الحبُّ لا يُقهر.. الحبُّ صانع مُعْجزات! الحبُّ في شعر محمود درويش

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه
تكوين الدكتوراه: آداب وفنون متوسطية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط - المغرب

مقدمة

سيبقى الحب دائما قادرا على تفسير ما يعجز الواقع عن تفسيره، مُضْفيا الإثارة والإقناع على حوادث غامضة الأسباب، أو تحتاج إلى عناصر تشويق، تجعلها أكثر درامية وتقبلا. ويمكننا أن نذكر بعض الوقائع التاريخية التي قام فيها الحب بدور حاسم، وأنزل الستار على الجزء الأخير من القصة. فمثلا، في صراع امرئ القيس مع بني أسد من أجل استعادة مُلك أبيه، يرحل إلى قيصر، يطلب نصرته؛ فيحب ابنة القيصر. أما النابغة الذبياني، فإنه يهوى المتجردة؛ زوجة الملك النعمان، حتى يصفها وصفا جَرِيئا في قصيدةٍ تتلى على مسمعَيْ زوجها. أما الشاعر طرفة بن العبد، فقد كان ينادم عمرو بن هند، فأشرفت أخته ذات يوم، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده، فقال في ذلك شعرا، أحنق عليه ابن هند؛ فدبّر مقتله. وهكذا إلى ما لا نهاية.. إنها قصص تجمع بين الممكن والمستحيل. فالشاعر العربي القديم تلقائي في علاقته بالمرأة، يحترم الأعراف القبلية، لكنه يستجيب للصبوة كلما سنحت له الفرصة.

وقد استقى محمود درويش من الشاعر العربي القديم، في لحظة من زمنه، هذه المغامرة، ليخرج من رؤيته الضيقة إلى عالم شعري كوني، متأملا في ذاته، ومهتما بلغته، وجعل مساحة بينه وبين حبه الأزلي؛ حبه للوطن، لا للانفصال عنه، وإنما للحصول على استقلالية، واقتحام فضاء المغامرة. وهذا أعطى حداثة خاصة متفردة، تقتضي أن نجاح التجربة الشعرية يحتاج إلى المغامرة، وإعادة إنتاج لغة شعرية جديدة، منفتحة على ما هو كوني، بدل الانحصار في موضوع بات يُرهق قلب الشاعر.

وإذا عدنا إلى المرحلة الشعرية الأولى لمحمود درويش، نجد أنه لم يتحدث عن المرأة من حيث كينونتها الأنثوية، حتى لدى حديثه عن “ريتا” الفتاة اليهودية التي أحبها، والتي اتخذ من حبها رمزا للعلاقة الإنسانية، بعيدا عن العدائية[1]، لكن محمود درويش، في المرحلة الأخيرة، استطاع أن ينظر إلى المرأة/ الأنثى، وهذا ما أشار إليه بقوله: “جميل أن تكون المرأة وعاء للوجود كله، ولكن يجب أن تكون لها شخصيتها كامرأة”[2].

وسنحاول، في هذا المقال، الغوص في ثنايا ديوان “سرير الغريبة” لمحمود درويش، الذي جسد بحقٍّ تيمة الحب، بوصفه منعَتَقا للتحرر، وقيمة إنسانية وجودية خالصة للذات؛ فبقدر ما منح لقب “شاعر الوطن” لمحمود درويش الكثير، أخذ منه الكثير أيضا، وطالما امتاز بالقدرة على خلق الدهشة أمام القارئ في كل مرحلة من مراحل الكتابة لديه، وفي كل مرحلة كان يغير أدواته الشعرية، لكن أعماله الأخيرة، التي تمثل آخر تلك المراحل، تبين مدى وعيه بالقضايا الكونية والوجودية، وهو “موقف يكشف عن تغير الذائقة الشعرية لدى الشاعر، وعن مطالبة القارئ ضمنيا بتغيير أدوات القراءة، وإبدال زوايا النظر إلى الشعر ووظيفته؛ من أجل بناء وشائج وعلاقات مغايرة بين الشاعر وقارئه، تنبني على التحرر في الكتابة الشعرية، والحرية في التلقي والتأويل”[3]. وهذا ما جسده ديوانُ “سرير الغريبة”، الذي طرح فيه محمود درويش كل الأسلحة الأيديولوجية جانبا، ليجعله ديوانا كاملا للحب، وللحُب فقط.

1- الحب في “سرير الغريبة”:

      سعى محمود درويش إلى أنْ يحرر المرأة من أبعادها الرمزية، ليعرّف الحب، في ديوان “سرير الغريبة”، بأنه تلك العلاقة التي تجمعه بالمرأة، والتي تقدم نفسها على النحو الآتي:

لا، لستُ شمساً ولا قمراً

أَنا امرأةٌ، لا أَقلَّ ولا أكثرَ

(…)

فيُعجِبُني أَن أُحَبَّ كما أَنا

(…)

لكنني لسْتُ أرضاً[4].

هنا، يتضح جليا أن المرأة قد تخلصت من الترميز، الذي طالما أرهقها؛ فأضْحَت امرأة تعيش واقعها، وكان من البديهي “أن يكتب قصيدة حب خاصة لامرأة من بنات آدم وحواء، وأن تكون حبيبته هذه من لحم ودم وليست مجازا عن فلسطين أو الأرض أو القضية”[5].

يعود محمود درويش ليحرر المرأة من الترميز والنمذجة، ويُعيد تشكيلها في إطار العلاقة الإنسانية. يقول:

لك أنت التي تقرئين

الجريدة في البهو..

أنت المصابة بالإنفلونزا

أقول: خُذي كأس بابونج ساخن، وخذي حبتيْ “أسبرين”

ليهدأ فيك حليبُ إنانا،

ونعرف ما الزمنُ الآن

في مُلتقى الرافديْن[6].

2- السمات الجسدية والجمالية للمرأة:

تمد المرأة ظلالها وتنشرها على مجموع قصائد ديوان “سرير الغريبة”، وذلك من خلال سماتها الجسدية والجمالية، ويتضح حضورها عندما يخاطبها قائلا:

فابتسمي يُزهرِ اللوزُ أكثرَ

بين فراشات غمازَتَيْن[7].

ويضيف:

لولاك لولا الرذاذُ الذي يتلألأ في نمش

الضوء ما بين نهديك، لانحرفت لُغتي

عن أُنوثتها[8].

وعلى الرغم من وجود نبرة الفقدان في هذه الأسطر الشعرية، فإنها تحيل على حبيبة مرغوبٍ فيها من قبل الشاعر. يقول، وهو يخاطبها:

دبُّوسُ شعرك يكسر

سيفي وتُرسي

وزرُّ قميصك يحمل في ضوئه

لفظة السرِّ للطير[9].

فهُنا يفصح الشاعر عن رغبته تجاه حبيبته؛ من خلال الغمازتين، ودبوس الشعر، وزر القميص.. التي تعد تفاصيل منها.

ويعلن الشاعر، أيضا، بلفظ صريح، عن حبه لحبيبته عندما يقول:

فأضِئْ عتْمتي ودمي بنبيذك

واسْكن، معي، جسدي[10].

ويضيف قائلا:

أضمُّك، بيضاء سمراء، حتى التلاشي

أُبعثرُ ليلك، ثم ألُمُّك كُلَّك…

لا شيء فيك يزيدُ وينقُصُ عن

جسدي[11].

فهذه المقاطع مفعمة بالحركة؛ حيث يذكر فيها الشاعر جسد الحبيبة مقترنا بحركة الرغبة؛ تلك الرغبة العميقة، التي تهيئ مجالها، وتستلذ بالنبيذ والعناق حتى التلاشي.

ويزيد اعترافا بعاطفة الحب نحو حبيبته؛ فيقول:

ها هنا، تحت عيْنَيْن لوزيَّتَيْن

نطيرُ معاً تَوْأَمَيْن

ونُرْجئ ماضينا المشتركْ[12].

فهُنا، استعمل الشاعر تركيب “عينين لوزيتين”، باعتباره وحدة وصفية، جعل فيها الشاعر العينين؛ عينين المرأة، وسيلة للإفصاح عن علاقته بالزمن المفتقد. إن الوصف هنا علّل عاطفة الحب، وجعلها وسيلة لاسترجاع الماضي. ومِثلُ هذا التركيب يحضر بكثافةٍ في ديوان “سرير الغريبة”. يقول محمود درويش:

أنت الرشيقة في البَهْو

ذاتِ اليديْن الحرِيرِيَّتَيْنِ

وخاصرة اللَّهْو[13].

إذ يفصح الوصف هنا، أيضا، عن عاطفة حبٍّ، تتجاوز مجرد الانفعال إلى الرغبة نحو حبيبة الشاعر. وفي موضع آخر، يظهر الشاعر محترِقا بعذاب الحب لحبيبته. يقول:

فاحترِقْ، لا لتعرف نفسك، لكن

لِتُشْعِلَ لَيْلَ بُثَيْنَةَ…[14].

ويدور الحديث بين الشاعر وحبيبته في شكل استجواب، يشكل اﻻﺳﺗﻔﻬﺎم أﺳﺎﺳﺎ ﻟﻪ. يقول:

 ﻣﺎذا ﺳﻧﻔﻌﻝُ بالحُبِّ؟ قُلْتِ

ونحن ندسُّ ملابسنا في الحقائبِ:

 نأخذُهُ مَعَنا، أَمْ ﻧُﻌَﻠِّﻘُﻪُ ﻓﻲ اﻟﺧزاﻧﺔِ؟

قلتُ: ليَذْهَبْ إﻟﻰ حيثُ ﺷﺎءَ

فقد شبَّ عن طَوْقنا، وانتشرْ[15] .

وفي موضعٍ آخر، يظهر الشاعر، وهو يعيش قسوة الانتظار، متشبثا بأمل ضعيف، يسافر على جناح الحنين إلى حبيبته؛ فيضمها على عجل، ويعيش اللقاء المنتظَر:

أضُمُّكِ حتى أعود إلى عدمي

زائرا زائلا. لا حياة ولا

موت في ما أُحِسُّ بِهِ

طائراً عابراً ما وراء الطبيعةِ

حين أضُمُّكِ…[16].

وعلى الرغم من الشوق وعذاب البعاد، يحث الشاﻋر الذات المترﻗﺒﺔ ﻋﻠﻰ التريث وعدم الاستعجال؛ ﻷن الحب ﻗﻴد، والعذاب جماله. ثم يدعو الشاعر تلك الذات لتُهيئ جوا هادئا ورومانسيا لائقا؛ ﻓﻴﺘﻌرض إلى أدق تفاصيل اللقاء، مؤكدا ضرورة التعامل المنتظرة برفق ولين؛ مما يخلق جوا شاعريا، تتجه ﻓﻴﻪ إيحاءات الكلمة إلى رﻗﺔ وﻫدوء، يتحول معهما الحديث إلى همس شاعري ناعم، يشبه لحن الناي وعزف الكمان.. إنها الموسيقى التي تغذي الروح، وترتفع بالذات عن عالم المحسوسات والواقع إلى السماء والأعالي؛ حيث لا قيود ولا أرَق. يقول:

تحدّث إليها كما يتحدَّثُ نايٌ

إلى وترٍ خائفٍ في الكمان

كأنكما شاهدانِ على ما يعدُّ غدٌ لكما

وانتظرها[17].

إذ تغرق الذات، رفقة الحبيبة المنتظرة، في وحدة التأمل. ويبقى الانتظار مؤجِّجا لنار الشوق إلى الغد المأمول. يقول:

ولمعْ لها لَيْلَها خاتماً خاتماً

وانتظرها

إلى أن يقول لَكَ اللّيلُ:

لم يَبْقَ غيركما في الوجودِ

فخُذْها، بِرِفْقٍ، إلى موتكَ المشْتهى

وانتظرها!…[18].

وهكذا، يتحول الليل إلى فضاء سكون وهدوء داخل الذات؛ فيخلو العالم إلا من وجود المحبّين، ومن شوق شغوف إلى الانتقال بالموت إلى حيث لا ينتهي الانتظار، ولا عذابات الحب الجميلة بين شاعر عاشق وامرأة، تعلّمَ من حبها محمود درويش فن الحب في أصدق معانيه.

3- التناصّ مع كتب الحب:

في ديوان “سرير الغريبة” يتخذ محمود درويش من كتاب الكاماسوطرا عنوانا لقصيدةٍ له، ومنطلقا يتعلم منه دروسا في الحب، و”هو يمثل فن الحب الهندي، وقد كتبت مقطوﻋﺎته ﻓﻲ القرن الخامس بعد الميلاد”[19]، ليختصره متن القصيدة في معاني الانتظار، وألم الحب وعذاباته، والشوق الأبدي الذي لا ينتهي، ولا تنطفئ نارُه. يقول في قصيدته تلك:

بكأس الشراب المرصَّع باللاّزوْردِ

انتظرها..

على برِكة الماء حول المساء وزَهْر الكُولُونيا

انتظرها..

بصبر الحصان المعَدِّ لمنْحَدرات الجبالِ

انتظرها..

بِذَوْقِ الأمير الرفيع البديع

انتظرها[20].

بحيث يتسرب الانتظار إلى متن القصيدة في سكون، يترافق والارتواءَ من خمرة الوقت، المرصَّع كأسُها بالأحجار الكريمة؛ مما يفسر قيمة الوقت عند المنتظِر، الذي يحاول أن يظهر قويا شغوفا، يترقب حبيبته.

ويستحضر محمود درويش، أيضًا، كتاب “طوق الحمامة ﻓﻲ اﻷلْفة واﻷْلَّاف” لابن حزم اﻷندلسي، وﻫو “رسالة ﻓﻲ صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأﻋراضه وما يقع ﻓﻴﻪ وله… وكأنه يهدف إلى تسمية المصادر، التي لا بُد منها لقراءة معجزات الحب الإنساني”[21]. ويتجلى الحب، بأبهى صوره، في ديوان “سرير الغريبة”، من خلال عَنْوَنة محمود درويش قصيدة من قصائد الديوان بـ”طوق الحمامة الدمشقي”، ليشكل بؤرة إشعاعات إيحائية ﻻ حدود لها؛ ﻓـ”الحمامة، وﻫﻲ مُطوَّقة بقيْد، مماثلة لقلب العاشق الولهان، الذي يسقط صريعا أمام سلطة الحبيب”[22]. ثم إنه لم يستحضر العنوان فقط، بل استحضر مبدأ تقسيم الكتاب إلى أبواب؛ فابن حزم قسم كتابه اثنين وثلاثين قسما عن الحب وعوارضه، وأطلق اسما خاصّا على كل باب. أما محمود درويش، فقد قسم قصيدته إلى اثنتين وعشرين مقطوعة، مستخدما في ذلك الحروف الهجائية؛ بحيث بدأ بالألف، وأنهى بالكاف. يقول درويش:

أ.

فِي دِمَشْقَ،

تطيرُ الحماماتُ

خلف سياجِ الحريرِ

اثْنَتَيْنِ..

اثْنَتَيْنِ…[23].

إن هذه القصيدة هي بمثابة رسالة في الحب، يبدو فيها الشاعرُ وهو في حالة الوجد، مسكون بدمشق التي جعل منها مدينة الحب الأبدي، إضافة إلى صورة طيران الحمام، التي تحمل دلالة السلام في تعالقه وربطه بين قلوب المحبين مثنى مثنى؛ فالحمام لا يطير منفردا، والحب يستحيل إذا اختل شرط التشارُك فيه.

ويواصل الشاعر وصف دمشق؛ فيقول:

في دمشق:

ينامُ غزالٌ

إلى جانب امرأةٍ

في سرير الندى

فتخلَعُ فُسْتَانَها

وتُغَطِّي بِهِ بَرَدَى[24].

فالغزال، هنا، رمزٌ إلى الحب المتناهي غير المشروط. ويستمر محمود درويش في هيامه المحموم بدمشق؛ حيث يحلو السمر حين تداعب مخيِّلته أحلام وردية في حضن زهر اللوز:

في دمشق:

أُسامِرُ حُلْمِي الخفيفَ

على زَهرة اللوزِ يضحك[25].

4- التناص مع أبطال الحب:

    لقد وجد محمود درويش في قصة “قيس وليلى” جوّا من الألفة؛ ليجسد الحب بطولة واستماتة في سبيل المحبوبة، يتجاوز الزمان والمكان. لذا، ألْفَيْناه يستحضر بيتا شعريا لقيس بن الملوح، هو[26]:

صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكْبرْ ولمْ تكْبر البهم

حيث يقول:

عمَّا قليلٍ نعود إلى غَدِنا، خَلْفنا،

حيثُ كُنَّا هناك صغيرين في أوَّل الحب،

نلعب قصة روميو وجولييت

كي نتعلَّم مُعْجَمَ شكسبير[27].

ويضيف:

فكُنْ أَنْتَ قَيْس الحنين،

إذا شئْتَ. أمَّا أنا

فيُعجِبُني أن أُحَبَّ كما أنا

لا صُورةً

مُلَوَّنَة ًفي الجريدة، أو فكرةً

مُلَحَّنةً في القصيدة بين الأيائلِ…

أسمع صرخة ليلى البعيدة

من غرفة النوم: لا تتركيني

سجينةَ قافيةٍ في ليالي القبائلِ

لا تتركيني لهم خبرا…[28].

فهُنا إشارة إلى حكاية قيس، الذي مُنع عن ليلى، فأصيب بالجنون. أما امرأة محمود درويش، فتستنجد به، وتلتمس منه ألّا يتركها، ولا تبقى سجينة الشعر مثل ليلى.

كما وجد درويش في قصة “قيس وليلى” كذلك الحب العُذري، الذي يسمو فوق كل مدنس، رغم أن حب قيس لليلى كان متّشحا بالعذاب، كما قصة روميو وجولييت؛ حيث انتهت قصة حبِّهما بالموت.

ويستحضر الشاعرُ حكاية الحب العذري بين جميل بن معمر وبثينة، في محاولةٍ منه لرصد حالة حب خالدة، يعيشها رفقة محبوبته. يقول:

كَبِرْنا، أنا وجميلُ بُثَيْنَةَ، كلٌّ

على حِدةٍ، في زمانين مختَلفَينِ..

هُوَ الوَقْتُ يفعل ما تفعل الشمسُ

والريحُ يصْقُلُنا ثم يقتلُنا حينما

يحمل العقلُ عاطفةَ القلبِ،

أو يبلغُ العَقْلُ حكْمتَهُ[29].

وعلى إثر ذلك، يسأله عن معنى الحب:

هل تشْرَحُ الحبَّ لي، يا جميلُ،

لأَحْفظهُ فكرةً فكرةً؟[30].

إنه حب وجودي “في مستوى الكون، لا في مستوى الزواج. وتبدو فيه بثينة صورة أو رمزا للأنثى الكونية الخالقة”[31]؛ بحيث تحولت الأنثى إلى أيقونة وجودية بلغة شعرية، تكشف عن أنها أصل الوجود. و”إذا كانت بثينة، بالنسبة إلى جميل، هي الأنثى الكونية، أو هي الوجود كله، فإن حبّها يصبح قوة خفية تحوّل العالم، أو يصبح – كما يعبر هو – سحرا.

هي السحر، إلا أن السحر رقية

وإني لا ألفي لها الدهر راقيا

وفي السحر ينقلب نظام العالم ونظام العقل معا، ويصبح المُحال ممكنا، وغير المعقول معقولا”[32]. وقد استحضر محمود درويش نصوص جميل بن معمر، التي كانت تقبع في بِيئة أموية، ليجعلها تعْبُر الأزمنة، وتتدفق فيها دماء الحياة من جديد؛ فيتجدد معها معنى الحب، متحدِّيا طقوس البيئة القديمة، ليرسم آفاقا لانهائية، ويكتسب دلالات مفتوحة على كل التأويلات، يستفيد منها محمود درويش، الذي يستغلها بدوره في كتابته الجديدة. فالشاعر هنا يُسقط تجربته على تجربةِ شخصيةٍ تراثية، وجد ﻓﻴﻬﺎ من نفسه الكثير؛ فرغم التباعد الزمني بين جميل ومحمود درويش، إﻻ أنهما عاشا نفس الحال. ويدعم هذا الالتحام باﻵخر ﻗوله: 

وجدت قناعا؛ فأعجبني أن

أكون أنا آخَري. كنت دون

الثلاثين، أحسب أن حدود

الوجود هي الكلمات. وكنت

مريضا بليلى كأي فتى شعّ

في دمه الملح[33].                                                

إن الشاﻋر يبعث العشّاق الموتى من رمادهم، وينطلق من حالة الحب العظيم بين العشاق ﻓﻲ الزمن الغابر، ومن الفراق الذي كان يفصل بين الحبيبين بمرارته، ليُسقط التجربة نفسَها عليه، وعلى حبيبته. يقول:

هو الحب، يا صاحبي، موتنا المنتقى

عابر يتزوج من عابر مطلقا…

لا نهاية لي، لا بداية لي.

لا بثينة لي أو أنا لبثينة..

هذا هو الحب، يا صاحبي.”[34]

ﻓﻔﻲ الحب حياة وموت؛ حياة في وصْل الحبيب، وموت ﻓﻲ عذاب الفراق، ولكنّ الحب يبقى قدرا ﻋﻠﻰ الجميع؛ ﻓﻬﺎ هو الشاﻋر يسائل جَميلا:

هل خلقت لها، يا جميل،

وتبقى لها؟[35]؛

فيُجيبه قائلا:

أمرت وعلمت. لا شأن لي[36]

(…)

فما أنا إلا كما خلقتني بثينة[37].

إنه ﺣوار محمود دروﻳش ﻣﻊ جميل بثينة، محاوَلةً لنسف داﻝّ الزمن والرواية التاريخية، وفق رؤية محمود درويش، لتصبح بثينة جميل ﻫﻲ حبيبة محمود دروﻳش:

 هل هممت ﺑﻬﺎ، ﻳﺎ جميل ﻋﻠﻰ عكس

 ﻣﺎ ﻗﺎﻝ ﻋﻧك اﻟرواة، وهمّت ﺑك؟

 ﺗزوﺟﺗﻬﺎ. وهززنا اﻟﺳﻣﺎء؛ ﻓﺳﺎﻟت

 حليبنا ﻋﻠﻰ خُبرنا، كلما جئتها فتحت

جسدي زهرة زهرة…[38].

إنها متاهة الحب، التي وضعت محمود درويش مع المحبين ﻋﺒر الزمن ﻓﻲ حيرة؛ ولذلك يؤكد جميل:

أعرف الناس بالحب أكثرهم حيرة،

فاحترق، لا لتعرف نفسك، لكن

لتشعل ليل بثينة…[39].

إن الحب ﻻ يخضع لمنطق، وﻻ يحتاج إلى شرح، ولكن أساسه التضحية؛ فرغم كون الحب نارا تكوي المحب، إﻻ أن العذاب يبقى سر تأجُّج ﻫذا الحب، ويبعث ﻋﻠﻰ التمسك بالحبيب أكثر. ولذلك، يعلن الشاﻋر الموت من أجل الحب، ويصرح ﻋﻠﻰ لسان قيس:

(…) أنا من أولئك،

ممّن يموتون حين يحبون[40].

ويمضي الشاﻋر مُستفسِرا من أبطال الحب إنْ كان العناء ﻓﻲ الحب، والبعد عن المحبوبة، ﻗد أنسياﻫﻤﺎ الحبيبة، ليعرف إنْ كان المنفى سيُنْسيه حبيبته، ويألف ﻏﻴرﻫﺎ، لكنه يستشفّ الجواب الأخير من المحبين؛ إذ يقول:

أعلى من الليل، طار جميل

وكسر عكّازيته. ومال على أذني

هامسا: إن رأيت بثينة في امرأة

غيرها، فاجعل الموت، يا صاحبي،

صاحبا[41].

(…)

إن لم تكن هي

موجودة جسدا، فلها صورة الروح

في كل شيء[42].

ﻓالحبيبة ﻻ مثيلَ لها ﻓﻲ عينيْ حبيبها، وحبيبة الشاﻋر امرأة مختلفة، سواء أكانت قريبة أم بعيدة ﻋﻨﻪ؛ ﻓﻬﻲ موجودة ﻓﻲ زاوية ما من زوايا القلب إلى الأبد.

5- استحضار شاعريِ الحب “يانيس ريتسوس” و”بول إيلوار”:

يقول محمود درويش:

أرى في عُروق الرّخامِ حليبَ الكلام

الإباحي، يجري ويصْرُخ بالشُّعراء:

اكْتُبوني؛ كما قال ريتْسوس. أين

اخْتفَيت، وأخْفَيت منْفاي عَن رغبتي؟

لا أرى صورتي في المرايا، ولا صورة

امرأةٍ منْ نساءِ أثينا تُديرُ تدابيرها

العاطِفيةَ مِثلي هُنا[43].

بحيث لا يستدعي درويش، في هذه الأسطر الشعرية، ريتسوس الشاعر اليوناني.. الشاعر الإيروتيكي ليحاوره، بل ليدعم به موقفا أو أمْرا، يتقاسمه وإياه.. إنه المنفى بوصفه تجربة إنسانية مريرة، تتلاشى فيها الملامح، وتضطرب فيها المشاعر الإنسانية، ويفقد المنفيُّ فيها طعم الحياة. ويضيف محمود درويش:

اعتني بيَديْك لكَيْ تحْمِلاك يداك

هما سيداك؛ كما قال إيلور.. فاذهبْ

أُريدُك أو لا أُريدك[44].

ولم يكن استدعاء محمود درويش الشاعر الفرنسي بول إيلوار؛ شاعر الحب، عبثا، بل تم ذلك لخصائصَ تجمعهما معا؛ كالانتماء السياسي إلى الحزب الشيوعي، والنظرة الحداثية المتمردة على نمطية القصيدة التقليدية؛ فاليد رمزٌ للعمل والإنتاج والإبداع، وفي الموروث الثقافي تأتي بدلالات الكرم وغيرها من المعاني المرتبطة بالمخيال الشعبي للمجتمعات الإنسانية؛ فالعناية باليد، في دلالاتها الرمزية، تعني العناية بالوسيلة التي بها تتحقق الأفعال، وتُنجز الأفكار.  

6- السونيت تجديدٌ موسيقي للتغني بالحبّ:

استحضر محمود درويش السونيت، وهو شكل فني لقصيدة شعرية تكون صغيرة، لها نظام خاص، تُكتب أو تُنْظَم وَفقه، عُرف عند الشعراء الأوربيين في فترة من فترات عصر النهضة، والموضوع الرئيس لها هو الحب. وقد كتب شكسبير سونيتات أيضا، بوصفها تجربة حقيقية، كان فيها مكابِدا آلامَ عشق غريب، جعله يَنْظِم هذه القصائد، ويشْحنها بالرموز والإيحاءات، لعل المتلقي يدرك المزيد من غوامض المتعة في أبياته المذهلة. وهذا يتطابق مع سونيتات محمود درويش؛ إذ إنه لم يكتبها إلا بعد وصوله مرحلة الاكتمال والنضج الفني في تجربته الشعرية، وارتداده إلى حالة الحب[45].

يضم ديوان “سرير الغريبة” ست سونيتات، سمى محمود درويش كل قصيدة منها بـ”سوناتا”، مضيفا إليها أرقاما رومانية. يقول في إحداها:

“سوناتا [V]:

أمسُّكِ مسَّ الكمان الوحيد ضواحي المكان البعيد

على مهلٍ يطلبُ النهرُ حصّته من رذاذ المطرْ.

ويدنو، رويداً رويداً، غدٌ عابرٌ في القصيد

فأحمل أرضَ البعيد، وتحملني في طريق السفرْ.

على فرسٍ من خصالك، تنسجُ روحي

سماء طبيعيَّة من ظلالك شرنقةً شرنقهْ.

أنا ابن فعالك في الأرض، وابنُ جروحي

وقد أَشعلَتْ وحدها جُلَّنارَ بساتينك المغْلَقه.

من الياسمين يسيل دمُ الليل أَبيضَ. عطرُكِ

ضعفي، وسرُّك يتبعني مثل لدغة أَفعى. وشَعْرُكِ

خيمةُ ريحٍ خريفيَّة اللونِ. أَمشي أَنا والكلامْ

إلى آخر الكلمات التي قالها بدويٌّ لزوجي حمام

أَجسُّكِ جَسَّ الكمان حريرَ الزمان البعيدْ،

وينبت حولي وحولك عُشْبُ مكانٍ قديمٍ-جديدْ[46].

لقد جاءت القصيدة بدون عنوان، ولكنها تحمل رقما واسما للشكل الفني الذي تنتمي إليه. وكذلك سونيتات شكسبير؛ لا تحمل عناوين، وإنما تحمل أرقاما، وهي – في موضوعها – تتحدث عن طبيعة العلاقة بين الشاعر والمرأة والقصيدة. وتتكون هذه السونيتة السابقة من ثلاثة مقاطع رباعية، وتنتهي بدُوبيت، وظف فيها محمود درويش نظاما إيقاعيا متشابكا:

الرباعية الأولى: د-ر-د-ر

الرباعية الثانية: ح-ق-ح-ق

الرباعية الثالثة: ك-ك-م-م

المثنوي: د-د.

إن المخطَّط الإيقاعي للقصيدة – حسب نظام التقفية – جاء على هذا النحو:

المقطع الأول: أ-ب-أ-ب

المقطع الثاني: ج-د-ج-د

المقطع الثالث: ه-ه-و-و

الأخير: أ-أ.

ولم تكن السونيتات الستّ، في مجملها، منضبطة لذلك النسق الإيقاعي؛ حيث تحتفظ بعدد الأسطر والمقاطع كما في السونيتة الغربية، بل إنما تلتزم بنظام تقفية محدد.

إن سونيتات محمود درويش، التي كتبها وأوردها في “سرير الغريبة”، على الشكل الغربي، تبين بعض ملامح شعره في مراحله الأخيرة، التي تعكس حرصه الدائم على التجديد، وقد تفوّق في تجريب هذا الشكل الشعري أكثر من سابقيه.

خاتمة:

من البديهي أن يحب محمود درويش امرأة من لحم ودم، وأن يكتب لها شعر الحب. وإنّ اختياره للحب لم يكن عشوائيا؛ فالحب هو حلٌّ لكل المعارك التي عاشها. وقد استطاع محمود درويش، في “سرير الغريبة”، أن يصور المرأة الحلم، التي آمن بها، ورأى فيها الحب النقي، الذي جعله يبني في قصيدته عوالم متجددة، بعيدا عن كل انتماء عرقي أو ديني، مُعْلِنا انطلاق سَفَره الوجودي؛ توْقًا إلى ولادة جديدة، وبحْثا عن لحظات بَوْحٍ يعلن فيها عن حبّه الكوني. واستطاع، أيضا، أن يجسّد حقيقة الشاعر المحِبّ للحرية، والمؤمن بقيمة الحب. إذاً، فـ”سرير الغريبة” يعبق بشذى الحب، ليتحول خطاب القصيدة إلى ﻓﻀﺎء عائم ﻓﻲ الحب وعذاباته.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1]– صفاء عبد الفتاح محمد المهداوي، الأنا في شعر محمود درويش: دراسة سوسيو ثقافية في دواوينه من (1995-2008م)، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2013، ص 258.
  2. [2] – محمود درويش، حوار مع الشاعر محمود درويش، أجراه عبده وازن، في: كتاب “محمود درويش الغريب يقع على نفسه”، ص 150.
  3.  [3]- سفيان الماجدي، اللغة في شعرية محمود درويش، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط.1، 2017، ص 57.
  4. [4]– محمود درويش، سرير الغريبة، دار الناشر، فلسطين، ط1، 2014، ص ص 60- 61.
  5. [5]– صبحي حديدي، ماذا يفعل العاشق من دون منفى؟. ضمن: محمود درويش المختلف الحقيقي (جماعة من المؤلفين)، دار الشرق، عمان،1999  ، ص47.
  6. [6] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص ص 54-55.
  7. [7]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 10.
  8. [8]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 41.
  9. [9]– نفسه، ص 45.
  10. [10]– نفسه، ص 83.
  11. [11]– نفســه، ص 104.
  12. [12]– نفسه، ص 140.
  13. [13] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص 53.
  14. [14] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص 118.
  15.  [15]- نفسه، ص 101.
  16. [16] – نفسه، ص 100.
  17.  [17]- محمود درويش، سرير الغريبة، ص 125.
  18. [18]– نفسه، ص 126.
  19. [19]– عبده وازن، محمود درويش الغريب يقع على نفسه، رياض الريس، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 2006،
  20. ص 43.
  21. [20]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 123.
  22. [21]– عبده وازن، محمود درويش الغريب يقع على نفسه، ص 43.
  23. [22]– نعمان بوقرة، قراءة سيميائية في رسالة “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي، الملتقى الدولي الأول (السيمياء والنص الأدبي)، الذي نظّمه قسم الآداب واللغة العربية، كلية الآداب واللغات، جامعة محمد خيضر، بسكرة/ الجزائر، في نونبر 2000، ص 33.
  24. [23] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص 127.
  25. [24] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص 136.
  26. [25] – نفسه، ص 139.
  27. [26] – قيس بن الملوح، ديـوانه، رواية أبي بكر الوالبي، تحقيق يسرى عبد الغني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م، ص28.
  28. [27] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص 12.
  29. [28] – نفســه، ص ص 60-61.
  30. [29] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص114 .
  31. [30] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص117.
  32. [31]– أدونيس، الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، الجزء الأول: الأصول، دار الساقي، ط. 10، 2011، ص 284.
  33. [32]– أدونيس، الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، الجزء الأول: الأصول، دار الساقي، ط. 10، 2011، ص 278.
  34. [33]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 119.
  35. [34]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 116.
  36. [35]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 117.
  37. [36]– نفســه.
  38. [37]– نفســه.
  39. [38]– نفسه، ص 116.
  40. [39]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 118.
  41. [40]– نفسه، ص 122.
  42. [41]– نفسه، ص 118.
  43. [42]– محمود درويش، سرير الغريبة، ص 119.
  44. [43]– نفسـه، ص 68.
  45. [44] – محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان “سرير الغريبة”، المجلد الثاني، ص79.
  46. [45]– وليم شكسبير، السونيتات، ترجمة وتقديم: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1983، ص 10.
  47. [46] – محمود درويش، سرير الغريبة، ص ص 71-72.
Scroll to Top