التفاعل النصي في القيم الاجتماعية والسياسية في النقائض “نقائض جرير والفرزدق نموذجا”
دكتوراه في وحدة النص الأدبي العربي القديم
الأكاديمية الجهوية لتربية والتكوين لجهة سوس ماسة
المغرب
ملخص
هذه المقالة دراسة تطبيقية أكثر منها نظرية، وهي للتفاعل النصي في نقائض جرير والفرزدق، من خلال جانب القيم الثقافية التي ظل الشاعران متماهيان فيها مع الموروث الثقافي العربي، باعتباره مصدرا للتقبل والتأثير، أي كعامل في تأكيد الانتماء والرفع من مصداقية القول عبر الاستمداد الثقافي، ناهيك عن التأثير في العقول، فالنقائض نصوص حجاجية تداولية، تولي أهمية لجانب تغيير الموقف، ونقض الحجج، لأن النقائض من خلال مفهومها قائمة على العقد والإبرام، والهدم والبناء، وبمفهوم جويا كريستيفا "إعادة الإنتاج".
This article is an applied study rather than a theory. It is of the textual interaction in the contradictions of Jarir and Al-Farazdaq، through the aspect of the cultural values in which the two poets remained identified with the Arab cultural heritage، by choosing it as a source of acceptance and influence، that is، as a factor in confirming belonging and raising the credibility of saying through cultural extension، not to mention On influencing minds، contradictions are deliberative argumentative texts that attach importance to the aspect of changing the position and refuting arguments، because contradictions through their concept are based on contract and conclusion، demolition and construction، and in the concept of Joya Kristeva "reproductioù
كلمات مفتاحية: التفاعل النصي ـ القيم الثقافية ـ النقائض ـ المدح.
Keywords : hypertextuality ـ cultural values ـ antitheses ـ praise.
مقدمة
سنحاول في هذا المقال دراسة جانب مهم في شعر النقائض، من خلال نقائض جرير والفرزدق، وهو جانب التفاعل النصي الذي يساهم بشكل كبير في بناء هذه النصوص وإنتاجها، أو إعادة تشكيلها، وهذا التفاعل قائم بشكل أساسي على المحاورة مع النصوص، المكتوبة والشفوية، التي يستمد منها الخطاب الحاضر معانيه وألفاظه، ويقوم بإعادة إنتاجها وفق مقصدية خاصة باللحظة الراهنة.
وتقوم نصوص النقائض في معناها اللغوي، والاصطلاحي، وفي واقعها الفني على الصراع والتعارض، والرغبة في إنتاج خطاب متين وقوي، في بنائه، ولغته، ومعانيه، ومن الشروط المحققة لذلك، التقاعل النصي، كآلية إنتاجية.
ولأن نصوص النقائض نصوص شعرية تجمع بين أغراض أبرزها، الهجاء والفخر، إذ أن كل شاعر يدافع عن الأنا والجماعات التي ينتمي إليها، ويهاجم الآخر، وكل ما يخصه ويتعلق به، ومن العناصر المحققة لمقصدية الشاعر / الناقض، القيم الاجتماعية والسياسية، وهي مجموعة من السلوكات المرغوبة، والتي حظيت بالتفضيل الشخصي أو الاجتماعي داخل ثقافة ما.
فالتفاعل مع هذه القيم الثقافية، كان خيارا لا مفر منه، وكانت له غايات بلاغية، فهي من عوامل تحقيق بلاغة النقيضة وقوتها، ومن أسباب كسب تأييد الجمهور، واحترام ثقافته وعاداته.
لذلك فهذا المقال سيحاول دراسة هذا الجانب البلاغي والفني في نصوص لم تحظ بالدراسة التي تستحقها، وهي نصوص النقائض، وأشهرها التي كانت بين جرير والفرزدق، وهو متن هذه الدراسة المتواضعة، وستجيب عن أسئلة من قبيل:
- ما مدى حضور القيم الاجتماعية والسياسية في نقائض جرير والفرزدق؟
- كيف استطاع التفاعل النصي مع هذه القيم تحقيق بلاغة هذه النقائض؟
1 ـ التفاعل النصي ـ إطلالة موجزة على المفهوم
يخطئ كثير من الدارسين العرب حين يساوي بين مصطلحي “التفاعل النصي” و”التناص” أو “التناصية”، فالأول أعم من الثاني ويتضمنه، وقد بدأت نظرية “التفاعل النصي” مع الناقد جيرار جنيت الذي طور وتوسع في مفهوم “التناص” بعد جوليا كريستيفا بسنوات خلت، وقد وظف جيرار في مقابل هذا التفاعل مصطلح “التعالي النصي” أو “التعدد النصي” (Transtextualité) والذي يعرفه بأنه “كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى. ” [1].
وقد جسدت هذه النظرية التحول “من النص المغلق إلى النص المفتوح، ومن ثم ثبات المعنى إلى لعبة الدال، ومن استهلاك النص إلى إنتاجيته، ومن البحث عن سلسلة أنساب النصوص إلى البحث عن التبدد والتعثر والانفجار؛ وبعبارة أخرى: هو تحول أفضى إلى تدمير مركزية الصوت والبنية واللوجوس.” [2].
لقد أرجع الباحثون بروز مفهوم “التناص” ومهاده الأول إلى الشكلانيين الروس، وخصوصا عند ميخائيل باختين الذي تجاوز أفكار الشكلانيين، ودشن ذلك بكتابه “المبدأ الحواري” سنة 1929 م [3] قطيعة معرفية مع السياق النقدي آنداك، وقد تحدث فيه عن مفهوم “التناص” دون أن يستخدمه بالاسم، بل وظف مصطلحا آخر ظل اقل انتشارا وهو مصطلح “إيديولوجيم” ويعني “الحوارية” التي عدّها السّمة المائزة للكتابة الروائية عند دستوفسكي كمبدع يصدر و يُعبّر في كتاباته عن رؤية فلسفية وجمالية جديدة هي ما يجعل الآراء والأفكار والمواقف الفكرية والأخلاقية والإيديولوجية، وقد تحدث باختين في “المبدإ الحواري” عن “الحوارية” أو “تعدد الأصوات” الذي اعتبره من المكونات الأساسية للنص الأدبي، وخاصة النثري، ولم يفلت منه في نظره سوى آدم عليه السلام، لأنه كان يقارب عالما يتسم بالعذرية[4].
وستقوم جوليا كرستيفا في أواسط الستينيات (1966 ـ 1967م) بتعميم “الحوارية” تحت مصطلح آخر وهو “التناص”، بوصفه أداة إجرائية للكشف عن انفتاح النص الأدبي عموما ـ ومنه الشعري بالخصوص ـ على نصوص أخرى متولدة عنه وبذلك أعادت الاعتبار للشعر كفضاء حواري، وقد اعترف النقاد الغربيين لها بهذا الإنجاز [5].
2 ـ النقائض الشعرية في العصر الأموي
خصصت المعاجم القديمة صفحات عدة للتعريف بشتى معاني مادة ( ن ق ض )، واستشهدوا لذلك بما يعزز هذه المعاني من الشواهد الشعرية والقرآنية، ففي ” كتاب العين” نجد ما يلي: “… النَّقْضُ: إفساد ما أبرمت من حبل أو بناء، والنِّقْضُ: البناء المنْقُوضُ… والمناقضة في الأشياء، نحو الشعر، كشاعرٍ ينْقُضُ قصيدة أخرى بغيرها، والاسم النَّقيضةُ ويجمع نَقائِضَ، ومن هذا نَقائضُ جريرٍ والفرزدق… ” [6]؛ وفي معجم “لسان العرب” نجد ما يلي: ” النَّقْضُ: إِفْسادُ مَا أَبْرَمْتَ مِنْ عَقْدٍ أَو بِناء، وَفِي الصِّحَاحِ: النَّقْضُ نَقْضُ البِناء والحَبْلِ والعَهْدِ …” [7].
ومن خلال هذه التعريفات نلاحظ التقابل بين مجموعة من المفردات التي تحقق مفهوم التفاعل النصي، وتوغّل النصوص في بعضها البعض، فمفردات الإفساد والنقض والهدم، وما يقابلها من الإبرام والبناء والعقد، ملفوظات لها حمولة مصطلحية تدل على “الإنتاجية” عند جوليا كريستيفا، أي أن النص يُعاد إنتاجه عبر إعادة توزيع عن طريق الهدم والبناء.
فالنقيضة “أن يقول الشاعر قصيدة هاجيا أو مفتخرا، فيرد عليه شاعر آخر ملتزما نفس الموضوع والبحر والقافية والروي…”[8]، فهي تتميز بخصائص شكلية تشبه إلى حد كبير خصائص “المعارضات”،
ترتبط النقائض في أذهاننا وتمثلاتنا المسبقة ارتباطا وثيقا بالعصر الأموي فلا نعرف من شعراء هذا الفن إلا الثلاثي الأموي المشهور به، وهم جرير والفرزدق والأخطل “كأن هذا الفن الشعري حديث النشأة لم يعرفه الشعر العربي إلا في منتصف القرن الأول” [9]،لكن هذا الرأي لا يلبت أن يزول لأنه لم يقم على أساس عملي واستقرائي للشعر العربي منذ الجاهلية.
وقد اختلف النقاد العرب المعاصرين اختلافا كبيرا حول بداية النقائض الشعرية، فنجد من يذهب إلى أن النقائض معروفة مطروقة قبل عهد بني أمية، وهي قد اتخذت مكانا عند الشعراء الجاهليين، مثل النقائض التي جرت بين الأوس والخزرج، ثم النقائض التي نشأت في ظل العقيدة بين شعراء المسلمين والمشركين[10].
وفي العصر الأموي تطورت على نحو خاص ليس فقط من الناحية الفنية المتعارف عليها، وإنما من حيث الكمّ أيضا، حيث ظهر شعراء كُثر كان أكثرهم ضد جرير، ففاخرهم ونابزهم فلم يصمد من هؤلاء سوى ثلاثة، وهم الفرزدق والأخطل والبعيث، وقد ذكر صاحب “الأغاني” بأن جريرا قارع ثمانين شاعرا، وغلبهم جميعا [11].
وقد اهتم القدماء بالنقائض الشعرية اعترافا منهم بأهميتها التاريخية فضلا عن الأدبية، وقد نقلت لنا كتب التراجم عددا غير قليل من الأعلام الذين جمعوا النقائض أو شرحوها، إلا أن أغلبها مفقود، فــلم يتبق لنا منها سوى مصدرين محققين منشورين، أحدهما” نقائض جرير والفرزدق ” لأبي عبيدة معمر بن المثنى.
3 ـ القيم في البيئة العربية
تعد مسألة القيم والأخلاق مسألة أساسية في دراسة الشعر العربي برمته، إذ أنها تنسج مع بقية العناصر علاقة تكوينية، وقد اعتمدها الإنسان العربي، كغيره، في جميع الأغراض الشعرية، لذلك فقد خُصّت ببعض الاهتمام من النقاد العرب، كقدامة بن جعفر صنف الفضائل إلى أربعة أصناف: العفة والشجاعة والعقل والعدل [12]، ويتفرع عن كل فضيلة منها فضائل أخرى.
فــ “من أقسام الشجاعة: الحماية، والدفاع، والأخذ بالثأر، والنكاية في العدو والمهابة، وقتل الأقران، والسير في المهامه الموحشة وما أشبه ذلك[13]، وكان حاتم الطائي مضرب المثل في الجود والكرم[14]، والعرب كانت تشترك في الإيمان بالأخلاق، وكانت معرفتهم بها كبيرة، فالعرب كلهم شيء واحد، لأن الدار والجزيرة واحدة، والأخلاق والشيم واحدة، واللغة واحدة [15]، وهذا الاتفاق سيؤدي لا محالة إلى التأثر بها، وقصة المحلق الكلابي تمثل أعظم دليل على احترام العربي للأخلاق، وتأثره بها، فقد حولته قصيدة الأعشى الكبير الذي مدحه فيها بالكرم والندى من إنسان خامل إلى آخر شريف [16].
وقد تحولت القيم من كونها قيما تجسد الجماعة إلى قيم شعرية ثقافية [17]، لاشتراك العرب فيها، وتأثرهم بها، وقد قالت العرب بأن المشاكلة من جهة الاتفاق في الطبيعة والعادة، ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرّحم [18]، فالمتكلم بتوظيفها تتوفر له مقدرة خطابية يتمكن بواسطتها من التلاؤم مع منظور ومعتقدات مخاطبه، وتكون النتيجة في هذه الحالة تداولية وسلطة في القول تخوله ممارسة التأثير المطلوب.
والقيم تتعرض لامتحان البقاء بعد زوال بيئتها الأولى، فهي تعيش مخاض البقاء، وقد نجح بعضها في البقاء في البيئة الجديدة، وقد كسبت رهان البقاء لأن الإسلام لم يزعزع ولم ينقص من قيمتها الاجتماعية، فكان اتصالها بتاريخها وأصولها الماضية أمتن، وتأثرها أبين، وأبلغ في النفوس.
كما عاودت قيم أخرى الظهور بفعل ظروف سياسية واجتماعية معروفة، وقد ارتبط أهمها برغبة الأمويين في الاستحواذ على السلطة، فكان لإشغال العرب في عصبية دوره في استمرار الحكم لهم، كما كان لها الدور في عودة التعصب للقبيلة والتفاخر بالأنساب والتاريخ وغيرها من القيم الثقافية بشكل صريح إلى ساحة الشعراء، فهي قيم ممتدة تخْفُت إن لم تتوفر لها الدواعي، وتظهر بشكل خافت إن تمت مضايقتها، كما قد تعود بقوة إن توفرت لها الأسباب، ووصلت إليها الأقلام.
إن التفاعل في الشعر مع هذا الجانب شيء أساسي، وذلك لحجمه وسرعة نفاده في نفوس العرب، وهو تفاعل يرتبط بالشعر العربي لقدم هذه الأخلاق والقيم، فالنقاد العرب في الحديث عنها اعتمدوا الموروث الشعري العربي الذي كان يمجدها، لأنها ترفع من قدر الإنسان العربي البدوي والمتحضر على السواء، ولعل اتفاق العرب عليها هو ما جعل لها قيمة وشهرة بينهم، كما ترتبط بالمجالين الاجتماعي والتاريخي، لأن أغلبها اجتماعي سياسي.
وقد ساهمت البيئة العربية إلى حد كبير في تقديس هذه الأخلاق، فالبيئة القاسية أرادت للعربي أن يكون صلبا في طبعه، محترما شعور الآخر، مبادله المميزات نفسها، ولا ننسى حياة القبيلة التي زرعت في قلوبهم الشجاعة وغيرها من الفضائل، غير أنها ليست مُطّردة في اتباعها وسلوك نهجها، فهناك أخلاق فاسدة كالاعتداء على الحرمات ووأد للبنات وغير ذلك.
ولأن النقائض الشعرية في العصر الأموي مازالت متصلة في أساسها وجوهرها، بالروح الجماعية القبلية، فإن شعراء النقائض كان من وسائلهم في الدفاع عن شرف وقدر قبائلهم، إضافة للأيام والوقائع الحربية، والمفاخر والأمجاد القبلية، القيم والأخلاق المختلفة، فضائل العرب ومزاياها في الشجاعة والكرم وغير ذلك، كما قد يقع العكس فنجد الشاعر يسلب هذه الأخلاق من الخصوم، فينعتهم بالضعف والبخل وغيرها من الصفات القبيحة.
4 ـ التفاعل النصي في القيم في النقائض الشعرية
إن حياة الحرب التي كانت من خصائص العصر الجاهلي، والتي لم تفارق العرب على امتداد زمن طويل، تقوى ارتباطها بالعصر الأموي الذي كان عصر فتن وصراعات على السلطة والمكانة، فــ”حببت إلى نفوس العرب خصال الشجاعة والنجدة والبأس والقوة وهي صفات حميدة تتنافى وصفات الخور والضعف والجبن والهلع” [19].
وبذلك فمن المنطقي أن يولي شعراء النقائض للشجاعة والفضائل المتعلقة بها أهمية قصوى في نقائضهم، فاعتزاز كل طرف بقبيلته أو عشيرته دفعهم لتناول هذا الموضوع في ارتباط بالأيام الحربية، والشجاعة باب واسع من الأخلاق تتصل به مجموعة من الخصال المتفرعة عنها، ومنها التغني بالانتصارات والبلاء في الحروب والبسالة والقوة والقدرة على الفتك بالأعداء، كما تم إقحام المرأة كعنصر تتم من خلاله النكاية بالأعداء والازدراء منهم.
4 ـ 1- قيمة الدفاع عن القبيلة
ولقد كان افتخار الشعراء جميعا بالاتصاف بالمكارم في الدفاع عن قبيلتهم أو جماعتهم التي ينتمون إليها، والهجاء بعكس ذلك، واستمرارا لقول العرب: “الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبرا أكثر ممن يقتل مقبلا”[20]، فجرير يهاجم خصومه بعدم الاتصاف بها، فهو لا يهتمون إلا بالحِدادة، هو يخاطب الفرزدق[21]:
ألهى أباك عن المكارم والعلا لي الكتائف وارتفاع المرجل
ويرد عليه الفرزدق سالبا من قوم الخصم المكارم ومعيرا إياهم برعي الحمير، والابتعاد عن الخيل والبطولة [22]:
إن المكارم يا كليب لغيركم والخيل يوم تنــــازل الأبــطال
كما يفتخر بأن المكارم كانت موروثة عن عظماء قبيلته [23]:
ورث المكارم كابرا عن كابر ضخم الدسيعة يوم كـل فخـار
والأمثلة كثيرة في الشعر العربي القديم على التمدح بها لأنها من صفات الإنسان العربي [24]:
وأنّا الرافعونَ على معـــــــدٍّ أَكُفاًّ في المكارم ما بقينَا
أَكُفًّا في المــكارم قدَّمَتْها قُرونٌ أوْرثتْ منّا قُرونا
ويختار الفرزدق هذا الجانب للافتخار على جرير، ويرسم لوحة فنية باعتماد المقارنة الفاضحة لجرير، والمفارقة التي تجعل فرقا شاسعا بقين جماعة والمتكلم وجماعة المخاطب، فالأولى تنشغل بالمكارم القائمة على الشجاعة في الحروب، من قتل رؤوس القبائل من الأشراف والقادة، في حين فالثانية لا تنشغل إلا بالحمير، فهم انشغلوا عن المكارم [25]:
إنا لنضـــــــرب رأس كــــــــــــــــــل قبيلـة وأبـــوك خلـــف أتـانه يتقمّــــــــــــل
… وشغلت عن حسب الكرام وما بنوا إن اللئيـــم عــــــن المكارم يشغــل
كما افتخرت العرب بقتل الرؤساء وتخصيصهم بالقتل في حديثهم دون غيرهم، فقتلهم يضاعف الثواب لهم، ويزيد من قوتهم أضعافا، فهم علية الجيش والآمرين فيه، وقد رأينا الافتخار بقتلها أو أسرها أو فرارها، وكلها أمارات الانتصار ودلائل الغلبة، وكلها كانت تخدم الموقف بالأفضلية على الخصم، فجرير يفتخر بضرب هام الملوك وقطع رؤوسهم، وبشفاء الأصيد المتكبر، وإرجاعه للحق [26]:
نعض السيوف بهام الملوك ونشفي الطّماح من الأصيد[27]
4 ـ 2 قيمة حفظ الجوار
ولما كان الجوار من أنبل الشمائل الإنسانية كانت له قيمة عليا، فأن يكون الإنسان بارا بما أخذ على نفسه ولو كلفه ذلك مشقة وعناء ليستحق الوجود في البيئة العربية العنيفة في طبيعتها وعلاقاتها الإنسانية، حيث صارت عندهم واجبة، فهو يذود عن جاره، حتى صار العربي يَحْمد الجار بحسن جواره، ومما قالوا: كـــــجار أبي داؤد [28]، وقد حضت آيات الكتاب العزيز على الوفاء بالعهد في مواقف عديدة، كقوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [29].
إنها من القيم الممتدة التي تزيد إشعاعا مع مرور الوقت، والجِوار “أن تُعْطِيَ الرَّجُلَ ذِمَّةً، فيكونَ بها جَارَكَ، فَتُجيرُهُ … وجارَ واسْتَجَارَ: طَلَبَ أن يُجارَ” [30]، فهي تحدّ من خطورة عوائق الأمن والتوحد والسلام، نتفهّم تبجيل الجاهلي للجوار تبجيلاً يبلغ درجة القداسة أحياناً [31]، فحمايته من دلائل القوة، كما أن إخلافه دليل الضعف وعدم القدرة على السيطرة والحماية، وقد كانت للجار قيمة عند العرب توازي قيمة الحر الشريف.
فالقدرة على الوصول إلى المُجَار الذي يكون محميا في العرف القبلي، وملتزما جماعيا بالدفاع عنه، يعد أبلغ مفخرة للنفس، وأعظم سبّة للخصم، والشواهد على ذلك عديدة في شعر نقائض الفحول، والشاعر في ذلك يتوخى التصريح بالمغدور من جيران الخصوم ليعرف المقصود، ويوجه المخاطب نحو معرفة مشتركة محددة، وهي معرفة تخدم مصلحة المتكلم، وهي في الآن نفسه وسيلة يستعين بها الشاعر لرسم صورة خاصة بجماعته، فهذا جرير يفتخر بقتل الصمة بن الحارث في حوار الحارث بن بيبة المجاشعي[32]، وهو لا ينسى في ذلك أن ينسب الفضل للجماعة حيث يتحدث باسمها قائلا[33]:
ونحنُ ضربنا جارَ بَيْبَةَ فانتهى إلى خَسْفِ محكوم لهُ الضّيْمُ راغِمِ
وكان قتل الزبير بن العوام، الصحابي الجليل بجوار مجاشع، وصمة عار جلبت الخزي على هؤلاء، وقد استغل جرير ذلك، خاصة وأن القتيل شخصية قرشية لها شهرتها الدينية، وسمعتها التاريخية وصيتها القوي وسط العرب، ليحول الهجوم إلى هجوم شرس، وهو الهجوم الذي يستهدف التأثير في الجمهور وإقناعهم بغدر الخصوم وعدم الثقة فيهم، ويتضاعف ويتقوى المفعول التأثيري بحسب مركز وقيمة الشخصية، وهي تمثل شاهدا تاريخيا بما وقع منه وعليه من الفعل.
وكان تركيزه على هذه الحادث للاستدلال على غدر المجاشعيين وعدم قدرتهم على حماية الجار كبيرا في نقائضه مع الفرزدق والأخطل، فهو يقبحهم ويصفهم بالقيون، أي من جنس الحدادين، وفي هذا اتهام في الشرف والنسبة الصريحة لبني تميم، حيث يقول [34]:
ألا قبحَ اللهُ يومَ الزبيـــــرْ بلاءَ القيونِ وأخبارهـــــا
وقوله [35]:
ألا قبحَ اللهُ يومَ الزبيـــــرْ بلاءَ القيونِ وأخبارهـــــا
إن هذين البيتين يكثفان طاقة حجاجية بما يتضمنان من الإشارة إلى الأحداث التاريخية المتصلة بالقيم، فالغدر بمجاشع يؤكد الغدر بالجار وعدم الوفاء بالعهد، وعقر جعثن، وهي أخت الفرزدق، اتهام يدل على انعدام الشرف، والغيرة على النساء، والحفاظ عليهن.
ويختار جرير لتقوية الحجة السلبية المتصلة بحادث الزبير على الخصوم توظيف لقب لمجاشع، وهو أبو رغوان، وهو من الرغو، وهو عدم إفصاح الخطيب عن معناه؛ و”بنو رغوان بنو مجاشع، وكان مجاشع خطيباً، فسمعت كلامه امرأة بالموسم فقالت: كأنه يرغو فسمي بهذا”[36]، وهو بذلك هو لقب له دلالة سيئة ويضرب بعرض الحائط فصاحة القبيلة ويخرجها عن العرب الأقحاح المتسمين بفصاحة اللسان وبلاغة المنطق.
إضافة إلى توظيف لقب الزبير، فلقب الحواري هو من إطلاق خير البرية صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يقول: « إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ»[37]، والحواري هو الناصر، والخاصة من الأصحاب، والصحابة رضي الله عنهم كلهم كانوا أنصارا له صلى الله عليه وسلم بلا ريب، ولكن الزبير رضي الله عنه كان له اختصاص بالنصرة وزيادة فيها، لذلك سيكون لهذا التوظيف ازدواجيته في التأثير، ويصور لنا جرير كل ذلك على شكل حوار أحادي الجانب، له جماليته الخاصة النابعة من تخيليته المعمقة للغرض الهجائي والتأثيري في الخصوم والذي يشد في الآن نفسه المخاطب للاستماع وتدبر الحجج التاريخية المقدمة، فالإطار متخيل والمضمون واقعي، ولذلك طرافته، كما أن غياب التفاعل والتجاوب من الطرف الثاني، وهو المدّعى عليه، يؤكد على كونه مذنبا ومقترفا للجرم الشنيع، وهذا ما يجعل هذه التقنية أساسية في إنْفاذ دعوى المتكلم (جرير)، حيث يقول [38]:
وقالت قريشٌ للحَواريّ جــــارِكُم أ رغوانَ تدعو للوفاء وضَـــوطَرا
تراغيتُمُ يـومَ الزبيـــر كــــــــــــــــأنّــــكم ضباعُ مغاراتٍ تعاظَمنَ أجـعُــرا
ويأتي الشاعر بصورة مجاشع الضباع، فهم تولوا فرارا عن خوف وضعف يوم الزبير، وقد ترى لهم جعرا عظيما، والجعر بمنزلة البعر للجمل، من شدة الرعب والخوف على أرواحهم، وهذه الصورة تستحضر حيوانا خائفا يسلح من شدة الخوف، وهي صورة قد تبدو مدهشة غير أنها قد يكون الضبع بدلا عن النعامة أو الدجاجة الواردة في الأمثال العربية: “أسلح من حبارى”[39]، أو أسلح من دجاجة [40]، ولكن الجديد هنا هو حجم التأثير الذي يلائم توظيف هذا المثل القديم الجديد في سياقه الحديث الذي قد يلبسه ثوبا جديدا مصبوغا بالخيانة والغدر، والتولية فرارا يوم الحرب.
كما قد يعتمد المقارنة القائمة على دفع المخاطب للاختيار بين وضعيتين أو حالتين مختلفتين أو متناقضتين، حيث يستغل حادثة الزبير ليعلي من شأن جماعته التي لو لجأ إليها هذا الأخير لحمته بالخيل والرماح، وبذلك فهو يوظفه كمطية لتمرير فكرة الاتصاف بالقيمة [41]:
لو حَلّ جارُكُـــــــــــــــــــم إليّ مَنعتُــــهُ بالخيلِ تَنحِطُ والقَنـــــــا يَتزَعزَعُ
فحماية الجار والقدرة على ذلك كان من وسائل العرب في رسم صورة للذات أو الجماعة المتكلم عنها وباسمها، أو للممدوح، فجرير يعتبر نفسه أكثر من يحمي أعراض قومه ويتعداهم لبني تميم [42]:
هَــلا سألـــــت بنــــــــــــــــي تميم أينــــــا يحْــــــمي الذمــار ويستجار فيمْــنَــعُ
إن المعاني المتعلقة بالقيم والأخلاق، هي أخلاق في عمومها تصلح للجماعة، وتصبغ حياة القبيلة أو العشيرة منذ الجاهلية، وهي قيم مشتركة يجد فيها المتكلم ما يصلح لبناء الهيئة الذهنية أو لواقعية المثلى لجماعته، لذلك كان توظيفها من قبل الشعراء سمتا مشاعا منهم، وهم يدافعون عن ديار جيرانهم قبل الدفاع عن جيرانهم، ويدرؤون أي أخطار تحيق بالجيران قبل أنفسهم، كما أنهم يحملون عنهم الديات متى كانت هناك غرامات حرب، فالجار يدخل ضمن الحدود التي يحميها العربي بشجاعته.
4 ـ 3 قيمة الأخذ بالثأر
ومن القيم المتصلة بالشجاعة زمن الشدائد الثأر للقتيل، وهي “عادة تأصلت في طباع العربي، وأصبحت جزءا من كيانه إذا أراد أن يعيش محترما بين أفراد قبيلته، فهي له شفاء وراحة، والأخذ به دليل الشجاعة والقوة” [43].
فإدراكه يدفع الخزي عن الجماعة المفتخر بها، والانشغال عنه وعدم الاهتمام به هدر للطاقات واستحقاق للعار، وإهانة لدم القتيل الذي تعتقد العرب بأن طائرا كالبومة يخرج من رأسه، ويقول: أسقوني أسقوني فإن قتل قاتله كف ذلك الطائر [44]، لذلك كانت تتمسك به تمسكا شديدا.
وكانت العرب تفتخر بالثأر من الملوك والسادة، كالمهلهل بن ربيعة الذي أقسم بأنه سيقتل الأقيال، وهم الأمراء العظام، ثأرا لأخيه كليب [45]، لذلك فجرير مثلا يضعنا في حالة من التناقض في تصرف خصمه الفرزدق الذي يمدح بني فقيم، ومنهم ذكوان الذي كان سببا في موت أبيه، فقد روي أن غالباً لم يزل وجعا من سقطته من بعيره حين عقره ذكوان بن عمرو الفقيمي حتى مات بكاظمة [46]، فالمتوقع من الفرزدق يناقض الواقع مما يحدث التعارض والتناقض في سلوك الفرد، ويشكل هذا الأسلوب وسيلة لإبراز الصورة ورسمها على نحو يحدث المفاجأة ويحرك العواطف لإدراك ما غفل عنه، لذلك فهو يسخر منه قائلا [47]:
وامدَحْ سَراةَ بني فُقيمٍ إنّهُمْ قَتلــوا أباكَ وثأرُهُ لم يُقتَلِ
فالفرزدق لم يدرك ثأر أبيه الذي قتل عنوة، ودون وجه حق، ويستغل جرير هذه الحادثة ويوظفها كشاهد تاريخي يتوصل من خلاله إلى إبراز الحقيقة وتقرير غياب القيمة، فيهاجمه جرير ويذكره بفعل فقيم، فـــلقد [48]:
قَتَلتْ أباكَ بنو فُقيم عَنــوَةً إذ جُــرّ ليسَ على أبيـكَ إزار
عَقروا رَواحِلَهُ فليسَ بقَتلِهِ قَتلٌ وليسَ بِعَقْرهِنً عِقـار
4 ـ 4 فيمة الحِلم والتعقل
ومن فضائل الحرب والعداء بين الجماعات الحِلْم والتعقل أثناء مواجهة الأعداء، والشاعر في المدح أو الفخر يحاول رسم صورة مثالية متكاملة ومتناسقة لنفسه أو للممدوح، فهو يحاول التأثير على المخاطب بصورته المثالية المنزهة عما يسوؤها، فالفرزدق يفتخر بحِلم وتعقّل دارم بشيوخها، وهي مناسبة للإعلاء من شأن عقلائها، فيحلمون على الجهال بشكل عجيب، ويتعقلون في أحلك وأعصب الأوقات، ولكن إن زاد جهل هؤلاء، وكثر شغبهم وجدوا دارما جاهلة فوق جهلهم، حيث يقول[49]:
إنَّا لتُوزنُ بالجبالِ حلُومنُــا ويزيدُ جاهِلُنا علــى الجُهَّـالِ
وأما في الهجاء فيحدث العكس، وهذا مسلك شعراء النقائض، فالقيم كانت في صلب الحجاج ومحاولة التأثير في المخاطب والخصوم، فجرير يخاطب مجاشعا، رهط الفرزدق، ويبالغ فلا يجعل لهم حِلـْما، ولو في وزن ريشة العصفور [50]:
أ بـــنيّ شِعرَةَ لم نجد لمُجاشِـع حلماً يُـــوازِنُ ريشةَ العُصفـــــــــورَ
إنا لَنعلَمُ ما غَــدا لمُجاشِـــــــــــــــع وفــــــــــــدٌ وما ملكوا وثاقَ أسيـــــرِ
4 ـ 5 قيمة الكرم
و من الفضائل الاجتماعية التي تقترن بالشجاعة فضيلة الكرم، فقد تستعار للدلالة الكلية على الضرب وطعن العدو، فتعوضها تعويضا ثقافيا مشتركا، فتؤدي إليها، وهي رغم نفاذ طاقتها الجمالية لتهالكها بهذا الاستعمال والتداول تبقى حية في الأذهان، وقد مثلت هذه الملابسة دليلا على الفحولة الشعرية والحربية، ومن أسباب هذا الترابط المتين بين الفضيلتين أنهما قيمتان مركزيتان تمثلان سلطة القبيلة عند العرب الحربية والاجتماعية، وقدرتها على مواجهة المخاطر الخارجية والطبيعية، فهي تمثل ردود أفعال على التهديدات والأزمات، لذلك كانت قيما تجتمع لتشكل النظام الاجتماعي الوجودي للقبيلة[51]، وارتباطهما يقوي فضيلة الشجاعة،
ويزيد من توهج الجماعة الموصوفة في الوسط الاجتماعي، فالفرزدق يصف الخصوم بأنهم[52]:
وأضيافِ ليلٍ قدْ نقلنا قِراهُـمُ إليهِــــمْ فأتلفنا المَنايــا وأتلفُـــوا
فنسبة هذه القيمة وغيرها للمتكلم وجماعته هو تأكيد على الترابط الوثيق بينهما، وله دوره في سياق المفاخرات والمناقضات الشعرية، فقرى الأعداء وإكرامهم بالقتل تسفيه لدمهم، واسترخاص لقيمتهم.
وتلازم القيمتين هو تلازم يبين عن مركزية قد تكون متساوية في التأثير، فالحربي يتكامل مع الاجتماعي لرسم صورة مثالية للجماعة وأفرادها، يحاول بواسطتها المتكلم إيجاد موطئ خُلـُـقي لها ضمن سلسلة الجماعات الحاضرة، فالفرزدق يجمع بين الضرب والإطعام، فأفراد قبيلته هم [53]:
الضّاربونَ إذا الكَتيبةُ أحجمَــتْ والنَّازلُـونَ غَــــداةَ كُـــــــــــــــــلِّ نِــــــــــزال
والضّامِنونَ على المنيَّةِ جــــارُهْـم والمطْعمـونَ غَــداةَ كُلِّ شَمــــــالِ
وقد كان انتهاج الاستدلال بالقيم مسلكا عاما في الافتخار عند الشعراء، وكانت القيم من العناصر القيمة التي تحدد الشأن، وتبعث على التفضيل والاعتراف بالمكانة.
4 ـ 6 قيمة شرف النسب
ومن القيم التي افتخر بها هؤلاء ما اتصل بالمكانة والشرف في النسب، وهي موضوعة اتخذت دورا مهما في حياة العرب بحكم الظروف الاجتماعية والطبيعية التي حكمتهم، فقد افتخر العرب بأحسابهم وأنسابهم بكثرة، وفي بعض الكتب العربية القديمة مختارات تتجه هذا الاتجاه من الاعتداد بالنفس أو الجماعة.
وكما أحب العرب الافتخار بها أحبوا الامتداح بها أيضا، فشرف النسب هو من علو المنزلة والقيمة، لذلك فجرير يفتخر بأن يربوعا شيدت له بناء عاليا لا يستطاع مثله، دعائمه متينة وقوية، حيث يقول [54]:
بَنَتْ ليَ يَربوعُ على الشّرفِ العُلى دَعائِــــــم فَــــــوقَ ذَرعِ الدّعَـــائـــــــــمِ
وأما الفرزدق، وهو الذي اشتهر بين النقاد بمثل هذا الفخر، فيكثر عنده الاعتماد على هذه الموضوعة في الفخر، والاستدلال على أفضلية جماعته، إذ يفتخر قائلا [55]:
نَظَلّ نَدامىَ للملوكِ وأنتُـــــــــــــــــمُ تمشونَ بالأرباقِ ميلَ العَواتِــقِ
وهو في مكان آخر يستكثر من الرجال المتميزين في قبيلته تميز القمر والشمس في السماء، وهذا الاقتران بين الأجرام الأرضية والسماوية اقتران يناسب وينسجم مع انخراط الشاعر وتطلعات المخاطب، فأي عنصر أعلى قدرا وعظمة منهما !؟، حيث يقول محددا لمخاطبه المباشر وموجها الخطاب إليه [56]:
كَمْ منْ أبٍ ليَ يا جَريرُ كأنّـــــــــــــــــــهُ قَمــــــــــــرُ المــــــــــجـــــرَّة أَوْ سراجُ نَهَـــــــار
ورثَ المكارمَ كابراً عَنْ كابــــــــــــــــر ضَخْـم الدَّسيعَـــــة يَوْمَ كُلِّ فَخـــــــــــــــــار
ويتصل بالفخر بالنسب عند شعراء النقائض بالمهن، وهو منزع جميل له دلالات موجزة تستند على المعرفة بالقيم وخبايا المجتمع، فالعرب، كانوا وما يزالون يفرقون بين الناس وطبقاتهم بالمهن، والمعروف عند العرب القدماء، قبل الإسلام، أن دأب الأشراف منهم كانت التجارة، وكان من أحقر المهن عندهم الرعي أو الحدادة.
وفي النقائض نجد جريرا أكثر من وصف الفرزدق بالقيانة، وهي الحدادة، إذ يقول مقارنا، موازنا بين حالتين متعارضتين، الأولى حالة مزاول الكير، والثانية أضمرها بتوظيف أحد الأمثال المشهورة، حيث يقول مستغربا مما صدر من خصمه من تفضيل للنفس واعتزاز بالشرف والأصل [57]:
أتجعل ذا الكير من مالـــــــــــــــــــك وأين سهيل من الفرقــــــــــــــــــــد
إن نقض مكانة من يفتخر بهم الفرزدق من الأعمام والأجداد كان هاجس جرير، لذلك نجد يعتمد ما عُرف عن صعصعة من امتلاكه للقيون، ومنهم جُبير ووقْبان وديْسم [58]، وجرير يستغل ذلك بشكل عبقري، ويحاول في الوقت نفسه إرضاء وإشباع رغبات المخاطبين النفسية، حيث يتجاوز بما عُرِف به جده من القيون الممارِسين للحدادة إلى مجاشع كلها، وخاصة خصمه، فكنى عن هذه الحرفة ورمز إليها بأدواتها مثل الكتيف والكلبتين والميشار والمرجل والبرمة وغيرها، إذ أنه في سخريته من أبيه غالب بن صعصعة [59]:
وُجِدَ الكَتيفُ ذَخيرَةً في قــــبرهِ والكَلبتــــــــانِ جمُعْــنَ والمِيشارُ
يبكي صَداهُ إذا تهزّمَ مِــــرجَـــلٌ أو إنْ تــــثَلّمَ بُــــــــــــــــرمَــةٌ أعشــــارُ [60]
فهذه الأدوات دفنت معه في القبر، فلا يبكيه أو يجيبه سوى المِرْجل والبُرْمة، وهذا يدل على صغر شأنه في الدنيا، فهو لم يلتمس من الأعمال سوى القيانة، وابتعد عن الفضائل، وعلى ما يظهر فالشاعر يتعدى بهذه الصفة صعصعة إلى ابنه غالب ليكسر ارتباط الخصم بشجرة نسبه التي كانت من أسلحته القوية في المواجهة أو النقائض.
ويكرر ذكر هذه الأدوات أثناء استغرابه وإظهاره للتناقض بين الصفة والفعل، ويعير الفرزدق بكونه يدافع عن الزبرقان بن بدر مع كونه ليس سوى ابن قين، وجده قين [61]:
فإن تدّعوا للزّبرقان فإنكُــــــــــمْ بَنو بنت قينِ ذي عَلاة ومرجَلِ [62]
وتنويعا من طريقة العرض يلجأ إلى استخدام الحوار الهجائي الساخر والمبتكر على لسان شخصيتين، الشاعر المَهجو، في الغالب، وشخصية أخرى واقعية، ويلجأ إلى هذه جرير بشكل يتفوق به كثيرا على غيره، فهو الذي يقول ممهدا له، ومضيئا لجوانبه وظروفه، وأسبابه، ومحددا أطرافه، بأن [63]:
حَدراء أنكرتِ القُيونَ وريحَهُمْ والحُرّ يـــــــمنعُ ضَيمَــهُ الإنكـارُ
لمّا رأت صدأ الحديـــدِ بــــــجـِلـــدِهِ فاللونُ أورقُ والبَنانُ قِصــــار
وحدراء هذه أحد زوجات الفرزدق، وكانت نصرانية، واستغل جرير ذلك مهاجما إياه لأنها لا تعدل الظعائن المسلمات، والهجوم من جهة الدين يكون أقوى وأشد، إذ أن في المسيحية نشازا وشدودا في الحضور بين المخاطبين، والنادر يلفت الانتباه.
خاتمة:
اللافت أن شعراء النقائض ارتبطوا بالقيم العربية البدوية ارتباطا قويا، كغيرهم، فارتداد النص إلى السابق يساهم في تقوية الشعر باتصاله بالجذور، وتركيزه كخطاب مؤسِّس للتأثير والاستمالة، مما يجعل النقائض فنا وخطابا موجها نحو تحقيق التطابق والانسجام مع التطلعات والاعتقادات.
وقد تبين اعتماد شاعرا النقائض على عدد من القيم المستمدة من الثقافة العربية، فوظفوها في المدح والهجاء، إما بإسباغها، أو نزعها، وقد توقفنا عند قيم مثل الأخذ بالثأر، والدفاع عن القبيلة، والحِلم والتعقّل، وحفظ الجِوار وشرف النسب، والكرم.
الإحالات:
- [1] ـ محمد خير البقاعي: دراسات في النص والتناصية، عن مركز الإنماء الحضاري، حلب، الطبعة الأولى، 1998م، ص 125.
- [2] ـ مصطفى بيومي عبد السلام: سلطة الأبوة النص والعلاقات النصية عند العرب، مجلة علامات، المجلد 18، العدد 70، شعبان 1430 هـ / أغسطس 2009م، ص 256.
- [3] ـ دراسات في النص والتناصية، ص 61.
- [4] ـ تزيفيتان تودوروف: ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، ترجمة فخري صالح، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1996م، ص 125.
- [5] ـ دراسات في النص والتناصية، ص 61.
- [6] ـ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري: كتاب العين، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، الناشر دار ومكتبة الهلال، ج 5، ص 50 ـ 51.
- [7] ـ ابن منظور الإفريقي: لسان العرب، نسخة مذيَّلة بحواشي الشيخ اليازجي وجماعة من اللغويين، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، ج 7، ص 242.
- [8] ـ محمد الأمين: ظاهرة النقائض في الشعر الأموي (مدخل عام)، منشورات كلية دار المهراز، فاس، الطبعة الأولى، 1999م، ص 18.
- [9] ـ أحمد الشايب: تاريخ النقائض في الشعر العربي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1954م، ص 1.
- [10] ـ ـمصطفى الشكعة: رحلة الشعر من الأموية إلى العبّاسية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997م، ص 27.
- [11] ـ أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني: الأغاني، تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور إبراهيم السعافين والأستاذ بكر عبَّاس، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2008 م، المجلد 21، ص 37.
- [12] ـ أبو الفرج قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق وتعليق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 96.
- [13] ـ نفسه، ص 98.
- [14] ـ أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري: جمهرة الأمثال، دار الفكر، بيروت، ج 1، ص 336.
- [15] ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة السابعة، 1998م، ج 3، ص 291.
- [16] ـ الأغاني، ج 9، ص 84، وما بعدها.
- [17] ـ عبد الله الغدامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الثالثة، 2005 م، ص 119 ـ 123.
- [18] ـ “البيان والتبيين”، ج 3، ص 292.
- [19] ـ نوري حمودي القيسي: الفروسية في الشعر الجاهلي، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، الطبعة الأولى، 1964م، ص 88.
- [20] ـ أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، تحقيق الدكتور مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1983 م، ج 1، ص 91.
- [21] ــ أبو عبيد الله اليزيدي، رواية عن أبي سعيد السّكري، عن ابن حبيب، عن أبي عبيدة: شرح نقائض جرير والفرزدق، تحقيق وتقديم الدكتور محمد إبراهيم حُوّر والدكتور وليد محمد خالص، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، الطبعة الثانية، 1998م، ج 2، ص 404.
- [22] ـ نفسه، عينه، ص 467.
- [23] . شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 2، ص 501.
- [24]. أمية بن أبي الصلت: ديوان أمية بن أبي الصلت، جمعه وحققه وشرحه الدكتور سجيع جميل الجبيلي، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، ص 141.
- [25]ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 2، ص 373.
- [26] ـ نفسه، ج 3، ص 921.
- [27] ـ الشرح ـ هام الملوك: رؤوسهم ـ الأصيد: المتكبر، شبهه بالأصيد من الإبل، وهو الذي يصيبه داء فيرفع رأسه.
- [28] ـ نوري حمودي القيسي: دراسات في الشعر الجاهلي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، ص 13.
- [29] ـ القرآن الكريم، رواية ورش، من سورة آل عمران، الآية 76.
- [30] ـ مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي: القاموس المحيط، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثامنة، 2005 م، ص 369.
- [31] ـ فاروق أحمد اسليم: الانتماء في الشعر الجاهلي دراسة، من منشورات اتحاد الكتاب العــــــرب، ص 476.
- [32] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 820.
- [33] ـ نفسه، عينه، ص 884.
- [34] ـ أبو تمام، نقائض جرير والأخطل، شرح وتحقيق محمد نبيل طريفي، دار صادر ـ بيروت، الطبعة الأولى، 2002م، ص 85.
- [35] ـ نفسه، ص 86.
- [36] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 1، ص 243.
- [37] ـ محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422ه،ج5، ص 21.
- [38] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 1074.
- [39]ـ ـ أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي: الأمثال المولدة، تحقيق وتقديم محمد حسين الأعرجي، المجمع الثقافي، أبو ظبي، طبعة 2003م. ص 78 ـ ص 292.
- [40] ـ كتاب جمهرة الأمثال، ج 1، ص 534.
- [41] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 1054.
- [42] ــ نفسه، عينه، ص 1055.
- [43] ـ حنا نصر الحتي: مظاهر القوة في الشعر الجاهلي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م، ص 131.
- [44] ـ محمد بن يزيد المبرد: الكامل في اللغة والأدب، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1997م. ج 1، ص 293.
- [45] ـ مهلهل بن ربيعة: ديوان المهلهل، شرح وتحقيق أنطوان محسن القوّال، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1995م، ص 71.
- [46] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 2، ص 390.
- [47] ـ نفسه، عينه، ص 387.
- [48] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 965.
- [49] ـ نفسه، ج 2، ص 458.
- [50] نفسه، ج 3، 1028.
- [51] ـ النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ص 147.
- [52] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 2، ص 720.
- [53] . نفسه، عينه، ص 450.
- [54] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 879.
- [55] ـ نفسه، عينه، ص 906.
- [56] ـ نفسه، ج 2، ص 501.
- [57] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 919.
- [58] ـ ابن قتيبة: الشعر والشعراء، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ج 1، ص 471.
- [59] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 964.
- [60] ـ الشرح ـ الكتيف: ضبّات الحديد ـ الصدى: بدن الميت ـ تهزم: تصدّع ـ المرجل: القدر من حديد ـ البرمة:القِدر من الحجارة.
- [61] ـ شرح نقائض جرير والفرزدق، ج 3، ص 833.
- [62] ـ الشرح ـ الزبرقان: ابن بدر الشاعر التميمي ـ العلاة: السندان ـ المرجل: القِدر من الحديد، و إن كانت من الحجارة فهي البُرْمة.
- [63] ـ نفسه، عينه، ص 965.