نظرة استشرافية للنهوض بالثقافة الشعبية من خلال الصناعة الإعلامية

الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
وجدة، المغرب

الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة
تطوان الحسيمة - المغرب

ملخص

يروم هذا المقال إلى تبيان العلاقة الجوهرية بين الصناعة الإعلامية والثقافة الشعبية وتأثير وتأثر كل منهما بالآخر، خصوصا في عصرنا الحالي الذي ظهرت فيه أهمية كل من الإعلام والثقافة الشعبية في تشكيل الوعي الجماعي للأفراد والمجتمعات، وقد تطرقنا في هذا العمل إلى تعريف الإعلام بنوعيه التقليدي والجديد وكذا إلى ماهية الثقافة الشعبية وأهميتها الأساسية في تشكيل الهوية للمجتمعات، كما درسنا العلاقة الجدلية بين هاذين العنصرين، وقدمنا في الأخير نظرة استشرافية لكيفية مساهمة الإعلام في إبراز مواطن القوة في الثقافة الشعبية التي لم تعد أداة لاستحضار الماضي، وإنما أصبحت آلية من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأصبحت المراهنة عليها إحدى الوسائل المعتمد عليها من طرف المؤسسات والمنظمات، وذلك لما تتميز به من توافقات عند جميع أفراد المجتمع الواحد وهو عامل أساسي يمكن الانطلاق منه بمقاربة تشاركية وأفقية للبحث عن عوامل النجاح الاقتصادي والتنمية المستدامة.

Abstract

This essay delves into the intricate relationship between the media industry and popular culture, exploring their reciprocal influence and impact on each other, particularly in today's era where both media and popular culture play a pivotal role in shaping the collective consciousness of individuals and societies. The work begins by defining media in its traditional and modern forms, followed by an examination of popular culture and its fundamental role in shaping societal identity. The dynamic relationship between these two elements is then analyzed, leading to a forward-looking perspective on how the media can contribute to highlighting the strengths of popular culture, which has transcended its role as a mere reminder of the past. Popular culture has emerged as a driving force for economic, social, and cultural development, becoming a strategic tool employed by institutions and organizations. This transformation stems from the inherent unifying nature of popular culture, resonating with all members of a society. This common ground serves as a cornerstone for adopting a participatory and horizontal approach in the pursuit of economic success and sustainable development.

مقدمة

ظهر الإعلام منذ ميلاد البشرية بطرق تقليدية كانت عبارة عن إشارة مثل: استعمال النار، الدخان… ثم تطورت شيئا فشيئا من أداة لنقل الأخبار إلى أداة تؤثر على حياة الشعوب والجماهير، كما شهدت تطور سريع في أنواعه وأدواته عند مقارنتها مع بعض المجالات الأخرى، حيث إن التطور التكنولوجي الذي حدث يعتبر أحد الأسباب التي ساعدت في تطور الوسائل المختلفة للإعلام سواء كانت مسموعة أو مرئية، وفي الآونة الأخيرة بدأ يحتل الإعلام الجديد مكانة كبيرة حتى أصبح ضمن أهم أنواع الإعلام.

لقد ساهم الإعلام في معالجة جميع القضايا الراهنة ومنها الثقافية المتعلقة بالثقافة الشعبية، وكيفية الحفاظ عليها بتسخير أدوات وطرق تساعد في ذلك، لأنه يعتبر ارث ثقافي وبناء للحياة الحديثة، كما يعتبر مورد اقتصادي تاريخي هام. وبالتالي، فإن توظيف الإعلام في تقديم الثقافة الشعبية له دور فعال وايجابي وسيأخذ بنجاحه المجتمعات إلى الحفاظ على الثقافة الشعبية وقيمتها من جيل إلى جيل، وهذا يحتاج إلى تخطيط ورسم سبل تحقيق ما يتطلع اليه.

وقد لعب الإعلام دورا بارزا في تنمية الوعي بضرورة العناية والاهتمام بالثقافة الشعبية، وهو ما يتجلى في العديد من المنشورات والتقارير. وتكمن أهمية هذا الموضوع في الطرق والسبل التي اتخذها الإعلام في إبراز معالم الثقافة الشعبية والتعريف بها وتعزيز ثقافة المحافظة عليها ولما لا جعلها تساهم في تنمية البلد.

الإشكالية:

يعتبر الإعلام وسيلة لنشر العلم وتعميم المعرفة، وتثبيت القيم والسلوكيات والعادات والممارسات، وتحقيق الرفاهية على مستوى التواصل الثقافي والحضاري والاجتماعي والإنساني بين الأفراد والشعوب، ويحمل في طياته قيم ومبادئ وأخلاق وثقافات تتماشى مع التطور الحضاري للمجتمع. وإن لهذا التطور الإعلامي دورا كبيرا في التعريف بالثقافة الشعبية وأماكنها ومساعدة الباحثين والمهتمين بتسهيل مهمة الوصول إليها، وما يقدمه من خدمات لتطويرها والحفاظ عليها.

من خلال ما سبق سنحاول معالجة الإشكالية التالية: كيف يمكن للصناعة الإعلامية المساهمة في النهوض بالثقافة الشعبية؟

وعلى ضوء الإشكالية المطروحة نطرح بعض التساؤلات:

  • هل يقوم الإعلام بمعالجة قضايا الثقافة الشعبية؟
  • هل يؤدي الإعلام دورا في الحفاظ على الثقافة الشعبية؟
  • ما الذي يجب القيام به لخلق صناعة إعلامية تجعل من الثقافة الشعبية عنصرا أساسيا يساهم في تنمية البلد؟

أهمية الموضوع:

تبدو أهمية الموضوع من خلال ما أصبح لوسائل الإعلام التقليدية والجديدة دورها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة الثقافية، وبعد أن أصبح حق الثقافة حقاً أساسياً للإنسان كحق التعليم. فالتنمية الثقافية مهمة لعدة أسباب منها:

  • بث الوعي بين المواطنين على مختلف مستوياتهم وتنوير عقولهم.
  • استغلال أوقات الفراغ لدى المواطنين لصياغة ثقافة ترقى بأفكارهم.
  • رفع المستوى الثقافي لدى المواطن لجعله قادراً على المساهمة في التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية.
  • الثورة الإلكترونية التي يشهدها العصر بكل ما تحتويه من تقنيات تفرض العناية بفكر ووجدان المواطن من أجل الوصول إلى التوازن في المجتمع.

المحور الأول: الاعلام وعلاقته بالثقافة:

أولا. تعريف الثقافة والثقافة الشعبية والإعلام:

1- تعريف الثقافة:

تُعرف الثقافة على أنها تلك الخصائص والصفات المُشتركة لمجموعة من الناس، وتشمل اللغة، والدين، والطعام، والعادات والتقاليد الاجتماعيّة، والموسيقى، والفنون، وأنماط الزواج، وطرق الجلوس على المائدة، وكيفيّة أداء التحية للغير، وغيرها من السلوكيات، والتفاعلات المُشتركة التي يتم تعلُّمها في التنشئة الاجتماعيّة، وهي انعكاس للقيم، والمُعتقدات، والعادات، وتتمظهر في التاريخ والتراث، وطرق التعبير عن الأفكار، بالإضافة إلى أنّها تقيس جودة الحياة، وصحّة المُجتمع.

والثقافة بوصفها منتوجا إنسانيا، واجتماعيا وتاريخيا، يأتي كحصاد لتفاعلات اجتماعية متعددة مختلفة داخل البيئة الاجتماعية لهذا المجتمع أو ذاك، وبين هذه البيئة وبيئتها الطبيعية والبناءات الاجتماعية الأخرى والعوالم المحيطة بالبشر وبمجتمعهم.

2- تعريف الثقافة الشعبية:

توصف على أنها مستوى نوعي لمفهوم الثقافة، له خصائصه التي تميزه عن غيره من المستويات كالثقافة الرسمية التي تصدر عن أجهزة الدولة، وثقافة الصفوة أو الخاصة التي تعبر عن خصائص هذه الفئة الاجتماعية، وهو منتوج مكثف ومتنوع في صيغه وأشكاله وأدواته، أنتج عبر مراحل وتراكمات تاريخية، للتعبير عن كنه القوى والجماعات الاجتماعية، لها خصائص مشتركة مع غيرها من القوى والجماعات التي عاشت المراحل التاريخية معها، وتفاعلت معها اجتماعيا بفعل الضرورة.

والثقافة الشعبية تشتمل على العناصر والمكونات التي تشتمل عليها الثقافة بصفة عامة، الروحية والاجتماعية والفنية والمادية، ولها الغايات نفسها، الساعية لإشباع الحاجات الاساسية والتعبير عن الأفراح والأتراح، وتنظيم العلاقات والتفاعلات وتسجيل الخبرة والممارسة التاريخيتين لمن تعبر عنهم، كما تصور واقعهم للحفاظ عليه واعادة إنتاجه، أو بالحلم المستقبلي بشأنه. ويمكن تصنيف هذه المكونات إلى مجموعتين:

– الأولى مسجلة منظورة، وهي غالبا ما تغطي ما يسمى بالعناصر المادية : كالمسكن والملبس والمشرب وأدوات العمل والفن وما شابه ذلك .

– الثانية متداولة شفاهية وتشتمل على عناصر لا مادية كالمعتقدات والمعارف والتقاليد والعادات والأدب والفن الشعبيين فضلا عن العناصر اللامادية الكامنة وراء ما هو مادي، أي الأفكار والقيم والمعارف التي قامت عليها العناصر المادية.

3- تعريف الإعلام:

يُعدّ الإعلام وسيلةً لنقل المعلومات المُختلفة إلى أعداد كبيرة من الناس خلال فترة زمنيّة محددة، وفي آن واحد، وقد تكون هذه المعلومات أخباراً، أو إعلانات تجاريّة، أو خدمات عامّة، أو خاصّة، أو منتوجا ثقافيا، أو غيره. ومن هذه الوسائل: التلفاز، والراديو، والصحف، والمجلّات، والإعلانات الخارجيّة، والأفلام، والحفلات الموسيقيّة، المعارض ومواقع الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، وتطبيقات الهاتف، فكُل هذه الوسائل تُتيح نقل المعلومات الى أيّ مكان وفي أي زمان.

ومع تعدد هذه الوسائل وسهولة الولوج إليها، “فأنها أصبحت تضطلع بدور بالغ الأهمية على مختلف المستويات؛ النظرية والتطبيقية وعلى نطاق واسع في إيصال معطيات الفكر والمعرفة إلى الناس، بلغة وأدوات أكثر نفاذا وفاعلية في تشكيل فكر المجتمع ووجدانه، فقد ازداد الاهتمام العالمي بوسائل الإعلام والاتصال صناعة وإنتاجا وتسويقا ومتابعة… لما له من أهمية كبرى في التوجيه والتأثير في حياة الأفراد سلبا أو ايجاباً”[1]. وبتعاظم استخدام هذه الوسائل الإعلامية انتقل الفرد من الممنوع المطلق إلى المسموح المطلق والحر، وأصبحت هذه الوسائل في عصر تكنولوجيا المعلومات هي المغذي الأول للعقول، فهي تثقف متابعيها وتمدهم بكافة القيم والمعتقدات التي تبثها بغض النظر عن مطابقتها أو تعارضها لما يحمله مجتمعهم من الثقافة.

ثانيا: العلاقة بين الثقافة والإعلام:

1- علاقة تأثير وتأثر:

تؤثّر كل من وسائل الإعلام والثقافة على بعضها البعض، حيث يُمكن لوسائل الإعلام أن تؤثّر على المُجتمع وثقافته السائدة، باعتبارها جُزءاً من الحياة اليوميّة للأفراد، كما أنّ للثقافة تأثير كبير على وسائل الإعلام، حيث إنّ تطورها المُتسارع والمُتزايد، وظهور وسائل إعلام جديدة يُعدّ نتيجة الاحتياجات الثقافيّة المُختلفة، ونتيجة تنوّع الثقافات التي أسهمت في نشر الأفكار، فثقافة العلوم والتكنولوجيا تُعد عاملاً مُهمّاً في تطوير وسائل الإعلام المُستخدمة، وفي المقابل يمتلك التطور السريع لهذه الوسائل تأثيراً كبيراً على طرق التواصل وتبادل الثقافات بين البشر، ففي البداية، كان الإعلام يتم بطرق تقليدية عبر الأسواق والمساجد والمناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها من بنيات المجتمع، ثم ظهرت الوسائل المكتوبةً، كالجرائد والمجلّات، وكان لها تأثير كبير على المجتمعات، قبل أن تتطور العلوم وتظهر وسائل الإعلام الحديثة، والرقميّة والتي كان لها الأثر الأكبر على عمليّة التواصل الثقافي، حيث أدّى ظهور الهاتف والإنترنت إلى تسهيل إمكانيّة الوصول لأيّ نوع من المعلومات في أيّ مكان وزمان، وتوفير الوقت، والجهد، والتكلفة في الوصول إليها، كما أدّى التطوّر السريع لوسائل الإعلام إلى تراجع الثقافات التقليديّة، فتوفُر الكُتب والمعلومات بشكل إلكتروني، أدّى إلى تقليل عدد الأشخاص الذي يستخدمون القواميس، والمجلات، ويرتادون المكتبات، ومن الناحية الاقتصاديّة لعبت وسائل الإعلام دوراً مُهمّاً في تنمية الاقتصاد، وتسهيل الوصول إلى الجماهير المُستهدفة، وتوفير مختلف الخدمات والحاجيات إلكترونيّاً. وفي المقابل تأثرت وسائل الإعلام بالنمط الثقافي المهيمن وتأقلمت مع هذا النمط من حيث دراسة الحاجة والذوق ودرجة جنوح المجتمع ومتطلباته.

من هنا ارتبط الإعلام بالثقافة ارتباطا وثيقا باعتبارهما أهم أوجه النشاط البشري وأعمقها تعبير على الصيرورة الاجتماعية، “حيث يكاد التأريخ للحضارة الإنسانية يقوم على المتغير الإعلامي – الحتمية الإعلامية لمارشال ماكلوهان – والتي تفسر التطور الحضاري تفسيرا اتصاليا يحدد حقب التغير الثقافي التي يساهم فيها بشكل مباشر العامل التكنولوجي الإعلامي- من الحضارة الشفوية، إلى حضارة التدوين، إلى حضارة الموجة الثالثة – وبتداخل مجالي الإعلام والثقافة تأسست العالقة بينهما على اعتبارات عدة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي في المجالين فرضت هذا النوع من الاعتماد والتفاعل المتبادلين”[2].

2- الإعلام أداة لتحقيق الهيمنة الثقافية:

لقد أصبحت وسائل الإعلام أدوات أساسية تلعب دورها في عملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية، “إذ يتعرض الفرد منا إلى ساعات طويلة أمام هذه الوسائط التي تزودنا بمعلومات، آراء ومواقف تساعد إلى حد كبير على تكوين تصورنا للعالم الذي نعيش فيه”[3].

إن الثقافة المهيمنة داخل المجتمعات لا تكون مهيمنة إلا إذا توفرت لها عدة شروط، فبالإضافة الى شرعية الاعتراف أو الاعتراف الشرعي لممارسة هذه الثقافة، فإن وسائل الإعلام على مختلف أنواعها تلعب دورا أساسيا في خلق هذه الهيمنة حيث لا يمكن أن تتحقق إلا إذا نالت الاعتراف الجماعي والمجتمعي.

وتشكل الثقافة جملة من الإنتاجات التي ينتجها مجموعة من الأفراد في مكان وزمان معينين قصد تحقيق مجموعة من الأهداف والمنافع الاجتماعية والفردية، والإنتاج الثقافي يكون بمثابة الإرث الثقافي في فترات من التاريخ، ويكون فيها المنتوج الثقافي جد نشيط، الشيء الذي أنعش هذا الإرث وأغناه، إذ هناك علاقة عضوية بين الإرث الثقافي والإبداع وتحتاج الإنتاجات الثقافية وهذا الإرث الثقافي إلى الاعتراف الاجتماعي والجماعي حيث يعد الإعلام وصناعة الإعلام أحد مرتكزات تحقق هذا الاعتراف.

إن الحديث عن المنتوج الثقافي يستدعي تحديد الجهات المصدرة والمنتجة لهذا المنتوج داخل المجتمعات، في علاقتها بالفئات المستهلكة، ففي الحقل الاقتصادي دائما ما نستحضر المنتج والمستهلك وأدوات الإنتاج وطرق الاستثمار وخطط التدبير بنزعة رأسمالية، والشيء نفسه بالنسبة للثقافة كمجال للإنتاج والاستهلاك والاستثمار والتدبير، ويعد المجتمع الثقافي وعاء محتضنا لجميع العمليات الثقافية، فهو يتوفر على مؤسسات الإنتاج التي تصدر الثقافة للمجتمع الثقافي المحلي ثم إلى المجتمعات الأخرى، والمنتوج الثقافي المصدر يحتوي على أفكار وقيم ومبادئ تستهدف إقصاء سلوك وأفكار الآخرين في المجتمعات المستهلكة لهذه الثقافة، “إذ كلما أقصيت القيمة كلما ازداد حجم الانفلات الأخلاقي والعبثية السلوكية السالبة، أي الاضطراب الاجتماعي والنفسي، وتزداد درجة نشازته عن المنظومة الثقافية  المحلية مما يفتح عليه باب الاغتراب والانسلاخ الفكري والتيه”[4]،  وذلك يتأتى عبر وسائل عدة، لعل أبرزها وسائل الإعلام، التي تعد أهم قناة تسعى من خلالها بعض الجهات إلى توحيد العالم ثقافيا تحث شعار “الثقافة في خدمة الاقتصاد”، فقديما كنا نقول بان العولمة كثقافة هي ظاهرة عرفتها البلدان الأوروبية التي تطمح إلى جعل العالم قرية صغيرة، هذا الكلام معناه أن مؤسسات العولمة المنتجة للثقافة كجزء من الإنتاج العام الذي تسعى من ورائه إلى تحقيق أرباح مادية ورمزية عن طريق الإنتاج الثقافي والاستثمار فيه، حيث نجحت هذه المؤسسات المنتجة للمواد الثقافية إلى حد كبير في تجاوز كل الحدود العالمية وصولا إلى اختراقها لكل المؤسسات التقليدية الشعبية التي يحكمها العقل الثقافي الشعبي، ولم تتوقف فلسفة هذه المؤسسات عند هذا الحد بل بدأت في العقود الأخيرة تستهدف الإنسان كفرد داخل جماعته وبثقافته، وهذه الفلسفة هي الأخطر حيث أصبحت هذه المجتمعات غير المنتجة تعاني من أزمات عدة، كأزمة القيم والمبادئ، أزمة الروحانيات، أزمة المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة العائلة… إلخ. “إذ هناك اتفاق عام على أن وسائل الإعلام تحدث آثار على الاتجاهات والقيم، أما الفترة اللازمة لإحداث هذا الأثر فما زالت محل جدل، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن وسائل الإعلام تقوم بدور ملموس في تكوين الآراء أكثر مما تساهم في تغييرها”[5].

وتبرز أهمية نجاح هذه المؤسسات المنتجة للثقافة في كونها تسخر كل شيء من أجل البقاء في ممارسة الهيمنة وديمومتها، تسخر العلم والقانون والدين والمؤسسات والموارد المالية وكل شيء بهدف التمسك بمكانتها داخل المجتمع الثقافي.. فمثلا اللاعبون المتميزون والفنانون والمفكرون  الكبار عالميا سلب منهم مفهوم الفرد، المواطن، ابن فلان وابن فلانة… لتحل محلها مفاهيم أخرى تنتمي إلى ثقافة معية وهذا ما نجده في غالبية الإشهاريات والدعايات التي توظف الفنانين والنجوم لحصد أكبر عدد من مستهلكين لمنتوج ثقافي معين، ويتضح الاستهلاك الثقافي في الشارع العمومي بشكل بارز، من خلال الألفاظ التي نسمعها والتي لا تنتمي إلى ثقافتنا، وأيضا نوعية اللباس وطريقة الاستهلاك والعلاقات الاجتماعية…، ويعود ذلك إلى عجز المجتمعات المستهلكة لهذه الثقافات عن الصمود أمام هذا المد القوي للثقافة المهيمنة عالميا ومجاليا ما يجعل ثقافة الدولة أو النخبة تعد فرعا من فروع الثقافة المهيمنة العامة.

المحور الثاني: نظرة استشرافية للنهوض بالصناعة الإعلامية خدمة للثقافة الشعبية

أحدثت التكنولوجيا قفزة نوعية في مجالي الاعلام والاتصال حيث سمحت بظهور ما يعرف بالإعلام الجديد، فقد استطاع بوسائله أن ينتشر بوتيرة سريعة بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات، وأصبح إقبال الجمهور على هذه الوسائل قويا، حيث شكلت هذه الأخيرة قوة تستوعب اهتمامات الشعوب وطموحاتهم.[6]

فكيف يمكن الاستفادة من هذا التطور التكنولوجي والصناعة الإعلامية بغية استثمار الثقافة الشعبية في تنمية البلد؟

إن الثقافة الشعبية أو الفلكلور أو الموروث الثقافي شكل من الأشكال التعبيرية المنطوقة والتي تختزنها الذاكرة الشعبية، وهي جزء من الثقافة الإنسانية ككل، يتم حفظها بشكل شعوري أو غير شعوري لتتجسد في كلًا من المعتقدات والعادات والممارسات الحياتية، وتشمل هذه الثقافة: الموروث السردي (الحكايات، والخرافات…)، والحكم والأمثال الشعبية وغيرها من فنون التعبير الأخرى. وتكمن أهمية الثقافة الشعبية في أنها تؤدي دورًا في إبراز تراث الأمم وتعزيز خصوصيتها، كما أنها مجموع العناصر التي تشكل ثقافة المجتمع المسيطرة في أي بلد أو منطقة جغرافية محدودة، والتي تنتشر باستخدام طرق إعلام شعبية، وتنتج هذه الثقافة من التفاعلات اليومية بين عناصر المجتمع إضافة لحاجاته ورغباته التي تشكل الحياة اليومية للقطاع الغالب من المجتمع، وهي مفصولة عن السلطتين السياسية والدينية، وغالبًا ما يُستخدم مصطلح الثقافة شعبية كمصطلح مضاد ومخالف للثقافة العليا أو النخبوية.[7]

لقد تبين أن الاعلام الجديد أدى دورا أساسيا في جعل العالم وكأنه قرية واحدة، فبدأ يؤثر على ثقافات المجتمعات المختلفة وهويتها، وأصبحت وسائل الاعلام الجديدة تمتلك تكنولوجيا اتصال فعالة تخترق بواسطتها الثقافات المحلية من تسويق ونشر لهاته الثقافات، من بينها الثقافة الشعبية التي تعتبر اللوحة التي تعكس ثقافة المجتمعات، وهي تعد احدى الركائز من العادات والتقاليد التي تركها الأسلاف.

كما أنه بات من الضروري حماية التراث، أو ما يسمى بالموروث الثقافي بشتى أنواعه ليكون موردا ثقافيا وحضاريا.

إن تعزيز قيم الثقافة الشعبية في وسائل الإعلام يمكن أن يكون عاملاً محورياً في دعم التنمية الشاملة وهذه بعض السبل التي يمكن اتخاذها لتحقيق ذلك:

تسليط الضوء على التراث المحلي:

  • إبراز القيم والتقاليد الشعبية المحلية من خلال البرامج التلفزيونية، الإذاعية، والمقالات.

تشجيع الفنون والحرف اليدوية:

  • إعطاء المجال للفنانين المحليين وحرفيين لعرض مهاراتهم وإبداعاتهم في وسائل الإعلام؛
  • إنتاج برامج تعليمية حول الحرف التقليدية والفنون الشعبية.

الترويج للسياحة الثقافية:

  • عرض الجوانب الثقافية والتاريخية للمناطق المحلية في وسائل الإعلام لجذب السياح وتعزيز السياحة الثقافية.

التوثيق الثقافي:

  • إنتاج وثائقيات توثق الحياة اليومية والتراث الثقافي للمجتمع؛
  • إطلاق مبادرات لتوثيق القصص والتاريخ الشعبي.

تعزيز التفاعل المجتمعي:

  • إقامة ندوات ومنتديات تتحدث عن قضايا ثقافية وتشجع على المشاركة الفعّالة من قبل المجتمع المحلي؛
  • إشراك الجمهور في الإنتاج الإعلامي وجمع القصص والتجارب.

تعزيز التعليم الثقافي:

  • تكامل قيم الثقافة الشعبية في مناهج التعليم لتعزيز وعي الشباب بها؛
  • دعم برامج تعليمية في وسائل الإعلام حول التراث الثقافي؛

التعاون مع الهيئات الثقافية:

  • التعاون مع المؤسسات الثقافية والمنظمات ذات الصلة لتنظيم فعاليات ومشاريع تروِّج للثقافة الشعبية.

استخدام وسائل التواصل الاجتماعي:

  • نشر محتوى ثقافي على وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع الجمهور وتحفيز التفاعل؛
  • باعتبارها جزءًا من استراتيجية التنمية، يمكن أن يسهم تعزيز قيم الثقافة الشعبية في وسائل الإعلام في تحفيز الاندماج الاجتماعي، وتعزيز الهوية الثقافية، وتعزيز الحوار الثقافي في المجتمع.

ترويج مبادئ الثقافة الشعبية في الإعلام المغربي يعد أمرًا هامًا لتعزيز الترابط الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية. يمكن تحقيق ذلك من خلال عدة وسائل:

  • برامج تلفزيونية وإذاعية: إطلاق برامج تلفزيونية وإذاعية تسلط الضوء على التراث الشعبي المغربي، مثل الفنون الشعبية والموسيقى التقليدية، وتوجيه الانتباه إلى الحكايات والأساطير الشعبية؛
  • المشاركة المجتمعية: تشجيع المشاركة المجتمعية في وسائل الإعلام، مما يتيح للمجتمعات المحلية تقديم قصصها وتجاربها الفريدة.
  • الأفلام والوثائقيات: إنتاج أفلام ووثائقيات تعكس الحياة اليومية في المغرب، وتبرز التراث الثقافي الغني للشعب.
  • وسائل التواصل الاجتماعي: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز المحتوى الثقافي الشعبي والتفاعل مع الجمهور، مما يعزز التواصل والتفاعل المباشر.
  • المهرجانات والفعاليات: دعم المهرجانات الثقافية والفعاليات المحلية التي تسلط الضوء على التراث الشعبي، وتشجع على التفاعل والمشاركة.
  • الصحافة والنشر: تخصيص مساحات في الصحف والمجلات للمواضيع التي تعكس الثقافة الشعبية وتروج لقيمها.
  • التعليم والتوعية: تضمين محتوى الثقافة الشعبية في مناهج التعليم والبرامج التوعية، لتشجيع الشباب على فهم وتقدير تراثهم الثقافي.

من خلال هذه الجهود، يمكن لوسائل الإعلام المغربية أن تلعب دورًا فعّالًا في نشر وتعزيز مبادئ الثقافة الشعبية، مما يسهم في تعزيز الانتماء والفهم المتبادل بين الفئات المختلفة في المجتمع.

نشر قيم الثقافة الشعبية في وسائل الإعلام، يمكن اتباع مجموعة من الإجراءات التي تسهم في تسليط الضوء على التراث الثقافي للمجتمع. إليك بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها:

  • ترويج المحتوى الشعبي:
  • إعطاء الأولوية للبرامج والمحتوى التلفزيوني والإذاعي الذي يعكس التراث والتقاليد الشعبية؛
  • إنشاء وتشجيع البرامج التي تتحدث عن قصص النجاح والإبداع في المجتمع.
  • توجيه الضوء على الفنون والموسيقى:
  • دعم الفعاليات الفنية والموسيقية التقليدية في الإعلام؛
  • إقامة حفلات ومهرجانات فنية تعكس الفنون والتقاليد الشعبية.
  • الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي:
  • نشر محتوى متنوع وجذاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتناول قصص وأحداث من الحياة اليومية؛
  • تشجيع المشاركة المجتمعية والتفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي.
  • إنتاج وثائقيات:
  • إنتاج وثائقيات تسلط الضوء على التراث الثقافي والتقاليد الشعبية؛
  • استضافة برامج حوارية تناقش قضايا ثقافية واجتماعية هامة.
  • التعاون مع الفنانين والمثقفين:
  • دعم الفنانين والكتَّاب والشعراء الذين يعملون على تعزيز القيم الثقافية الشعبية؛
  • تشجيع على وجود فنانين شعبيين في الوسائط المتعددة.
  • تشجيع التعليم والبحث:
  • تقديم برامج تعليمية تسلط الضوء على التراث الشعبي؛
  • دعم البحث والنقد في المجال الثقافي ونشر النتائج في وسائل الإعلام.
  • التعاون مع المؤسسات الثقافية:
  • التعاون مع المتاحف والمعارض والمؤسسات الثقافية لتنظيم فعاليات وأنشطة؛
  • من خلال اتباع هذه الخطوات، يمكن تحقيق تأثير إيجابي على نشر وتعزيز قيم الثقافة الشعبية في وسائل الإعلام وتحفيز التواصل الثقافي في المجتمع.

خاتمة:

تلعب وسائل الإعلام دورا مهما في حماية مكونات الهوية الوطنية وتمريرها للأجيال القادمة، لكن وجب مواكبة العناصر الجديدة للإعلام المنبثقة من التطور التكنولوجي المستمر لها، والتي أفرزت أنماط إعلامية جديدة تختلف عن الأنماط السابقة لها، ألا وهو الإعلام الجديد. حيث يجب أن يلعب هذا الأخير دورا كبيرا في نشر الرسالة الإعلامية المرتبطة بالثقافة الشعبية.

يجب على الإعلام الجديد أن يعالج قضايا التراث والثقافة وفق النموذجين التاليين: فالأول يتمثل في القضايا الصحفية والإعلامية التي ترتكز على المتابعة الإخبارية والتغطيات الصحفية، أما الثاني فتمثل النظرة المتكاملة لقضايا التراث وعلاقتها العضوية بالقضايا المجتمعية الأخرى. وعلى هذا الأساس أصبح لزاما على الإعلام الحديث أن يساهم أكثر في التنشئة والتربية والسلوك، إضافة الى تنمية وتشكيل وعي جماعي بأهمية التراث وضرورة المحافظة عليه.

ومن أجل إثراء هذا الموضوع ارتأينا تقديم مجموعة من التوصيات التالية:

  • ضرورة التوجه إلى استحداث مواقع اجتماعية تعنى بحماية الثقافة الشعبية؛
  • استحداث سياسات عمومية محفزة لحماية الثقافة الشعبية مع خلق مجالس علمية وإعلامية متخصصة في هذا المجال؛
  • ضرورة إدراج الجامعات بكل تخصصاتها للمساهمة بالأبحاث والدراسات والاستطلاعات الإعلامية حول كل ماله علاقة بالتنمية وحماية الثقافة الشعبية؛
  • حث مؤسسات المجتمع المدني من خلال أنشطته إلى إعطاء الأولوية للتراث والثقافة الشعبية؛
  • السعي إلى تحويل التراث والثقافة الشعبية إلى مصادر لجلب الثروة محليا وإقليميا ودوليا؛
  • اهتمام الدولة بالأنترنيت، بوضعها وسيلة اتصال مهمة في تناول قضايا التراث والثقافة الشعبية لتكون حلقة وصل بين أفراد المجتمع.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] – محمد خليل الرفاعي، دور الإعلام في العصر الرقمي في تشكيل قيم الأسرة العربية دراسة تحليلية، مجلة جامعة دمشق–المجلد 27 العدد الأول والثاني، 2011، ص: 689
  2. [2] – أديب خضور، الإعلام الثقافي المتخصص: طبيعة العالقة بين الإعلام والثقافة، محاضرة دون تاريخ، ص6
  3. [3] – جيهان أحمد رشتي، الأسس العلمية لنظريات الإعلام، دار الفكر العربي القاهرة، 1978، ط2، ص.305
  4. [4] – بوعلي نصير، بمساهمة أحمد عبدلي وآخرون، قراءات في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، منشورات مكتبة اقرأ قسنطينة الجزائر، ط1، ص: 216.
  5. [5] – خليل صابات، وسائل الإعلام نشأتها وتطورها، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة، 1972، ص. 16.
  6. [6] – عباس مصطفى صادق، الإعلام الجديد : المفاهيم والوسائل والتطبيقات، عمان، دار الشروق للنشر والتوزيع،2008، ص 29.
  7. [7] – مجلة الثقافة الشعبية،2019
Scroll to Top