المغرب المجهول المستكشفون والرحالة الأجانب بحث في آليات المعرفة والسلطة
طالب باحث بسلك الدكتوراه
مختبر تاريخ، تراث، لغات وعمارة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة - المغرب
أستاذ التعليم العالي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب
ملخص
سنحاول من خلال هذا المقال أن نسلط الضوء على موضوع نراه بالأهمية بما كان والمتعلقة بدور الأجانب في بلورة تاريخ المغرب. لقد عرفت الحقبة المعاصرة من تاريخ المغرب وفود رحالة ومكتشفون وعلماء من مختلف المناحي العلمية والمشارب الفكرية والأيديولوجية والذي كان هدفهم واحد هو بلورة نظرية علمية عن المغرب المعاصر وقراءة المغرب في ظل نظريات علمية خلقها هؤلاء العلماء وادعوا علميتها وحقيقة نتائجها في الواقع سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وقد عملت هذه النظريات العلمية ولمدة طويلة باعتبارها البوصلة التي كان لزاما على كل عالم حاول البحث أو التنقيب في تاريخ المغرب أن يعمل بها وأن يحدد من خلالها موقعه وأفكاره ومواقفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد انطلقت هذه الدراسات مما اعتبرته هذه المرجعية حقائق. لكن إلى أي حد كانت هذه الفرضيات التي تبنتها هذه النظريات علمية؟ وإلى أي حد أثرت هذه النظريات وهذه الفرضيات في تاريخ ومستقبل المغرب؟ إن الإشكالية التي نريد بسطها في هذا المقال هو بيان مدى موضوعية هذه النظريات وهذه الدراسة التي قدمها الأجانب حول المغرب وهل فعلا كان هدفها دراسة المغرب من أجل بناء معرفي صرف أم هدف استعماري إمبريالي بحت.
Through this article, we will try to highlight a topic that we consider to be of great importance and related to role of foreigners in shaping Morocco’s history. The contemporary era of Moroccan’s history has witnessed the arrival of travelers, explorers and scientists from various scientific backgrounds and ideological walks whose goal was to develop a scientific theory of contemporary Morocco and to interpret the country in light of the scientific theories created by these scholars, they claimed the scientific validity of these theories and the truth of their outcomes concerning reality whether in the past, present, or future. These scientific theories have operated for a long time as the compass that every scholar seeking to research and explore in Moroccan’s history had to use it to determine their position, ideas and consent. These studies have been launched from what it considers to be facts. However, to what extent were these hypotheses embraced by these theories were scientific? Moreover, to what extent did these theories and hypotheses affected the history and future of Morocco.
كلمات مفتاحية: المغرب، فرنسا، الاستكشاف، البحث العلمي، الرحالة، الاستعمار، السلطة، التطويع، المجهول.
Keywords : Morocco; France; Exploration; Scientific Research; Explorer; Colonization; Authority; Adaptation; The Unknown.
مقدمة
كيف تحول المغرب إلى موضوع للمعرفة؟
إن الإشكال الذي يطرحه هذا المقال، هو كيف تحول المغرب في حقبة ما قبل الحماية إلى موضوع للمعرفة؟ وما هو أثر هذه المعرفة على مصير المغرب؟ وعلى مستقبله السياسي والمعرفي؟
لقد دخلت الجزائر في استعمار مباشر ابتداء من 1830، حيث كانت الحركات الإمبريالية للدولة العظمى في أوجها وفرنسا في قوتها العسكرية، السياسية والاقتصادية، رغم المشاكل الداخلية التي كانت تعاني منها. لهذا لم يكن استعمار الجزائر إلا نقطة بداية للاستعمار شمال أفريقيا برمتها باعتبارها الثمرة التي حاولت وعملت فرنسا على إنضاجها لكي تقطفها[1].
لهذا كانت العين دائما على المغرب ذلك البلد المجهول، صحيح أن الجزائر هي قلب شمال افريقيا، لكن المغرب له موقع جيو-استراتيجي مهم فهو على واجهتين بحريتين، البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وأنه قد تعرض للغزو من قبل الدول العظمى “البرتغال” و”إسبانيا”، وأن استعماره من طرف فرنسا يجعلها تتحكم ليس فقط في الثروة “ثروة المغرب الاقتصادية”، بل يجعلها تتحكم في المبادلات البحرية والتجارية، ويجعلها تسيطر على هذه القبلة المهمة والتي طالما كانت تمني النفس بها، إضافة الى ذلك فهذه السيطرة تمنحها مراقبة إسبانيا وإنجلترا.
لكن السؤال هل يمكن استعمار المغربي بالطرق التقليدية والعسكرية فقط؟
إن المغرب بعيون الأجانب ظل دائما مجهولا بالنسبة للآخر، مجهولا في ثقافته وفكره ودينه، وظل كذلك لغزا حاول الآخر اكتشافه من أجل استغلاله[2]، لهذا حاولت فرنسا قبل أن ترسل جيشا عسكريا للاستعمار والاستغلال أرسلت جيشا من الرحالة والمستكشفين الأجانب بمختلف علومهم، السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية والاثنوغرافيا والجغرافيا[3] وغيرها من العلوم التي من خلالها عملت فرنسا على دراسة المغرب من أجل استغلاله واستعماره بشكل جيد، خاصة وهي تعلم علم اليقين درجة المقاومة التي تعرض لها الغزو الأجنبي للمغرب ومدى بسالة وقوة المجتمع المغربي وتماسكه. لهذا نجد أن الرحلة والبعثات العلمية الفرنسية كان لها الدور الكبير في فهم “الآخر وشكلت المعرفة والسلطة علاقة جدلية مهمة في توليد نظام للمراقبة والضبط والعقاب، حيث كانت المعرفة في خدمة أهداف ليست علمية، بل أهداف استعمارية-إمبريالية.
- جدلية المعرفة والسلطة
لقد اجمعت الدراسات[4] المرتبطة بهذا المجال بأن النظرة الماقبل الكولونيالية كانت تحاول جعل المعرفة العلمية العالمية معرفة كولونيالية في صالح المستعمر، الغرض الأساس منها هو تطويق أو لنَقُل تطويع الشعوب وجعلها خاضعة للدراسة وللتفسير وهنا أستخدم كلمة التفسير لأنها تنحو منحى علمي- إمبريقي، ذلك أن جل الدراسات التي تناولت العادات والتقاليد والأفكار والمعتقدات والذهنيات كانت تنحو إلى الاتجاه الوضعي- السوسيولوجي مدرسة إيميل دوركايم وأوغست كونت في السوسيولوجيا، مارسيل موس وغيرهم في الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا والتي كانت شعارهما معالجة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء[5].
إذن المنهج الذي اتخذته هذه المدارس كان منهجا يؤمن بالمقدمات العلمية الملاحظة العلمية الدقيقة ثم الفرضية التي تطرحها الدراسة، ثم التجارب وصولا إلى القانون العام المتحكم في الظاهرة[6].
طبعا هذا المنهج الذي استعاره الباحثون في مجال العلوم الإنسانية من العلوم الحقة ابتداء من القرن التاسع عشر نجد صداه عند كل من أوغست كونت Auguste Comte 1798-1857الذي يعتبر المؤسس الروحي لعلم الاجتماع الفرنسي، ثم عند دوركايم Emile Durkheim 1858-1917في كتابه الشهير قواعد المنهج في علم الاجتماع، والذي يعتبر المؤسس الحقيقي والمقعّد للظاهرة السوسيولوجية وللقوانين العلمية التي أصبحت أساس البحث السوسيولوجي.
لهذا يمكن القول أنه إلى جانب العنف العسكري والقوة العسكرية التي كانت فرنسا مستعدة كدولة استعمارية لتوفيرها من أجل إخضاع المغرب، ظهرت هناك حاجة ماسة إلى قوة علمية عالمة، لكن هذه القوة الهدف منها هو تطويع المغرب واكتشافه وضبطه علميا ومعرفيا من أجل استعماره.
وهذا ما سيولد حتى داخل فرنسا صراعا بين مدرستين أو اتجاهين أيديولوجيين حيث سيكون الصراع بين ما عرف بمدرسة الجزائر التي يعتبر “إدموند دوتي” Edmond Doutte أحد المؤسسين لها والتي كانت تعتبر أن مسألة استعمار المغرب مسألة ضرورية وحتمية تاريخية لا مناص منها، فالجزائر هي طريق لاستعمار المغرب لهذا كانت هذه المدرسة “مدرسة دوتي” تدعوا إلى معرفة المغرب معرفة علمية وإحصاء كل شيء؛ الخيول، البنادق، إحصاء الأفراد، معرفة المناطق، والتعرف على العادات والتقاليد من أجل الإفادة الإخبارية أو الإفادة الاستخباراتية.
ثم المدرسة الثانية، فقد تمثلت في “لوشاتولييه” Alfred Le Chatelier 1855-1929الذي يعتبر المؤسس الروحي لها والتي كانت تدعوا إلى إخضاع المغرب بطريقة سلمية للاستعمار الفرنسي.
ويمكن إجمالا القول بأن هاتين المدرستين عملتا على ثلاث محددات كبرى:
أولا: العمل على اكتشاف البلاد وخيراتها الفلاحية والثروات المعدنية ومناطق الرعي ونقاط المياه والقدرات العسكرية واللوجستيكية ومعرفة الإنسان ومدى تقلب مزاجه وفكره والتعرف على الذهنيات والتدين.
ثانيا: إنجاز معرفة علمية دقيقة كان الهدف منها الوصول إلى قوانين متحكمة بالظاهرة البشرية والتي اعتبر المستعمر أن التحكم في هذه القوانين يعني التحكم في الأفراد لهذا أنجزت دراسات لغوية-أنثربولوجية، وإثنولوجية وإثنوغرافية وسوسيولوجية دينية-حضرية من أجل ضبط الإنسان.
ثالثا: هذه المعطيات التي تم تجميعها كان الهدف هو تقديمها للإدارة الفرنسية من أجل تسهيل التوغل داخل المغرب وجعله لينا طيعا في يد الفرنسيين من جهة، ومن جهة أخرى تحفيز المعمرين الفرنسيين لزيارة المغرب والقدوم إليه ولاستيطانه باعتباره البيت الجديد لفرنسا[7].
هكذا حولت الدراسات الكولونيالية المغرب إلى مستعمرة قابلة للسيطرة عليها وذلك من خلال فهمها والتعرف عليها.
- إدموند دوتي: الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا الدينية وأثرها في فهم المجتمع المغربي
ولد إدموند دوتي 1867 وتوفي 1926، يعتبر إلى جانب موليراس Auguste Moulieras 1855-1931 وشارك دوفوكو Charles De Foucauld 1858-1916أهم مؤسسي الإثنوغرافيا الفرنسية[8]، ولا شك أنه الأب الروحي لعلم الاجتماع الديني، وكما أشرنا سابقا إلى أن المدرسة الفرنسية كانت وفية لروح كونت ودوركايم تلك الروح العلمية التي كانت تعتمد على الملاحظة والدقة في تسجيل المعلومات والقيام بالمشاركة في الحقل الانثروبولوجي.
لهذا عمل دوتي في القرن التاسع عشر على الوصف والرحلة باعتبارهما المحددان الأساسيان، فقد أنجز رحلة إلى “مراكش” ورحلة إلى “رحاب القبائل” من أجل جمع المعلومات المهمة الإثنوغرافية حيث تمكن من جمع المعطيات القروية وتحديد المناطق الجغرافيا واللغات واللهجات التي يتكلم بها سكان هذه المناطق، هذه الرحلة امتدت من مراكش إلى أغمات وزاوية تحناوت ومولاي إبراهيم وقبائل معمورة في الأطلس الكبير، ثم قبيلة حاحا والصويرة وصولا إلى الرباط ثم مكناس[9] هذه الرحلة عمل من خلالها على جمع المعطيات حول المناطق القروية والتي تم تقسيمها إلى معطيات طبيعية وبشرية:
- طبيعيحيث حاول دراسة الجغرافيا وطبيعة تضاريس الجبال ووصف السهول والتلال، ونقاط الماء وكل ما هو مرتبط بالطرقات وصعوبة المسالك المؤدية إلى التجمعات القروية- السكانية.
طبعا هذه المعرفة العلمية ستساهم لا محالة في إعطاء نظرة عن طبيعة الأرض وعن التدخلات العسكرية دون أن ننسى رسم الخرائط التي كانت تعتبر محددا استراتيجيا مهما فبدون خريطة لا يمكن التوغل والدخول إلى هذه الأرض أو معرفة الطرقات والمسالك، فهذه المسالك كانت صعبة حتى على أهل المنطقة فما بالك بأجانب عنها لا يعرفون المكان، فمن شروط الانتصار معرفة أرض المعارك.
- المحدد الثاني الذي اهتم به دوتي هو معرفة الإنسان، حيث وجهت الدراسة باستخدام المنهج السوسيولوجي والإثنولوجي إلى معرفة العادات والتقاليد والذهنيات ومعرفة العقول والأمزجة والنفوس التي تسكن هذه المناطق الوعرة، لهذا وجه دراسته إلى الإنسان حيث حاول معرفة كل شيء عن هذا الكائن الذي تكيف مع هذه الطبيعة القاسية فمن خلال هذه الدراسة والتي استخدم فيها منهج التطورية: لتشارلز داروين Charles Darwin 1809-1882 نظرية التكيف وكذلك مناهج مدرسة مارسيل موس Marcel Maussفي فرنسا (1872- 1950) والذي اشتهر بدراسة حول الأعطية والأضحية والسحر
ولا شك أن دوتي له دراسة حول الدين والسحر (والتي سنعود لكي نتحدث عنها)، مارسيل موس هو ابن أخت عالم الاجتماع دوركايم صاحب الدراسة المهمة في علم الاجتماع[10] حول”الانتحار”، و”قواعد المنهج في علم الاجتماع”، وله دراسة مرتبطة “بالأشكال الأولوية للحياة الدينية” والذي سطر فيها دوركايم مناهج علم الاجتماع الديني والتي تبعها مارسيل موس في دراسة حول المعتقدات والشعوب والديانات وحول الأمم والثقافات واللغات والشعوب.
هذه الدراسات والمناهج طبقها دوتي على مجتمع الحوز وعلى مناطق المغرب القروية، فقد اهتم بدراسة العادات والتقاليد والمشاركة فيها وقد ركزت مدرسته على المعيش اليومي والذي يعتبر محددا أساسيا في فكر مارسيل موس لهذا نجده يسجل أغاني الحصاد ويصوره ويصف كل ما رأته عيناه في الأسواق والأضرحة وكل المزارات يسجلها ويقوم بتدوين كل ملاحظاته ويعمل على تحديدها وتفسيرها وفق المعطيات العامة أو يقوم في نهاية الأمر بتحديد الاستنتاجات الخاصة به.
ثم المرحلة الثانية حيث سينطلق من البيضاء اتجاه أزمور عبر شاوية ثم أزمور عبر دكالة، وهي مناطق وسطى للمغرب كما أنها غنية من حيث الفلاحة والخيرات كما أنها مناطق تمتاز بسهولة التنقل مقارنة مع مناطق الحوز ومرتفعاته، هكذا حدد دوتي هذه المناطق وحاول دراستها ودراسة كل ما يتعلق بالإنسان والمجال فيها.
- نتائج الدراسة
يمكن القول أن هناك نتائج مهمة توصل إليها دوتي في هذه المناطق التي تعتبر “مناطق عذراء” لم يصلها الناس ولا العلماء ولم تكن يوما محط دراسة علمية.
تستند أطروحة دوتي إلى شيئين أساسيين:
المحدد الأول: من خلال الزيارات والرحلات التي قام بها: الرحلة الأولى، والرحلة الثانية، اكتشف دوتي أن هناك مفارقة فالمجتمع المغربي خصوصا في المجال القروي يمتاز بكونه مجتمعا فقيرا حيث يعيش الفقر والتهميش والهشاشة في كل شيء:
- تدني أو انعدام مستوى التعليم كانت نتائجه ظهور عقلية أولية؛
- صعوبة المناخ: ارتفاع درجة الحرارة صيفا مع ندرة المياه أو انعدامها أما شتاء فتنخفض درجة الحرارة بشكل كبير يجعل الحياة صعبة والأوضاع مزرية؛
- كما لاحظ دوتي أن الناس يسكنون في بيوت من القش وفي قرى نائية تنعدم فيها الطرق ووسائل المواصلات. إذن نحن أمام نظام اقتصادي فقير وبنى هشة لا تقبل المقاومة.
لكن المفارقة تتجسد في عادات هذا المجتمع المنغلق على ذاته والمكتفي بذاته، حيث فجأة أمام هذا الفقر تظهر قيمة البذل والعطاء فتجد هذا المزيج من أن المجتمع المغربي يقوم على معنى الشرف والسمو والرفعة، وهذا الشرف والسمو الرفعة لا يتحقق إلا بالعطاء والبذل والتضحية وهذه المعاني كلها تتجسد في معني الحياة والموت: الولادة/ الوفاة.
هكذا تتكاثف الجهود، والقبائل تضحي بالثروة على قلتها ونذرتها من أجل أن تقدم معنى عام وهام وهو معنى الشرف المقدس في حياة الفرد والجماعة
إذن العطاء والبذل والتكاثف الذي هو رمز الفخر والشرف وهو ما يميز المجتمع المغربي وهذا ما تحدثت عنه نظرية موس (تدمير الثروة) وما تحدث عنه دوركايم في المجتمع الآلي (مجتمع الحوز/ و مجتمع إيبنال Epinalالقرية التي ولدفيها دوركايم) حيث يكثر التلاحم فالفرد هو جزء لا يتجزأ من الجماعة فكل واحد من الأفراد يمثل الجماعة بداخله كما لا ننسى نظام القرابة الذي يكون صارما حيث أن القبيلة تتشارك في أب واحد روحي أو أب بيولوجي تنحدر منه القبيلة كلها. هنا تظهر ثنائية مهمة سيكتشفها المستعمر فيما بعد وهي أن هذه التضاريس الوعرة والصعبة وهذا النظام المعيشي الذي يعتمد على شظف العيش وهذا التماسك الاجتماعي (القبلي/ الدموي) سيعطي لنا إنسانا عصيا على التطويع إنسانا يمتاز بالمقاومة لا يمكن إخضاعه بسهولة كائنا يشبه الوسط الذي ولد فيه كائنا غير مدجن.
المحدد الثاني: يتجلى المحدد الثاني في دراسة مهمة قام بها إدموند دوتي وهي حول “السحر والدين في شمال إفريقيا” التي نشرت 1909[11].
فهذا الكتاب حاول فيه دوتي إبراز أن السحر سابق عن الدين وأن التمظهرات السحرية: الشعوذة، التنبؤ بالغيب، الحديث عن الجن، أو تسخير الجن، وعبادة الأرواح كلها تمظهرات مهمة كانت في إفريقيا الشمالية قبل ظهور الديانات التوحيدية التي تدعوا إلى عبادة الإله الواحد وقد استعرض معنى الكهانة والعرافة ودورهما في فهم الذهنيات واعتبر أن المرأة هي التي تقبل على ممارسة الطقوس السحرية لأنه يعتقد أن الدين قد أقصى المرأة، فالدين منسجم مع الطبيعة الذكورية. لهذا كان لا بد من أن تعوض المرأة هذا الإقصاء والتهميش على الساحة الاجتماعية والسياسية بالسحر والممارسات السحرية ويستشهد دوتي حتى بالحسن الوزان الذي أعطى عدد الساحرات والعرافات في فاس واستنتج نفس الملاحظة[12].
إذن الذهنيات المغربية هي ذهنيات هشة لا تعتمد على الفكر العلمي أو التفكير المنطقي، بل هي ذهنيات خرافية تعتمد على العقل الأسطوري.
هنا نلامس اتجاهان مهمان أثرا على فكر إدموند دوتي وهو اتجاه السير جيمس فريزر James Frazer 1854-1941 صاحب كتاب الغصن الذهبي، والذي أرجع فيه أن فكرة الخوف هي المحدد الأول لظهور الدين، ذلك أن الإنسان عندما رأى هول الطبيعة (قوة البراكين، الزلازل، القحوط، والمجاعات) لجأ إلى الخوف من الطبيعة وهذا الخوف سبب له نقصان وشعورا بالعدمية لا يتم تجاوزه إلا بالعبادة وتقديم القرابين المقدسة (الحيوان، نبات، إنسان) والتي من خلالها ترضى الطبيعة على هذا الكائن والذي عوض أن تعاقبه تقوم بإثابته.
ثم المحدد الثاني الذي يمكن أن نستشف من خلاله نظرية دوتي حول السحر هو قانون كونت، قانون الحالات الثلاث حيث قسم تطور الذهنيات البشرية داخل المجتمعات إلى ثلاث حالات:
- الحالة الأولى: اللاهوتية؛ حيث تكون الخرافة والغياب التام للفكري النقدي؛
- الحالة الثانية: الميتافيزيقيا؛ وهي حالة تسود فيها الطوطمية؛
- الحالة الوضعية حيث يسودالفكر العلمي والنقد المعرفي التام[13].
هكذا خلص دوتي من خلال المحددان الأول والثاني إلى أن المجتمع المغربي مجتمع هش اقتصاديا كما أن الذهنيات الفكرية والثقافية ما زالت ذهنيات بدائية-أولية.
لهذا فالمجال السوسيو -سياسي والاقتصادي والبيئي أمام فرنسا لكي تحول هذا الاكتشاف إلى معرفة وهذه المعرفة إلى استعمار من خلاله تجسد أوروبا رسالتها الحضارية اتجاه الشعوب التي مازالت بدائية إن رسالة أوروبا وفرنسا كوريثة شرعية لهذه الحضارة هي نقل المجتمعات البدائية إلى مصاف الدول المتقدمة والتي تعيش الرفاه.
هكذا بدأت آلة الإعلام الفرنسي (البروبغندا) حملتها على المغرب بحملة علمية قادها ضباط واستخباراتيون وعلماء ومستكشفون ومغامرون استهواهم المغرب المجهول الذي أرادوا جعله معلوما لكن لصالحهم ولصالح مخططاتهم وانتهى باستعمار جاثم على القرى والبوادي، استعمار يخرب الأرض والعرض.
- خلاصات عامة
من خلال هذا المقال يمكن أن نحدد مجموعة من الخلاصات والتي نوردها على الشكل التالي:
- أهمية المعرفة العلمية في دراسة الشعوب ومحاولة فهم عاداتها وأفكارها وتقاليدها؛
- المحددات العلمية تساهم في بناء معطيات لوجستيكية مهمة من خلال وصف المناطق وطبيعتها الجغرافية: السهول، الجبال، الهضاب، رسم خرائط، ومعرفة وعورة الأراضي؛
- دور المعرفة العلمية في خلق معرفة استطلاعية-عسكرية؛
- تحديد الذهنيات ودراستها لكي يتم توظيفها بشكل جيد؛
- المعرفة الجيدة تمكن كذلك من معرفة العقاب وخلق نظرية للسيطرة؛
- تحديد المركزية الغربية: أوروبا المركز ≠ العالم الهامش؛
- البروباغندا الإعلامية وتغذية الآلة العسكرية والايديولوجية الاستعمارية الفرنسية وإبراز دور فرنسا الحضاري والتاريخي في تثقيف الشعوب الأقل تحضرا؛
- تشجيع الاستعمار الاستيطاني للمغرب وذلك بتسهيل الخدمات والاستيلاء على أجود الأراضي واعتبار المغرب بلدا مشجعا على الإقامة؛
- توظيف هذه المعرفة لبيان حقيقة الصراع بين الأنا والآخر؛
- ضمان استعمار واستغلال جيد وبأقل التكاليف.
خاتمة
هكذا حاولنا من خلال هذا المقال ملامسة الإشكالية التي طرحناها في البداية وبيان أن الأمر في تاريخ المغرب لم يكن سهلا، بل كان أمرا صعبا ومعقدا وأن الدراسات التي طرحها الأجانب الرحالة المكتشفون لم يكن لها طابع العلم والمعرفة ولو أنها استندت إلى نظريات علمية تدعي الموضوعية، لكنها لم تحقق مسألة الموضوعية سواء تعلق الأمر بالموضوع نفسه الذي هو الإنسان من جهة والذي اعتبر عصيا عن كل دراسة أو تمحيص علمي دقيق.
ومن جهة أخرى، فإن الإنسان الذي حاولت هذه النظريات دراسته كان المستعمَر الذي حاولت الدراسات الكشف عن مكامن الضعف والقوة فيه والاعتماد عليها كي تُحكِم قبضتها عليه.
إذن الدراسات العلمية لم تكن بريئة ولا صادقة ولم يكن هدفها المعرفة العلمية البحثة، بل كانت وجها خفيا من أوجه الاستعمار الإمبريالي الذي عرفه المغرب في بداية القرن العشرين والتي استغلته فرنسا ليس للنهوض به وبناء حضارته كما ادعت هي فيما كانت تقرره ضمن أيديولوجيتها العامة، بل ساهمت في تفقيره وهشاشته وساهمت في تفويت فرص التقدم والازدهار عليه. والأدهى أن هذه النظريات العلمية الإيديولوجية واكبت هذه الشخصية المغربية لسنوات وعقود عدة وساهمت في خلق نوع من البلبلة الهوياتية داخل المنظومة العامة للشخصية المغربية والتي مازلنا نعاني منها إلى الآن.
الإحالات:
- [1] جرمان عياش؛ “دراسات في تاريخ المغرب”، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الطبعة الأولى، 1986،
- ص 11.
- [2] عبد الله العروي؛ “مجمل تاريخ المغرب”، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، الدار البيضاء، الجزء الأول، 2016، ص 27.
- [3] جيرار لكلرك؛ “الأنثروبولوجيا والاستعمار”، ترجمة جورج كوثرة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بدون تاريخ، ص 26.
- [4] نور الدين الزاهي؛ “سوسيولوجية المجتمع المغربي”، دفاتر عدد 3، أبريل- ماي 2020.
- [5] Emile Durkheim ; « les règles de la méthode sociologique », Les presses universitaires de France, 16ème édition, 1967, P 8.
- [6] Claude Bernard ; « Introduction à l’étude de la méthode expérimentale » garnier-flammarian, 1996, P 216.
- [7] نور الدين الزاهي، نفس المرجع، ص 4.
- [8] نور الدين الزاهي، نفس المرجع، ص 5.
- [9] المرجع نفسه، ص 5.
- [10] عبد الله عبد الرحمن يتيم؛ “الثقافة الشعبية”، فصلية علمية متخصصة، العدد 6، 2023، البحرين، ص 2.
- [11] محمد أبيهي؛ قراءة في كتابه إدموند دوتي: “السحر والدين في شمال إفريقيا”، مجلة ليكسوس، العدد 41 فبراير 2022، ص 125.
- [12] محمد أبيهي؛ قراءة في كتابه إدموند دوتي: “السحر والدين في شمال إفريقيا”، مرجع سابق، ص 126.
- [13] عبد الباسط عبد المعطي؛ “اتجاهات نظرية في علم الاجتماع”، عالم المعرفة، غشت-سبتمبر 1981، ص 90.