نحو إعادة النظر في العلاقة بين المنهج البنيوي والمنهج التاريخي: نماذج تطبيقية ميشيل فوكو

باحث في علم الاجتماع

المغرب

مقدمة المترجم

غالبا ما بقي القسم المنهجي في بحوث العلوم الإنسانية مهمشا ونمطيا، إذ قد يشير الباحث إلى اعتماد منهج معين دون أن يدرك الخلفيات النظرية التي ينبني عليها ذلك المنهج وآليات تطبيقه. ينطبق هذا الأمر على استعمال المنهجين البنيوي والتاريخي معا. إنهما منهجان غامضان إلى حد ما وليس من اليسير تطبيقهما في البحوث الأكاديمية. لذلك، جاءت ترجمتنا لهذا المقال بغرض المساهمة في إبراز ملامح هذين المنهجين للقارئ العربي.

يثير المقال النقاش الذي دار بين الفلاسفة والنقاد والمتخصصين في العلوم الإنسانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، على وجه الخصوص، حول طبيعة المنهجين البنيوي والتاريخي، والعلاقة بينهما. إذا كانت البنية تبدو في أحد أبعادها وكأنها تتعارض مع التاريخ، كما نستشف ذلك من تصور دو سوسير، الذي وضع أسس التحليل البنيوي، حيث ميز بين الدراسة الدياكرونيكية (التعاقبية) والدراسة السانكرونيكية (التزامنية)؛ فإن ميشيل فوكو يحاول في هذا المقال التقريب بين منهجي الدراسة (أي الدراسة التعاقبية والدراسة التزامنية)، بحكم اعتماده على مقاربة أركيولوجية تبحث في المصادر المشتركة لمختلف الأنظمة المعرفية. سيتضح أنه يبرز طبيعة العلاقة بين المنهج التاريخي (الذي غالبا ما يحيل في فهمنا على التعاقب) والمنهج البنيوي (الذي غالبا ما يشير إلى دراسة العلاقات الآنية بين مجموعة من العناصر)، وذلك من خلال تقديمه أمثلة ونماذج تطبيقية من مختلف تخصصات العلوم الإنسانية والفلسفة والأدب.

إذا كانت بعض الدراسات البنيوية قد سعت إلى البحث فيما إذا كانت هناك بنيات ثقافية قبلية مشتركة بين الشعوب، فذلك ما جعل فوكو يتطرق في مقاله إلى تحليل الأساطير على وجه الخصوص. لقد قدم نموذجا للتحليل البنيوي من مجال الدراسات الميثولوجية، مقارنا بين حكاية رومانية وأخرى إرلندية، ومتعقبا خصائص شخصية البطل في كلا الحكايتين وعلاقته بطبيعة التنظيم الاجتماعي. أما المنهج التاريخي فتناوله في سياق إعادة النظر في التاريخ العام التقليدي، لكي يدافع عن منهج تاريخي جديد يختص بدراسة حدث معين أو قطاع محدد من الظواهر دون الانطلاق من مقولات تاريخية قبيلة. وقد قدم في هذا السياق مثالا تطبيقيا حول دراسة القوارب التجارية بميناء إشبيلية.

إن هذا المقال امتداد لأعمال ميشيل فوكو السابقة، خصوصا كتابه “الكلمات والأشياء” الذي طبق فيه المنهج البنيوي بشكل واضح رافضا النزعة الإنسانية، وكتابه “أركيولوجيا المعرفة” الذي انتقد فيه النزعة التاريخية مبرزا أهمية الانقطاع لا الاتصال والتعاقب في التاريخ.

تجدر الإشارة إلى كوننا نترجم كلمة séries بـ “قطاعات” بدل “سلسلات”، وكلمة histoire sérielle بـ “تاريخ قطاعي” بدل “تاريخ تسلسلي”، لكون الترجمة الحرفية لا تفي بالغرض، بحيث تجعل القارئ العربي يعتقد أن فوكو يبحث عن التتابع والاتصال في التاريخ (وفق ما تحيل عليه كلمة التسلسل)، والحال أنه يبحث عن القطائع. فهو إذَا أراد أن يقصد الاتصال يردف كلمة سلسلات (séries) بعبارة: “حتى وإن كانت متتابعة” (أو السلسلات المتتابعة أيضا)، كما ورد في عبارة: la seule analyse de séries aussi continues. ما يعني أنه حينما يستخدم كلمة “سلسلة” بمفردها يقصد بها “صنف” و”قطاع”، وهما لفظان لا يحيلان على التتابع عكس دلالة كلمة “سلسلة”، خصوصا في اللغة العربية، حيث تشير إلى الأشياء المتتابعة). إنه يقول بصريح العبارة أن هذا النمط الجديد من التأريخ الذي اقترحه (ما ترجمناه بالقطاعي بدل التسلسلي) لا يبحث عن الاتصال، كما يلي:

dans l’histoire sérielle، non pas du tout l’événement se dissoudre au profit d’une analyse causale ou d’une analyse continue.

سيتضح من خلال المثال الذي قدمه لهذا النمط من التأريخ أنه يقصد دراسة حدث معين أو قطاع من الظواهر والبحث في تفاعلاتها الآنية بدل دراسة المدة الزمنية الطويلة، لكي يستبعد التعارض بين المنهج التاريخي التقليدي الذي كان يبحث عن تسلسل وتتابع الأحداث بالتركيز على عنصر الزمن؛ وبين المنهج البنيوي الذي يركز على العلاقات الآنية بين مختلف العناصر المشكلة لموضوع الدراسة. هذا مع الإشارة إلى أن المنهج البنيوي من منظور ميشيل فوكو ملزم بدراسة نسق التحولات أيضا، وهنا ينفتح المنهج البنيوي بدوره على التاريخ.

نص المقال

لم تكن النقاشات حول العلاقات القائمة بين البنيوية والتاريخ موجودة في فرنسا فحسب؛ بل كانت في أوروبا وأمريكا كذلك، وربما حتى في اليابان. لا أدري، ربما هي نقاشات عديدة ومكثفة، وغامضة في أغلب الأحيان. يرجع تعقيدها إلى بعض الأسباب التي يسهل عدها: أولا، لأنه لا أحد يدرك معنى البنيوية أيا كان. ثانيا، يحيل مفهوم “التاريخ”، في فرنسا، على شيئين: أحدهما ذلك الذي يتحدث عنه المؤرخون، والآخر هو ما يقومون به في ممارستهم. أما السبب الثالث، وهو الأهم، فيرجع إلى كون العديد من المواضيع أو الانشغالات السياسية جعلت هذا النقاش [حول العلاقات الموجودة بين التاريخ والبنيوية] يشوبه نوع من الخلط. في الواقع، لا أريد تخليص نقاش اليوم إطلاقا من السياق السياسي الذي يحيط به. بل على العكس من ذلك، سأقدم في الجزء الأول الإستراتيجية العامة لهذه المناقشة، وخطة المقاومة التي ستخوضها بين كل من البنيويين ومعارضيهم بشأن موضوع التاريخ.

إن أول ما يجب ملاحظته كون البنيوية، على الأقل في شكلها الأول، كانت بمثابة مشروع يهدف إلى تقديم منهج صارم ومحدد بشكل دقيق للبحوث التاريخية. لم تتمكن البنيوية، على الأقل خلال بداياتها الأولى، من الانفلات من التاريخ: لقد أرادت أن تنجز تاريخا أكثر صارمة وانتظاما. وسأقدم على ذلك، بكل بساطة، ثلاثة أمثلة. يمكن اعتبار الأمريكي بواز (Boas) مؤسس المنهج البنيوي في الإثنولوجيا([2]). لكن، ماذا كان يمثل له هذا المنهج؟ لقد كان بالأساس ضربا من النقد لبعض أشكال التاريخ الإثنولوجي الذي كان سائدا خلال عصره. قدم تايلور (Taylor) نموذجا لهذا التاريخ([3])، يقضي بكون المجتمعات البشرية تمر من منحى التطور نفسه، انطلاقا من الأشكال الأقل بساطة إلى الأكثر كمالا، وأن هذا التطور لا يتغير من مجتمع إلى آخر إلا على مستوى سرعة التحولات. كما أبرز من جهة أخرى، أن الأشكال الاجتماعية الكبرى، من قبيل قواعد الزواج أو التقنيات الزراعية على سبيل المثال؛ قد تكون في الواقع أصنافا من الأنواع البيولوجية، وأن توسع تلك القواعد والتقنيات، ونموها، وتطورها، وانتشارها كذلك؛ يخضع للقوانين نفسها كما يخضع للمخطط الخاص بالأنواع البيولوجية في نموها وانتشارها. وفي كل الأحوال، فالنموذج الذي أعطاه تايلور لتحليل تطور تاريخ المجتمعات هو نموذج بيولوجي. يحيل تايلور بذلك النموذج على داروين وعلى النزعة التطورية بشكل عام، لكي يحكي لنا [من خلالها] عن تاريخ المجتمعات.

كان مشكل بواز هو التخلص من المنهج الإثنولوجي الذي يستند على النموذج البيولوجي القديم، وإبراز كيف أن المجتمعات البشرية، سواء أكانت بسيطة أم مركبة؛ تخضع إلى بعض العلاقات الداخلية التي تميزها عن الأخرى؛ وإلى لعبة داخلية خاصة بكل مجتمع، وهذا ما سماه بواز بنية المجتمع، وهي البنية التي يجب أن يسمح تحليلها بإقامة تاريخ خال من التصور البيولوجي، ولكنه تاريخ حقيقي للمجتمعات البشرية. هكذا، لم يكن رهان بواز على الإطلاق التخلص من وجهة النظر التاريخية على حساب وجهة نظر ضد-تاريخية أو لا-تاريخية إذا شئنا القول.

أخذت مثال بواز، وكان باستطاعتي أن آخذ بالطريقة نفسها مثال اللسانيات والفونولوجيا تحديدا. فقبْل تروبتسكوا (Troubetskoï)، كانت الفونولوجيا التاريخية قد فكرت في تطور وحدة صوتية (phonème) أو نبرة خاصة بلغة ما([4]). ولم يكن هدفها إعادة الاعتبار لتحول حالة لغة معينة في زمن ما: هذا ما أراد تروبتسكوا القيام به عن طريق الفونولوجيا، مقدما بذلك الأداة التي تسمح بالانتقال من التاريخ إلى ضرب من النبرة المنفردة في التاريخ العام للنسق الفونولوجي الخاص بلغة معينة.

يمكنني أخذ مثال ثالث، وسوف أذكره باختصار. يتعلق الأمر بتطبيق البنيوية على الأدب، فعندما عرَّف رولان بارث، منذ سنوات مضت، ما سماه بمستوى الكتابة، بالتعارض مع مستوى الأسلوب أو مستوى اللغة؛ ماذا كان يريد فعله([5])؟ حسنا، يمكن فهمه إذا نظرنا إلى الوضعية والحالة التي كانت عليها دراسات تاريخ الأدب في فرنسا، خلال سنوات 1950-1955، وهو العصر الذي كان فيه الأدب يبحث في التاريخ الفردي والنفسي، وقد يكون تحليلا نفسيا للكاتب منذ ولادته إلى حدود اكتمال مؤلفه. كما كان الأدب يبحث، أيضا، في التاريخ العام والعالمي المرتبط بعصر معين وبنسق ثقافي ووعي جمعي إذا شئنا القول.

نتيجة ذلك أننا لا ندرك قَط إلا الفرد ومشكلاته الشخصية، من جهة أولى. ومن جهة ثانية، لا نصل إلا إلى مستويات عامة جدا. إن ما أراد بارث القيام به عندما أدخل مفهوم الكتابة هو اكتشاف بعض المستويات الخاصة التي نستطيع من خلالها وضع تاريخ للأدب باعتباره أدبا، وباعتبار أن له مميزات خاصة تتجاوز الأفراد، وأن الأفراد يقيمون فيه. ومن جانب آخر، باعتبار أن فعل الكتابة يتموضع وسط باقي كل الإنتاجات الثقافية الأخرى، فهو عنصر خاص على الإطلاق، له قوانينه الخاصة التي تتحكم فيه وفي تحولاته. وبإدخال بارث مفهوم الكتابة هذا، أراد أن يؤسس لإمكانية جديدة لتاريخ الأدب.

وعليه، أعتقد أن ما يجب الإبقاء عليه في الذهن؛ هو أن مختلف المشاريع البنيوية (سواء أتعلق الأمر بالإثنولوجيا، أم باللسانيات أم بالأدب، والشيء نفسه يمكن قوله بخصوص الميثولوجيا وتاريخ العلوم) كانت دائما في بداياتها الأولى بمثابة محاولات من أجل وضع أداة تحليل تاريخي دقيق. لكن، يجب الاعتراف بأن هذا المشروع، وأنا لم أقل أنه فشل، لم يتم الاعتراف به كما ينبغي، وأن أغلب المعارضين للبنيويين هم على الأقل يوافقون على مسألة ما، وهي أن البنيوية قد تفقد البعد التاريخي نفسه وتصبح بالتالي ضد التاريخ.

يرجع هذا النقد إلى مستويين مختلفين، فهناك أولا نقد نظري للإيحاءات الفينومينولوجية أو الوجودية. حيث نلاحظ أنه مهما قد تكن مقاصدهم؛ تبقى البنيوية ملزمة بالتقليل منها، وتكون بالتالي قد قدمت امتيازا مطلقا لدراسة العلاقات المتزامنة أو التزامن على دراسة العلاقات التطورية. عندما يدرس الفونولوجيون، على سبيل المثال، القوانين الفونولوجية؛ فإنهم يدرسون حالات للغة، دون الأخذ بعين الاعتبار تطورها الزمني. فكيف نستطيع ممارسة التأريخ إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الزمن؟ بل أكثر من ذلك، كيف نستطيع القول إن التحليل البنيوي له طابع تاريخي، ما دام يفضل ليس فقط المتزامن على المتعاقب؛ بل إنه يفضل إضافة إلى ذلك المنطقي على السببي؟ على سبيل المثال، عندما حلل ليفي ستروس الأسطورة؛ لم يكن يبحث عن معرفة من أين أتت هذه الأسطورة، ولماذا ظهرت، وكيف انتقلت، وما هي الأسباب التي جعلت ساكنة ما تعود إلى هذه الأسطورة، أو لماذا تسببت ساكنة أخرى في تغييرها. على العكس من ذلك، فهو يكتفي، على الأقل في مستوى أول؛ بوضع علاقات منطقية بين مختلف العناصر المشكلة لهذه الأسطورة، وفي خضم هذا المنطق يمكننا وضع محددات زمنية وسببية. وأخيرا، هناك اعتراض على البنيوية من حيث أنها لا تأخذ بعين الاعتبار الحرية أو المبادرة الفردية. يعترض سارتر على اللسانيين بكون اللغة ليست إلا نتيجة ونقطة عبور نشاط إنساني أساسي وأولي. فإذا لم تكن هناك ذاتٌ متكلمة تسترجع اللغة كل لحظة، تقيم داخلها، تحيط بها، تحولها وتستعملها؛ إذا لم يكن هناك هذا العنصر من النشاط الإنساني، وإذا لم يكن هناك كلام في قلب نسق اللغة، فكيف يمكن للغة أن تتطور؟ غير أنه، في اللحظة التي نترك فيها الممارسة الإنسانية جانبا، لكي لا نفكر إلا في البنية وقواعد الإكراه؛ من البديهي أننا سنتخلص منها ومن التاريخ.

إن الانتقادات التي وجهت من طرف الفينومينولوجيين أو الوجوديين انضافت على العموم إلى الانتقادات التي وجهها بعض الماركسيين الذين سأسميهم بالماركسيين المختصرين، أي الماركسيون الذين ليست الماركسية نفسها هي مرجعيتهم النظرية، لكنها بالأحرى إيديولوجيات بورجوازية معاصرة، مقابل الماركسية الأكثر جدية؛ أي الماركسية الثورية فعلا. ترتكز هذه الانتقادات على كون ظاهرة الحركات الثورية التي ظهرت، والتي أفرزها الطلبة والمثقفون كذلك؛ لا ترجع تقريبا إلى الحركة البنيوية. وربما ليس هناك إلا استثناء واحدا لهذا المبدأ، وهي حالة التوسير في فرنسا. فألتوسير هو ماركسي طبق في قراءة وتحليل نصوص ماركس بعض المناهج التي يمكن اعتبارها بنيوية. إن تحليل ألتوسير له أهمية كبرى بالنسبة للتاريخ الحديث للماركسية الأوروبية([6]). ترتبط هذه الأهمية بكون ألتوسير خلص تأويل الماركسية التقليدي من كل نزعة إنسانية، ومن كل نزعة هيجلية وفينومينولوجية كذلك، والتي كانت مطروحة آنذاك، حيث جعل قراءة ماركس ممكنة من جديد، ولم تكن قراءته كتلك السائدة بالجامعة، لكنها كانت سياسية كليا. وبالرغم من أن هذه التحليلات الألتوسيرية كانت مهمة في البداية؛ فهي وجدت نفسها متجاوزة من طرف الحركة الثورية التي تطورت في صفوف الطلبة والمثقفين، وكانت، وأنتم تعلمون ذلك؛ حركة مضادة للنظرية بشكل أساسي. بل أكثر من ذلك، فأغلب الحركات الثورية التي تطورت في العالم الحديث كانت أقرب إلى روزا لوكسمبرغ (Rosa Luxemburg) منها إلى لينين: إنهم كانوا يثقون في تلقائية الجماهير أكثر مما يثقون في التحليل النظري.

يبدو لي أنه إلى حدود القرن العشرين، كان الهدف الأساسي للتحليل التاريخي هو إعادة بناء ماضي مختلَف القوميات الكبرى، حسب ما إذا كانت منفصلة عن المجتمع الصناعي الرأسمالي أم متصلة به. فالمجتمع الصناعي الرأسمالي كان منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر موجودا بأوروبا وفي العالم بحسب مخطط القوميات الكبرى. كان هدف التاريخ ضمن الإيديولوجيا البورجوازية هو إبراز كيف أن هذه الوحدات القومية، التي كانت الرأسمالية في حاجة إليها؛ أتت من مكان بعيد زمنيا، وعبر عدة ثورات تمكنت من تأكيدها والمحافظة على وحداتها.

كان التاريخ في البداية تخصصا معرفيا؛ استطاعت البورجوازية أن تبين من خلاله أن سيادتها لم تكن إلا نتيجة، ومنتوج وثمرة نضج بطيء، وبهذا المقياس؛ كانت هذه السيادة ممأسسة بشكل مطلق ما دامت آتية من سالف الزمان؛ وبالتالي، أبرزت البورجوازية على إثر ذلك أنها ليس بإمكانها تهديده عن طريق إحداث تطور جديد. وقد أسست البورجوازية قانونها من أجل امتلاك السلطة في الوقت ذاته الذي تخلصت فيه من تهديدات التطور الصاعد، فكان التاريخ ما دعاه ميشيلي (Michelet) بـ«انبعاث الماضي». لهذا أعطي للتاريخ مهام جعل الماضي القومي في كليته حيا. هذا النزوع وهذا الدور الذي أعطِي للتاريخ يجب أن يراجع حاليا إذا ما أردنا تحرير التاريخ من النسق الإيديولوجي حيث ظهر ونما. إنه يجب فهم التاريخ باعتباره تحليلا للتحولات التي تتعرض لها المجتمعات فعلا. إن المفهومين الأساسيين للتاريخ، كما نقوم بعرضهما الآن، لم يعودا الزمان والماضي، ولكن التحول والحدث. سأقدم مثالين عن لذلك: الأول مستلهم من المناهج البنيوية، أما الثاني فمستلهم من المناهج الخاصة بالتاريخ؛ أحدهما هدفه أن يبرز لكم كيف أعطت البنيوية أو اجتهدت في كل الأحوال في إعطاء شكل صارم لتحليل التحولات، أما الآخر فهدفه إبراز كيف أن بعض مناهج التاريخ الجديدة هي محاولات من أجل إعطاء وضع ومعنى جديدين لمفهوم الحدث القديم.

بخصوص المثال الأول، سوف أتناول التحليل الذي قام به دومزيل (Dumézil) لأسطورة هوراس (Horace) الرومانية([7])، والذي يعتبر، في اعتقادي، أول تحليل للأسطورة الهيندو-أوروبية. إنه التاريخ المعروف جدا، الذي وجد فيه دومزيل نفس الروايات في مختلف الدول، وفي إرلندا بشكل خاص. هناك حكاية إرلندية حيث نجد شخصا، وبطلا إسمه كوشولين (Cûchulainn)، وهو طفل منحته الآلهة سلطة سحرية وقوة خارقة: ذات يوم كانت المملكة التي يعيش فيها كوشولين مهددة، فخرج في بعثة ضد الأعداء، والتقى عند باب قصر زعيم أعدائه أول خصم له فقتله. ثم استمر في سيره، فالتقى الخصم الثاني فقتله، ثم الخصم الثالث فقتله كذلك. وبعد هذا الانتصار الثلاثي تمكن من الدخول على زعيمهم، غير أن الصراع وضعه في حالة تهيج، أو بالأحرى السلطة السحرية التي تلقاها من الآلهة هي التي جعلته كذلك، فوجد نفسه في معركة متوقدة لدرجة أن كل شيء أصبح أحمرا ومشتعلا، وكان إذا دخل إلى مدينته سوف يشكل خطرا على الكل. لكي يتم إيقاف هذه القوة المشتعلة والمتوقدة؛ قرر مواطنوه، في طريق عودتهم، أن يرسلوا إليه امرأة. غير أنه وجد أن تلك المرأة هي امرأة عمه؛ في الوقت الذي تمنع فيه قوانين المحارم مثل هذه العلاقة الجنسية، فلم يتمكنوا إذا من إيقاف صراعه بهذه الطريقة؛ فأرغموا على إدخاله إلى حمام بارد. لكنه هو نفسه كان ساخنا جدا ما جعل ماء الحمام يغلي، فأُرغموا على تبليله بشكل تدريجي في سبع حمامات قبل أن يعود لدرجة حرارته العادية ويستطيع العودة إليه دون أن يشكل خطرا على الآخرين.

لعل تحليل دومزيل يتميز عن التحليلات الميثولوجية المقارنة التي أقيمت قبله. ففي القرن التاسع عشر كانت هناك مدرسة كاملة للميثولوجيا المقارنة، وقد اكتفت بإبراز التشابهات الموجودة بين مختلف الأساطير. بالإضافة إلى ذلك، توصل بعض مؤرخي الديانات إلى إيجاد نفس الأسطورة الشمسية (mythe solaire) في كل ديانات العالم تقريبا. غير أن دومزيل، على العكس من ذلك – وهنا يكمن الطابع البنيوي لتحليله – لم يقرب بين هذين الخطابين إلا ليحدد الاختلافات بين الأول والثاني بشكل دقيق. إنه يشير إلى هذه الاختلافات بدقة كبيرة. ففي حالة كوشولين الإرلندي؛ البطل طفل، وقد أوتي، من جهة أخرى؛ سلطة خارقة، كما أنه وحده. انظروا إلى الأسطورة الرومانية؛ حيث البطل، هوراس، ناضج، وهو في السن الذي يستطيع فيه حمل السلاح، ولا يمتلك أية قوة خارقة. هناك مجموعة من الاختلافات الأخرى في حالة الأسطورة الإرلندية: يتمتع البطل بسلطة سحرية قوية جدا ومتعالية في المعركة التي يعود منها حاملا للخطر لمدينته. أما في في حالة الحكاية الرومانية، يعود البطل منتصرا، ومن ضمن الأشياء التي يصادفها؛ رؤيته لأحدهم كان في نفسه خائنا لوطنه: إنها أخته، التي كانت في حزب المعارضين الرومانيين. وهكذا تحول الخطر على المدينة من الخارج إلى الداخل. فلم يعد البطل هو الحامل للخطر، بل شخص آخر مختلف عنه، وهو في الآن نفسه ينتمي إلى عائلته. وأخيرا، تتمثل المجموعة الثالثة من الاختلافات، في الحكاية الإرلندية؛ في كون الحمام السحري وحده من ضمن صهاريج المياه الباردة السبعة هو الذي يستطيع تهدئة البطل. بينما في الحكاية الرومانية، ينبغي القيام بطقس معين، وهو طقس ليس سحريا ولا دينيا، إنما هو طقس قانوني، بمعنى محاكمة، تليها عملية الاستئناف، ثم البراءة، لكي يتمكن البطل من استعادة مكانه وسط معاصريه.

إن تحليل دومزيل، الذي يعتبر الأول من نوعه؛ ليس تحليلا للتشابه، إنما هو تحليل للاختلاف وللعبة الاختلافات. بل أكثر من ذلك، لا يكتفي تحليل دومزيل بإعداد جدول للاختلافات، إنما وضع نسقا للاختلافات، متضمنا التراتبية والتبعية الموجودة بين عناصره. على سبيل المثال، أبرز دومزيل أنه، وفقا للحكاية الرومانية؛ انطلاقا من اللحظة التي لم يعد فيها البطل طفلا صغير السن، تعطى له سلطة سحرية، لكنه يظل جنديا شأنه شأن الآخرين. في هذه اللحظة بالذات، يتضح بجلاء أنه لا يستطيع البقاء وحيدا في وجه خصومه الثلاثة، لأن الرجل العادي الذي يواجه ثلاثة رجال عاديين من خصومه، من الضروري؛ أن يصير مفتقدا. نتيجة لذلك، أحاطت الحكاية الرومانية البطل هوراس باثنين من إخوته، لكي يضطعا بدور تحقيق التوازن ومناصرة أخيهم البطل، في وجه الكورياس (les Curiaces) الثلاثة. إذا كان البطل قد مُنح سلطة سحرية، فإن ذلك ما جعل الانتصار على خصومه الثلاثة أمرا سهلا؛ انطلاقا من اللحظة التي يظهر فيها بوصفه رجلا وجنديا كالآخرين. لذلك، كان من اللازم أن نراه محاطا بجنديين آخرين، أما انتصاره فلم يتحقق إلا بضرب من الخدعة، وفي الأخير عن طريق حيلة تكتيكية. لقد اعتبرت الحكاية الرومانية أن إنجاز البطل الإرلندي أمر طبيعي، انطلاقا من اللحظة التي أدخل فيها الرومانيون الاختلاف الذي يرمي إلى وضع بطل راشد موضع طفل بطل، وانطلاقا من اللحظة التي قدموا فيها بطلا عاديا، وليس شخصية تمتلك سلطة سحرية، هذا إضافة إلى وضع ثلاثة جنود في مواجهة ثلاثة آخرين. فلسنا، إذن، أمام جدول للاختلافات فحسب، إنما هناك تسلسل واتصال بينها. وأخيرا، يهدف تحليل دومزيل البنيوي إلى إبراز الشروط المتحكمة في تحولات من هذا القبيل.

نلاحظ انطلاقا من الحكاية الإرلندية، أنها ترسم ملامح مجتمع يرتكز فيه التنظيم العسكري بالأساس على الأفراد الذين يمتلكون سلطة وقوة منذ ولادتهم؛ كما ترتبط قوتهم العسكرية بسلطة سحرية ودينية. وبالمقابل، نلاحظ انطلاقا من الحكاية الرومانية أنها تجسد ملامح مجتمع تمارس فيه السلطة العسكرية بشكل جماعي؛ فهناك ثلاثة أبطال من الهوراس (Horaces) ليسوا إلا موظفين بمعنى من المعاني، وقد فُوضت إليهم ممارسة السلطة، بينما الأبطال الإرلنديين يبادرون بأنفسهم في مغامراتهم، وذلك في إطار استراتيجية مشتركة تدور المعركة في أطوارها. بعبارة أخرى، إن التحولات التي أسبغها الرومانيون على الأساطير الهيندو-أوروبية القديمة نتيجة لتحولات مجتمع، يتكون بالأساس، على الأقل فيما يخص طبقته العسكرية؛ من فردانية أرسطقراطية في مجتمع يتسم تنظيمه العسكري بطابع جماعي وديمقراطي في حدود معينة. وهكذا فالملاحظ أن التحليل البنيوي، لا أقول إنه يحل المشاكل التي يطرحها تاريخ روما، إنما يدور بشكل مباشر حول التاريخ الفعلي للعالم الروماني. لقد أبرز دومزيل أنه لا ينبغي البحث في حكاية الهوراس والكورياس عن تنقلات الأحداث الواقعية التي مرت في السنوات الأولى من التاريخ الروماني؛ إنما ينبغي البحث أيضا في اللحظة التي تبرز فيها خطاطة التحول الخاصة بالأسطورة الإرلندية في القصة الرومانية، فهو يبين أن هذا المبدأ كان أساس التحول التاريخي من المجتمع الروماني القديم إلى مجتمع منظم في شكل دولة (société étatique). والملاحظ أيضا أن التحليل البنيوي من قبيل ذلك الذي قام به دومزيل من شأنه أن يشتمل على تحليل تاريخي. بناء على هذا المثال، يمكننا القول: إن التحليل يكون بنيويا عندما يدرس نسقا متحولا والشروط التي تتم فيها تحولاته.

أريد الآن تقديم مثال آخر، وإبراز كيف أن بعض المناهج المستعملة اليوم من طرف المؤرخين تسمح بإعطاء معنى جديد لمفهوم الحدث. لقد اعتدنا القول إن التاريخ المعاصر صار أقل اهتماما بالأحداث، مقابل اهتمامه الكبير ببعض الظواهر العامة والواسعة النطاق، التي تتجاوز بمعنى ما الزمن وتحافظ على خاصيتها الثابتة عبره. لكن، ومنذ عشرات السنين، بدأنا في ممارسة تاريخ “قطاعي”، حيث يشكل الحدث أو مجموع الأحداث الموضوع المركزي.

إن التاريخ القطاعي (l’histoire sérielle) لا يوفر مواضيع عامة مشكّلة مسبقا، من قبيل الفيودالية أو التطور الصناعي، إنما يحدد موضوعه انطلاقا من مجموعة من الوثائق التي يتوفر عليها. في هذا الإطار درسنا، منذ عشر سنين، الأرشيفات التجارية لميناء إشبيلية خلال القرن السادس عشر: كل ما يخص دخول وخروج القوارب، كعددها وشحنتها وثمن بيع بضائعها وجنسيتها، ومكان قدومها واتجاهها. لقد اعتمدنا كل هذه المعطيات، وهي المعطيات الوحيدة المشكلة لموضوع الدراسة. بعبارة أخرى، إن موضوع التاريخ لا يعطى في صيغة تصنيفات قبلية لفتراته، وعصوره، ودوله، وقاراته وأشكاله الثقافية. لم نعد ندرس إسبانيا وأمريكا خلال عصر النهضة، إنما ندرس، وهذا هو الموضوع الوحيد، كل الوثائق التي تخص حياة ميناء إشبيلية في فترة زمنية محصورة. نتيجة لذلك، وهذه هي الخاصية الثانية للتاريخ القطاعي؛ ليس هدف هذا التاريخ إطلاقا فك شفرة شيء ما كالتطور الاقتصادي لإسبانيا انطلاقا من تلك الوثائق؛ إنما يتمثل موضوع البحث التاريخي في إقامة بعض العلاقات بين المعطيات التي تتضمنها تلك الوثائق. هكذا، استطعنا وضع – وأحيل نفسي دائما على دراسة شونو (Chaunu) حول إشبيلية([8])- تقديرات إحصائية لدخول وخروج القوارب سنة بعد أخرى، مع تصنيفها حسب الدول، وتوزيعها حسب البضاعة؛ وانطلاقا من العلاقات التي أقيمت استطعنا أيضا رسم منحى التطور، والتذبذب، والنمو، والتوقفات والتقهقر؛ كما استطعنا وصف الدورات، وأخيرا إقامة علاقات بين مجموع الوثائق المتعلقة بميناء إشبيلية ووثائق أخرى من الصنف نفسه تخص موانئ أمريكا الشمالية، وجزر الأنتيل (les Antilles)، وإنجلترا، وموانئ المتوسط.

هكذا، تلاحظون أن المؤرخ لم يعد يؤول الوثيقة لكي يقبض من ورائها على حقيقة اجتماعية أو روحية تختفي فيها؛ إنما يهدف عمله إلى معالجة والتعامل مع سلسلة من الوثائق المتجانسة بخصوص موضوع وعصر محددين، وستصبح العلاقات الداخلية أو الخارجية لهذه المجموعة من الوثائق هي التي تحدد نتيجة عمل المؤرخ. بفضل هذا المنهج، وهذه الخاصية الثالثة للتاريخ القطاعي؛ يستطيع المؤرخ إظهار أحداث لم تكن لتظهر باعتماد مناهج أخرى. لقد اعتبرنا، في التاريخ التقليدي، أن ما يمكن معرفته هو ما كان ظاهرا، وما كان بإمكاننا الرجوع إليه بشكل مباشر أو غير مباشر، ويتعلق الأمر هنا بالأحداث، بحيث كان عمل الباحث يتمثل في الكشف عن سببها أو دلالتها، اللذين كانا خفيين أساسا. أما الحدث فاعتبر عنصرا ظاهرا أساسا، حتى ولو حصل أن كنا نفتقد الوثائق التي من شأنها أن تجعله موثوقا فيه. يسمح التاريخ القطاعي بإظهار، نوعا ما، مختلف طبقات الأحداث، والتي يكون بعضها مرئيا، وفي الآن نفسها قابلا للتعرف عليه حتى من قبل معاصريها، كما توجد تحت هذه الأحداث التي تشكل، نوعا ما، زبدة التاريخ؛ أحداث أخرى تكون غير مرئية، ولا يمكن الإحساس بها من قبل معاصريها، والتي تتجسد في شكل مختلف.

إذا أخذنا مثال عمل شونو، يشكل دخول أو خروج القارب من ميناء إشبيلية حدثا يعرفه أولئك الذين عاصروه من سكان إشبيلية كليا، ونستطيع إعادة تشكيل الحدث دون أي مشاكل كبيرة. يوجد تحت هذه الطبقة من الأحداث صنف آخر من الأحداث أقل انتشارا: الأحداث التي لم تدرك بشكل دقيق من قبل معاصريها بالطريقة نفسها التي أدركوا بها خروج القارب، لكنهم يعون في الآن نفسه إمكانية وجودها؛ من قبيل ارتفاع أو انخفاض الأسعار التي من شأنها تغيير توجههم الاقتصادي. كما يمكن أيضا إيجاد، تحت هذه الأحداث أحداث أخرى يصعب رصدها، والتي غالبا ما تكون بالكاد قابلة للإدراك من طرف معاصريها، كما أنها لا تحدث قطائع حاسمة قليلة. وعليه، إن تقلب التوجه والنقطة التي ينطلق منها المنحنى الاقتصادي؛ والذي يكون متزايدا فيمتد أو يعود للانحدار، تشكل هذه النقطة حدثا مهما جدا في تاريخ مدينة ما، أو دولة، وربما حضارة، لكن الناس الذين عاصروها لا يأخذونها بعين الاعتبار.

إننا نحن أنفسنا، بالرغم من توفر حسابات وطنية دقيقة إلى حد ما؛ لا نعلم بالضبط ما الذي يُحدث تقلبا في توجه اقتصادي معين. بل إن الاقتصاديين أنفسهم لا يعلمون ما إذا كانت نقطة توقف ما في منحنى اقتصادي تشير إلى وجود تحول عام للتوجه الاقتصادي، أم أنه مجرد نقطة توقف جزئي للدورة الاقتصادية داخل دور عامة جدا. هكذا، فالمؤرخ هو المنوط بدور اكتشاف هذه الطبقة الخفية من الأحداث المنتشرة، الغير مرئية، والمتعددة الجوانب، التي تحدد في الأخير، وبشكل عميق، تاريخ العالم. ذلك لأننا نعلم جيدا الآن أن تقلب توجه اقتصادي معين حدثٌ أهم من موت ملك.

بهذه الطريقة نفسها ندرس، على سبيل المثال، نمو الساكنة: لقد تصاعد المنحنى الديمغرافي لأوروبا، الذي كان في تمدد تقريبا خلال القرن 18؛ بشكل فجائي في نهاية ذلك القرن، وواصل في الصعود في القرن 19، ما جعل التطور الصناعي لأروبا ممكنا إلى حد ما خلال القرن 19. لكن لا أحد عايش هذا الحدث كما عاش الناس ثورات عام 1848. شرعنا حاليا في إنجاز تحقيق حول أنماط تغذية الساكنة الأوروبية خلال القرن 19: لقد لاحظنا أنه في بعض اللحظات كانت كمية البروتينات المستهلكة من قبل الساكنة الأوروبية قد بدأت فجأة في الصعود. إنه حدث في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ الاستهلاك، وتاريخ الصحة، وتاريخ طول الأعمار. إن الارتفاع المفاجئ لكمية البروتينات المستهلكة من قبل ساكنة معينة هو حدث أكثر خطورة، بطريقة ما؛ من تغيير الدستور، ومن المرور من الملكية إلى الجمهورية، على سبيل المثال. إنه يبدو مجرد حدث، لكنه حدث لا يمكن العثور عليه اعتمادا على المناهج الكلاسيكية والتقليدية. إنما يمكن العثور عليه فقط عن طريق تحليل القطاعات، حتى وإن كانت متتابعة، انطلاقا من الوثائق التي غالبا ما تم تهميشها. هكذا، نلاحظ، في التاريخ القطاعي، أن الحدث لا ينحل إطلاقا إلى بحث سببي، أو إلى تحليل متصل، إنما يبرز أن طبقات الأحداث تتكاثر.

من هذا المنطلق، يمكننا استخلاص نتيجتين متصلتين ببعضهما: تتمثل النتيجة الأولى في كون الانقطاعات في التاريخ سوف تتكاثر. لقد كان المؤرخون قديما يرصدون الانقطاعات في الأحداث، من قبيل اكتشاف أمريكا أو سقوط القسطنطينية. من المؤكد أن أحداثا من هذا النوع قد تشير إلى الانقطاعات، لكن التقلب الكبير للتوجه الاقتصادي، على سبيل المثال، الذي كان بأوروبا في تزايد خلال القرن 16، والذي استقر وبدأ في التقهقر خلال القرن 17؛ يشير إلى وجود انقطاع آخر ليس بالضرورة معاصرا للانقطاع الأول. وعليه، يظهر التاريخ ليس بوصفه استمرارية دائمة خلف انقطاع ظاهر، إنما بوصفه تشابكا للانقطاعات المتداخلة. أما النتيجة الثانية فتتمثل فيما اكتشفناه هنا من وجود لفترات مختلفة داخل التاريخ. لنأخذ مثال الأثمنة: هناك ما نسميه بالدورات القصيرة، حيث تصعد الأثمنة قليلا، ثم تصل إلى إلى سقف معين، فتتعرقل أمام عتبة الاستهلاك. في هذه اللحظة بالذات، تعود إلى الانخفاض قليلا، ثم تصعد من جديد. إننا لا نستطيع عزل إلا الدورات القصيرة تماما. توجد تحت هذه الفترة القصيرة، هذه الفترة المتقلبة نوعا ما؛ دورات مهمة جدا تبلغ خمسة وعشيرن أو خمسين سنة، كما توجد تحتها أيضا، ما نسميه بالإنجليزية باتجاهات (trends) القرن (ومفهوم الاتجاهات في طريقه نحو الاستعمال في اللغة الفرنسية). بمعنى أصناف من دورات التوسع الكبيرة ودورات الركود التي، حيثما لاحظناها عموما، نجدها تصل إلى فترة تقدر بثمانين إلى مائة وعشرين سنة. يوجد أيضا تحت هذه الدورات نفسها، ما يسميه المؤرخون الفرنسيون بـ”المؤثرات الذاتية” (les inerties)، بمعنى تلك الظواهر الكبرى التي تستمر لقرون وقرون: على سبيل المثال، التكنولوجيا الزراعية بأوروبا، وأنماط الحياة الزراعية الأوروبية، وهي ظواهر لم تتغير لفترة طويلة، وتحديدا منذ نهاية القرن 16 حتى بداية، وأحيانا حتى أواسط؛ القرن 19. تتمثل هذه المؤثرات الذاتية في الفلاحة والاقتصاد الزراعي، والتي توجد فوقها الدورات الاقتصادية الكبرى، كما توجد داخل هذه الدورات الكبرى؛ دورات صغيرة جدا، وأخيرا، نجد في قمتها تذبذبات في الأثمنة والسوق القابل للرصد.

إن التاريخ، إذن، ليس فترة واحدة، إنما هو فترات متعددة يتشابك ويلتف بعضها مع البعض الآخر. وعليه، ينبغي استبدال المفهوم القديم للزمن بمفهوم الفترة المتعددة، فحينما يقول خصوم البنيويين لدعاة البنيوية: “لكنكم نسيتم التاريخ”؛ فإن هؤلاء الخصوم يبدو أنهم لا يأخذون بعين الاعتبار وجود زمن أفضل، إذا تجرأت على قول ذلك؛ من التاريخ، لو أنه تخلص من الزمن؛ بمعنى إذا لم يعترف المؤرخون أنفسهم إطلاقا بغياب تلك المدة الطويلة الوحيدة التي تحمل بحركة وحيدة كل الظواهر الإنسانية، مع نكرانهم أيضا لوجود مصدر واحد للزمن التاريخي، وأنه لا وجود لشيء يشبه التطور البيولوجي الذي يحمل كل الظواهر والأحداث. مقابل ذلك، ينبغي عليهم الإقرار بوجود فترات متعددة، وأن كل واحدة من هذه الفترات حاملة لبعض أصناف الأحداث. فمن اللازم اعتماد أصناف متعددة من الأحداث بقدر ما نعتمد عدة أصناف من الفترات. تلك هي الطفرة التي صارت في طور التشكل حاليا في تخصصات التاريخ.

الآن أكون قد وصلت أخيرا إلى الخلاصة، مع اعتذاري على وصولي إليها متأخرا. أعتقد أنه من ضمن التحليلات البنيوية للتغير أو التحول والتحليلات التاريخية لأصناف الأحداث وأصناف الفترات هناك بعض نقاط الاتصال المهمة، ولا أقول أنهما يشتركان في هوية ثابتة أو متطابقة. سأشير إلى هذه النقاط من أجل إنهاء مداخلتي. إن المؤرخين حينما يعالجون الوثائق، فهم لا يعالجونها من أجل تأويلها، بمعنى أنهم لا يبحثون من ورائها وعبرها عن معنى خفي. إنهم يعالجون الوثائق في إطار نسق علاقاتها الداخلية والخارجية. ووفق النهج نفسه، حينما يدرس البنيوي الأساطير أو الآداب، فهو لا يطلب منها ما تترجمه أو تعبر عنه بخصوص عقلية حضارة معينة أو تاريخ فرد ما. إنما يسعى إلى إظهار العلاقات وأنساق العلاقات الخاصة بهذا النص أو بتلك الأسطورة. إن رفض التأويل والنهج التفسيري الذي يبحث وراء النصوص أو الوثائق عما تعنيه؛ هو عنصر نعثر عليه كذلك لدى البنيويين والمؤرخين الحاليين.

أما النقطة الثانية التي يتقاطعان فيها فتتمثل، كما أعتقد، في كون البنيويين، مثلهم مثل المؤرخين، قد قادهم البحث وهم يشتغلون على موضوعاتهم إلى التخلي عن الاستعارة البيولوجية الكبرى والقديمة للحياة والتطور. فمنذ القرن 19، غالبا ما طبقوا فكرة التطور والمفاهيم المجاورة من أجل تعقب وتحليل مختلف تحولات المجتمعات البشرية أو ممارسات وأنشطة الإنسان. لقد قدمت هذه الاستعارة البيولوجية، التي سمحت بالتفكير في التاريخ؛ فائدة إيديولوجية وفائدة إبستيمولوجية. بخصوص الفائدة الإبستيمولوجية، تتمثل فيما حصل في علم البيولوجيا عندما قدم نموذجا تفسيريا قابلا لنقله إلى مجال التاريخ حرفيا؛ وكنا نأمل أن يساهم ذلك في جعل هذا التاريخ، الذي أصبح تطوريا؛ علميا أيضا كالبيولوجيا. أما الفائدة الإيديولوجية، فمن السهل التعرف عليها. إذا صح اعتبار فترات التاريخ مماثلة للكائن الحي، وأن سيرورة تطورهما ينعكس مفعولها على الحياة والتاريخ معا، فمعنى ذلك أن المجتمعات البشرية لا تتوفر على خصوصيات تميزها، كما لا وجود لحتميات أو قواعد أخرى غير الحياة في حد ذاتها. هكذا سيبدو أنه ليس هناك أي تطور كبير في الحياة، إنما هناك تراكم بطيء لطفرات صغيرة فقط. وفق هذا النهج نفسه، لا يستطيع التاريخ البشري فعلا أن يشتمل على تطور كبير، فهو لا يتضمن إلا تحولات طفيفة وغير مدرَكة. إن الاستعارة التي تنظر إلى التاريخ وفق أنواع الحياة (les espèces de la vie) جعلتنا نضمن أن المجتمعات البشرية لم تكن قابلة للتطور.

أعتقد أن البنيوية والتاريخ يسمحان بالتخلص من هذه الميثولوجيا البيولوجية الكبرى للتاريخ وللمدة. إن البنيوية، حينما تُعرّف التحولات، والتاريخ، محددة أصناف الأحداث وأصناف الفترات المختلفة؛ تجعل بذلك ظهور الانقطاع في التاريخ ممكنا، بقدر ما تسمح بالكشف عن ظهور التحولات المنتظمة والمتناسقة. إن البنيوية والتاريخ في اللحظة المعاصرة بمثابة أداتين نظريتين نستطيع بفضلهما، وعلى النقيض من الفكرة القديمة للاتصال؛ أن نفكر فعليا في انقطاع الأحداث وتحولات المجتمعات.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

  1. – العنوان الأصلي للمقال هو “عودة إلى التاريخ”. ولا شك أن هذا العنوان جاء في سياق النقاشات التي كانت سائدة خلال القرن العشرين حول المنهج الذي ينبغي اعتماده في الدراسة التاريخية، سواء من طرف مدرسة الحوليات الفرنسية أو من طرف الفلاسفة والأنثروبولوجيين واللسانيين. وقد ارتأينا تغيير العنوان (الذي عكس السياق التاريخي) لكي يعبر عن مضمون المقال عموما ويوجزه. أما المقال فهو نص المحاضرة التي ألقاها ميشيل فوكو في جامعة كياو اليابانية بتاريخ 9 أكتوبر 1970. أنظر:

    – Michel Foucault، Revenir à l’histoire، Dits et écrits، tome 2، 1970-1975، Gallimard، 1994، pp 268-281.

  2. – Boas (F)، The Mind of Primitive Man، New York، McMillan، 1911; Race، Language and Culture، New York، McMillan، 1940.

  3. – Tylor (E.B)، Researches into the Early History of Mankind and the Development of Civilization، Londres، J. Murray، 1865; Primitive Culture: Researches into the Development، of Mythology، Philosophy، Religion، Art and Custom، Londres، J. Murray، 1871، 2 vol.; Anthropology: An Introduction to the Study of Man and Civilization، Londres، McMillan، 1881.

  4. – Troubetskoï (N)، Zur allgemeinen Theorie der phonologischen Vokalsysteme، Travaux du cercle linguistique de Prague، Prague، t. 1، 1929، pp. 39-67 ; Grundzüge der Phonologie، Travaux du cercle linguistique de Prague، Prague، t. 7، 1939 (Principes de phonologie، trad. J. Cantineau، Paris، Klincksieck، 1949).

  5. – Barth (R)، Le Degré zéro de l’écriture، Paris، Éd. de Seuil، coll. «Pierres vives»، 1953.

  6. – Althusser (L)، Pour Marx، Paris، Maspero، 1965 ; Du «Capital» à la philosophie de Marx، in Althusser (L)، Macherey (P)، Rancière (J)، Lire «Le Capital»، Paris، Maspero، 1965، t. 1، pp. 9-89 ; L’Objet du «Capital»، in Althusser (L)، Balibar (E)، Establet (R)، ibid.، t. 2، pp. 7-185.

  7. – Dumézil (G)، Horace et les Curiaces، Paris، Gallimard، coll. «Les Mythes romains»، 1942.

  8. – Chaunu (H.) et (P.)، Séville et l’Atlantique، Paris، Sevpen، 1955-1960، 12 vol.

الإحالات:

Scroll to Top