مظاهر الاستفادة من الإحصاء في رسم السياسات الجنائية بالمغرب

أستاذ باحث
الرباط– المغرب

مما لا شك فيه أن للإحصاء الجنائي – بوصفه أسلوبا علميا في تناوُل الجرائم رصدا وتتبعا وتصنيفا، وفي وصف كتلة الإجرام كمّا وكيفا – أهمية قصوى في علم الإجرام الحديث؛ إذ إنه يوفر بيانات، مترْجَمة في شكل أرقام ونِسَب، انطلاقا من جملة مصادر (السلطات الأمنية، والقضاء، والمؤسسات العقابية)، بشأن حجم السلوك الإجرامي في منطقة ما، خلال فترة زمنية محددة، مع تقديم ذلك مرتّبا منظّما، ودون إغفال العوامل المختلفة التي أفْضَت إلى حدوث ذلك السلوك. إن أهمية هذا الأسلوب، من أساليب الملاحظة، تكمن في “كونه يعبر عن ظاهرة الإجرام تعبيرا رقميا، ويَربطها إحصائيا بغيرها من الظواهر والظروف الاجتماعية والفردية؛ مثل الفقر والجهل، والظروف الطبيعية والاقتصادية والسياسية، والسنّ والجنس ونوع المهنة والحالة الاجتماعية للفرد. فالإحصاءات الجنائية تحتوي على تَعداد الجرائم، وتقسيمها إلى طوائف وَفق الاعتبارات السابقة؛ مما يسهّل دراستها، وتحديد العلاقة بين ظاهرة الإجرام وغيرها من الظواهر الاجتماعية والظروف الفردية”[1]

وعلى الرغم من أن ثمة أساليب ومناهج أخرى، معتمَدة في دراسة الجريمة والمجرم؛ مثل المسح الاجتماعي ودراسة الحالة والمنهج التجريبي، إلا أن البحث الإحصائي قد يكون أقدمها استعمالا في هذا المجال؛ إذ يعود تاريخ استخدام الإحصائيات الجنائية، ونشرها، واستثمارها، إلى حوالي منتصف العقد الثالث من القرن التاسع عشر بفرنسا، وعَرف هذا الأسلوب العلمي منذئذٍ تطورات ملحوظة، إلى أن استحال علما قائما بذاته، سُمي بـ”علم الإحصاء الجنائي”، الذي يعد العالمان الفرنسي جيرّي (Guerry)، والبلجيكي كِتيلي (Quetelet)، أبرز رواده.

وبالنظر إلى أهمية الإحصائيات الجنائية، فقد شكلت مادة خامّا، أو “ركاما من الأرقام”؛ كما يقول فيليب روبير (Ph. Robert)، يعد بمثابة “مرآة للجريمة” (حسب سيلّين Sellin)، يستفيد منه – بلا ريب – الباحثُ في علم الإجرام لدى دراسته السلوكات المنحرفة والمجرّمة وتفسيرها، وتساعده على “رسم خطوط مبيانية لتطور الجريمة بالنظر إلى سن المجرمين وجنسيتهم ومهنتهم ووضعيتهم الاجتماعية”[2]، كما تُسْعِفه في بناء النظريات والتصورات في هذا الميدان؛ إذ هي منْطَلَقُه الضروري، الذي يستند إليه، في كل مجهوداته، الرامية إلى معالجة الظاهرة الإجرامية على نحو شمولي؛ في أفقِ اقتراحِ حلول ناجعةٍ للقضاء عليها، أو للتقليل منها إلى أقصى الحدود الممكنة على الأقل. فهذا الباحث حين يتصدى لدراسة الجرائم والمجرمين، فإن “أول ما يتبادر إلى ذهنه هو قياس هذه الظاهرة، وتحديد نسبها؛ وذلك باللجوء إلى الإحصائيات الجنائية التي تضعها مختلف أجهزة المراقبة والضبط الاجتماعييْن”[3]، وفي مقدمتها أجهزة الشرطة والدرك. ولذا، فقد أنشئت مراكز متخصصة، في الغرب والدول المتقدمة عموما (كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية)، بهدف توفير مثل تلك الإحصاءات، منها ما هو تابع للأمم المتحدة وبعض أجهزتها، ووضْعها بين أيدي الباحثين في علم الإجرام؛ من أجل مدارستها وتحليلها والبحث عن مخارج وحلول لها. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الإحصاءات الجنائية يتولى توفيرها وإعدادَها الباحثون المختصون أنفسهم، ويُطلق عليها “الإحصائيات الخاصة/ العلمية”، في مقابل “الإحصائيات العامة/ الرسمية”.

كما توظف هذه الإحصائيات في مجالات التعاون بين الأجهزة الموكل إليها محاربة ظاهرة الإجرام، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، علما بأن مثل هذا التعاون والتنسيق يعد إجراء ناجعا في مكافحة الجريمة، ويَقتضي ذلك لزوما أن يكون مسبوقا بالبحث الإحصائي الجنائي.

ولعل من أبرز المجالات التي تُستثمر فيها تلك الإحصائيات التشريع القانوني، في إطار ما يسمى “السياسة الجنائية” (La politique pénale)؛ كما يؤكد كثير من الدارسين. بحيث يعد الإحصاء الجنائي “المزوّد الرئيسي لكثير من الدراسات في معرفة أسباب السلوك الإجرامي، واستفحال الظاهرة الإجرامية وتمَرْكُزها؛ الشيءُ الذي يفيد في اقتراح وسائل التصدي للمجرمين، ونهْج سياسة جنائية كفيلة بالوقاية منها”، واحتوائها، تقوم على “التخطيط والبرمجة تبعا للمعطيات التي يوفرها ذلك الإحصاء، ووضْع استراتيجية للحاضر والمستقبل”.ولن يتأتى للإحصاء الجنائي كل هذا ما لم يكن “مُحيطا بجميع البيانات والعناصر التي أدّت إلى السلوك الإجرامي”، وما لم يكن “مدقِّقا في كل متغيراته، بما في ذلك العوامل المؤثرة في تحديد العلاقات بينها وبين الظاهرة الإجرامية”، وما لم “يَستعمل كافة وسائل المنهج الإحصائي، الرامي إلى الوقوف على الجانب الكمّي لاتجاهات هذه الظاهرة”[4]. يقول الباحث العراقي محمد عبد المحسن سعدون، في السياق نفسِه، إن “الإحصاء الجنائي مهمّ جدا لرسم السياسة الجنائية المستقْبَلية للدولة؛ فهو دليلٌ ميسور أمام المشرّع، يَسترشد به لتتبع سَيْر الإجرام، ومراقبة أثر التشريع، ومدى ملاءمته بالنسبة لحجم الإجرام، ورَدْع المجْرِمين وإصلاحهم؛ كما لو أريد معرفة أثر تشديد العقوبات على نوعٍ معين من الجرائم، أو استثناء آخر من التجريم، أو ملاحظة مدى أثر الإفراج أو إيقاف التنفيذ في الأحكام”[5].

وقبل الانتقال إلى رصد بعض مظاهر استفادة واضعي السياسة الجنائية عندنا، بالمغرب، من الإحصائيات الجنائية في المجال التشريعي، يحْسُن بنا أن نعرّف بهذه السياسة أوّلا. فحين نعود إلى الكتابات ذات الصلة بالموضوع، نقف على عدد من التعريفات الاصطلاحية المقدمة للسياسة الجنائية؛ فقد عرّفها أحدهم بأنها “رد فعل الدولة ضد الجريمة بواسطة القانون الجنائي”، وأكد آخرُ أنها “ليست إلا القانون الجنائي في حالة حركة”، وحدّدها بعضهم بأنها “فرع من المعرفة، يحدد الأصول الواجب اتباعُها للوقاية من الإجرام…، والمبادئ اللازم السير عليها في معاملة المجرمين تفاديا لإجرامهم من جديد”[6]. وعرّفها الباحث المصري فتوح الشاذلي، بأسلوب أوضح وأوجز، بقوله إنها “الخطة التي تتبنّاها الدولة لمكافحة الإجرام”[7]. وعلى العموم، يمكن الحديث عن مفهومين للسياسة الجنائية؛ أحدهما كلاسيكي ضيّق، يجعلها تنصرف إلى “مجموعة الوسائل والتدابير التي ينبغي للدولة تسخيرها لزَجْر الجريمة بأكبر قدْر من الفعالية”؛ وهو – بذلك – مفهوم “ظل يتأرجح بين التجريم والعقاب من جهة، والتدابير المسطرية من جهة أخرى”. ومن هنا، يتضح أن السياسة الجنائية، بهذا المفهوم، تعالج الظاهرة الإجرامية على مستويي الموضوع والشكل؛ فهي حين تتطرق إلى مسائل التجريم والسياسة العقابية تكون مرتبطة بالقانون الجنائي (قانون الموضوع)، وحين تلتفت إلى إجراءات البحث التمهيدي والمتابعة والمحاكمة والتنفيذ ونحوها نكون بصدد قانون المسطرة الجنائية (قانون الشكل). والمفهوم الآخَرُ واسع، “لا يقصّرها على مواجهة الجريمة بسنّ تشريعات جزائية، وتشديد العقوبات، وإنما يَمُدّها، أيضاً، إلى نطاق المنع؛ أي إلى الاهتمام بالأسباب المؤدّية إلى استفحال ظاهرة الإجرام بغية التصدي لها، والحدّ من ارتفاعها”[8].

إن التشريع المغربي، كغيره من التشريعات، استفاد – وما يزال – من الإحصائيات الجنائية في رسم السياسة الجنائية عندنا؛ لتيقُّنه مِنْ أنه لا سبيل إلى اتخاذ قرارات سليمة مؤسَّسة، وسنّ تشريعات ملائمة رصينة، دون الاعتماد على المعطيات الإحصائية في المجال الجنائي؛ لذا ظل تواصله مع مصادر هذه الإحصائيات، وفي مقدمتها السلطات الأمنية، وبعدها أجهزة العدالة الجنائية، مستمرا؛ إذ إنه يستند إلى هذه البيانات الرقمية، ويعمد إلى تحليلها ودراستها وأخْذها في الاعتبار الكامل، قبل الإقدام على سَنّ تشريعات جديدة في المجال المذكور. بل إن جملة من هذه القوانين وُضعت مباشرةً انطلاقا من تأمل معطيات الإحصاء الجنائي، ومعالجتها علميا. 

لقد تزايدت عمليات الإرهاب في العقود القليلة الماضية، واتخذت أشكالا مختلفة، وخلّفت ضحايا بأعداد كبيرة في شتى جهات العالم. ولم يَسْلَمِ المغرب منها، بل شهد عددا منها، بتدبير جماعات وأطراف مختلفة؛ كما كشفت الإحصائيات الجنائية. ولكن لم يَجْرِ تجريم الإرهاب بالمغرب بنصٍّ قانوني إلا في أعقاب أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، التي عجّلت، على نحو لافت للانتباه، بإصدار القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب[9]، الذي حدد، حصرا، لائحة الأفعال التي تشكل جرائم إرهابية، وعددُها عشرة (الفصل 1-218 ق.ج)، وحدد كذلك عقوباتها بتفصيل. ومع تزايد أفعال الإرهاب، وتفكيك أجهزة الأمن عددا من الخلايا الإرهابية في جملة من المناطق المغربية، سنّ المشرّع المغربي القانون رقم 14-86، القاضي بتغيير وتتميم بعض أحكام القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية؛ بحيث جرّم أفعالا أخرى تنضاف إلى تلك التي جُرِّمت في القانون 03.03، وفي مقدمتها الالتحاق بتنظيمات إرهابية خارج المغرب؛ بحيث أثبتت إحصائيات سابقة أن مئات من المغاربة، بمن فيهم أطفال ونساء، قد تعاطفوا والتحقوا بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) منذ نشوئه؛ ولهذا وجدنا المشرّع الجنائي المغربي يبادر، أمام هذا الوضع الطارئ، بتجريم فعل الالتحاق المومإ إليه؛ بحيث نصت المادة 1-1- 218 من ق.ج. على أفعال أخرى تعدّ جرائم إرهابية، وفي طليعتها “الالتحاق أو محاولة الالتحاق، بشكل فردي أو جماعي، في إطار منظم أو غير منظم، بكيانات أو تنظيمات أو عصابات أو جماعات إرهابية، أيّا كان شكلها أو هدفها أو مكان وجودها، ولو كانت الأفعال الإرهابية لا تستهدفُ الإضرار بالمملكة المغربية أو بمصالحها…”. ومنها، كذلك، فِعْلَا الإشادة والتمويل. فالملاحظُ أن المشرّع الجنائي المغربي يقوم، بناء على الإحصاء الجنائي أساسا، بإدخال تعديلات وإضافات إلى متن قانون الإرهاب وغيره من المتون التشريعية، كلما طرأت ظروف مستجدّة دافعة إلى ذلك؛ مما يؤكد مواكبة منظومتنا التشريعية الجنائية للجديد في المجال الإجرامي، وتفاعُلها معه تجريما وعقابا ووقاية.

واستنادا إلى بيانات الإحصاء الجنائي، أيضا، اتضح لواضعي السياسة الجنائية بالمغرب، في بدايات الألفية الجارية، ارتفاع أعداد الذين يحصلون على أموال بطرق غير مشروعة؛ عن طريق الاتجار بالمخدرات أو تهريب البشر أو الاتجار غير المشروع في السلاح والذخيرة أو غيرها، ويَعْمِدون إلى توظيفها في إقامة مشاريع تقدّر بتكاليف باهظة؛ مما بات يخلق خللا يهدد أمن البلد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا… الأمرُ الذي جعل المشرع المغربي يصدر القانون رقم 05-43، المتعلق بمكافحة غسل الأموال، في أبريل 2007[10]، والذي عُدّل وتُمم بمقتضى القانون رقم 13.10 لسنة 2011م.

وبسبب تزايد حالات استعمال التكنولوجيا الحديثة في السطو على بيانات الأشخاص الخاصة، ونشرها ابتزازا أو تشهيرا، والإساءة من وراء ذلك إلى أصحابها، والاعتداء على خصوصياتهم التي كفلها دستور المملكة وحَمَاها (يوليوز 2011)، وألحّ على ضرورة حفظها واحترامها[11]؛ كما كشفت عن ذلك الإحصائيات الجنائية (الإحصاء الظاهر والإحصاء الشرعي)، ومن ذلك القيام بنشر صور ومقاطع فيديو حول ارتشاء مسؤولين، والإتيان بسلوكات غير مقبولة من قبل موظفين عموميين وغيرهم… كان لا بد من تدخل المشرع الجنائي المغربي بسن قانون يحفظ ويحمي حياة الأفراد الخاصة من أي مِساسٍ بها، أو اعتداء عليها، ويعاقب كل من سوّلت له نفسه ذلك بالحبس والغرامة، وهو القانون رقم 103.13، الذي دخل حيز التنفيذ في شتنبر 2018م[12]. فقد نص الفصل 447.1 من ق.ج، بفقرتَيْه، على أنه “يُعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، كلّ مَنْ قام عمدا، وبأي وسيلة، بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، بالتقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاصّ أو سرّي، دون موافقة أصحابها. [و] يُعاقب بنفس العقوبة مَنْ قام عمدا، وبأي وسيلة، بتثبيت أو تسجيل أو بث أو توزيع صورة شخص أثناء تواجُده في مكان خاص، دون موافقته”. وينص الفصل 447.2 على أنه “يُعاقَب بالحبس من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات، وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، كل من قام، بأي وسيلة، بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبة مكوّنة من أقوال شخص أو صورته، دون موافقته، أو قام ببثّ أو توزيع ادّعاءات أو وقائع كاذبة؛ بقصد المسّ بالحياة الخاصة للأشخاص، أو التشهير بهم”. ويُرفع الإجراء العقابي، حبسًا (من سنة إلى خمس سنوات) وغرامةً (من 5000 إلى 50000 درهم)، إذا ارتُكبت الأفعال الواردة في الفصلين المتقدمين “في حالة العَوْد، وفي حالة ارتكاب الجريمة من قبل الزوج أو الطليق أو الخاطِب أو أحد الفروع أو أحد الأصول أو الكافل أو شخصٍ له ولاية أو سلطة على الضحية أو مكلّف برعايتها أو ضدّ امرأة بسببِ جنسها أو ضدّ قاصر” (الفصل 447.3).

إن الإحصائيات الجنائية لا تؤثر في توجُّهات المشرع المغربي على مستويي التجريم والعقاب فقط، بل تؤثر، كذلك، في اختياراته المسطرية الشكلية. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، إجراء الاعتقال الاحتياطي بالمغرب، نجد أن حوالي 50%، أو أكثر، من المسجونين معتَقَلون احتياطيّا ليكونوا رهن إشارة القضاء إلى حين البتّ في الحكم عليهم، وأن أزيد من 20% منهم يتم الإفراج عنهم، وإطلاق سراحهم بعد النظر في قضاياهم؛ فحسب إحصائيات سابقة للمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، يُعتقل بالمغرب احتياطيا أزيد من 100 ألف شخص سنويا، يُخلى سبيل 2000 منهم، ويُتابَع الباقي بناءً على مقرّرات قضائية! والواقع أن مثل هذا العدد مرتفع، ولا يحقق، في كثير من الأحيان، مبدأ العدالة الجنائية، ولاسيما حينما يُكشَف أن عددا من المعتقلين أبرياء تماما من المنسوب إليهم، وأنهم خسروا وقتا من حياتهم في المعتقل، من غير أن يُعَوّضوا عن ذلك ماديّا ولا معنويّا! وبسبب هذه الأرقام والنِّسب المرتفعة من المعتقلين الاحتياطيين بسجوننا، عمد المشرع الجنائي المغربي إلى التقليص من ذلك في مشروع قانون المسطرة الجنائية، وإلى تقييده بجملة من الشروط، بل إنه أحدث، لأول مرة، منذ صدور ق. م. ج. أواخرَ الخمسينيات، تدبيرا بديلا للاعتقال الاحتياطي، ذا بُعْد إنساني، يتمثل في “نظام الوضع تحت المراقبة القضائية”، والهدف من ذلك “إيجاد آليات تكفل سير تطبيق الإجراءات القضائية، دون اللجوء إلى تدبير الاعتقال الاحتياطي، الذي أصبح منتقَداً؛ لعدة اعتبارات إنسانية واجتماعية”[13]. إن هذا النظام، مثل الاعتقال الاحتياطي، “تدبيران استثنائيان، يُعْمَل بهما في الجنايات أو في الجُنح المُعاقَب عليها بعقوبة سالبة للحرية” (المادة 159 من ق. م. ج). وهو لا يقتضي اعتقال المتهم احتياطيا، وإيداعه السجْنَ في انتظار إصدار الحكم النهائي عليه، بل إنه بمُوجبه “يمكن أن يوضع المتهم تحت المراقبة القضائية، في أية مرحلة من مراحل التحقيق، لمدة شهرين، قابلة للتجديد خمس مرات، خاصة لأجل ضمان حضوره، ما لم تكن ضرورة التحقيق، أو الحفاظ على أمن الأشخاص، أو على النظام العام، تتطلب اعتقاله احتياطيا” (الفقرة 1 من المادة 160 ق. م. ج).

وبناء على عدد من التقارير والأبحاث والإحصاءات السابقة، بخصوص واقع السجناء داخل أسوار المؤسسات العقابية، الذي كان يَعْرف جملة من التجاوزات وأشكال التعامل غير المقبولة، لاسيما وأن المغرب قد صادق على عديد من المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان عامة، بما في ذلك حقوق المسجونين والمعتقلين، تم إحداث “مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة”، بمقتضى قانون المسطرة الجنائية وفق آخر التعديلات التي طالته، والذي عُهد إليه، على صعيد كل محكمة ابتدائية، القيام بجملة من المهام لفائدة السجناء والمعتقلين، ولتأكيدِ أن صلة القضاء بالمحكوم عليه لا تنتهي عند حدود إصدار حكم إدانة نهائي عليه، بل تضْمَن هذه المؤسسة الجديدة استمرار تلك الصلة، ومواكبة الجهاز القضائي له، وتتبع ظروف عيشه داخل السجون، والوقوف على مدى تطبيق القانون والعقوبات فيها كما يجب. وأبرز مادة ناصّة، في قانون المسطرة الجنائية، على هذا الأمر هي المادة 596، بمجموع فِقراتها، التي ورد فيها ما يأتي:

“- يعيّن قاض أو أكثر من قضاة المحكمة الابتدائية للقيام بمهام قاضي تطبيق العقوبات.

– يعين هؤلاء القضاة بقرارٍ لوزير العدل لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، ويُعْفَوْن من مهامّهم بنفس الكيفية.

– إذا حدث مانعٌ لقاضي تطبيق العقوبات، حالَ دون قيامه بمهامّه، يعيّن رئيس المحكمة قاضيا للنيابة عنه مؤقتا.

– يُعْهَد إلى قاضي تطبيق العقوبات بزيارة المؤسسات السجنية التابعة لدائرة المحكمة الابتدائية، التي ينتمي إليها، مرةً كل شهر على الأقلّ؛

– يتتبع مدى تطبيق القانون المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية في شأن قانونية الاعتقال، وحقوق السجناء، ومراقبة سلامة إجراءات التأديب؛

– يطّلع على سِجلاّت الاعتقال، ويُعِدّ تقريراً عن كل زيارة يضمّنه ملاحظاته، يوجهه إلى وزير العدل، ويحيل نسخة منه إلى النيابة العامة؛

– يمكنه مسْك بطاقات خاصة بالسجناء الذين يتتبّع وضعيتهم، تتضمّن بيانات حول هُويتهم، ورقم اعتقالهم، والمقررات القضائية والتأديبية الصادرة في شأنهم، وملاحظات القاضي.

– يمْكنه تقديم مقترَحات حول العفو والإفراج المقيّد بشروط.

– يمارس مهامّه حسب هذا القانون، وكذا بموجب أي نصوص أخرى”[14].

فهذه أمثلة مختارة من حالات كثيرة كان فيها الإحصاء الجنائيُّ عاملا حاسما في رسْم جانبٍ من السياسة الجنائية بالمغرب، ودفْع واضِعِيها إلى سنّ قوانين وتدابير سواء على الصعيد الموضوعي أو الشكلي، وهو ما يقوم دليلا واضحا على أهمية ذلك الإحصاء، وأثره في توجهات المشرّع الجنائي واختياراته على مستويات التجريم والعقاب والإجراءات المسطرية لتنفيذ هذا الأخير.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1]– د. فتوح عبد الله الشاذلي: أساسيات علم الإجرام والعقاب، من منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، ط.1، 2007، ص 38.
  2. [2]– د. أحمد قليش وآخرون: علم الإجرام والعقاب، تق: دة. جميلة العماري، من منشورات مركز الدراسات القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بشراكة مع مكتبة “فضاء آدم للنشر والتوزيع”، مراكش، ط.2، 2017، ص 19. 
  3. [3]– د. جعفر العلوي: السلوك الإجرامي (دراسة تحليلية نقدية لأهم النظريات في علم الإجرام على ضوء السياسة الجنائية والتشريع الجنائي المغربي والمقارن”، ط.1، 2010، ص 50.
  4. [4]– د. مَـحمد الأزهر: مبادئ في علم الإجرام، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط. 9، 2015، ص ص 50-51، بتصرف.
  5. [5]– د. محمد سعدون: الإحصاء الجنائي ودوره في رصد ومكافحة الجريمة، ص 300 (نسخة رقمية متاحة على الشابكة).
  6. [6]– التعاريف الثلاثة المنتقاة منقولة من بحث “استقلالية السلطة القضائية مدخلٌ لتحقيق محاكمة جنائية مُنْصِفة”، أطروحة لنيل الدكتوراه، إعداد ذ. نجيب الأعرج، بإشراف د. محمد بوزلافة، كلية الحقوق/ جامعة سيدي محمد بن عبد الله ظهر المهراز بفاس، الموسم الجامعي 2013/2014م، ص 90.
  7. [7]– د. فتوح عبد الله الشاذلي: أساسيات علم الإجرام والعقاب، م. س، ص 27،
  8. [8]– د. نجيب الأعرج: استقلالية السلطة القضائية مدخلٌ لتحقيق محاكمة جنائية مُنْصِفة، ص 90، ها. 221.
  9. [9]– صدر أول الأمر بـ”الجريدة الرسمية”، ع.5112، بتاريخ 29/5/ 2003. ثم نُشر، فيما بعد، ضمن مجموعة القانون الجنائي (الكتاب الثالث، الباب الأول مكرر، الفصول من 1-218 إلى 9-218).
  10. [10]– صدر أولا بـ”الجريدة الرسمية”، ع.5522، بتاريخ 3/5/2007، قبل تضمينه بآخر مجموعة القانون الجنائي.
  11. [11]– انظر الفصل 24 من الدستور المغربي، الفقرة الأولى.
  12. [12]– انظر الفصول 447.1 و447.2 و447.3 من القانون الجنائي المغربي. وانظر، كذلك، المنشور ع. 48س/ ن.ع، الصادر عن رئاسة النيابة العامة بتاريخ 6/12/2018.
  13. [13]– من ديباجة قانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الذي نُشر بـ”الجريدة الرسمية”، ع. 5078، بتاريخ 30/1/2003، ص 315.
  14. [14]– القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية (وفق آخر التعديلات)، سلسلة “المجموعة الجديدة للقانون المغربي”، ع.1، إعداد وتقديم: امحمد لفروجي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط.1، 2020، ص ص 208-209. 

Scroll to Top