طقس تَاغْلاَ عند البدو الرحل الأمازيغ بوادي نون بالجنوب المغربي الرمز والدلالة

باحث بسلك الدكتوراه
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة ابن زهر، أكادير - المغرب

ملخص

يروم هذا المقال إلى تسليط الأضواء على بعض المعتقدات والطقوس المرتبطة بطقس استنزال المطر لدى البدو الرحل الأمازيغ بوادي نون بالجنوب المغربي، وذلك بدء بوصف المراحل العملية التي يمر منها هذا الطقس مع محاولة تحليل الرموز والدلالات التي تكتنفها النصوص المرافقة له، كما يتتبع المقال الوظائف الأساسية والغاية من هذا الطقس انطلاقا من السيرورة والمراحل الوضعيات التي يمر منهاالطقس والأشياء المعتمد والمرتكز عليها من لدن المشرفين عليه، معتمدين على المنهج الوصفي والأنثروبولوجي اضافة إلى المقابلة والمشاركة من خلال الزيارات الميدانية.

Abstract

This article aims to shed light on some beliefs and rituals associated with the rain ritual among the nomadic Amazigh tribes in ouad noun Valley in southern Morocco. It begins by describing the practical stages through which this ritual passes, while attempting to analyze the symbols and meanings surrounding the accompanying texts. The article traces the main functions and purpose of this ritual, starting from the preparation and the stages and situations it goes through, as well as the objects relied upon and utilized by those in charge. The approach is based on a descriptive and anthropological method, in addition to interviews and participation through field visits.

مقدمة

عرف مجتمع البدو الرحل الأمازيغ بوادي نون بالجنوب المغربي كباقي المجتمعات عادات وتقاليد ومعتقدات وأساطير وطقوس كثيرة ومتنوعة فريدة وخاصة بهم، ترافقهم في المناسبات والحفلات وفي حياتهم الاجتماعية والثقافية. وتعتبر هذه المعتقدات والطقوس من بين الظواهر القوية التي تحقق وجود واستمرار هذا المجتمع البدوي، كما يمكن اعتبارها وعاء أنثربولوجي لبنيته الذهنية وشخصيته الثقافية والهوياتية.

واختيارنا لهذا المحور كموضوع لهذه المقالة، يكشف بحق عن رغبتنا في الاسهام في تعميق البحث في الموروث الثقافي للشخصية البدوية الوادنونية الأمازيغية بالجنوب المغربي على اعتبار أن ثقافتها تعتبر من أهم الروافد الغنية والغزيرة للثقافة الأمازيغية المغربية بصفة عامة. محاولا الإجابة على الأسئلة الآتية: ماذا نقصد بطقس “تاغلا” وكيف تمر مراحله؟ وما الوظيفة والغاية الأساسية منه؟

على غرار باقي القبائل الأمازيغية بشمال إفريقيا[1] كان لبدو الرحل الأمازيغ بمنطقة باني ووادي نون بالجنوب المغربي طقوس ومعتقدات كثيرة وتليدة موزعة على مدار السنة، تعود أصولها وتاريخها إلى فترات ما قبل التاريخ. من بين هذه المعتقدات والطقوس نستحضر طقس الاستمطار[2] أو الاستسقاء التي تختلف تسمياته حسب كل منطقة بشمال أفريقية. منها مثلا “تيسليت ن ؤنـــﮊار” أي عروس المطر، “تيسلست ن إﮔـــنا” بمعنى عروس السماء، “بلغنجا، تلغنجا”، كلها تسميات تتشابه وتتكامل في نسق رمزي تقافي ميثي موحد[3].

 عند البدو الرحل الأمازيغ بالمجال المذكور يسمونه اسمين اثنين الأول هو “تلغنجا” واللفظ هذا أمازيغي مركب من كلمتين، الأولى هي “تْــــــلْ” وقد جاءت هذه الكلمة على صيغة فعل الأمر في اللغة الأمازيغية وتعني لُفَّ أو غلِّف في اللغة العربية، والثانية هي “ءَاغْنْجَا” وقد جاءت على صيغة الاسم وتعني المغرفة، ليصبح المعنى المقصود هو تلفيف أو تغليف مغرفة تقليدية مصنوع من الخشب يستعملونه الرحل لإعداد وتحريك الطعام. يتم تلفيفها وتغليفها على شكل عروس، “حينما تبدأ علامات الجفاف يأخذ الصبيان والنساء العجائز هذه الملعقة الخشبية ويزينونها كدمية ويتجولون بها”[4]، كما تقوم الفتيات بتزينها بمجوهرات فضية وأشاء أخرى والباسها لباس العروس. لكن الاسم الثاني المعروف والسائد قديما هو طقس “تَغْلاَ”[5] بمعنى النعجة الصغيرة، وهو طقس أنثروبولوجي بامتياز، ذو أصل أمازيغي تمتد جذوره لما قبل الإسلام ويعد من أعرق الطقوس الاستسقائية الهادفة إلى استمطار السماء عند مجتمع الدراسة. هنا يمكن أن نطرح سؤالا مفاده ما علاقة النعجة بالطقس المذكور وما دوره في الحياة البدوية لدى الرحل؟ وما دلالاتها الرمزية في ثقافتهم؟ وما طبيعة المرددات التي تردد فيها؟

إن طقس “تَاغْلاَ” في ثقافة البدو الرحل، هو طقس أنثربولوجي بامتياز، حامل لدلالات ورموز كثيرة تترجم مدى تعلق الرحل بثقافة أجدادهم القديمة التي تحمل الكثير من التعابير والعديد من الطقوس والرموز الملفوفة بالغموض والإبهام التي تحتاج إلى دراسات سوسيوأنثربولوجية أو سيميائية قصد استنباط معانيها ودلالاتها الثقافية والاجتماعية والدينية والعقائدية وغيرها.

هذه الطقوس والمعتقدات القديمة التي تنتقل من جد إلى جد يمكن اعتبارها منفذا من المنافذ الأساسية التي تحيلنا على عقلية الشعوب ومدخلا مهما من أجل اقتحام وفهم فضاءاتها الفكرية وممارستها العقائدية والطقوسية الباطنية والظاهرة، فهي تترجم مستويات التفكير الشعبي وحركته داخل فضاءات روحية ومادية خاصة[6]. كما أن هذه المعتقدات والطقوس “تساهم في خلق الكثير من القنوات الترويحية والتخفيفية للعديد من التراكمات الانفعالية والاجتماعية، المتحكمة في تفاعلات أفراد المجتمع أو القبيلة، بواسطة محددين أساسيين هما العرف والدين، هذا الأخير ظل لصيقا ومرافقا لمفهوم المعتقد المتعدد الخصائص والأدوار داخل المجموعات البشرية”[7]

يتم ممارسة هذا الطقس عند بدو الرحل وادي نون حينما تكون أراضي الانتجاع والمحاصيل الزراعية ومياه الآبار والوديان مهددة بالجفاف والقحولة بسبب غياب التساقطات المطرية ويكون البحث عن الماء المحفز الرئيسي الذي يدفعهم إلى المزيد من التنقل الدوري والترحال المتكرر من أجل البحث عن الماء والكلاء، وتستغرق هذه العملية أياما أو شهورا عديدة يقطعون فيها مسافات طويلة ومتعبة، ويمكن أن تسبب هذه التنقلات في إشكالات عويصة وخطيرة على حياتهم وعلى حياة ماشيتهم وأطفالهم وشيوخهم. كما يمكن مثلا أن تصيبهم أمراض كثيرة ومختلفة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى موت نسب عالية من الماشية بمختلف أنواعها، وانقراض عدد مهم من الحيوانات وبالتالي يسود الجوع والقحط وتزداد الأمراض المزمنة التي قد تصيب كذلك الرجال والنساء وغالبا ما تؤدي بموت صغارهم أو شيوخهم الذين لا يتحملون قساوة الجوع والأمراض الفتاكة والخطيرة.

مادام حياة البدو الرحل قائمة على الماء والغيث، فإننا نجدهم مرتبطين شديد الارتباط بهذه المادة الحيوية التي بدونها لا تستمر تنقلاتهم وترحالهم، وبالتالي فإن طقس “تَاغْلاَ” مرتبط أساسا بطلب الغيث، ونظرا للمكانة الفريدة التي يشغلها الماء في حياتهم، فقد ارتبط وجود البدو الرحل ارتباطا وثيقا بهذه المادة الحيوية، حيت نجد أغلبهم ينشئون تجمعاتهم ويقيمون خيامهم قريبا من الوديان والآبار ومنابع المياه والعيون التي تعتبر إحدى أهم الموارد الأساسية التي يحتاجها البدو للبقاء والبقاء على قيد الحياة في بيئتهم القاحلة، “فالماء إكسير الحياة في الصحراء[8]“، لذلك فلا غرابة إذا وجدنا الرحل يهتمون بإشكالية الماء أكثر من اهتمامهم بمسألة الطعام[9].

تبتدئ مراحل عمليات طقوس “تَاغْلاَ” في موكب تشارك فيه النساء والفتيات، ويسمى هذا الموكب بــ “إسْتْ تْغْلاَ”، وهي كلمة أمازيغية مركبة من لفظين إثنين الأول هو “إِسْتْ” وتعني أداة نسبة في اللغة الأمازيغية والثانية هي “تـَاغْــــــلاَ” وتعني النعجة الصغيرة، ليكون المعنى المقصود هنا هو نساء النعجة.  

قبل أن ينطلق هذا الموكب تتقدم احدهن بحمل نعجة صغيرة على ظهرها بالطريقة التي يُحمل بها الطفل على ظهر أمه، حيث يُغطى رأس النعجة تحث إبط الفتاة كي لا يُسمح لها برؤية ما بحولها مع تزين وجهها بالكحل، ويشترط أن تكون ذات وجه أبيض، ويسمونها “تَاغْلاَ تَامـــــــَانَارْتْ” بمعنى النعجة البيضاء.

 هكذا ينطلق الموكب في اتجاه الخيام، يقمن بالطواف بها من خيمة إلى أخرى ويرددن نص شعري بصوت مرتفع وبلحن شجي ومؤثر يسمى “تـــَــاغْلاَ”، يستقبلهن ربات الخيام بالرش بالماء وإعطائهم شيئا من القمح والسكر والشاي والثمر والزيت وغيرها من المواد الغذائية التي يستعملونها الرحل في حياتهم البدوية. وبعد ذلك يقع الاتفاق بين النسوة والفتيات بإعداد وجبة الكسكس في حفلة صغيرة تسمى “تَابْرْكْنَّا” في مكان ما بجوار الخيام، إما في خيمة معينة أو بضريح ما إن كان موجودا بقرب الخيام أو تحث شجرة معينة قريبة من التجمع السكني، وتتخلل هذا الحفلة أهازيج وأغاني متنوعة. وقبل أن تقام هذه الحفلة، توضع النساء جميع التبرعات التي تم الحصول عليها على إيزار واسع عادة ما يكون مصنوعا من صوف النعاج او وبر النوق ويسمى “تَاحَايْكْتْ”، حيت توضع تلك النعجة الصغيرة على ذلك القمح المجموع وينتظرن ماذا سيحصل. وفي هذه اللحظة تستحضر النسوة اعتقادين:

 الأول: هو في حالة ما تبولت النعجة على القمح الذي تم جمعه، فذلك ينذر بفأل خير، بمعنى فال اقتراب هطول المطر، وبالتالي تفرح النسوة ويستمررن في تكرار زغاريد عديدة. أما إن حدث عكس ذلك فهو الاعتقاد الثاني، الذي يقول في حال حدث ابتعاد النعجة عن القمح المجموع، فذلك يدل على فال شؤم ينذر باستمرار القحط والجفاف على القبيلة والماشية والمجتمع البدوي ككل.

 وفي الجزائر نجد نفس الطقس لكن بتغيرات قليلة عند “قبيلة بني شــﮕــران، حيث تتجول مجموعة من النساء ببقرة سوداء وهن يغنين، فإذا تبولت البقرة خلال الجولة أو بعدها مباشرة يكون ذلك دلالة على هطول المطر الوشيك”[10]. ومن جهة أخرى، نجد هذا الطقس، قد كان يحتفى به بتوظيف فتاة حقيقية جميلة بمناطق “ايساﮔــن” من خلال إقامة طقس احتفالي حقيقي، يشارك فيه الجميع في مرحلة أقدم تاريخيا من الأول، والتي يصعب تسجيل تاريخها الذي ظهرت فيه[11].    

 وقد تمكنا عبر تقنية الملاحظة بالمشاركة والمجموعات البؤرية المستجوبة والزيارات الميدانية، الحصول على بعض الأغاني والأهازيج القديمة التي يتم ترديدها في هذا الطقس رغم صعوبة العثور عليها، لأن مثل هذه الأشعار شبيهة بقطع صغيرة من أحجار نيزيكية متناثرة يصعب الحصول عليها لأنها حبيسة في عمق صدور الجدات وهن لا يستحضرونها إلا في طروفها ومناسباتها الخاصة. والنص الذي حصلنا عليه هو الآتي:

تعريب:

وَا تَـــغْلاَ ءَالْ ؤُدْمْ نـــــــــــــمْ سْ رْبّـــي

يا نعجة فتية وجهك إلى الله

وَالــــِّي إسْـــــﮕـــانْ ءَادْ ءَاغْـــدْ إغْــيْتْ

يا مغيث أغثنا

وَاتَـــــغَلاَ دْ إِزيمْـــــــــــــــــــــــــــــــرْ مُـــونّـــــــــينْ

يا نعجة فتية وكبش مرافقين

مُــــــــــــــــــــونّيـــــــنْ غْ إِمُـــــــولاَ زْﮔـــــزَاونِيـــنْ

مرافقين في ظلال خضراء

تــْــــــــــنَّا بَــــــــاعْ تْغـــــْـــــــلِي دْ ؤُمَــــــــــالُـــــو

نادت بصوتها متسلقة الظلال

تنا ترا تــيـــــــــــﮕــنا زﮔــــــــــــــــــــزاونــــــــــين

أشارت بأنها أرادات فجاجا خضراء

تْـــــــنَّا تْــــــــــــرَا إيمــــــــْــغِــــــي زْﮔـزَاوْنِـــــينْ

أشارت بأنها أرادات نباتا خضراء

وَا تــِـــيـــــــــــــــتْــــــــــــرِيْتْ رْﮊْمْـــــــدْ إِوَامَـــانْ

يا نجمة أطلقي الماء

ءَارَامْــــتي تَـــاﮔـــــــــــرَا دْ إِنِيـــــــــــــــــــفِيـــــفْ

ناولنني قبعا ومحـﮕـــونا

ءَانَّاﮔــومْ تِيــــــــــنْـــــــﮕــاضْ نْ وَامَــــانْ

لنسقي غطاسات من الماء

رْﮊَاﮔْــنْ ءَاغْ وَامَــانْ نْ تــَـانُوتْ

ماء البئر أصبح مرا

رْﮊَاﮔـْــــنْ ءَاغْ ؤُرْ يَـــادْ مِّيـــــــــمْنـــــِي

أصبح مرا ولم يعد حلوا

رْﮊَاﮔـْـــــنْ ءَاغْ ﮔـــــان ؤاك ءِالِـــــيلِـي

أصبح مرا وهو لنا دفلى

فـــُّـــوغـْـــــدْ ءَامُــــومـــُّـــــــو إيـــــمْرْﮊِﮔِـــــــــي

انشق يا فرح من لب المرارة

وَا يَــــــــاتْــــــبِيـــــــــــرْ ءَايَـــــــاسْـــــــــــمَّــــــامَّـــايْ

يا حمام له أنين

ءَا بُـــــــــــو تْــــــــــــــدَاكَــــالِينْ غْـــــــمَانِــــــــينْ

ذو رجلين مخضبين بالحناء

إِيفـًّـــــو لْــــحَالْ ءَارُونْـــــتْ تْــــرَامِــــــينْ

أظل الصباح ووضعت النوق

تِيــــــــــــــــﮕَـــايــــزِيـــــــــنْ كُــولُّـــو مْلُّـولْنِـــــــينْ

صغيرات لها كلها بيضاء

ربــِّــــــــــــي سْ وَامَـــانْ نْ ؤُنْـــــــــﮊارْيْ

ربِّ هب لنا من لدنك أمطارا

ءَاوْرْ ﮔـُــوتْـــــــــــنْ ؤُلاَ دْرُسْــــــــنـــِــــــــــــــــــي

ليس بالكثرة ولا بالقليل

مِّيـــــــــــمـْــــــــنِينْ يَـــــــــــاغْ فَــــادْ إمــُــــــــولاَ[12]

ولذة تطفئ عطش السهول

انطلاقا من العنوان وتسمية الطقس “تاغلا” التي تعني النعجة الفتية، يتبين طغيان معجم وألفاظ ذات صبغة ودلالة بدوية. وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن تختلف طبيعة المعجم أو اللهجة المستخدمة في طقس الاستمطار من مجتمع إلى آخر، لكن طقس “تاغلا” عند البدو الرحل يشمل معجم فريد خاص بهم ومرتبط بثقافتهم وحياتهم والبيئة التي يتحركون فيها بشكل عام.

إذا نظرنا مثلا في المعجم والألفاظ الموظفة في النص أعلاه، كلها توحي على معجم مرتبط بثقافة الرحل (إمُــولاَ زْﮔــزَاوْنِينْ/ تِـــﮕــنَا زْكْزَاوْنِينْ/ ءُورُونْتْ تَرَامِينْ/إِنْــــﮕــاضْ نْ وَامَان)، مفردات بسيطة ومفهومة تدخل ضمن معجم وحقل دلالي لصيق بدهنية البدو الرحل وبالحقل الطبيعي الذي يرتبطون به والذي تربطهم علاقة قداسة المشحونة برموز ثقافية بدوية التي تتلخص التصورات الرمزية لمجتمع الدراسة الدالة على نمط الثقافة السائدة واسقاطاتها على مكونات الطبيعة، الماء نموذجا الذي يعد مصدر حياة وجود ترحال البدو الرحل وتنقلاتهم المتكررة.

حتى من الناحية الفنية نجد توظيف أساليب بلاغة متميزة، حيث نجد مثلا السجع (مونين/زﮔــزاونين/تيرامين/ ملُّولنين)، بجانب السجع نجد أسلوبي النداء والوصف حاضر بقوة اضافة إلى الكناية (تيتريت) التي تحيل على إله السماء. أما طريقة القراءة المرتبطة بهذه الأشعار، فهي مؤثرة جدا وتتميز بلحن بطيء وثقيل، ويتم تكرار كل سطر مرتين، ويتضح الأنين والألم واضحا انطلاقا من حرفي النون والميم التي تتكرر في أخر كل سطر.

ويتجلى هذا الأنين في رأينا إلى إشكالية الجفاف الذي يسبب في شح المياه وانعدامها وبالتالي ستكون البيئة قاسية وجافة وبالتالي يسود الحزن في نفسية المرأة البدوية والحنين العميق إلى الماء، ويبدو هذا الطرح جليا في المغزى العام للأشعار التي حصلنا عليها. إذ أن البدو الرحل يؤمنون إيمانا قطعيا بوجود خالق رحيم، وما يؤكد دلك أكثر هو السطر الأول من النص أعلاه. ويكمن الهدف من ترديد هذه المرددات أساسا في جلب الأمطار والبركة للأرض والمراعي والمحاصيل الزراعية، وعودة الحياة للبيئة والوديان والآبار والجبال. وأغلب المرددات الموجودة والمشهورة لهذا الطقس يتراوح مضمونها بين التوجه إلى إله السماء وطلب الماء والرحمة منه.

يكشف لنا هذا النص كذلك العديد من الرموز الغنية بدلالات ثقافية بدوية لمجتمع الدراسة التي تغري بالدراسات والتحليل والتمحيص، “فكل شكل طقوسي أو رواية أسطورية، تبقى على العموم حاملة للعديد من الأحداث الرمزية، المتعاقبة والمتصلة بشكل دلالي بالرموز، التي تحتوي على بنيات دلالية تكرارية لرموز نشأة الكون والضامنة لاستمرار رموزها وهي ضد الزمن وضد الموت”[13]. وبالتالي يدخل هذا الطقس ضمن لائحة المعتقدات الأمازيغية القديمة “التي تعتبر بمثابة وعاء أنثروبولوجي زاخر بالطقوس والدلالات والرموز، المستبطنة في مجموع السلوكات والطقوس والأفعال، التي يتم إعادة إنتاجها منذ القدم وإلى يومنا هذا”[14]. كما يضم العديد من الأشكال الترميزية الموضوعية التي تحمل في جوهرها الكثير من الدلالات والرموز الكاشفة عن المعتقدات والعقائد التي كان الإنسان البدوي يؤمن بها قديما. وبالتالي يمكن اعتبار طقس تاغلا سلسلة من الدلالات الثقافية والعقائدية المترابطة والعلامات الدالة على مجموعة من العناصر السوسيوأنثربولوجية التي تلخص العديد من القضايا المختلفة والعمليات المنظمة التي تتشكل وفق أفعال وأصوات محددة وخاصة بإيماءات وطقوس وموضوعات متسرسلة ومتتابعة ينتج من خلالها العديد من الرموز الدالة على نسق ثقافي وظواهر ثقافية قابلة لتأويل وفهم الواقع العام الذي يعيشه مجتمع البدو الرحل وإدراك قيمهم الدينية والعقائدية والقافية.    

ونشير في هذا المقام إلى أن هناك تفاوتات كبيرة بين المرددات الخاصة بهذا الطقس بحسب العادات والتقاليد الثقافية لكل منطقة أو قبيلة، كما تختلف طرق أدائه من قبيلة إلى أخرى. لكن مع ذلك كلها تعبر عن رغبة الإنسان عموما والبدو الرحل خاصة في جلب الأمطار والغيت حينما يحصل الجفاف والقحط، وذلك من أجل تحقيق الحاجيات الرعوية والزراعية والمائية للمجتمع وللقبيلة بصفة عامة.

هذا الطقس يدخل ضمن لائحة الطقوس الأسطورية المعروفة عند الأمازيغ، وقد أتينا بهذا النص الأسطوري ليفند ما ذهب إليه المستمزغ الفرنسي هنري باصي الذي أطلق أحكامه المسبقة السلبية في حق الشعوب الأمازيغية يتهمهم فيها بعدم توفرهم على أساطير مبررا رأيه بقصورهم في الخيال والعجز في الإبداع حيث صرح في كتابه “essai sur la littérature des berbères “: إن الأمازيغ، ومع كل ما لديهم من عناصر بناء الأساطير، إلا أنهم لم يتعدوا أساسيات البناء، وتركوا الحجارة مبعثرة، إذ ينقصهم المهندس المعماري الذي لا غنى عنه، وهو الخيال المبدع”[15].      

وفي مقابل هذا الطقس نجد طقوس أخرى يمارسها الشباب والأطفال، حيث نجد صغار البدو الرحل بدورهم يمارسون طقس يسمى “بْــــرْيَـــــــــانُــو” وهذا الاسم أو هذه التسمية من الممكن حسب اعتقادنا أن تكون كلمة عبرية أو طقس يهودي[16]، وذلك بحكم تواجد اليهود بالمجال المدروس “ولعل أقدم وثيقة معروفة عن استقرار اليهود بالجنوب المغربي هي التي تم العثور عليها بسوس، على جبال الأطلس الصغير في قرية إفران، وهي عبارة عن شاهد قبر اليهودي يوسف بن ميمون”[17]. وبما أن تواجد اليهود بمنطقة وادي نون منذ قرون وارد، فإنهم سينفتحون على الرحل خصوصا في مجال التجارة “عبر فترات تاريخية طويلة، وذلك من خلال المسالك والطرق التجارية التي كانت تمر بها، وكذا المواد والسلع المنقولة من وإلى المنطقة”[18]، وبالتالي سيكون لهذا التواجد وهذا الانفتاح تأثيرا ضمنيا أو واضحا على عادات وطقوس البدو الرحل الأمازيغ الذين يتحركون بعدة مناطق في وادي نون وباني.

أما لفظ “بْـــــــرْيَـــــــــــانُـــــو” فهو عنوان نص شعري يردده الأطفال أثناء انطلاقهم في موكب كبير إلى الخيام لجمع الصدقات والعطايا من نساء الخيام، وهو طقس يمارسه شباب أقل من ثمانية عشرة سنة، يبدأ الموكب سيره نهارا  في اتجاه الخيام، ويجمع كل أطفال “لْمْحْصْرْ”[19]، ينطلقون من خيمة إلى خيمة بشكل جماعي مرددين نص شعري بطريقة جماعية وبصوت مرتفع، ويطوفون على جميع الأسر المشكلة لتجمع السكني “لمحصر”، وغالبا ما يتم رشهم بالماء بعدما يأخذون التبرعات من ربات الخيام، وقد ساعدنا التحري الميداني الحصول على بقايا هذا النص من بعض الرواة الدين ساعدونا في توثيق ما تجود به ذاكرتهم من تقاليد ومعتقدات، وقد جاء النص الذي سجلناه على الشكل الآتي:

بْــــــــــــــــــــــــــــــرْيَــــــــــانُـــــــــــو صَـــــــــاحَـــــــــــــــــانُــــــــــــــــــــو

بريانو فائدتي منه

تَانْــﮕُــــــولْـــتْ إِنْـو ءَا تِيــــخْسْتْ إنْو

خبزتي وقطعة لحم لي

إِلاَّ كْــــــــــــــــــــرَا نْـــغْــــدْ ؤُرْ إِلٍّــــــــــــــــــــــــي

هل يوجد شيء من هذا أو لا؟

إلاَّ لْــخْيـــــــــرْ إِفَـــــــــــــــــــــــــــــــــــاتْ رْبِّـــــي

يوجد الخير وما أكثره

ءَاوَاعْـلاَ مَـــــاتــن يَاكَّـانْ فْـــرْبِّي لله

لو وجد من سينفقه في سبيل الله

سْبْـــــــــــــــــــــــــــحـــَانَــــــــــــــــــــــاهُ سْبْـــــحَانَــــــــــــــــــــــــــــــــــاهُ

سبحانه سبحانه

ءَامَـــــانْ ءَامَـــــــــــانْ ءُونْــــــــــــــــــــــــــــﮊَارْ

ماء، ماء المطر

ءَاتْـــــنِيدْ ءَاوِيــــنْتْ تِيــﮕــونَاتِـــــــــــــــــــــــــــــــــينْ

تأتي به الفجاج

ؤُلاَ تَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالاَتِــــــــيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنْ

والمسيلات

سْ وَاســــــــــــــــــــــــــــــِيفْ لْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجْـــــــبَّارْ

إلى واد الرخاء والخلاص

جْــــــبْرَاتَــــانْغْ سْـــــــــــــــــــرْسْ ءَارْبِّــي

كن لنا دليلا إليه يا رب

صِّـــــــيفْـــــــــــــــــــدَاتَــــــاغْ ءَا لْــــجْــــــــــوَادْ

أجيبونا يا أجياد

فُـــــــــــــــــــــــــــــــــــودْمْ نْ رَّسُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــولْ الله

على وجه رسول الله

صّــــــِيفْدَاتَاغَ ءَايْصِّيفْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــدْ رْبِّي

أجيبونا بدل الله

لاَهْـــــــــــــــــــوَالْ نُّونْ سْ لْخِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرْ

أهوالكم بالخير

إذا قرأنا النص أعلاه قراءة أولية، يتبين لنا ورود معجمين مختلفين، الأول مرتبط بالحقل الديني، والثاني مرتبط بالحقل الطبيعي. وإذا تعمقنا النظر في ثناياه نلمس منها نوع من الاتساق الدقيق بين مكوناته، والغاية من هذا التناسق في الألفاظ والمضمون هو التأثير في نفسية المتلقي/ربات الخيام، قصد الحصول على صدقات وهبات كثيرة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية نجد الجانب الإيقاعي للنص الذي يحافظ على الإيقاع الصوتي وتكرار حروف الأنين، وتبقى طريقة الأداء الوسيلة الأخيرة في نجاح برنامج الموكب.

بعدما ينتهي الأطفال من عملية جمع العطايا والصدقات، والطواف على جميع الخيام، يقومون بحفلة صغيرة في خيمة معينة أو في مكان ما بقرب من الخيام، حيث يجتمع الشباب والأطفال، وتقوم النساء بإعداد وجبة الكسكس. وعادة ما يكون المكان الذي سيقمن فيه بطهي وجبة الحفلة مكانا مقدسا، وغالبا ما يكون إما شجرة أو ضريح أو بجانب صخرة كبيرة.

بناء على ما سبق، يعد طقس “تاغلا” وطقس “بريانو” من المعتقدات والطقوس الثقافية الأمازيغية القديمة جدا الغنية بالعديد من الرموز والدلالات السيميائية،  يصعب تحديد تاريخها وبدايتها بمجال الدراسة، وقد “لاحظ أغلب الدارسين والباحثين مثل إميل لاووست، بورديو، إدمون دوطي وغيرهم الدين اشتغلوا وبحثوا في عمق رموز هذه الطقوس، أن أكبر الدلالات الرمزية التي تم إنتاجها في هذا السياق، هو رمز الخصوبة، فنزول ماء المطر على الأرض يعقب عنه الاخصاب مباشرة، وهو الرمز المستوحى من عملية السقي التي يقوم بها المطر لإرواء المحاصيل والمراعي التي لو لا الماء لما كان لها وجود”[20].

أما موكب الطقوسيين فهو يحمل دلالات رمزية كثيرة، تظهر عليها نُظُم التآخي وآلية تيويزي القيمة الأخلاقية التي عرف بها الإنسان الأمازيغي البدوي منذ القدم، وذلك من خلال العطايا والصدقات التي تقدمها نساء الخيام للأطفال ونساء النعجة موكب الطقس قصد إعداد وليمة جماعية ختامية، وهي “تابركنا” التي تقام بجوار الخيام، يتقاسمها المشاركين مع باقي أفراد التجمع السكني.

واستنادا إلى ما سبق يمكن القول إن طقس تاغلا هو طقس أنثربولوجي يتضمن الكثير من الرموز والدلالات والعلامات المركبة التي تلخص نمط الفكر العقائدي للشخصية البدوية الأمازيغية بمنطقة وادي نون بالجنوب المغربي قديما، وتعتبر هذه الدراسة المتواضعة بمثابة استفزازا للباحثين قصد تعميق البحث والدراسة في ثنايا هذه الطقوس والمعتقدات، لأنها فعلا تستحق التمحيص والتنقيب والتحليل بشكل دقيق وأدق.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] ينظر كتاب: Mots et Choses Berbères لمؤلفه الإثنوغرافي المستمزغ Emile LAOUST يبقى هذا الباحث من أبرز الدارسين والواصفين لأدق تفاصيل طقس الاستمطار بشمال افريقيا.
  2. [2] طقس عريق يتعلق بالاستمطار في شمال أفريقيا، يعرف هذا الطقس في المغرب بتسميات عديدة مثل تاغنجا، وغنجا، بلغنجا، (عروس المطر/تاسليت ن ؤنـﮊار)، وفي الجزائر يسمونه بوغنجة. أما تونس فيسمونه أم طنقو، وفي ليبيا أم قطمبو.
  3. [3] محمد أوسوس، دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة ــ الرباط 2007، ص7.
  4. [4] إدمون دوطي، السحر والدين في شمال إفريقيا، ترجمة فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي الطبعة الثالثة، 2019، ص 320.
  5. [5] تحدث الباحث والدارس Emile LAOUST في كتابه Mots et Choses Berbères عن جل أنواع الطقوس المتعلقة بطقس الاستمطار عند الأمازيغ بشمال إفريقيا لكن أغفل الحديث عن هذا الطقس عند البدو الرحل الأمازيغ بمجال الدراسة. 
  6. [6] محمد سعيدي، من أجل تحديد الإطار المعرفي والاجتماعي للمعتقدات والخرافات الشعبية: ظاهرة زيارة الأولياء والأضرحة نموذجا، د. ط. مطبوعات مركز الأبحاث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، الجزائر 1995،
  7. ص: 6.
  8. [7] Catherine PONT-HUMBERT, Dictionnaire des symboles, des rites et des croyances, éditions Jean-Claude, Lattés, 1995, PP : 14-15.
  9. [8] Robert Montagne : La civilisation du désert – nomades d’orient et d’Afrique. Op cit. P : 267.
  10. [9] ابراهيم الحيسن، الأطعمة والأشربة في الصحراء، مطبعة النجاح الجديدة (CTP)-الدار البيضاء، ط، الأولى 2014، ص ص 198-199.
  11. [10] إدمون دوطي، السحر والدين في شمال إفريقيا، ترجمة فريد الزاهي، مرجع سابق، ص 320.
  12. [11] Emile LAOUST, Mots et Choses Berbères, Société Marocaine D’éditions-Collection Calques-Rabat – 1983, p : 246-250.
  13. [12] مقابلة شفوية مع فاطمة ميروش، 67 سنة، دوار أكماض، جماعة تغجيجت، يوم 05 فبراير 2023.
  14. [13] جيلبير دوران، الأنثروبولوجيا رمزها أساطيرها أنساقها، ترجمة: الصمد مصباح، المؤسسة للدراسات والنشر والتوزيع، ط.2، 1993، ص:337 ــ 338 و342.
  15. [14] حنان حمودا، الماء وصناعة المقدس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة الأمنية ـــ الرباط، ط 1، 2021. ص: 95.
  16. [15]  Henri Basset, essai sur la littérature des berbères, op sit, P : 304.
  17. [16] بريانو: حاولنا الوقوف على إيجاد تفسير لغوي لهذه الكلمة في المعجم الأمازيغي لكن لم نصادف أي مرجع تناول موضوع هذا الطقس، ما وجدناه هو كلمة أخرى شبيهة لها وهي ”البورييم”، وهو طقس يهودي يصادف عيد عاشوراء عند المسلمين. ينظر: كتاب يهود وادي نون: أصول… جذور… وأدوار، تنسيق عبد الهادي المدن،
  18. ص: 243.
  19. [17] J. Goulven, Origine des Israélites du Maroc, Hespéris, 1927, tome I, P : 325.
  20. [18] محمد الصافي، وادي نون خلال القرن 19م مساهمة في دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي من خلال وثائق محلية، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط. 1، 2016. ص” 198.
  21. [19] المحصر: يقصد به التجمع السكني.
  22. [20] حنان حمودا، الماء وصناعة المقدس، مرجع سابق، ص:96.
Scroll to Top