جيش التحرير ببوعرفة، التأسيس و المعارك

باحث في التاريخ المعاصر
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
المغرب

شكلت معركة إيسلي أول نزال عسكري بين المغرب وفرنسا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت بذلك المنطقة الشرقية أول ميادين الصراع بين الدولتين لقربها من الجزائر المحتلة من قبل فرنسا. وكما هو معلوم فإن معركة إيسلي اندلعت على خلفية تقديم المغرب ممثلا بقبائل المنطقة الشرقية المساعدة للمجاهدين الجزائريين بقيادة الأمير عبد القادر، دافعهم في ذلك أخوة الدين التي لا تعترف بالحدود، ولعل في خطب العلماء وأشعارهم خلال تلك المرحلة تأكيد على هذا التصنيف العقدي في النظرة إلى فرنسا النصرانية، فقد كانت الجزائر لقرون خاضعة للحكم العثماني، لكن هذا الأمر لم يستنفر المغاربة وينهضهم للجهاد كما حدث بعد احتلال الجزائر من قبل فرنسا، وتضييقها على المجاهدين المطالبين باستقلال بلدهم.

ومع بداية القرن العشرين كانت المنطقة الشرقية مجددا مسرحا للمناوشات والتدخلات العسكرية الفرنسية، ففي8 يونيو1903م تم قصف قصر زناكة بفجيج[1]، وشهدت سنة1907م احتلال فرنسا لوجدة. وإذا كانت بداية الصدام العسكري بين المغرب وفرنسا بالمنطقة الشرقية، فإن هذه المنطقة ستشكل آخر جيوب المقاومة للأسباب السالفة الذكر.

ورغم أنني سأحاول خلال هذه الصفحات التركيز على المقاومة بمدينة بوعرفة لأن أغلب المعلومات تعود لشهادات بعض المقاومين بهذه المدينة، فإن هذا الأمر لا يتعارض مع وحدة المقاومة بإقليم فجيج التي شهدت عمليات مشتركة، شارك فيها رجال ونساء من قبائل ومناطق مختلفة من الإقليم، بل من الجهة الشرقية بمساعدة وتأطير أعضاء من جيش التحرير ورموز المقاومة المغربية كما سيتم إبرازه من خلال هذه الدراسة.

إن أغلب المعلومات الواردة في هذه الدراسة مستقاة من الرواية الشفوية[2]  لأن تاريخ المقاومة بالمنطقة لم تتم كتابته لضعف المستوى الثقافي لهؤلاء المقاومين، أو لبعد المنطقة من حواضر العلم والمعرفة والكتابة والتأليف كما هو شأن المدن الكبرى بالمغرب.

إن الرواية الشفوية وإن كانت مصدرا أساسيا وهاما في كتابة تاريخ المقاومة، فإنها تشوبها بعض النقائص، على رأسها الوفاة التي تذهب بالعديد من المقاومين دون التمكن من توثيق شهاداتهم، وحتى من تيسرت له الظروف وتم الاستماع لشهادته فإن استجواب الذاكرة تعترضه عدة عراقيل، كضعف الذاكرة وتغير الظروف السياسية والمكانة الاجتماعية التي ربما لا تسمح بذكر كل الحقائق، ومحاولة تجنب الصدام مع أية جهة سياسية كانت أو قبلية أو غيرها، مما يؤثر على هذه الشهادة ويفقدها بعض مصداقيتها.

ورغم ذلك فإن الشهادة التي بين أيدينا هامة وثمينة، ولعلها تكون المصدر الوحيد عن تاريخ المقاومة بمدينة بوعرفة، والتي تم تسجيلها من قبل فرع المندوبية السامية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير ببوعرفة.

تأسيس جيش التحرير ببوعرفة

لم يستقبل المغاربة المحتل بالورود، بل قاوموه بما استطاعوا من إعداد، وبرز قادة لهذه المقاومة كأحمد الهيبة بالجنوب، وموحا أو حمو الزياني بالأطلس المتوسط، وعسو أو بسلام بالأطلس الكبير، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كسر شوكة الإسبان بالريف في معركة أ نوال.

ورغم محاولة هؤلاء المقاومين طرد الاحتلال واسترجاع السيادة الوطنية، إلا أن قوة الآلة العسكرية الاستعمارية جعلت المقاومة تتراجع، لا سيما بعد نفي محمد بن عبد الكريم الخطابي، ليبدأ فصل جديد في مقاومة الاحتلال عبر الطرق الدبلوماسية في إطار الحركة الوطنية التي انطلقت بعد إصدار الظهير البربري من المساجد[3]،  لتؤكد عمقها الديني وأصالة قيمها في الدفاع عن المقدسات الدينية والوطنية.

ومهما يكن فإن هذه الحركة الوطنية ذات المرجعية السلفية ستضطر إلى العودة لخيار المقاومة المسلحة بعد تعنت الاحتلال وتنكيله برموزها، وتضييقه على مختلف فئات الشعب المغربي، مما يؤكد جشع ونذالة المستعمر الذي اتخذ من توقيع الحماية مطية لخدمة أهدافه التوسعية والتبشيرية، وسرقة خيرات الشعوب التي يدعي الدفاع عن حقوقها، وإعادة تأهيلها لتساير ركب الحضارة الغربية التي تؤطرها الرأسمالية المتعطشة للربح، حتى وإن كانت طرق الوصول إليه خسيسة وغير مشروعة.

بعد اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد في 8 دجنبر1952 م، تأكد للحركة الوطنية والمغاربة وتكشف الوجه الحقيقي لسلطات الاحتلال الفرنسي، وبدأ التفكير بضرورة التصدي لهذا الاحتلال الذي ارتكب مجزرة كاريان سنطرال  بعد قمعه لتظاهرة منددة باغتيال حشاد، بل زاد تمادي السلطات الفرنسية في استفزازها للمغاربة بمحاولة تنصيبها لمحمد بن عرفة سلطانا على المغرب، الأمر الذي ما كان مقبولا إطلاقا من قبل المغاربة، وما محاولة علال بن عبد الله قتل المدعو ابن عرفة إلا تأكيد على التشبث والارتباط بالقيادة الوطنية التي يمثلها الملك محمد الخامس رحمه الله، وقد كان للمنطقة الشرقية نصيب من التصدي لهذا الفعل الشنيع، وهذا ما يؤكده معروف الدفلي بقوله: “وضد الإعلان بالإمامة لهذا الشخص)ابن عرفة (كمرحلة أولى قبل الإعلان له بالسلطة، ثارت مدينة وجدة ثورة اعتبرها الفرنسيون من أهم ما عرف المغرب في تاريخه… استعمل المتظاهرون في حركتهم مختلف أنواع الأسلحة العادية من حجارة وعصي وبعض الزجاجات الحارقة، وكان هدفهم الأساسي الحي الأوروبي بوجدة …إن أهمية أحداث وجدة كانت إعلانا على أن العمل السياسي بلغ الباب المسدود، وأن  لابد من تغييره كسلاح غير منسجم مع الشروط والظروف، فكانت بذلك إرهاصا واضحا لبداية الكفاح المسلح”[4].

إذن، ضرورة التفكير في العمل المسلح الذي سرع إلى اللجوء إليه نفي السلطان محمد الخامس، فبحجة عدم موافقته على الإصلاحات المقترحة من قبلها وتعاطفه مع الحركة الوطنية[5]، أقدمت فرنسا على نفي السلطان في 20 غشت 1953م، لذلك لم يكن أمام المغاربة إلا التشبث بالمقاومة وتطويرها لتشمل العمل الفدائي، إضافة إلى العمل العسكري الذي تعزز بظهور جيش التحرير.

إن أغلب المؤسسين لجيش التحرير ببوعرفة كانوا أعضاء في حزب الاستقلال الذي قاوم الاحتلال الفرنسي في إطار الحركة الوطنية، والذي قدم زعيمه وثيقة المطالبة بالاستقلال للسلطات الاستعمارية يوم 11 يناير 1944م، وهكذا فإن أعضاء الجيش ببوعرفة كانوا دائما يعتبرون فرنسا  دولة احتلال لابد من خروجها من المغرب، غير أن الذي نقل أولئك المجاهدين من العمل السياسي في إطار حزب الاستقلال إلى الانخراط في العمل المسلح تحت مظلة جيش التحرير هو المجاهد والقائد بلحاج بوبو الذي بعثته  قيادة جيش التحرير بمدينة الدارالبيضاء سنة 1954م بهدف تنظيم عمل هذا الجيش بمنطقة وجدة[6]، وقد كان أعضاء جيش التحرير ببوعرفة وإقليم قجيج تابعين لمجموعة وجدة.

إن هؤلاء العشرة الذين اجتمعوا لتأسيس فرع الجيش ببوعرفة لم يكونوا إلا النواة الأولى لهذا الجيش الذي تعزز في مراحله الأولى بانضمام خمسة وعشرين عضوا، اثنى عشرا عضوا تحت قيادة الناير بنتاج المنتمي لإحدى القبائل التابعة لمدينة بوعرفة، وثلاثة أعضاء بقيادة محمد بلكنيني القادم من تالسينت.

ولتأكيد الارتباط بين جيش التحرير بإقليم فجيج والملك محمد الخامس، يذكر العيساوي أن فرقة من الجيش بالإقليم، ذهبت للاستعراض بالناظور أمام السلطان الذي كان مرفوقا بولي عهده آنذاك الملك الحسن الثاني رحمه الله.

وقد ألقى الملك محمد الخامس خطابا أمام أعضاء جيش التحرير الملتحقين من مختلف مناطق المغرب، وتم الإلقاء بواسطة مكبر الصوت وفي مكان قريب من البحر.  وقد أعلن خلال هذا الخطاب عن حل جيش التحرير بمختلف مناطق المغرب، باستثناء إقليم فجيج الذي يضم مناطق غير محررة كبشار، كما أن الجزائر لا تزال تحت الاحتلال الفرنسي الذي لا تؤمن بوائقه.

إن إعلان الملك عن استمرار المقاومة بإقليم فجيج القريب من الصحراء الشرقية يثير عدة تساؤلات، تعود إلى الاتفاقية الموقعة بين المغرب وفرنسا سنة1899م[7]، بل وإلى اتفاقية للامغنية الموقعة سنة 1945م، والتي لم تحدد بوضوح الحدود بين المغرب والجزائر، تاركة بذلك الباب مفتوحا أمام فرنسا لاقتطاع أجزاء من التراب المغربي.  إذن بموافقة الملك محمد الخامس استمر جيش التحرير في مقاومة الفرنسيين بإقليم فجيج، وبعد لقاء الناظور التحقت فرقة الجيش ببوعرفة بمراكز الجيش بفجيج المدينة وهي:                                    

–  مركز محمد ولد عبد الحق أب المقاوم محمد ساعة؛

– مركز الزين؛

– مركز عاشور؛

– مركز عبد السلام بوتخيل؛

– مركز أحمد الشرفي؛ 

في يونيو 1956م التحقت فرقة من وجدة على رأسها محمد شعوف بمراكز فجيج، وقد وصل عدد المقاومين بالمراكز إلى أربعة وثمانين فردا مدججين بالسلاح، وكانوا يرابطون بالجبال بمعية مرشدين من فجيج هما سليمان بوراس وبومدين أخ بوبو قائد الجيش.

بعد هذا الحديث عن ظروف تأسيس جيش التحرير ببوعرفة، من حقنا أن نتساءل عن المعارك التي انخرط فيها هذا الجيش.

هجوم الحوانيت

يعتبر هذا الهجوم أول العمليات التي نفذها أعضاء جيش التحرير ببوعرفة، ذلك أنه أثناء الاجتماع التأسيسي السالف الذكر، بلغتهم أنباء عن مراقبتهم من قبل أحد الجواسيس التابعين للاستعمار، فأمر بلحاج بوبو السيد أحمد العيساوي بتعقبه وقتله وغنم سلاحه، فلما ذهب إليه العيساوي سلم له الجاسوس بندقيته، في حين لم يكن معه مسدس، وأخبره العيساوي بأن مصيره الموت، و للإبقاء على حياته ذكر الجاسوس للعيساوي بأن لديه معلومات يمكن أن تساعد أعضاء جيش التحرير ببوعرفة في غنم بعض السلاح الموجود ببعض المخازن الفرنسية، وأنه مستعد للكشف عن مكان هذا المخزن مقابل إطلاق سراحه، فنقل العيساوي هذا الأمر إلى المجتمعين الذين وافقوا بعد تشاور على إعطاء فرصة لهذا الجاسوس ،  مقابل إيفائه بوعده ، وإن ثبت غير ذلك فإن قتله سهل وحتمي .

لاختبار صدق هذا الجاسوس، تم إرسال بعض المقاومين رفقة هذا الشخص إلى مكان هذا المخزن المتواجد بمنطقة الحوانيت بعين العراك التي تقع على بعد 70 كلم جنوب غرب مدينة بوعرفة، من بين هؤلاء المقاومين الذين توجهوا إلى منطقة الحوانيت: الماحي محمد بن مسعود الملقب بنصيص وأحمد ولد بلال، وبوعلام شعوف القادم من وجدة، وقد وصلوا إلى المنطقة المذكورة بواسطة سيارة يقودها الماحي الطيب ولد القائد بوجمعة الذي اصطحب معه أخاه المكي في هذه المهمة.

وعن تفاصيل هذا الهجوم ذكر الماحي محمد بن مسعود(نصيص) بأنهم وصلوا إلى المنطقة نهارا، لكنهم ظلوا في الجبل حتى حل الظلام ليلا، والتحقوا بمنزل الضالعي محمد ولد أحمد المستقر بالمنطقة، والذي قدم لهم معلومات عن المنطقة، ونصحهم نسيب الضالعي الذي تناول معهم وجبة العشاء بتأجيل الهجوم حتى تتم تعبئة العمال بأحد المناجم بالمنطقة تجنبا لأي اضطرابات أو انفلاتات  قد تقع.

بعد وجبة العشاء وإنجاز الترتيبات ببيت الضالعي التحق المقاومون القادمون من بوعرفة بالجبل مرة أخرى، وفي اليوم الموالي تم توزيع منشورات على عمال المنجم، وإبلاغهم بعدم مغادرة منازلهم أثناء فترة الهجوم الذي بدأ حوالي التاسعة ليلا على المخزن الذي دلهم عليه الجاسوس، والذي لم يكن يتواجد فيه إلا الحارس الفرنسي بعدا انسحاب المجندين المغربيين التابعين لسلطات الحماية الفرنسية، لأن هذه السلطات لم تكن لديها الثقة التامة في الجنود المغاربة حتى وإن كانوا تابعين لها.

بعد الهجوم تم اعتقال الحارس الفرنسي الملقب ب”مليكة”، وتم الاستيلاء على السلاح الموجود بالمخزن، والمكون أساسا من ثلاث تساعيات، وثلاث كرابيلات، وبندقيتين(زويجات) والكثير من الذخيرة.

أثناء فترة الهجوم كان الماحي أحمد ولد بلال، والضالعي محمد ولد أحمد يقومان بالحراسة والتغطية للفرقة المهاجمة، فمر بالقرب منهم أحد الفرنسيين الموجودين بمنطقة الحوانيت، فتم إطلاق النار عليه من قبل الضالعي الذي أخطأه، لكن تمت إصابته من قبل الماحي أحمد الذي أرداه قتيلا.

استمر الهجوم من التاسعة إلى العاشرة ليلا، وبعد ذلك عادا المهاجمون إلى مدينة بوعرفة، وإذا كان هجوم الحوانيت للتأكد من صدق الجاسوس السالف الذكر، والاستيلاء على السلاح الموجود بمخزن الفرنسيين، فإن معركة الخوابي التي خاضها هؤلاء المجاهدون في الطريق الرابط بين بوعرفة وفجيج ، كانت انتقاما للجنة من جبهة التحرير الجزائرية قتل غالبية أعضاؤها بمنطقة الدفيلية القريبة من فجيج.

معركة الخوابي

تبعد منطقة الخوابي حوالي 67 كلم عن مدينة بوعرفة في اتجاه مدينة فجيج، وهي تأكيد على روح الأخوة الرابطة بين المغاربة والجزائريين الخاضعين للاحتلال الفرنسي الذي ذاق مرارته المغرب.   وإذا كان المغاربة خلال هذه المرحلة التي اندلعت فيها هذه المعركة قريبين من نيل الحرية وطرد المحتل، فإن الجزائر(فرنسا الثانية حسب الرؤية الفرنسية) كانت قد دخلت مرحلة من الثورة بقيادة جبهة التحرير للضغط على فرنسا حتى ترحل عن أرض الجزائر.

        دارت أحداث هذه المعركة يوم 12 نونبر من عام 1956م، وإذا كان رواة هذه المعركة من بوعرفة وتالسينت، فإنها نموذج للالتحام والوحدة التي جمعت المقاومين من الإقليم، حيث شارك فيها إضافة إلى رواتها، مقاومين من فجيج على رأسهم بوبو قائد جيش التحرير بالمنطقة، مما يؤكد أنه عندما يتعلق الأمر بمصير الوطن وعزة الإسلام، تتلاشى جميع العصبيات وتذوب الانتماءات في انتماء واحد عنوانه الإسلام والوطن الحاضن له.

لقد تم الإعداد لهذه المعركة بروية وتدبر، حيث انطلق ستة أشخاص من مراكز جيش التحرير بمدينة فجيج من بينهم: الماحي أحمد ولد بلال، بوعلام الرقيق، محمد بن بريدع ليستطلعوا مكان مرور القوات الفرنسية، ويحددوا أماكن تمركز جيش التحرير لمواجهة تلك القوات. وقد انضافت إلى هذه الطليعة فرقا أخرى وهي: فرقة محمد أوحمو، وفرقة عبد القادر بن بوشريط، وفرقة محمد أوقاضي، وفرقة خير يونس.

وصل عدد المجاهدين الذين شاركوا في معركة الخوابي إلى خمسة وسبعين، توزعوا تبعا للفرق التي ينتمون إليها إلى مواقع مختلفة بمنطقة الكباشة الصغيرة.

  كانت الخطة تقضي بتمركز الفرق على الطريق الذي تمر منه القوات الفرنسية، بحيث إذا جاءت هذه القوات من بوعرفة لا تتعرض لها الفرق المتواجدة بالطريق المؤدي إلى بوعرفة، وإذا جاءت من فجيج لا تشتبك معها الفرق القريبة من فجيج، وذلك حتى تتوغل وسط الطريق الرابط بين مختلف الفرق، وتتم مهاجمتها من الخلف ومحاصرتها من قبل الفرق المقابلة لها.  ويذكر بوعلام شعوف أن شاحنة تابعة لشخص يدعى رحو تقل المجاهدين قادمة من فجيج مرت بجانب القوات الفرنسية، لكنها لم تشتبك معها، فقد أراد أحد المجاهدين ضرب الفرنسين لكنه تراجع لأن الأوامر كانت عكس ذلك، ولذلك أكملت الشاحنة السير لتلتحق بباقي فرق جيش التحرير.

بعد اتخاذ الفرق مواقعها والتزامها بأوامر قادتها، مرت القوات الفرنسية على الساعة الثانية بعد الزوال، بدل الثالثة التي كانت تمثل الزمن الاعتيادي لمرورها. أطلق محمد أوحمو أول طلقة في اتجاه إحدى عربات الفرنسيين، وبعد إصابتها نزل منها ضابط برتبة عقيد تم استهدافه مجددا من قبل محمد أوحمو الذي أرداه قتيلا.

ويذكر بولو محمد الذي كان عضوا في فرقة الماحي أحمد ولد بلال أنه عندما بدأ الاشتباك وعلا صوت البارود، غيرت فرقته مكان تمركزها لتلتف حول القوات الفرنسية، كما تم إحراق بعض الشاحنات الفرنسية، وأثناء المعركة حلقت طائرات حربية فرنسية في أجواء مكان المعركة لكنها لم تقصف. ويضيف بولو أنه تم الاحتفاظ بصورة لزوجة العقيد الفرنسي المستهدف في المعركة، وبعد فرار العسكر الفرنسي استسلم أحد الجنود بعد استهداف السائق الذي كان يقود العربة التي تقله. كما تم غنم ساعة وحقيبة وآلة تصوير، وقد تم نقل هذه الغنيمة إلى مدينة الرباط9، وخلف هذا الهجوم الذي استمر حتى الساعة الخامسة مساء حوالي خمسين شخصا بين قتيل وجريح في صفوف القوات الفرنسية منهم ضباط برتب مختلفة.

وبعد المعركة تفرقت الفرق بعد مغادرتها ساحة المعركة، حيث التحق الأمازيغ بجبل المعيز، وبني كيل بجهة أخرى من نفس الجبل، وفي الليلة الموالية دخلوا إلى مراكز جيش التحرير بمدينة فجيج.

مصادر السلاح

من حقنا أن نتساءل عن مصادر السلاح الذي استعملته مختلف الفرق التي شاركت في معركة الخوابي، أو حتى ذاك الهجوم بمنطقة الحوانيت.

سبقت الإشارة إلى أن مهاجمي الحوانيت غنموا سلاحا لا شك في أنه سيستعمل في العمليات التي نفذها جيش التحرير ببوعرفة، لكن تسليح الفرق بمعركة الخوابي يفوق السلاح المغنوم من الحوانيت.

فما هي مصادر هذا السلاح؟

من خلال ما اطلعت عليه من كتابات حول المقاومة بالجهة الشرقية يتبين تعدد مصادر التسليح، فجزء منها كان يتم غنمه عبر الاستيلاء على مخازن السلاح التابعة لفرنسا، وذلك عبر الهجوم على هذه المخازن باستعمال قنابل محلية الصنع بعد الحصول على المتفجرات من عمال المناجم، أومن بعض المغاربة القاطنين بالجزائر[8].

كما شكلت مدينة الناظور عاصمة جيش التحرير مصدرا أساسيا لتزويد باقي المناطق، أو لربما جهات أخرى من الوطن بالسلاح، فقد كانت قيادة جيش التحرير تقتني ما يلزم من السلاح من المشرق العربي، وشكلت سواحل الناظور ميناء ومرسى للسفن القادمة من المشرق محملة بالسلاح، وقد نفذت الباخرة دينا أكبر عملية لتزويد المقاومة بالسلاح.

وللاعتماد على الذات عملت القيادة المركزية لجيش التحرير بالناظور على صنع القنابل، فاستعانت بعمال شركة إسبانية تقوم بحفر منجم بمشرع حمادي من أجل الحصول على المتفجرات التي يمكن استعمالها في صناعة القنابل1، وفي بعض الأحيان كان الجانب الإسباني نفسه مصدرا للسلاح، حيث كانت هناك معاملات تجارية بين بعض المقاومين وبعض الجنود الإسبان الذين دلوا أولئك المقاومين على مخزن للذخيرة لا يستعملها الجيش الإسباني، فتم نقلها إلى ضواحي الناظور، ثم إلى معسكرات جيش التحرير باستعمال الدواب والشاحنات لتجنب المرور عبر طرق المراقبة والتفتيش التابعة للاحتلال الفرنسي.

وعن استعمال الشاحنات في نقل السلاح، يؤكد بولو أحد مقاومي تالسينت المشاركين في معركة الخوابي وصول شاحنة محملة بالسلاح من مدينة بركان، كان من بين ركابها ناصر الخثيري )مقاوم من تافوغالت( وقادة عثمان من فجيج. وبعد توزيع جزء من هذا السلاح على بعض المجاهدين بتالسينت، تم تخزين جزء آخر بمنزل محمد أوحمو، وما تبقى أخذ بالشاحنة التي رجعت إلى مدينة وجدة مرورا بالمنكوب وبوعرفة.

ورغم أن بولو لم يخبرنا عن وجهة هذا السلاح، فإن المنطق لا ينسجم مع إرجاع هذا السلاح إلى وجدة أو بركان، وبالتالي قد يتم توزيع ما تبقى من السلاح على مراكز جيش التحرير بالمنكوب وبوعرفة اللذين مرت عبرهما الشاحنة في طريق عودتها إلى وجدة.

إضافة إلى مدينة الناظور، شكلت الدار البيضاء مصدرا لتسليح المقاومين، حيث استعمل المجاهدون بفجيج رصاصا (ذخيرة) تم جلبها من مدينة الدار البيضاء.

التموين والتمويل

المال عصب الدعوة والدولة، ولذلك كان لا بد من المال ليستمر عمل جيش التحرير، فهؤلاء المجاهدون المنتمون لجيش التحرير المرابطون بالجبال يحتاجون للغذاء كما يحتاجون للسلاح، وقد تم التطرق إلى مصادر السلاح، فما هي مصادر التموين والتمويل؟

سبقت الإشارة إلى أن فرقة جيش التحرير ببوعرفة المكونة من خمسة وعشرين فردا من بوعرفة وتالسينت كانت ترابط بالجبال بعيدا عن عيون المحتل وجواسيسه، وحذرا واحتياطا في معركة غير متكافئة بين جيش نظامي فرنسي خريج مدارس عسكرية ومجهز بأحدث الأسلحة الموجودة آنذاك، ومجاهدون يعملون ويبذلون الغالي والنفيس لتحرير بلدهم بما استطاعوا إعداده من قوة وأسلحة لا يمكن مقارنتها بما كان يمتلكه الجيش الفرنسي.

عن مصادر التموين ذكر أحمد العيساوي أنه قد تم تعيين خيام تستضيف المرابطين بالجبال بالتناوب، وهكذا يتضح أن جيش التحرير بالمنطقة وجد حاضنة شعبية تقدم له الإعانات والمؤن عنوانها البدو الرحل ساكني الخيام، وهذا ليس غريبا لأن المغاربة وإن اختلفت مستوياتهم الثقافية وأوضاعهم الاجتماعية وتناءت مناطق تواجدهم، كانوا مجمعين على رفض الاحتلال الذي استطاع أن يستميل إلى جانبه جواسيس يعملون لصالحه، وهذا ليس غريبا كذلك، لأن لكل شيء إذا ما تم نقصان، وتاريخ البشرية مليء بهذه الصور المتداخلة والمتناقضة، فغير بعيد عن الفترة موضوع الدراسة، وخلال القرن التاسع عشر الميلادي انتشرت ظاهرة الحماية القنصلية التي استفاد منها مغاربة ارتموا في أحضان القنصليات التابعة للدول الأوروبية الطامعة في احتلال المغرب، وقد نعتوا من قبل مؤرخين وعلماء انتقدوا هذه الظاهرة بالخونة والحتالة.

وبالفعل، فقد ساعد الجواسيس القوات الفرنسية في تعقب هؤلاء البدو الذين شكلوا حاضنة للمجاهدين، وتدخل الطيران الحربي الفرنسي ليحرق عدة خيام كانت تأوي المجاهدين، ومن بينها خيمة الحاج بلقاسم، وخيمة المقدم معمر، وخيمة أولاد لعور.

إضافة إلى استضافة أعضاء جيش التحرير من قبل تلك الخيام، كانت لهذا الجيش مالية لشراء ما يحتاجه من المؤن، فقد ذكر العيساوي أنه في المراحل الأولى لتشكيل جيش التحرير ببوعرفة، تم الاتصال بتاجرين من بوعرفة هما أحمد بابا وحمو عزاز من أجل التموين.  أما عن المال الذي سيتم به تسديد أثمان السلع، فيبدو أن مصدره ـــ أو على الأقل جزء منه ـــ هو بوبو قائد الجيش، فقد كانت لهذا الرجل علاقات بأعضاء وقادة جيش التحرير بالدار البيضاء.

   خلاصة

إن تأسيس جيش التحرير ببوعرفة لا يخرج عن الأسباب التي ساهمت في تأسيسه على المستوى الوطني، فقد تجاهلت سلطات الحماية مطالب الحركة الوطنية، فقمعت احتجاجات الدار البيضاء، وتجاوزت الخطوط الحمراء بعد نفيها السلطان محمد الخامس وتعيين ابن عرفة. كما أن عمل هذا الجيش ببوعرفة لم يكن منفصلا عن عمله وطنيا وإقليميا، فكما سبقت الإشارة فقد شاركت عدة فرق في المعارك التي خاضها على مستوى الإقليم، أبرزها من فجيج وتالسينت ووجدة مما يؤكد على وحدة الموقف وتآلف القلوب عندما يتعلق الأمر بمصير الوطن.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] – عبد الرحمان عبد الوافي، “المقاومة بمدينة فكيك 1953-1955م”، ندوة “المقاومة في المغرب الشرقي” أيام9-10-11 نونبر 1994م بوجدة، شركة بابل للطباعة والنشر الرباط، ص 263.
  2. [2]  – شريط مرئي من إنجاز المندوبية الإقليمية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير ببوعرفة سنة 1992م.
  3. [3]  – محمد أمزيان، محمد عبدالكريم الخطابي آراء و مواقف 1926-1963م، منشورات اختلاف الطبعة الأولى 2002م، ص37-38.
  4. [4]  – محمد معروف الدفالي، “أزمة العمل السياسي في بداية الخمسينات وإرهاصات العودة إلى العمل المسلح من خلال أحداث وجدة”، ندوة “المقاومة في المغرب الشرقي”، ص 131-132.
  5. [5]  – عبد الرحيم الورديغي، المقاومة المغربية ضد الحماية الفرنسية 1952-1956م، الطبعة الثانية الرباط 1982م، ج1، ص 20.
  6. [6]  -عبد الرحمان عبد الوافي، م س، ص 308.
  7. [7]  – محمد المشرفي، الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية، تحقيق إدريس بوهليلة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط، الطبعة الأولى 2005م، ج2، ص231.
  8. [8]  – محمد بنجلون، “المقاومة في المنطقة الشمالية الشرقية”، ندوة المقاومة في المغرب الشرقي، ص 52.

Scroll to Top