالإضافة إلى اندماجه واستقراره الأسري داخل الحياة الاجتماعية في المغرب، إلا أن فكرة الفرار راودته وقرر تنفيذها، وهو أمر طبيعي كما سبق الذكر، وكانت الأسباب التي شجعت بيلو على الفرار فيما يلي:

  • جلوسه بدون عمل مدة من الزمن، وبالتالي تفرغه للتخطيط للفرار وتنفيذه أيضا لأنه ضمن عدم استدعائه للخدمة العسكرية لمدة، حيث يقول: ” عندما تلقيت اثنتا عشرة قطعة ذهبية من السلطان كنت أعلم أنني سأبقى لمدة بدون عمل كمحارب. هنا بدأت فكرة الفرار تراودني”[17].
  • تواصله مع مجموعة من المسيحيين، ممن أخبروه بتجارب فرار ناجحة. حيث يقول: ” فكرت في طريقة وقررت الذهاب أولا لسلا وفي حالة لم أستطع الذهاب من هناك، سأواصل حتى الجديدة كي أدخل الحصن البرتغالي لأنني كنت أعرف العديد من المسيحيين، نجحوا في الهروب بنفس الطريقة. ما كان بالإمكان أن يحصل معي أيضا، للأسف، لو لم أستعجل الشقاء، لم أجد زورقا في سلا وذهبت للجديدة خلال أربعة أيام “[18].
  • إلمامه بالمناطق المغربية ومسالكها حيث يقول: ” كنت أقوم برحلتي بدون أية عراقيل إلى أن وجدت نفسي ذات ليلة على بعد أقل من ثلاثة مئة متر عن جدران القصر”[19].

كما سبقت الإشارة فإن بيلو منذ بدايات أسره كان قد كسب ثقة الاسرة الحاكمة بشكل كبير، ثم إن لهذه الثقة ان مكنته من امتيازات دون غيره، وهذا الهامش الكبير من الحرية كان له دور في عزم بيلو على محاولة الفرار سواء في المرة الأولى أو في المرة الثانية ثم مرة ثالثة منا سنرى، والتي نشير بأنها كانت ناجحة خاصة وأنها تمت في مرحلة فوضى واضطراب داخلي للمغرب.

 ويقول بيلو هنا: “قررت مرة أخرى استغلال هذه الفرصة كي أفر، فرغم أني نجوت من الموت بمعجزة في أزمور، فقد كنت بعيدًا عن التخلي عن مشروعي لدرجة أنني كنت الآن مصممًا بشدة على المجازفة بدلاً من العودة إلى الجيش. خصوصا أني كنت أتواجد في مكان مناسب وأن الفوضى العارمة التي كانت تسود في البلاد ستسهل تنفيذ مخططي”[20] ، بمعنى أن الوضعية الداخلية للمغرب بعد وفاة السلطان إسماعيل كانت من العوامل التي ياعدت هذا الأسير على الفرار. وعموما بالنسبة لأسير قضى أزيد من ثلاثة وعشرين سنة في المغرب، وعسكري يحظى بثقة السلطة والسكان المغاربة، ويعرف تفاصيل وضعية المغرب الجغرافية ثم السياسية التي كانت مضطربة آنذاك، كل ذلك سهل مأمورية تنفيذ مخطط الفرار.

في الأخير نتساءل هنا عن موقف السلطة المغربية من مثل هذه المحاولات بداية، ومدى نجاعة نظام المراقبة الخاص بالأسرى، والضمانات التي كان من المفترض اعتبارها لتفادي هذه المحاولات. وعموما يكفي استحضار الوضع العام للمغرب بعد وفاة السلطان إسماعيل والفوضى التي ألمت بالبلاد آنذاك، لنخلص إلى أن الأسرى بدورهم استعلوا هذه الظروف من أجل الفرار في ظل التفكك، خاصة وأن الرغبة في العودة إلى البلد الأم ظل ملازما لهؤلاء الأسرى بدون استثناء مهما علا شأنهم داخل المغرب.

خاتمة:

نخلص أخيرا إلى أن التفاوض حول الأسرى هو في حد ذاته مظهر من مظاهر العلاقات الدبلوماسية التي تجمع المغرب بباقي الدول التي ينتمي إليها الأسرى. ونؤكد من جهة أخرى على أهمية ملف الأسرى ضمن العلاقات المغربية الخارجية خلال القرن 18م، كما نستشف أن عمليات تحرير الأسرى استندت إلى مجموعة من الشروط التي تحدد على أساسها ظروف الافتكاكـ والتي تحدد أيضا طبيعة المقابل الذي يستدعيه تحرير الأسرى، وقد يكون هذا المقابل إما مالا، أو تبادل الأسرى رأسا برأس، أو عبارة عن مقابل مادي ملموس كحاجيات المغرب من الموارد التي تتوفر عليها الدول الأوربية المطالبة بتحرير أسراها.

   كما نخلص من ناحية أخرى إلى أن محاولة الفرار تظل أمرا واردا في ذهنية الأسير مهما بلغ من الراحة والرفاه، إلا أن التفكير في فشل المحاولة وفقدان هذه الامتيازات هو ما كان يخيف هؤلاء الأسرى، وهذا بيلو اعتبره “مجازفة”، ومن جانب آخر فتفكير بيلو في الفرار يكشف عن حقيقة وجود عمليات فرار منها ما نجح فيها ومنها ما فشل لأنها “محاولات عشوائية” في نظره. وهو الأمر الذي يقودنا مرة أخرى إلى الانفتاح على موضوع آخر وهو مدى نجاعة الجهاز الأمني وجهاز المراقبة بالتحديد خلال القرن 18م.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1]-تاريخ المغرب تحيين وتركيب. إشراف وتقديم: محمد القبلي، منشورات م م ب ت م، الرباط 2011،
  2. صص 405-406.
  3. [2] عبد المجيد القدوري، المغرب وأوروبا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (مسألة التجاوز)، ط.2 المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012، ص 284
  4. [3] – إبراهيم حركات ، المغرب عبر التاريخ .3 أجزاء، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، ط2، 1994، ج 3، ص121.
  5. [4]–  The Palgrave Handbook of Global Slavery throughout History, The Palgrave Handbook of Global Slavery throughout History; Edited by Damian A. Pargas · Juliane Schiel; Part 3. Early Modern Societies (1500–1800 C.E.) p230.pp 235 -243
  6. [5] – عبد الرحمن بن زيدان، العلائق السياسية للدولة العلوية، تقديم وتعليق: عبد اللطيف الشاذلي، المطبعة الملكية – الرباط 1999، م س، ص 49.
  7. [6] – نفسه، ص 58.
  8. [7] – العلائق، م س، ص 65.
  9. [8] – الزياني، أبو القاسم، البستان الظريف، في دولة أولاد مولاي الشريف. ق 1، (من النشأة إلى نهاية عهد سيدي محمد بن عبد الله)، ط1، دراسة وتحقيق: رشيد الزاوية، م د ب ع، الريصاني (الراشيدية)، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1992.، ص327.
  10. [9] – العلائق، م س، ص 65.
  11. [10] – أبي عبد الله محمد بن أحمد الكنسوسي، الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا على السجلماسي. جزأن (ج1)، تقديم وتحقيق وتعليق أحمد بن يوسف الكنسوسي، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، (د.ت.)، م س، ص226.
  12. [11] – البستان، م س، ص398.
  13. [12] – الرباطي، محمد الضعيف، تاريخ الضعيف (تاريخ الدولة السعيدة). تحقيق وتقديم وتعليق: أحمد العماري، ط 1، دار المأثورات، الرباط –أكدال، 1986، م س، ص 174.
  14. [13] – العلائق، م س، ص 66.
  15. [14] – العلائق، م س، صص 68-69.
  16. [15] – سيميون سيسلاو ستشيرا، السلاطين وخدام الكنيسة الفرنسيسكان في المغرب: علاقة السلطان والعمل الديني الإنساني لخدام الكنيسة الفرنسيسكان، ترجمة: حسن شملال، ط1، ليتوغراف- طنجة ،2015، م س، ص 91.
  17. [16] – هو الأسير الإنجليزي طوماس بيلو الذي أسر صبيا رفقة عمه في سواحل سلا، على متن سفينة كانت متجهة إلى جنوة وذلك سنة 1716، حيث كان عمره لا يتجاوز الثانية عشرة، وظل في الاسر إلى غاية 1739م
  18. [17] – Magali MORSY, La Relation de Thomas Pellow, une lecture Du  Maroc au 18e siècle,éd Recherche sur les Civilisations ,Paris, 1983 ;p 142.
  19. [18] – Magali MORSY ; op cit 142
  20. [19] – Magali MORSY; op cit; p 142- 143- 144
  21. [20] – هذه الشهادة تؤكد أن تلك الظروف السياسية التي عاشها المغرب بعد وفاة السلطان إسماعيل سيكون لها تأثير على وضع الأسرى، كما أن هذه الظرفية التي سهلت على بيلو مهمة الفرار والعودة إلى بلده الأصل.
  22. (أنظر144- 146: Magali MORSY ;op cit ;pp)
Scroll to Top