دور الرحلة العلمية في تطور الدرس اللغوي بالمغرب الأقصى

طالب باحث في سلك الدكتوراه
تكوين الدكتوراه: لغات، ثقافات وتواصل
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول بوجدة – المغرب
بإشراف الأستاذين: د. مصطفى اليعقوبي – د. فريد أمعضشو

ملخص

يتناول هذا المقال موضوعا تراثيا، ذا صبغة معرفية، يتعلق بالرحلة العلمية إلى المغرب الأقصى، خلال عَصْري المرابطين والموحدين. ويروم تسليط الضوء على دور هذه الرحلة في نشر علوم اللغة عموما، وعلم النحو بشكل خاص، بالمنطقة؛ إذ سجلت كتب التراجم رحلة عدد كبير من علماء اللغة والنحو صوب حواضر المغرب العلمية آنذاك؛ كمراكش وفاس وسبتة، سواء من أجل الطلب المعرفي أو بغاية التدريس، وذلك من شتى أقطار العالم الإسلامي، وعلى رأسها الأندلس. وقد حرّكت هذه الرحلة عوامل عديدة، يتداخل فيها الثقافي والحضاري، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي. كما اتخذت أشكالا مختلفة؛ بالنظر إلى موطن المرتَحِلين، أو الأهداف التي دفعتهم إلى الارتحال صوب المغرب الأقصى. والحقيقة أن هذه الرحلات كان لها دور بارز في ازدهار الحركة العلمية والثقافية بحواضر المغرب، كما أسهمت - بشكل فعال - في نشأة علم النحو بالمغرب وتطوره، وبفضلها تقوّت الأواصر الثقافية والعلمية بين المراكز العلمية بالمغرب من جهة، وبينها وبين نظيراتها في الأندلس وباقي أقطار شمال إفريقيا من جهة ثانية. وقد بدأت المقال بمقدمة تناولت فيها مفهوم "الرحلة" وأهم أنواعها، بما فيها الرحلة العلمية اللغوية، وبينت فيها، أيضا، مدى اهتمام المغاربة بالعربية وعلومها، والإسهام البارز للرحلة في نشأتها وتطورها. وقسمت صلب البحث إلى أربعة محاور؛ بحيث أفردتُ ثلاثةً منها لإبراز معالم الحركة العلمية - ولاسيما اللغوية - بفاس ومراكش وسبتة، وجردِ لائحة بأسماء علماء النحو واللغة الذين ارتحلوا صوبها، سواء خلال مرحلة الأخذ أو العطاء، وقد اعتمدت في هذا على أهم كتب التراجم، التي ترجمت لنُحاة هذه الحقبة ولغويِّيها، وبالتحديد كتاب "بغية الوعاة" للإمام السيوطي (ت 911هـ). أما المحور الأخير، فجمعْتُ فيه أبرز الخلاصات المتعلقة برِحْلات اللغويين إلى المغرب؛ عبر التركيز على أنماط هذه الرحلات، والبواعث المشجِّعة على خوض غمارها..

Abstract

This article deals a traditional topic, related to the linguist’ journey to the scientific capitals of Morocco (Marrakesh, Fes, Ceuta) during the middles ages. During this period, these cities achieved great prosperity and development in the political and cultural field. One manifestation of this is the emergence of a scientific and cultural movement; linguistics is one of the most important sciences that activated this movement at the time. The scientific journey is the most important factor for its development and prosperity. This scientific journey resulted from many intertuned cultural, civilizational, political, social and economic factors. It was divided into different types, according to the travelers homeland and the goals that prompted their journey to Morocco. The truth is that these scientific journeys played a prominent role in the prosperity of the scientific and cultural movement in Morocco, And they also contributed to the emergence of the science of grammar in Morocco. Thanks to it, the relationship between Moroccan scientific centers and their Counter parts in Andalusia and North Africa is strengthened. I started this research with an introduction in which I talked about the journey, its importance in the study and dissemination of knowledge and its role in the spread of linguistics in Morocco. The research was divided into four axis: 1, 2 and 3: the cultural situation of these cities during the middles ages. And inventory of linguists who left for Morocco during this period. The axis 4: study the lives of these flags and try to extrat the most reasons that encouraged them to move to Morocco.

مقدمة

تعدّ الرحلة[1] فعلا أساسا ومهما في النشاط البشري على مر العصور والأزمان، وهي عملية انتقال الفرد – أو الجماعة – بإرادته الفعلية من موطنه الأصلي إلى موطن آخر، وعزمه على تخطي حدود المكان الذي ينتمي إليه، سواء أكانت داخلية أم خارجية. وهي تنتج عن رغبة في تحقيق أهداف محددة؛ منها تحقيق المتعة والاكتشاف، أو لمقاصد روحية ودينية، أو لأسباب اجتماعية وأمْنِية… كما يمكن أن يكون العلم محرِّكها الأساس، وأهم بواعثها.

لقد كانت الرحلة العلمية في العصور القديمة، والوسطى على الخصوص، من أبرز مصادر الثقافة والمعرفة؛ بسبب قلة مصادر التثقيف والتعلم التقليدية، من مدارس ومراجع وكتب وغيرها آنذاك؛ إذ كان من المفروض – وإن لم نقل: من الواجب – على من يريد أن يطلب علما، أو يتصف بصفة “العالِم” في أي تخصص كان، أن يحمل رحاله صوب الحواضر العلمية القليلة البعيدة، ويتحمل عناء السفر والتنقل من منطقة إلى أخرى. وقد كانت الرحلة هي التي تحدد منزلة العالم ضمن تخصُّصه؛ إذ بقدر كثرة البلدان التي ارتحل إليها، والعلماء الذين جالسهم وأخذ عنهم، تكون مكانته العلمية.

وشكلت الرحلة عاملا رئيسا في نشر العلوم والمعارف؛ فعلم النحو – مثلا – كان، في بدايته، حبيس رقعة جغرافية محددة، ولكنْ، بفعل ارتحال الطلبة إلى علمائه البارزين، وكذا تنقل العلماء أنفسهم إلى مواطن أخرى، انتشر هذا العلم، وكثر المنتسِبون إليه، واتسعت حركة الاشتغال به، والتدوين والتصنيف فيه. وقد دخل بلادَ الأندلس خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، بعد رحلة بعض أبناء الأندلس صوب المشرق؛ كجودي بن عثمان ويحيى المهلبي وغيرهما[2]، لتبْرُز، بعد عودتهم إلى موطنهم ذاك، حركة لغوية ونحوية أفرزت نُحاة أندلسيين كبارا. وبسبب الاندماج السياسي والتقارب الثقافي بين المغرب الأقصى وبلاد الأندلس، هاجر عدد من أولئك الأعلام نحو حواضر المغرب، وعلى رأسها مراكش وسبتة وفاس[3]، التي زرعوا فيها البذور الأولى لعلوم اللغة. ينضاف إلى ذلك رحلة بعض المغاربة إلى المشرق والأندلس. وبعد توطن هذا العلم بالمغرب، صارت حواضره قِبلة للمتعطشين إلى التبَحُّر في اللغة والنحو.

وفي هذا السياق، يندرج مقالُنا، الذي نروم من خلاله تتبع أعلام اللغة والنحو المرتَحِلين إلى المغرب الأقصى إبّان فترة ازدهاره، خلال عهْدَيِ المرابطين والموحدين، وتبيان طبيعة إقامتهم ونشاطهم اللغوي والنحوي بثلاثٍ من حواضره، ذكرْناها في الفقرة السابقة. ولأن حصْر كل اللغويين والنحاة المرتحلين صوب حواضر المغرب أمر صعب للغاية، ويستدعي البحث والتنقيب في كتب التراجم على كثرتها، فقد حَرَصْت على تتبع أولئك الأعلام في مصدر واحد، وهو كتاب “بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة” للإمام جلال الدين السُّيوطي (ت 911هـ)؛ لكونه من أهم المظانّ التي ترجمت لأعلام تلك الفترة، كما أنني اكتفيت -فقط- بمَنْ أثبت السيوطي ارتحالهم إلى الحواضر الثلاث بصريح العبارة. 

ولا شك في أن هذه الرحلات العلمية تقْبَع وراء تطورها عدة عوامل، ومما لا ريب فيه، أيضًا، أنها تتخذ صُورا وأنماطا متعددة، كما كانت لها تأثيرات في البِيئة الثقافية والعلمية بالمغرب الأقصى، وهذا ما يجعلنا نطرح التساؤلات الآتية: ما العوامل المشجِّعة على الرحلة صوب المغرب الأقصى؟ وما أنماط هذه الرحلة؟ وما أهم تأثيراتها في البيئة المذكورة؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات، سنحاول أن نوظّف في دراستنا منهجا تاريخيا تحليليا؛ نعتمد فيه على البحث والتنقيب عن اللغويين الذين أثبت السيوطي ارتحالهم وهجرتهم إلى المغرب في مصنفه “بغية الوعاة”، وتحليل المعطيات التاريخية المجموعة، ثم استخلاص النتائج في نهاية المطاف. وقد قسّمت عملي هذا إلى أربعة محاور صغرى، مترابطة ومتكاملة، ثلاثة منها أفردْتُها للتعريف بثلاثٍ من حواضر المغرب البارزة، وجردِ أسماء اللغويين الذين ارتحلوا نحوها، والإشارة إلى مدى إسهامهم في تطور الدرس اللغوي، بصفة عامة، فيها. أما المحور الرابع، فقد أوضحْتُ فيه أبرز العوامل التي شجعت على الرحلة صوب المغرب الأقصى، علاوة على تبيان أهدافها، وأهمّ أنماطها، وفي مقدمتها -طبعا- الرحلة العلمية.

أولا- الرحلة إلى مراكش:

1- التعريف بمراكش ومكانتها العلمية[4]:

تأسست مدينة مراكش، عام 470هـ/ 1062م، وسط المغرب، في عهد دولة المرابطين على يد يوسف بن تاشفين، الذي اتخذها عاصمةَ مُلْكه، وبنى فيها الجوامع والمدارس والقصور، لتصبح – بعد فترة قصيرة – من أشهر الحواضر الإسلامية، وأكثرها ازدهارا في كافة المجالات خلال العصر الوسيط. وتعززت مكانتها السياسة بعد أن اتخذها الموحدون عاصمة لهم أيضا؛ فكانت -بحقٍّ- من أكثر المدن المغربية ثقافة وعلما، وقبلةَ العلماء والأدباء المغاربة والأندلسيين خلال هذه الفترة.

وقد تبوّأت مراكش هذه المكانة العلمية المرموقة؛ بفضل تشجيعات الأمراء والسلاطين في هذا الإطار، ومن مظاهر ذلك بناء عدد كبير من الجوامع والمدارس. ولأن المقام لا يسمح بتَعْداد هذه المعالم والمراكز الثقافية كلها، فإننا سنكتفي بالحديث عن أشهرها فحَسْب، وهو جامع ابن يوسف – والمدرسة التابعة له -، الذي شُيّد من قبل علي بن يوسف المرابطي عامَ 514هـ، الذي أوْلاه حَظّا أوفرَ من عنايته، وجلب إليه أهل العلم والأدب والفكر والفضل؛ فوطِئتْه أقدام المغاربة والأندلسيين، وقد وصفه ليون الإفريقي بـ”أنه في غاية الحُسن”[5]. وللإشارة، فإن الدروس والحلقات العلمية لم تكن تقدَّم أو تنظَّم في المدرسة، بل داخل أسوار الجامع، وهذا سرٌّ من أسرار ارتباط المدرسة بالجامع؛ إذ كانت مخصصة لاستقبال الطلاب القادمين من أماكن بعيدة، وإيوائهم؛ فهي كانت بمثابة “حيّ جامعي”، أو “مدرسة داخلية”؛ بالتعبير المعاصر[6].

وقد حظي هذا المركز العلمي باهتمام أمراء المغرب وسلاطينه المتعاقِبِين؛ فاعتنوا بترميمه وتطويره، وبث الحركة والروح العلمية بين أسواره؛ فكان ميدانا لمناظَرات علمية وسياسية ودينية مشهورة، لعل من أهمها تلك التي درات بين المهدي وفقهاء المرابطين، ومنهم من قَدِم من الأندلس، وقد جرت أطوار هذه المناظرة في حضرة الأمير علي بن يوسف[7]. كما كان ذلك المركز، على امتداد قرون، محجّا للعلماء والطلبة المتعطشين إلى المعرفة في مختلِف المجالات العلمية، ولاسيما ما يتعلق منها بعلم اللغة. ومن أشهر اللغويين، الذين درَّسوا بهذا الجامع، الشيخ أبو موسى الجزولي الصنهاجي (تـ 607هـ)؛ صاحب المقدمة الشهيرة في علم النحو، الذي كانت حلقاته مقصدا للطلبة الصغار، كما العلماء الكبار، ومن أبرزهم أبو علي الشلوبين[8].

2- اللّغويون المرتَحِلون إلى مراكش:

سنستعرض، فيما يأتي، طائفة من علماء اللغة الذين ثبت ارتحالُهم إلى مراكش إبّان حكم المرابطين والموحدين، ولاسيما خلال القرنين السادس والسابع الهجريين، بالاعتماد حَصْراً على كتاب “بغية الوعاة” للإمام السيوطي؛ كما ذكرْنا آنفا:

عبيد الله بن عمر الإشبيلي، الذي تخصص في علم اللغة العربية، وصنف فيه كُتبا، أهمها “اختصار المصباح” و”شرح الدريدية”. وقد أقام بمراكش، وأقرأ بها زمنا، إلى أن توفي سنة 550هـ[9].

– محمد بن عبد الله العبدري القرطبي: وكان موسوعيا؛ بحيث جمع بين الفقه والقراءات واللغة والآداب والنحو الذي كان مبرزا فيه. واشتغل بالتدريس، وعُرف بكونه فَكِه المحاضرة. ألّف شرحين لكتاب “الجُمل”. وقد استوطن مراكش، وحضر مجالس عبد المؤمن، ويُروى أنه أنشد يوما شعرا لم يَرُق للأمير؛ فمنعه منذ ذلك الحين من الحضور، وصَرَفَه عن تدريس أبنائه. وتوفي بمراكش سنةَ 567هـ[10].

– محمد بن عمر الشواشي الشلبي: وكان أستاذا مُجيدا في إقراء العربية والنحو، كما كان شاعرا وكاتبا. هاجر إلى المشرق، ثم رحل إلى مراكش، ومات بها سنةَ 569هـ[11].

– الحسن بن محمد البَطَلْيَوْسِي: وُلد ونشأ في بطليوس الأندلسية، وتخصص في القراءات والنحو، وسكن مراكش، وتصدَّر للإقراء بها، وتوفي سنة 576هـ[12].

– عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي المالقي: وُلد ونشأ بمالَقَة، وكُفَّ بصره في سن الـ17. تصدَّر لتدريس اللغة والنحو، وعظُم صِيتُه. ألّف “الروض الأنف”، وقدم شرحا لكتاب “الجمل”. استُدْعي إلى مراكش، واستقر بها، إلى أن توفي سنةَ 581هـ[13].

– أبو زكريا اللبلي: وُلد بلَبْلَة الأندلسية، وهاجر إلى مراكش صغيرا، وأخذ علم العربية بفاس، كما تبصّر في النحو وأصول الفقه، وقد أدّب ودرّس ابن المنصور، وتوفي سنة 590هـ[14].

– نجبة بن يحيى الرعيني الإشبيلي: ولد بإشبيلية عام 520هـ، ودرَس النحو والقراءات بمراكش، ودرَّس بها أيضا. توفي سنةَ 591هـ[15].

– عبد الجليل بن محمد القرطبي اللبكي: أقرأ القرآن والعربية بوادي آش، وهاجر إلى المغرب، وولي قضاء دكالة، كما سكن مراكش، وأقرأ بها. توفي في حدود 600هـ[16].

– أحمد بن عتيق أبو جعفر البلنسي: وُلِد في بلنسية عام 545هـ، وتبحَّر في اللغة العربية والقراءات والآداب والعلوم القديمة، ووَرَدَ مراكشَ باستدعاءٍ من المنصور، وتوفي سنة 601هـ[17].

– محمد بن عبد العزيز الإشبيلي: درَّس بمراكشَ النحو واللغة، وكان مجلسُه حافلا؛ لتفنُّنه في العلوم، وتوفي بها سنة 601هـ[18].

– أحمد بن علي التُّجيبي الإشبيلي: رحل إلى مراكش، بعد أن ضيَّق عليه قاضي إشبيلية، ودرَّس بها نحْوَ عامٍ، وأقبل عليه الناس هناك، ثم عاد إلى موطنه. وتوفي سنة 602هـ[19].

– محمد بن علي السلاقي: عُرف بتبحُّره في كتاب سيبويه، وحفظه الآداب. رحل إلى مراكش، واشتهر فيها. توفي سنةَ 605هـ[20].

– يوسف بن أحمد الأندلسي المربيطري: ولد في بلدة “مربيطر” الأندلسية، ورحل إلى مراكش؛ حيث أقْرَأ الناس العربية، كما عُنِي بالطب، الذي خدم به الأمراء. توفي سنة 619هـ[21].

– عبد الرحمن بن يخلفتن القرطبي: ولد ببلاد الأندلس عامَ 550هـ، ونزل تلمسان، وعاش بمراكش مدةً، وتوفي بها في 620هـ[22].

– عبد الرحمن بن إسماعيل التونسي: ولد بتونس، ورحل إلى مكة ومصر وإشبيلية، ثم مراكش التي أقرأ بها العربية. توفي سنة 640هـ[23].

– يحيى بن يحيى أبو زكريا الإشبيلي: تخصَّص في النحو، وقد أخذ عن الشّلوبين في قرطبة، التي تركها بعد استيلاء النصارى عليها سنة 633هـ، وسكن مراكش، ودرّس بها. وقد مات عن 60 سنة[24].

ثانيا- الرحلة إلى فاس:

  • التعريف بفاس ومكانتها العلمية[25]:

أُسِّست فاس على يد إدريس بن إدريس عام 192هـ، بعدما ضاقت مدينة وليلي؛ عاصمة مُلكه، على ضفاف وادٍ جارٍ في موقع يزخر بالعيون والبساتين. وانقسمت المدينة إلى جزأين: العدوة الشرقية والعدوة الغربية، وسُميتا – فيما بَعْد – بـ”عدْوة القرويين” و”عَدوة الأندلسيّين”. ومنذ بنائها، صارت أبرز مدن المغرب، وعاصمته السياسية، والدينية، والعلمية. وإنْ كانت – في بعض فترات التاريخ – قد فقدت مكانتها السياسية لصالح مراكش، إلا أنها ظلت دوما عاصمة الثقافة والعلم؛ بفضل جوامعها ومدارسها العديدة…                 

ومن المؤكَّد أن أبرز مراكز فاس العلمية والحضارية، التي استمدت منها المدينة إشعاعها العلميّ، هو جامع القرويين، الذي بنته فاطمة الفهرية عام 245هـ[26]، ليصبح منذئذٍ منارةً للعلماء والطلبة التوّاقين إلى التبحر في مختلف مجالات المعرفة، والقادمين من مختلف مناطق المغرب الكبير وبلاد الأندلس. قال ليون الإفريقي واصفا هذا الجامع: “كان في غاية الكبر، يبلغ محيط دائرته نحو ميل، وله 31 بابا، وحول بناية الجامع أروقة… وبه ثرَيّات عديدة من البرونز… وفي داخل الجامع، على طوال الجدران، يشاهِد المرء فيه كراسيَ مختلفةَ الأشكال، يدرّس عليها العديد من العلماء والأساتذة… ولا يتولى الدروس إلا رجال متضلِّعين في هذه المواد[27]، يتقاضون على دروسهم أجورا عالية حَسَنة”[28].

وكانت ثمة عدة مدارس تابعة لنفوذ الجامع، بلغ عددها 11 مدْرسة، منها: المدرسة البوعنانية، الحلفاويين، الخصّة، المتوكلية، الصهريج، العطارين… هذا، بالإضافة إلى عدد من المساجد، والأروقة، والخزائن العلمية المليئة بعُيون المصنفات العلمية والأدبية. بل إنّ سلاطين بني مرين أنشأوا فروعا للقرويين في مدن أخرى من المغرب؛ للتخفيف من الضغط على الجامع والمدارس التابعة له بفاس. وقامت الدراسة فيه على نظام الكراسي العلمية، التي كثر عددُها، حتى لُقبت فاس بـ”المدينة ذات الـ140 كرسيّ”، وكان يقوم عليها علماء متضلعون من مختلف ميادين المعرفة، يُختارون وَفق شروط ومواصَفات صارمة، أهمها ضبط السنّد العلمي للكتب التي يدرّسونها[29].

وفي الميدان اللغوي، خُصص عدد من الكراسي العلمية للنحو واللغة، منها كرسيان داخل أسوار الجامع نفسه؛ أحدهما سُمي بـ”كرسي النحو”، والثاني عُرف بـ”كرسي الورياكلي”، فضلا عن كثير من الكراسي في المساجد والمدارس التابعة للجامع. وقد تصدر للتدريس بها علماء النحو المبرّزون في زمانهم؛ منهم المغاربة، ومنهم الوافدون من الأندلس وباقي مناطق بلاد المغرب؛ من أمثال ابن طاهر الإشبيلي (ت 580هـ)، وأبي محمد الزقاق (ت 559هـ)[30]

  • اللغويون المرتحلون إلى فاس:

سنذكر، في الآتي، عددا من علماء اللغة الوافدين على فاس، سواء لطلب العلم أو للتدريس، مقتصِرين دائما على مَنْ أثبت السيوطي رحلتهم إليها في “بغية الوعاة”:

– محمد بن حكم الجزامي السرقسطي: ولد ونشأ بسرقُسْطة. أقرأ كتب النحو والفقه. استوطن فاس، وأخذ الناس عنه بها، وولي أحكامها. توفي سنة 530هـ بفاس، وقيل بتلمسان[31].

– أحمد بن محمد العامري الغرناطي (ابن مسعدة): ولد بغرناطة عامَ 468هـ. تخصص وشارك في النحو والأدب والفقه، كما كان كاتبا مُجِيدا. استوطن فاس مدةً، ومات بها سنة 537هـ[32].

– أحمد بن عبد الجليل التدْمُري: يُنسب إلى “تدمر”، الواقعة في بلاد الشام. نحوي ولغوي وأديب. ألف كتبا، منها “التوطئة في النحو”. رحل إلى فاس، ودرّس بها، كما أدّب أولاد الخليفة. توفي سنة 555هـ بفاس[33]

– محمد بن أحمد أبو بكر الإشبيلي (الخدب): ولد بإشبيلية عامَ 512هـ. تبحّر في النحو. وبعد رحلته إلى فاس، اشتغل خياطا، كما درّس “كتاب” سيبويه. ومن تلاميذه ابن خروف؛ النحوي الأندلسي المعروف. توفي بفاس سنة 580هـ[34].

– أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء اللخمي القرطبي: ولد بإشبيلية عامَ 513هـ. نحوي معروف. كان رحْلة في الرواية، وتميز بآراء خاصة. من مصنفاته “المشرق”، و”الرد على النحاة”. أقام مدةً بفاس؛ حيث درّس، ووَلِي قضاءها. توفي بإشبيلية سنة 592هـ[35].

– عبد العزيز بن علي السماتي القرطبي: من أهل إشبيلية، وذكر ابن الأبّار أنه ولد
بقرطبة عام 549هـ. شارك في علوم كثيرة، منها النحو واللغة والتاريخ. أخذ بفاس عن ابن حُنين، ودرَّس بها، توفي بها سنة 624هـ[36].

– محمد بن علي الغساني (ابن العربي): ولد في 682هـ. اعتنى بالنحو والقراءات. أخذ بفاس عن ابن آجروم، ودرّس بمختلف الحواضر الأندلسية. توفي سنة 748هـ[37].

– محمد بن أحمد أبو عبد الله التلمساني: ولد بتلمسان. تخصص في الفقه والتفسير والنحو. رحل إلى معظم أقطار العالم الإسلامي، ومنها فاس[38].

ثالثا- الرحلة إلى سبتة:

  • التعريف بسبتة ومكانتها العلمية[39]:

تقع سبتة في أقصى شمال المغرب، قُبالةَ سواحل أورُبا، ويحيط بها البحر من الشرق والشمال والغرب. وهي مدينة عريقة، يعود تاريخها إلى العهد الروماني؛ حيث كانت فَتْرَتئذٍ حاضرةَ موريطانيا، وحَكَمها القوط فيما بعْدُ، وتمكن المسلمون، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، منْ فتْحها حوالي سنة 89 للهجرة؛ فصارت منذئذٍ إحدى أهم المدن المحصّنة من قواعد المغرب، وصِلَة وصلٍ بين المغرب وبلاد الأندلس؛ بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي، الذي جعلها أقرب إلى الساحل الأندلسي، وكذا مَرْساها الذي كان يعد أجود مرسى على البحر. وبعد سقوط الأندلس بفترة وجيزةٍ، استولى عليها البرتغاليون سنة 818هـ، قبل أن تنتقل إلى حُكم الإسبان، وما زالت – إلى حدّ الآن – محتلّة من لَدُنهم.

وقد عَرفت سبتة، خلال عهدها الإسلامي، نهضة حضارية شاملة. والذي يتصفّح، مثلاً، كتاب “اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سَنِي الآثار”، سيقف – لا محالة – على حجم الازدهار الذي بلغته المدينة، وعاشته؛ فقد كانت تضم 360 فندق؛ مما يدل على كثرة زوارها والمارّين بها، و24000 حانوت؛ مما يعطي فكرة واضحة عن قيمتها الاقتصادية والحضارية، ناهيك عن 47 زاوية…

أما على المستوى العلمي والثقافي، فقد كانت المساجد والجوامع، التي تجاوز عددها فيها الألف، تؤدي مهمتها في التعليم؛ مثل مسجد عياض الجد، ومسجد ابن عبيد. كما كانت المدارس تبنى إلى جوارها لأداء مهمة التدريس، وإيواء الطلبة الوافدين عليها من مختلف الأصقاع للتعلم على علمائها وأساتذتها؛ بحيث يذكر صاحب كتاب “قيام دولة المرابطين” أن المدارس كانت منتشرة بسبتة في العهد المرابطي، ومن أشهرها مدرسة المحدّث علي الشاري الغافقي السبتي، والمدرسة الجديدة التي بناها السلطان أبو الحسن المريني (ت 752هـ)، ووقف عليها أوقافا من كُتب وغيرها، واشتهرت اشتهارا عظيما، وتردد ذِكْرها في عدد من المصادر التي ذَكَرت سبتة.

كما تميزت المدينة بخزائنها العلمية العامرة، التي بلغ عددها 62، منها 08 موقفة على طلاب العلم، وأقدمها خزانة علي الشاري، التي تعد أول خزانة وقفت بالمغرب على أهل العلم، وخزانة الجامع العتيق، التي عُرفت بكثرة المؤلفات بها وتنوع مجالاتها؛ بحيث لم يشذ منها فن من الفنون، ولا نوع من المعارف. وثمة خزانة أخرى بالمدرسة الجديدة، علاوة على الخزائن الأخرى، التي توزعت على مساجد المدينة وجوامعها العديدة[40].

وقد حافظت سبتة على ازدهارها الثقافي خلال كل حقبتها الإسلامية؛ فقد ذكرنا آنفا انتشار المدارس بها إبّان عصر المرابطين. أما على عهد الموحِّدين، فلم تكن مدينة بالمغرب تضاهيها في نشاطها العلمي والقرائي، وكثرة الرجال القارّين بها والوافدين عليها. ووصل هذا الازدهار أوْجَه خلال عهد العَزْفِيِّين؛ بحيث أورد ابن تاويت، رحمه الله، أن “دولة العزفيين كانت دولة علم أكثر منها دولة سياسة”[41]. والحقيقة أن المكانة العلمية، التي حظيت بها هذه المدينة، لا ترجع – في الأساس – إلى العامل السياسي فحَسْبُ، بل إلى الموقع الجغرافي المتميز، الذي جعلها نقطة عبور لعدد كبير من العلماء ورجال المعرفة. ولم يكن عبور العالم كما نفهمه اليوم، وإنما كان معناه الإقراء والأخذ. ناهيك عن أن عددا منهم اختار الاستقرار بالمدينة؛ مثل الحسن بن طريف التاهرتي (ت 501هـ)، الذي يعد من باعِثِي الاهتمام بعلوم اللغة، وعلم النحو خاصة، بسبتة والمغرب الأقصى عامةً؛ بحيث تتلمذ له هناك الكثير من الطلبة، منهم القاضي عياض، وابن أبي الربيع الذي رحل إليها بعد سقوط إشبيلية.

  • علماء اللغة المرتحلون إلى سبتة:

سنُورِد، في الآتي، علماء اللغة الذين أثبت السيوطي تنقلهم إلى سبتة من خارج المغرب الأقصى؛ كما فعلنا مع السابقين:

– محمد بن عبد الله الجزيري: كان مولدُه بالجزيرة الخضراء. وعلاوة على تضلعه من النحو والآداب، كان أحد فحول الشعراء في وقته. أقرأ النحو والآداب بسبتة، ومن أعلام طلبته فيها القاضي عياض اليحْصُبي. توفي بالجزيرة الخضراء سنة 500هـ[42].

– محمد بن عمر الزبيدي الإشبيلي: ولد بإشبيلية. نحوي وأديب وأصولي. درّس بسبتة، ويعد من شيوخ القاضي عياض، وتوفي بها سنة 501هـ[43].

– الحسين بن علي التاهرتي: وُلِد بتاهرت الجزائرية. درس النحو والآداب بسبتة. توفي سنة 501هـ كذلك[44].

– علي بن دُرّي الأنصاري النحوي: ولد بطُلَيْطِلة. سكن سبتة مدة طويلةً، وأقرأ النحو والقراءات، ثم انتقل إلى غرناطة؛ حيث توفي سنة 520هـ[45].

– الحسن بن إبراهيم بن عياش الخزاعي: أستاذ نحوي، درّس بسبتة، وكان يفضّله الناس على غيره. توفي سنة 595هـ[46].

– عبد الرحمن بن علي الجزيري: نحوي وفقيه، أقرأ ببلده الجزيرة الخضراء، ثم استقر بسبتة، وكان ممن رُحِل إليه بها، وأُخِذَ عنه “الكتاب” وغيرُه. توفي سنةَ 605، وقيل: في 608هـ[47].

– أحمد بن محمد القرطبي (ابن أبي حجة): ولد بقرطبة عام 562هـ. اشتغل بتدريس النحو والحديث، وتنقل بين حواضر الأندلس، قبل أن يركب البحر إلى سبتة، وأُسِرَ بَعْدها. توفي في 643هـ[48].

– إدريس بن محمد الأنصاري القرطبي: تضلع من النحو والآداب والقراءات. سكن سبتة، وأقرأ بها، وكان مشكورا في علمه وأدبه. توفي سنة 647هـ[49].

– محمد بن أبي العاص البرجي: ولد في بلدةٍ تقع قرب سرقسطة، تدعى “برجة”. نحوي وأديب ومقرئ. أقرأ بألْمِرْية، ثم اسْتُدْعِي إلى سبتة، قبل أن يرحل إلى تونس، وينقطع خبرُه بدْءا من سنة 646هـ[50].

– عبد الله بن أحمد أبو الحسين بن أبي الربيع: نحوي معروف. ولد بإشبيلية. ولما استولى عليها الإفرنج، رحل إلى سبتة، وعكف بها على التدريس والتأليف إلى أنْ توفي سنة 688هـ[51]

– محمد بن أحمد النميري: ولد بوادي آش. تضلع من النحو والأدب، وكان يقْرِض الشعر. رحل إلى سبتة، ولازم فيها ابن أبي الربيع، الذي أخذ عنه النحو والأدب، ودرّس بها مدة، ثم عاد إلى موطنه، وتولى هناك القضاء. توفي سنة 694هـ[52].

– إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق الغافقي: مولده بإشبيلية عام 641هـ. درس بسبتة على ابن أبي الربيع، وصار لاحقا شيخ النحاة والقراء بها. توفي في حاضرة سبتة سنة 710هـ[53].

– محمد بن علي الجذامي: ولد بالأندلس في 630هـ. درس بسبتة على يد ابن أبي الربيع وغيره، وتصدَّرَ فيما بعْدُ للإقراء بمالقة، إلى أن توفي سنة 723هـ[54].

– إبراهيم بن محمد التنوخي: ولد بطَرِيف عامَ 677هـ. قرأ بسبتة على يد الغافقي وابن زرقون، ودرس النحو. توفي سنة 726هـ[55].

– أبو عبد الله العبدري الغرناطي: متضلع من النحو، ومشارك في الطب. أثرى من التكسب بالكتب. سكن سبتة مدةً، وقرأ على يد ابن الزبير، ورجع إلى غرناطة، وأقرأ بها. توفي سنة 753هـ[56].

– محمد بن عبيدة الإشبيلي: نحوي وأديب وأستاذ مقرئ. نزل سبتة، ودرس بها[57].

رابعا- بواعث الرحلة العلمية إلى المغرب، وأنماطها:

  • البواعث والعوامل المحفزة على الرحلة:

من خلال تحليل تراجم مختلف الأعلام، الذين ذكرناهم سالفا، يمكن إجمال أهم العوامل التي دفعت هؤلاء اللغويين إلى الرحلة صوب حواضر المغرب الأقصى فيما يأتي:

– الازدهار الحضاري والثقافي الذي عرفته بعض الحواضر المغربية على عهد المرابطين والموحدين؛ إذ قد كان جل الأمراء والسلاطين يسعون إلى مجاراة المشرق، والتفوق عليه، وشكّل العلم مجالا مهمّا من مجالات إظهار الشخصية المغربية. ولعل من مظاهر ذلك استدعاء الأمراء والحُكّام بعض الأعلام من الأندلس، وباقي أقطار بلاد المغرب؛ لتأديب أولادهم، أو لتنشيط مجالسهم… ومن هؤلاء أبو جعفر البلنسي[58]، الذي ورد مراكش باستدعاءٍ من المنصور.

– اتساع رقعة الدولة المغربية: بحيث كانت مناطق شاسعة من شمال إفريقيا وبلاد الأندلس تابعة لحكم الدولة المركزية بالمغرب؛ الأمرُ الذي سهّل عملية تَرحال علماء اللغة، وتنقلهم صوب المراكز العلمية بالمغرب الأقصى.

– تولي بعض اللغويين مناصب ووظائف بهذه المدن والحواضر، وبخاصةٍ وظيفتا القضاء والتدريس، ومن أشهر هؤلاء ابن مضاء القرطبي، الذي ولي قضاء الجماعة بفاس، ودرّس بها أيضا[59]؛ وأبو محمد الحضرمي الإشبيلي، الذي رحل إلى مراكش، ودرّس بها اللغة العربية والنحو[60].

– السعي إلى الأخذ عن علماء اللغة الموجودين بالمدن المغربية، والحصول على السند العلمي للكتب والمصنفات النحوية، وقد عُدَّ ذلك أمرا ضروريا في تلقي العلوم، وبمثابة حيازة “الشهادة” بلغة العصر. ومن المرتحلين لهذا السبب نذكر أبا عبد الله الغساني، الذي أخذ بفاس -مثلا- عن ابن آجروم الصنهاجي.

– الرحلة لأسباب سياسية، تجلت أساسا في استيلاء النصارى على بعض المدن الأندلسية؛ كما حدث لابن أبي الربيع الإشبيلي السبتي، الذي رحل إلى سبتة بعد سقوط إشبيلية[61]. ويُلحَق بهذا الداعي الرحلة لأسباب أمنية خاصة؛ مثلما وقع لأبي القاسم التُّجِيبي الإشبيلي، الذي رحل إلى مراكش، بعد أن ضيَّق عليه أبو حفص بن عمر؛ قاضي إشبيلية[62].

– الرحلة لأسباب اجتماعية؛ كهجرة الأسرة إلى المغرب لسبب ما؛ كما حدث مع أبي زكريا اللبلي، الذي انتقل إلى مراكش صغيرا رفقة أسرته، وأخذ فيما بعْدُ علم النحو بفاس[63].

  • أنماط الهجرة العلمية نحو الحواضر المغربية على عهْدَي المرابطين والموحدين:

يمكن أن نتحدث، باعتبار الموطن الأصلي للمُرْتَحِل، عن نمطين اثنين من الرحلة:

– الرحلة العلمية من الأندلس: فبتصفُّح سريعٍ لأسماء هؤلاء المرتحلين من علماء اللغة صوب المغرب الأقصى، يبدو – بشكل واضح – أن معظمهم ينحدر من مدن الأندلس. وهذا يرجع – كما ذكرنا آنفاً – إلى أنّ هذه البلاد قد كانت جزءا من الدولة المغربية، مع ما يستتبعه ذلك من سهولة التنقل والحركة. ومن الأندلسيين الذين ارتحلوا إلى المغرب أبو علي البطليوسي، وأبو بكر العبدري، وأبو جعفر السرقسطي، وأبو بكر الإشبيلي.

– الرحلة العلمية من شمال إفريقيا: على الرغم من التقلبات السياسية التي عرفتها هذه المنطقة، وكثرة الدول التي تعاقبتْ على حُكمها، إلا أن العلاقة ظلت وطيدة ومستمرة بين الحواضر العلمية في هذه المنطقة الممتدة؛ فقد ظلت القيروان وتلمسان وفاس وسبتة متعلقة ببعضها بعضاً ثقافيا وعلميا… ومَنْ يتتبّع الكتب، التي تَرجمت لأعلام اللغة المنحَدِرين من المغربيْن الأوسط والأدنى وسائر أرجاء الشمال الإفريقي، سيجد أن عددا منهم قد ارتحل إلى مدن المغرب الأقصى؛ للطلب المعرفي أو للتدريس، ومنهم – على سبيل التمثيل لا الحصر – الحسين بن علي التاهرتي، الذي يعد من واضعي البذور الأولى للدرس النحوي بسبتة والمغرب الأقصى عموما[64]؛ وأبو القاسم بن الحداد التونسي، الذي رحل إلى مراكش، وأقرأ بها النحو[65].

أما فيما يخص رحلة اللغويين من المشرق نحو المغرب الأقصى، فهي قليلة جدا؛ بحيث إننا، بعد تصفحنا كتابَ “بغية الوعاة”، لم نعثر فيه على أي لغوي مشرقي، رحل إلى المغرب الأقصى، سوى شخص واحد، اسمُه أبو العباس التدمري[66]، الذي رحل إلى مراكش، وأدّب أولاد صاحبها، كما استوطن فاس مدة من الزمن. والمُلاحَظ أنه ينسب إلى بلدة “تدمر” الشامية، ولكنْ لا دليل على أنه قد وُلد أو نشأ بها؛ مما يجعلنا نتحفظ على نسبته إلى الشام أو المشرق. ولعل من أبرز أسباب نَدْرة رحلات لغويِّي المشرق نحو المغرب بُعْد المسافة، وكثرة المراكز العلمية والثقافية بالمشرق خلال هذه الفترة خصوصا؛ مما أغنى المشرقيين عن الرحلة إلى أقطار أخرى، والعلماءُ كانوا يأتون إليهم، ويَقصدونهم من كل حدب وصوب؛ مما جعل المشرق مركز الحضارة العربية الإسلامية، مع ما في ذلك من تهميشٍ للأقطار الأخرى.

ويمكن أن نقسّم رحلة اللغويين نحو المغرب، بحسب الغاية منها؛ فنميز – في هذا الإطار – بين نمطين اثنين منها:

– رحلة طلب العلم؛ بحيث كانت مدن المغرب مراكزَ علمية، تستقطب عددا من طلبة علوم اللغة من الأقطار المجاورة؛ بفضل ما كانت تتوافر عليه من جوامع ومدارس، تقدم التعليم والإيواء، وبفضل احتوائها على علماء متخصصين في علوم اللغة عامة، وفي النحو خاصة. وممّن وفد على المغرب لغاية التعلم والأخذ أبو عبد الله الغساني، الذي رحل إلى فاس، وأخذ بها عن ابن آجروم؛ وإبراهيمُ بن محمد التنوخي، الذي سكن سبتة مدةً ليتتلمذ لأساتيذها؛ كالغافقي وابن زرقون[67]. والملاحَظُ أن سبتة كانت رائدة في استقطاب طلبة علوم اللغة والنحو من الأندلس؛ بسبب القرب الجغرافي بين المنطقتين، وتشجيع الأمراء العزفيين على العلم والثقافة.

– الرحلة للتدريس والإقراء؛ بحيث حَجَّ عددٌ مِمّن اشتهر في النحو واللغة بالأندلس وشمال إفريقيا إلى المغرب ليدرِّسوا، ويُقْرِئوا الكتب في مدارسه وجوامعه. وتعد مراكش رائدة في استقبال هذا الصنف من المرتحلين، ولاسيما في زمن المرابطين والموحدين، حين كانت المدينة عاصمة المغرب سياسيّا. وممن اتخذها قِبلةً له أبو بكر بن عبد العزيز الإشبيلي، الذي أقرأ بها إلى أن مات، وقد كان مجلسه حافلا؛ لتفنُّنه في علوم شتى[68]

على سبيل الختم:

يتضح، بعد كل هذا، أن الرحلة بقَدْر ما كانت نَتاج بِيئة ثقافية وعلمية، عرفها المغرب إبّان حكم المرابطين ثم الموحدين، كانت أيضًا عاملا بارزا وحاسما في ازدهار هذه البيئة أكثر، ولاسيما فيما يتعلق بعلوم اللغة والنحو. وقد رأينا كيف شجّعت عوامل متعددة على رحلة الكثير من اللغويين إلى حواضر المغرب الأقصى، سواء من الأندلس أو من باقي مناطق بلاد المغرب؛ منها ما هو سياسي، يتمثل في انتفاء الحدود الجغرافية، وتشجيع السلاطين والأمراء العلماءَ على التنقل والتَّرحال إلى المغرب؛ لتنشيط المجالس، أو للتعليم، أو لتولي الوظائف. ومنها ما هو حضاري، يتجلى في الازدهار الثقافي والعلمي الذي عرفته حواضر المغرب، بالإضافة إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وأمنية، أشرنا إلى بعض تفاصيلها بين ثنايا هذا المقال.

أما من حيث أصنافُ الرحلة العلمية إلى المغرب، فتنقسم – من حيث مَوْطِن المرتحل – إلى قسمين؛ رحلة من الأندلس، ورحلة من باقي مناطق شمال إفريقيا، وقد هيمن النوع الأول؛ بسبب الاتصال الكبير الذي كان بين الأندلس والمغرب الأقصى، ولأنّ بلاد الأندلس كانت مركزا حضاريا مهمّا في الغرب الإسلامي عصرئذٍ. وتنقسم، أيضا، من حيث الهدف منها، إلى صنفين؛ الصنف الأول يتعلق بالرحلة من أجل الدراسة والتعلم، ويرتبط الصنف الثاني بالرحلة من أجل التدريس.   

وقد أسهم هؤلاء الأعلامُ، المرتحلون صوب مراكش وفاس وسبتة، في وضع اللبنة الأولى في صَرْح الدرس اللغوي والنحوي بالمغرب، الذي عرف بعض التأخر مقارنةً بباقي أنحاء العالم الإسلامي، بحيث درَّسوا الطلبة المتعطشين إلى العربية وعلومها؛ فتكوَّن على أيديهم لغويّون كبار، شُدَّت إليهم – فيما بعد – الرِّحال من مختَلِف المناطق، كما رحلوا بدورهم إلى الأندلس والمشرق، وأسهموا فعليّا في التلاقح الثقافي بين حواضر العالم الإسلامي.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1]– انظر في تعريف “الرحلة” لغويا:
    – ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1979، مادة “ر ح ل”.
    – ابن منظور، لسان العرب، تح: مجموعة من الأساتذة، دار المعارف، القاهرة، د. ت، مادة “ر ح ل”.
    [2] – المختار محمد ولد باه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2008،
    ص: 223.
    – شوقي ضيف، المدارس النحوية، دار المعارف، القاهرة، ط7، د. ت، ص: 290. 
    [3] – أحمد الزواوي، أبو موسى الجزولي، مطبعة موناستير، المحمدية، د. ت، ص ص: 10-11.
    [4] – للاطلاع على تاريخ مراكش، ومكانتها الثقافية والعلمية، انظر مثلا:
    – ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977، 5/94؛
    – ليون الإفريقي (الحسن الوزان)، وصف إفريقيا، تر: محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1983، 1/127-128.
    [5] – وصف إفريقيا، 1/127.
    [6] – محمد السروتي، المراكز العلمية والحضارية بالغرب الإسلامي: جامع ابن يوسف، مقال منشور في موقع “الرابطة المحمدية للعلماء”. تم الاطلاع عليه بتاريخ: 26/12/2023
    https://www.arrabita.ma/museums_cartes/cartes/marrakech/pages%20web/chawiya/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%B2%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9%20%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%20%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%20%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81.html
    [7] – عبد الواحد بن علي المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، شرح واعتناء: صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، صيدا، ط1، 2006، ص: 139. وانظر أيضا: عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط2، 1970، 2/290.
    [8] – محمد المنوني، العلوم والفنون والآداب على عهد الموحدين، دار المغرب للتأليف، الرباط، ط2، 1977، ص: 25.
    [9] – جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط2، 1979، 2/127.
    [10] – جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، 1/147.
    [11] – نفسه، 1/202.
    [12] – نفسه، 1/521.
    [13] – نفسه، 2/81.
    [14] – نفسه، 2/332.
    [15] – نفسه، 2/312.
    [16] – جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، 2/73.
    [17] – نفسه، 1/334.
    [18] – نفسه، 1/160.
    [19] – نفسه، 1/340.
    [20] – نفسه، 1/196.
    [21] – نفسه، 2/354.
    [22] – جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، 2/91.
    [23] – نفسه، 2/78.
    [24] – نفسه، 2/332.
    [25] – انظر في تاريخ المدينة، ومكانتها العلمية:
    – ليون الإفريقي، وصف إفريقيا، م.س، 1/218؛
    – ياقوت الحموي، معجم البلدان، م.س، 4/230؛
    – أحمد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تح: جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954، 1/220 وما بعدها.
    [26]– أحمد بن شقرون، أرجوزة من زهر الآس عن جامع القرويين بفاس، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1994، ص: 15.
    [27] -يقصد المواد المقررة في التدريس، وهي متعلقة بالعلوم الأخلاقية والروحية المتصلة بالشريعة الإسلامية.
    [28]– ليون الإفريقي، وصف إفريقيا، 1/224.
    [29]– عبد الهادي التازي، جامع القرويين، دار نشر المعرفة، الرباط، ط2، 2000، م2، ص: 343 – ص: 402 – ص: 368، بتصرف.
    [30] – المرجع نفسه، ص: 403 – ص: 429.
    [31] – السيوطي، بغية الوعاة، 1/96.
    [32] – نفسه، 1/373.
    [33] – نفسه، 1/321.
    [34] – السيوطي، بغية الوعاة، 1/28.
    [35] – نفسه، 1/323.
    [36]– نفسه، 2/199.
    [37] – نفسه،1/186.
    [38]– نفسه.
    [39]– ليون الإفريقي، وصف إفريقيا، 1/316-317؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/183؛ ابن القاسم السبتي، اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار، تح: عبد الوهاب بن منصور، الرباط، ط2، 1983.
    [40] – ابن القاسم السبتي، اختصار الاخبار عما كان كان بثغر سبتة من سني الآثار، ص ص: 29-30.
    [41] – ابن تاويت الطنجي، تاريخ سبتة، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1982، ص: 119.
    [42] – بغية الوعاة، 1/150.
    [43] – نفسه، 1/199
    [44] – نفسه، 1/513.
    [45] – نفسه، 2/188.
    [46] – نفسه، 1/293.
    [47] – بغية الوعاة، 2/84.
    [48] – نفسه، 1/383
    [49] – نفسه، 1/436.
    [50] – نفسه، 1/123.
    [51] – نفسه، 2/125.
    [52] – نفسه، 1/42.
    [53] – بغية الوعاة، 1/405.
    [54] – نفسه، 1/187.
    [55] – نفسه، 1/424.
    [56] – نفسه، 1/233.
    [57] – نفسه، 1/170.
    [58]– بغية الوعاة، 1/334.
    [59]– نفسه، 1/323.
    [60]– نفسه، 1/186.
    [61]– بغية الوعاة، 2/125.
    [62]– بغية الوعاة، 1/340.
    [63] – نفسه، 2/332.
    [64] – بغية الوعاة، 1/513.
    [65] – نفسه، 2/78.
    [66] – نفسه، 1/321.
    [67] – بغية الوعاة، 1/424.
    [68] – بغية الوعاة، 1/160.
Scroll to Top