جماليةُ المكتوب والمرئي وخصوصيةُ المكان في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة
شاعر وناقد فني -أستاذ التعليم العالي
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بتازة
المغرب
” لقد وضعتْ ريشة الإوزة حدّا للكلام. قامتْ بالكشف عن السّر وإزالة الغموض. ابتكرتِ المعمار والمدُن. صنعتِ الطرق والجيوش والبيروقراطية كذلك”. (مارشال ماكلوهان)
1 -المكوّن البصري في القصيدة العربية المعاصرة:
تُعتبر دراسة المكوّن البصري في الشعر، على الأقل بما هو ضروري من التروي والشمولية والتنقيب المعرفي والمنهجي، مسألة ليست حديثة وقليلة فحسب، بل شاقة وشديدة الصعوبة أيضا، بالنظر إلى كون دراسات من هذا النوع تكاد تكون معدودة على رؤوس الأصابع، حتى في المنجز البحثي والنقدي الغربي نفسه، فما بالك بالشعر العربي على وجه الخصوص؟
إن السبب الرئيس الذي يبدو كامنا، ربما، وراء هذا الغياب شبه التام لدراسة البصري في الثقافة العربية وأجناس تعبيرها الفني والأدبي بشكل عام، هو حداثة المناهج النقدية الخاصة بمثل هذه المجالات وصعوبة تطبيقها حتى في الغرب نفسه، من جهة. ثم لأن التجربة أو التيار النقدي العربي، على رأي المفكر المغربي “عبد الله العروي” في كتابه “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، ظل مشدودا إلى “بُعده الإيديولوجي التقدمي”. ومن ثَم ركز هذا التيار المُتَسَيِّد بشكل أساس، سواء داخل الجامعة أو خارجها، على ما يسمى بالدراسة “الاجتماعية للمضمون”، دون الالتفات إلى الخاصيات الجمالية والدلالية للشكل في القصيدة.
ومِنْ ثم، تم حرمان العديد من أجناس التعبير الفني والأدبي في الثقافة العربية، وضِمنها الشعر، من هذه الإمكانية الهائلة والجديدة لوصول العديد من تعبيراته ومضامينه الجمالية والبصرية نفسها إلى القارئ. خصوصا وأن الشعر قد دخل الآن مرحلة الكتابة بامتياز، وأصبح بإمكان المقترحات الكتابية والبصرية للقصيدة (سواء في أبعادها الطباعية، والخطية، والتشكيلية، والرقمية، أو كلها مجتمعة) أن تشكل أداة ووسيلة فعالة لتوصيل مضمون هذه القصيدة إلى قارئها أو، بالأحرى، ناظِرها ومتصفّحِها في آخر المطاف. وذلك باعتبار “هيئة الكلمة” أو “صورتها المجسدة” لها دائما قوة التأثير الإضافية. لا سيما وأن قوانين التأثير في المتلقي قد تغيرت كثيرا أيضا بتغير الوسائط وتعددها المبهر، إذ أصبح الحديث جاريا الآن حول القصيدة البصرية، والتشكيلية، والرقمية المتحركة، بأبعادها الثلاثة على شاشات الحواسيب وشبكة الإنترنت.
ولعل رهان تجاوز صعوبات قراءة ودراسة الخصوصيات التعبيرية والجمالية للقصيدة، لن يكون كما يبدو، متعلقا بتجاوز دراسات واشتغالات أخرى سابقة على هذا الموضوع. إذ لنا شبه اليقين بقلة وعدم كفاية وانتشار الدراسات والمقاربات الخاصة بهذا المجال في المنجز البحثي والنقدي العربي بشكل عام، بل يكمن الرهان الحقيقي في تجاوز الصعوبات المنهجية الخاصة بطبيعة هذه القراءة أو المقاربة نفسها، بما يعني مساءلة تجارب شعرية تتقاطع فيها المداخل النقدية، ومجالات التحليل والاشتغال، مثلما تتقاطع وتتداخل فيها الحدود والمسائل الأجناسية كذلك. على اعتبار أن تعدد محاور ومداخل هذه المقاربة نفسها، تفرض بالضرورة تعدد وتداخل المناهج وأدوات القراءة في آخر المطاف.
خصوصا وأن القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة والجديدة أصبحت متعددة الخطابات كذلك، وتميل، بل تعتمد في العديد من نماذجها الكتابية المعاصرة والجديدة على الاستعانة، في تبليغ دلالتها، بإشارات بصرية خارجية وغير لغوية، متجاوزة في ذلك الاعتماد فقط على بنياتها ونُظمِها الإيقاعية والصوتية، إلى بنيات ونُظم دلالية أخرى تندرج في مجال الكتابة والبصر والتصوير العيني، ذات خاصيات وتدوينات خطية وتشكيلية ومكانية تجعل من مسائل “الإبلاغ” و”التوصيل” الشعري البصري، على سبيل المثال، شفرات خاصة وإضافية، تحتاج إلى القراءة بفروض الفكر والعين معا: ما دامت هذه القصيدة المعاصرة والجديدة قد راهنتْ أيضا على الانتساب إلى عصر الصورة والكتابة، وجعلتْ من نفسها خطابا للقراءة، بل للتأمل والمشاهدة على وجه التحديد.
2 ــ القصيدة من الإنشاد إلى اللغة البصرية والتّجسيد المكاني والطباعي:
بعد عبور الشعر إلى طور الكتابة، وتخلصه من العديد من سماته الشفوية، كانت القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة قد أصبحت معاصرة أيضا، وخضعت لقوانين الكتابة وضروراتها التعبيرية والجمالية كذلك. إذ انتقل الشعر من مستوياته التخييلية المجردة إلى الصورة المحسوسة والمجسدة على البياض وفي المساحة النصية أو المكان النصي. وتشكلت امتدادات بصرية جديدة للنص الشعري على مستوى بلاغتين على الأقل: بلاغة الخط والكتابة: حيث أصبحت البلاغة الخطية للشعر عملية كتابية وبصرية بالأساس، ثم بلاغة الفضاء والمكان: حيث أصبح الإخراج البصري للنص الشعري على الصفحة يكتسي بعدا مكانيا. بهذا المعنى يكون الشعر، كفَنّ، قد تطور بدوره من الغناء والموسيقى إلى التشكيل. أصبحت القصيدة الجديدة تسكنها العلامات.
ثم إن الخاصيات المكانية، والتنويعات الطباعية والبصرية للنص الشعري العربي الجديد، وأشكال تمظهره المرئي على الصفحة، أصبحتْ تنبني بالدرجة الأولى على وجود عناصر خطية وتصويرية، وإشارات خارجية أخرى غير لسانية في النص الشعري. هي العناصر والإشارات التي ستصبح بدورها عضوية في الشكل الطباعي والخطي والبصري للنص، وخطابا دالا أيضا في نفس الوقت.
وباعتبار القصيدة الحديثة والمعاصرة، سواء في مدونة الشعر العربي أو غير العربي، قد أصبحت جسما طباعيا بامتياز، يحفل بالكثير من الإشارات الخارجية والعلامات غير اللسانية، وحتى بالعديد من أشكال الإيهام البصري كذلك. إذ تتمظهر هذه القصيدة بصريا من خلال هيئة منظورة، وتتخذ لها تنوعا شكليا لا حصر لأبعاده وخطاباته المتعددة، فقد طرحت هذه القصيدة الجديدة أيضا، في أشكال وعمليات تلقيها وقراءتها، أسئلة جديدة أمام القراءة والنقد. إذ أصبحت هذه “القصيدة الجديدة” في أمس الحاجة إلى “ناقد جديد” كذلك. يقرأها بعين ورؤى وأدوات مغايرة لما دأب عليه النقد البلاغي والتجزيئي والتفسيري القديم.
ولو أننا ما زلنا، على حد تعبير الشاعر والناقد العربي “شربل داغر”، نجد الناقد الحديث نفسه “يتعامل مع القصيدة الحديثة كأعمى. أي دون أن ينظر إلى هيئتها الخارجية، ودون أن يلحظ أبدا أن مظهر القصيدة الحديثة، العربية والأجنبية “مختلف” دائما، متجدد بصورة دائمة. إنه، بهذا المعنى، ناقد لغوي وحسب. أي لا يلتفت أبدا إلى العلامات غير اللغوية التي تحفل بها القصيدة الحديثة “. ([1])
(أعلاه: نموذج 1: قصيدة ذات الجسم الطباعي أو التجسيد الشكلي (مثلث أو هرم رأسه في الأعلى، وقاعدته في الأسفل ــ للشاعر محمد بنيس). ([2])
(أعلاه: نموذج 2: قصيدة ذات التجسيد الطباعي القريب من نصف شكل هندسي مستطيل: تشكل الكلمات زاويته القائمة في أعلى اليسار، والفراغ أو البياض نصفه الثاني المحجوب عن النظر ــ للشاعر صالح بوسريف). ([3])
(أعلاه: نموذج 3: قصيدة للشاعر “شربل داغر”: تدمج في فضائها النصي علامات وعناصر غير لسانية (أرقام وخط مستقيم أفقي بطول الصفحة). ([4])
(أعلاه: نموذج 4: مقطع من قصيدة للشاعر “شربل داغر”: يدمج في فضائه النصي علامات وعناصر غير لسانية (خط مغلق على شكل مستطيل يحيط بالمتن من كل الجهات) ( [5] )
3 ــ الرسومات والأشكال المصاحبة للقصيدة:
إن العلامات الخطية (غير اللسانية)، سواء كانت ترقيما، أو أشكالا، أو رسوما وصورا فوتوغرافية، حين تتواجد في النص الشعري أو غير الشعري، تصبح دالة، بشكل أو بآخر، في خطاب النص، ولها قيم تعبيرية وجمالية متعددة. إذ لا توجد، في الغالب، هذه الإشارات أو العلامات الخارجية في النص لنفسها ولغرض التزيين فقط. مع العلم أن بعض هذه الإشارات أو العلامات قد تكون لها أحيانا وظيفة تزيينية أو توضيحية illustrative، لكن النصوص الشعرية الحديثة والمعاصرة في العديد من التجارب الشعرية، منحت لحضور هذه العناصر الخطية والتصويرية الخارجية في النص، وظائف تتجاوز، في حضورها وخطابها، القيم التوضيحية والتفسيرية لمضامين النص ومقاصده الجمالية.
هذا إذا استثنيا من ذلك الوظائف “الترسيخية ” و”التعيينية” للعنصر اللساني (سواء كان كلمة، أو عبارة، أو نصا، أو مقطعا من نص)، حين يكون مصاحبا لرسم أو لصورة في خطابات أخرى، كالخطاب الإشهاري مثلا. وهي الوظائف التي أسس لها، أو طرحها “رولان بارط” في بعض دراساته السيميولوجية حول خطاب الصورة عموما.
لذلك، تبقى الإشارة ضرورية أيضا، إلى أن هذه العلامات غير اللغوية “تنتج عن عاملين: طباعي وفني. ومن البديهي القول إنه لا يمكن أن نتصور وجود مثل هذه الرسوم المطبوعة قبل وجود الطباعة نفسها (…) إذ تكون هذه الظاهرة “ناشئة” بمعنى من المعاني، ومقرونة بالانتقال من “العهد الشفوي” للقصيدة إلى “العهد الكتابي- الصناعي”([6]). ومن هنا، نتفق تماما مع ما ذهب إليه “محمد بنيس” في قراءته المغايرة لدلالة الخطي في القصيدة. حين يقول: “لا يكون البيت (البيت الشعري) في الكتابة، ولا الصفحة المتعددة، قابلة للقراءة خارج الدلالية النصية. فالخطي دال من دوال الخطاب، لا يوجد بنفسه ولنفسه، ولكنه يتفاعل مع عناصر أخرى لإنتاج معنى الخطاب”. ([7] )
هكذا يمكن التأريخ لظهور هذه العلامات والإشارات الخطية الخارجية، لأول مرة في مساحة القصيدة العربية الحديثة، انطلاقا من مطبوعتين أو مجلتين عربيتين أساسيتين: (” الآداب” و “مواقف”) اللبنانيتين، ابتداء من سنة 1953 تحديدا. حيث كان المشرفون على هذين المنبرين الثقافيين والإبداعيين العربيين، قد تنبهوا، انطلاقا من تأثرهم بإنجازات الحداثة الشعرية الغربية، وانخراطهم المبكر أيضا في المشروع التحديثي للقصيدة العربية، إلى أهمية تطوير خطاب القصيدة وشكلها الطباعي وأبعادها الجمالية والتعبيرية، وإخراجها على الصفحة، بعناصر خطية وجمالية أخرى تساهم في تعميق دلالة النص الشعري.
(أعلاه: نموذج نص للشاعر رفيق شرف: يوظف بشكل مائز الرسومات والعناصر التشكيلية إلى جانب القصيدة). ( [8] )
4ــ البياض والسواد: مِسَاحتان للصمت والكلام في الفضاء النصي للقصيدة:
تُعتبر خاصيات البياض والسواد في الفضاء النصي (الممنوح للقراءة)، أو في المساحة الطباعية والكتابية للقصيدة: بمثابة مستوى آخر من مستويات التدليل في الخطاب الشعري (المقروء منه والبصري على وجه التحديد). إذ لا تقل طُرق وصيغ تشكيل هذه المساحات في جسد القصيدة أهمية ودلالة عن باقي العناصر الخطية والإشارات المرئية الأخرى، التي أصبحت، مع الحداثة الشعرية، مظهرا أو مكونا أساسيا أيضا من مكونات النص الشعري الحديث والحداثي. حيث طرح هذا المكون البصري نفسه كناظم بصري جديد لتمظهر القصيدة الحديثة والمعاصرة على الصفحة، بل ارتبط بوجودها، أساسا، في شكلها البصري الجديد.
لقد أصبح هذا المكون، وخصوصا مع الحداثة الشعرية الغربية، خاصية بنائية قائمة بذاتها في جسد القصيدة. حيث “البناء على الصمت، وتخصيص مساحات البياض في تشكيل القصيدة قد ترسم خطى السابقين من الشعراء الغربيين إلى ابتداع هذه التقنية وهذا النحو في تمثيل النصوص. ولقد ذكر “ميشال بوجواز” مسألة الصمت في الشعر الغربي فقال: “إن الشعر، مثله في ذلك مثل الموسيقى، يعقد مع الصمت صلة مميزة. وهذا الصمت يعد جزءا لا ينفصل عن الكلام بما أنه يندرج في الحركة الإيقاعية للقصيدة، ويكون داخلها أيضا حركة تنفس وحركة انتظار وتوقف، وعلامة أمل أو انكسار وتأثر وتساؤل وتفكر أو تأمل”( [9] ).
بهذا المعنى أيضا، يكون البياض في شكل القصيدة، ومظهرها “عنصرا أساسيا هو الآخر في إنتاج دلالية الخطاب. حيث إيقاف البيت في نقطة ما من انطلاقه، أو انبثاقه في نقطة ما من فراغه، يعضدان بلاغة المحو التي تناقض بلاغة الامتلاء في القصيدة التقليدية. ويظل البياض تبعا لذلك، رحما تتجمهر فيه احتمالات كتابة منذورة لاسترسال المحو، حيث القارئ وحده يستطيع ملء الفراغ كل مرة يقرأ فيها النص”. ( [10] )
إن البياض، هنا، يصبح قرينا للصمت وللغياب. أو هو الفراغ الذي يمنحه الشاعر، عمدا، للعين القارئة، كي تملأه أو تكتبه من جديد. والبياض كما السواد في الفضاء الحامل للقصيدة، تصبح لهما تعبيرات دالة بالإضافة إلى مميزاتهما الجمالية. بحيث يشير البياض إلى “العدم” والسواد إلى “الوجود”. وذلك بالمنظور أو بالمفهوم الذي يمنحه الدكتور “محمد مفتاح” (في إحدى قراءاته لقصيدة “القدس” للشاعر أحمد المجاطي) لهاتين الخاصيتين الملازمتين دائما للفضاء في النص الشعري الحديث والمعاصر على وجه الخصوص.
وبذلك يكون توزيع البياض والسواد في شكل القصيدة مستوى آخر أيضا داخل فضائها النصي. ومن “منظور شعري صرف، يمكن أن ترصد المساحات السوداء كمساحات كلام، في حين تؤثر البياضات على الوقفات أو لحظات الصمت… وهذا يعني أن البياض والسواد في توزعهما لا يثيران ضرورة إلى تحقق التتالي الصوتي في الشعر، ولا يكون العامل الفضائي بمقتضى ذلك مجرد مضاعفة للعامل الإيقاعي، بل يمكن أن يضطلع بدوره الخاص. هكذا فإن البياض ليس في الواقع ضرورة مادية مفروضة على القصيدة من الخارج، بل هو شرط وجود القصيدة، شرط حياتها وتنفسها. إن البيت سطر يتوقف، لا لأنه وصل إلى حد مادي، أو لأن الفضاء ينقصه، ولكن لأن مهمته قد انتهت، وقوته قد استهلكت”. [11]
لقد عرف المكان النصي وفضائية الكتابة الشعرية مع التجربة الشعرية الغربية ــ وخصوصا منذ “مالارميه” و”أبولينير”، وما تلاهما من تجارب كانت قد خصصت لهذا الفضاء مكانة متميزة داخل مظهر القصيدة تجليات وتجسيدات بصرية أساسية، امتدت تأثيراتها التعبيرية والجمالية إلى العديد من التجارب الشعرية الكونية، ومنها التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة على وجه التحديد. إلا أن “ما نتغيى التنبيه عليه، يقول الشاعر محمد بنيس، هو أن المكان النصي رحل نحو تجربته القصوى في حضارتين قديمتين: هما الصينية والعربية، من غير أن يكون بدعة. وبالتالي، فإن تأمل المكان النصي في الشعر العربي المعاصر ناتج عن منطلق نظري هو اعتماد الخطية في القراءة الإيقاعية”. ( [12])
مع ذلك، تظل خصائص واستعمالات وقفات البياض، في العديد من التجارب الشعرية العربية وغير العربية (غير الواعية منها خصوصا بالقيَم التعبيرية والجمالية لهذا المكون البصري) استعمالات عفوية، أو حتى من دون مقصدية جمالية وتعبيرية أحيانا. حيث يعمَد الكثير من الشعراء إلى توزيع الأسطر الشعرية وعناصرها، ليس على أساس ضرورات إيقاعية أو وزنية، بل على أساس إيقاع خطي عفوي، يخضع، في الغالب، لميكانيزمات نفسية وثقافية يصعب فهمها أو تحديد دوافعها ومرجعياتها أحيانا.
وانطلاقا من ذلك أيضا: أي من كل المقترحات الكتابية والبصرية، التي ميزتْ، وبشكل واضح وجذري تقريبا، بين الرهانات والخطابات الجمالية والتعبيرية للقصيدة العربية التقليدية (ذات نظام الشطرين)، والقصيدة الحديثة والمعاصرة (ذات الأشكال والتمظهرات والتوزيعات البصرية العديدة): فقد بدت حالات وأشكال الانفصال واضحة بين القصيدتين وبين النموذجين. فالبعد الشفاهي في الكتابة “بدأ يتلاشى أو يتراجع بالأحرى أمام إقدام “حداثة الكتابة”، وهي التسمية التي اخترناها لهذه الممارسة، يقول الشاعر صالح بوسريف، على وضع الشعر في مواجهة الفراغ. فالصفحة أو البياض باعتباره امتدادا، عمل على وعي الكتابة (écriture) بشرطها الخطي، وبوضعها اليد والعين معا، في مواجهة هذا المصير الجديد الذي ظل لاغيا ومؤجلا أو منسيا في الممارسات السابقة”. ( [13] )
(أعلاه: نموذج لصفحتين طباعيتين من قصيدة “هذا هو اسمي” لأدونيس. توظفان بشكل مائز وقفات البياض والسواد في النص). ( [14] )
الإحالات:
- [1] ــ شربل داغر. الشعرية العربية الحديثة (تحليل نصي). دار توبقال للنشر. الطبعة الأولى. 1988. ص ص 15. 16.
- [2] ــ مصدر القصيدة: محمد بنيس. العبور إلى ضفاف زرقاء. منشورات”تبر الزمان” ــ تونس 1998. ص 59.
- [3] ــ مصدر القصيدة: صالح بوسريف. نتوءات زرقاء (شعر) ــ منشورات “دار الثقافة / الدار البيضاء” ـ الطبعة الأولى 2002. ص 85.
- [4] ــ مصدر القصيدة: شربل داغر. فتات البياض (شعر). المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت ــ الطبعة الأولى 1981. ص 59.
- [5] ــ مصدر القصيدة: شربل داغر. فتات البياض ” (شعر). مرجع سبق ذكره. ص 60.
- [6] ــ شربل داغر. الشعرية العربية الحديثة (تحليل نصي). مرجع سبق ذكره. ص 17.
- [7] ــ محمد بنيس. الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها. الجزء الثالث (الشعر المعاصر) ـ دار توبقال للنشر ـ الطبعة الثالثة ـ 2001. ص ص 122. 123.
- [8] ــ مصدر القصيدة. شربل داغر. الشعرية العربية الحديثة (تحليل نصي). مرجع سبق ذكره. ص 37.
- [9] ــ أحمد الجوة. سيميائية البياض والصمت. ـمجلة “علامات” ـ العدد 30 / 2008. ص ص 122. 123.
- [10] ــ محمد بنيس. الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها. الجزء الثالث (الشعر المعاصر) ـ مرجع سبق ذكره. ص 131.
- [11] ــ د. دولاس و ج. فيليولي: نقلا عن: محمد الماكري: “الشكل والخطاب: مدخل لتحليل ظاهراتي”. المركز الثقافي العربي ــ كانون الثاني. الطبعة الأولى 1992. ص ص 237. 238. 239.
- [12] ــ محمد بنيس. الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها. الجزء الثالث (الشعر المعاصر) ـ مرجع سبق ذكره. ص ص 116. 117.
- [13] ــ صالح بوسريف. الكتابة في الشعر العربي المعاصر (أطروحة مرقونة لنيل شهادة الدكتوراه تحت إشراف د. العربي الحمداوي ــ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز. فاس ــ 2002 / 2003). ص. ص 8. 9.
- [14] ــ مصدر القصيدة: أدونيس. هذا هو اسمي (صياغة نهائية). دار الآداب. بيروت. طبعة جديدة 1988. ص ص 28. 29.