إشكالية التعصب الديني في الفكر الأوربي الحديث: جذور الأزمة ومظاهر التجاوز

باحث في الفكر والحضارة
جامعة محمد الأول بوجدة
المغرب

ملخص

تنبع أهمية البحث في جذور التعصب الديني كونه إحدى العوائق الكبرى التي تحول دون استقرار المجتمعات، وبالنظر إلى التجربة الأوروبية التي ما فتئت تواجه هذه المسألة بجملة من الأسس قصد تجاوزها وإرساء مجتمعات قائمة على الحوار والتفاهم بدل التعصب والتقاتل، يأتي هذه البحث للنظر في رصد مختلف التطورات التي عرفتها أوروبا الحديثة إلى حين ظهور فولتير الذي اعتبر محرر أوروبا من التعصب الديني، وذلك بما قام به من جهود في محاربة التعصب وإحلال السلام بدله، سواء عبر كتاباته أو مبادراته، ولهذا سيتم التركيز على تجربة فولتير كنموذج في مطارحة مسألة التعصب الديني من كافة جوانبها، قصد فهمها واستيعاب مضامينها للإفادة منها، مع ضرورة حفظ الاختلافات الثقافية والحضارية بين مختلف المجتمعات؛ فبقدر ما كان فولتير يمثل تجربة أوروبا بخصائصها ومسارها، إلا أنها تبقى إشكالية عامة تواجه الكثير من المجتمعات، وهو ما يحيق بدراسة طريقة تجاوز فولتير للتعصب، وسيتم معالجة هذا البحث بمنهج الوصف للأحداث التاريخية والسياسية وتحليل أوجه تجاوز التعصب الديني ورصد موقع فولتير ضمن السياق كله.

Abstract

The importance of researching the roots of religious intolerance lies in the fact that it is one of the major obstacles to societal stability. Looking at the European experience، which has consistently addressed this issue through a series of principles aimed at overcoming it and establishing societies based on dialogue and understanding rather than intolerance and conflict، this research seeks to examine the various developments in modern Europe up until the emergence of Voltaire، who is considered the liberator of Europe from religious intolerance. This was achieved through his efforts in combating intolerance and promoting peace، whether through his writings or initiatives. Therefore، this research will focus on Voltaire's experience as a model in addressing the issue of religious intolerance from all its aspects، aiming to understand and comprehend its content for potential benefits، while preserving the cultural and civilizational differences between various societies. While Voltaire's experience represents Europe with its unique characteristics and historical path، the issue remains a general one faced by many societies. Thus، studying Voltaire's approach to overcoming intolerance is crucial. This research will be addressed using a descriptive method of historical and political events، analyzing the aspects of overcoming religious intolerance، and identifying Voltaire’s position within the broader context.

 

مقدمة:

إن عصر التنوير أو ما يسمى أيضا بعصر الأنوار هو العصر الذي مهد الطريق أمام بداية التحرر الفكري والتطور العلمي في القارة الأوروبية، بعد أن كانت غارقة في عصر الظلمات؛ والذي تمت فيه محاربة العلم ومنع التعليم إلا على الكنسيين، وقد برزت فيه جملة من الظواهر التي استعصت على تجاوزها، ولعل أبرزها انتشار التعصب الديني، ومحاكم التفتيش والحروب الدينية.

وبرز في هذا العصر مفكرون وفلاسفة وسموا بفلاسفة عصر الأنوار، هؤلاء الفلاسفة هم الذين قاموا بمحاربة القهر والطغيان الكنسي المتواصل خاصة في فرنسا، ويعتبر فولتير أحد أهم فلاسفة هذا العصر الذي ركز جهوده الفكرية والفلسفية لمحاربة التطرف الكنسي السائد آنذاك في فرنسا، وتكريس قيمة التسامح، ونبذ كل أشكال التعصب الديني، وقام أيضا بالدفاع عن ضحاياه.

ولتطبيق أفكاره على أرض الواقع لم يكتف فولتير بالتنظير فقط، فقد قام بإعداد برنامج إصلاحي، هدف من خلاله إلى القضاء على التّعصب الدّيني، ونشر ثقافة التسامح كحل لهذه المعضلة، وأعلن منذ ذلك الوقت الحرب على التعصب وعدم التسامح الديني الذي استعبد أوروبا آلاف السنين.

ولا شك أن اهتمام فولتير بهذه القيمة الأخلاقية النبيلة -التسامح- دون غيرها من القيم، وتركيز أغلب معاركه الفكرية على تكريس هذه القيمة، ونبذ كل أشكال التعصب الديني ينبع من إشكالية عويصة تعرض لها المجتمع الأوروبي، وهو ما يمثّل تجربة غنية لواقع اتسم بتناقضات قد تتعرض لها مجتمعات أخرى، ولحظات تاريخية أخرى من الممكن جدا الإفادة منها، على الرغم من التباين الثقافي والحضاري بين أوروبا وغيرها من المجتمعات، إلا أن تلاقح الأفكار وتقارب الجغرافيا يجعل من دراسة التجارب أمرا ذات أهمية كبرى في عالم اليوم، بما يعتمل فيه من أصداء وأشكال متنوعة لانتشار مظاهر التعصب الديني.

ومن هنا يأتي الحديث عن فولتير باعتباره أحد رواد تفكيك نظرية التعصب الديني في العصر الحديث على المستوى التنظيري على الأقل، وهي بقدر ما تمثل فلسفته إلا أنها تبقى سيرورة مستمرة لأوروبا منذ بزوغ عصر النهضة الأوربي إلى حدود اللحظة الراهنة.

المبحث الأول: جذور أزمة التعصب الديني في أوروبا في العصر الحديث

المطلب الأول: أزمة التعصب الديني في عصر فولتير

امتاز العصر الذي وجد فيها فولتير بمجموعة من الأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية التي وقعت في العصر الذي عاش فيه، ولا شك أن التمكن من معرفة فكره وفلسفته وتجربته نحو قضية التعصب الديني قمين بأن يفرز بعض مظاهر التأزم التي عرفتها أوربا في الجانب الديني.

فقد عاش فولتير في عهد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، الذي حكم فرنسا 54 عاماً (1661م-1715م)، وطبع مصيرها بطابعه إلى حد لا يمكن تصور تاريخ فرنسا من دونه، وقد ترافق في أثناء حكمه المجد والبؤس معاً، مما جعل المؤرخين ينقسمون تجاهه بين مادح وقادح، كما ارتكزت قاعدة العمل السياسي لديه على الطاعة في الداخل والسمعة الحسنة في الخارج، وهو يعتقد أنه مصدر
السلطات، بسبب الملكية المطلقة، فهو صاحب الكلمة الشهيرة «الدولة: هي أنا[1] “L’état، c’est moi”.

وفي عهده ازدهرت الحضارة الفرنسية في ميادين العلوم والآداب والفن، وظهرت المآثر الأدبية الكبيرة للشعراء الفرنسيين الكبار مثل “كورنيّ “Corneille” و”راسين”” “Racine” و”موليير” “Molièr، وفي عهده أُنشئت أكاديمية الرسم والنحت، وأكاديمية العلوم، وأكاديمية الهندسة، لكن التاريخ حفظ بالمقابل عن لويس الرابع عشر صورة الملك المستبد الذي جسد خير تجسيد مبدأ الحكم الإلهي المطلق[2].

وبعد وفاته، تولى لويس الخامس عشر العرش الفرنسي والذي يعتبر أحد أعظم ملوك فرنسا، كما تمتع بسمعة طيبة في بداية فترة حكمه لفرنسا، وعلى الرغم من هذا فإن سياسته الخاصة بالإصلاح في النظام الملكي الفرنسي وسياسته الخارجية على الساحة الأوروبية؛ أفقدتاه دعما شعبيا وجعلته أحد أكثر الملوك غير الشعبيين في فرنسا.[3]

وقد شهد هذا العصر وجود تعصب شديد للكنيسة الكاثوليكية ضد البروتستانتيين واضطهادهم وطردهم من البلاد خصوصا في عهد لويس الرابع عشر الذي تعهد بحماية الدين المسيحي ورجاله وضرب خصومهم بيد من حديد، فاللاهوت المسيحي يدعم السلطة السياسية، والسلطة السياسية تدعم اللاهوت وترتبط به بشكل لا ينفصم، وعلى هذا النحو تحصل العلاقة بين الملك ورجال الدين وتتوثق عراها بشكل لا ينفصم[4].

فالتعصب الطائفي آنذاك كان على أشده ليس فقط ضد اليهود أو المسلمين أو الأديان غير المسيحية، وإنما كان قويا جدا أيضا ضد المذاهب المسيحية غير الكاثوليكية، ورفع عندئذ الشعار التالي: ملك واحد، إيمان واحد، قانون واحد.

هذا هو حال فرنسا آنذاك وأوربا عموما، عكس إنجلترا التي كانت متفوقة على الدول الأوروبية كافة من حيث التقدم العلمي والصناعي والسياسي، وكانت لندن منارة التنوير الأوروبي في حين أن باريس كانت تغط في ظلام عميق.

وأدت ثورات القرن 17م في انجلترا خاصة الثورة الجليلة سنة 1688م إلى استقرار الملكية والبرلمان والكنيسة مما ساعد على ابتعاد انجلترا عن التقلبات وفتح الباب أمام البورجوازية البريطانية في تسيير شؤون السلطة خاصة بعد توحيد الجزر البريطانية الذي يعد توحيدا للسوق الاقتصادية البريطانية.

ولقد كانت إنجلترا آنذاك تعيش في جو من التسامح الديني والانفتاح الفكري، هذا في حين أن فرنسا كانت تعيش في ظل نظام أصولي، إقطاعي، متعصب[5].

من خلال ما سبق يمكن استخلاص أن للأحداث السياسية والتفرق المذهبي والوصاية الدينية التي نتجت عنه، هي ما تميزت به الفترة التي عاشها فولتير؛ فكانت فرنسا التي عاش فيها غارقة في بحر التعصب الديني، في حين أن انجلترا كانت تعيش في جو من التسامح الديني.

المطلب الثاني: معالم من المسار الفكري لفولتير

يعتبر الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي عاش في عصر التنوير، ممن له مكانة خاصة في حياة فرنسا الفكرية في القرن الثامن عشر، وقد خلّد تاريخ الثقافة اسمه كاتباً كبيراً وفيلسوفاً للحضارة والتاريخ.

واسمه الحقيقي فرانسوا ماري أرويه (François-Marie Arouet)، وقد ولد بباريس في 21 نوفمبر 1694م ونشأ فيها، وكانت أسرته تنتمي إلى الطبقة البورجوازية، حيث كان أبوه فرانسوا أرويه يعمل موثقًا عامًا وموظفًا رسميًا صغيرًا في وزارة المالية، أما أمه ماري مارجريت دومارت فكانت تنحدر من أصول نبيلة، إذ كانت ابنة موظف في البرلمان وأخت المراقب العام للحرس الملكي[6].

وتلقى فولتير تعليمه في معهد لويس الأكبر الذي كان يشرف عليه الآباء اليسوعيون في الفترة ما بين عامي 1704م و1711م حيث تعلم اللغة اللاتينية، وعندما أنهى فولتير دراسته، كان قد عقد العزم على أن يصبح كاتبًا بالرغم من أن والده كان يريد أن يصبح ابنه محاميًا. ولكن فولتير الذي تظاهر بأنه يعمل في باريس في مهنة مساعد محامِ كان يقضي معظم وقته في كتابة الشعر الهجائي، وعندما اكتشف والده الأمر أرسله لدراسة القانون؛ ولكن هذه المرة في المقاطعات الفرنسية البعيدة عن العاصمة، وقد أهله ذكاؤه وعلمه ومكانة أسرته لاكتساب شهرة واسعة وسط المجتمع الأرستقراطي حيث عين ملحقا للسفير الفرنسي بلاهاي في الجمهورية الهولندية سنة 1713م بناء على طلب أبيه[7].

وعندما بلغ فولتير الحادية والعشرين من عمره، اتهم بإهانة فيليب الثاني؛ دوق أورليان والذي كان وصيًا على عرش الملك الصغير الفرنسي لويس الخامس عشر، فعوقب بالسجن في الباستيل أحد عشر شهرا، وفي فترة سجنه، قام بكتابة أول أعماله المسرحية – Œdipe– (أوديب)، وكان نجاح هذه المسرحية هو أول ركائز شهرته الأدبية[8].

وفي سنة 1726م، قام ﭬولتير بإهانة النبيل الفرنسي الشاب -كافلييه دي روهان-، واستطاعت أسرة روهان الأرستقراطية أن تحصل على  lettre de cachet، وهو مرسوم موقع من ملك فرنسا لويس الخامس عشر يتضمن عقاب استبدادي لأحد الأشخاص، ولا يمكن استئناف الحكم الذي جاء فيه، وهو نوع من الوثائق التي كان يشتريها أفراد طبقة النبلاء الأثرياء للتخلص من أعدائهم غير المرغوب فيهم، واستخدمت أسرة روهان هذه الضمانة في بداية الأمر للزج بـفولتير في سجن الباستيل، ثم التخلص منه عن طريق النفي خارج البلاد دون أن يتعرض لمحاكمة أو يسمح له بالدفاع عن نفسه، وتعتبر هذه الواقعة علامة بارزة في تاريخ بدء محاولات فولتير لتطوير نظام القضاء الفرنسي[9].

واستمر نفي فولتير إلى إنجلترا لمدة عامين، وتركت التجارب التي مر بها هناك أكبر أثر في العديد من أفكاره، وقد تأثر فولتير الشاب بالنظام البريطاني الملكي الدستوري مقارنةً بالنظام الفرنسي الملكي المطلق، وكذلك بدعم الدولة لحرية التعبير عن الرأي وحرية العقيدة، وكذلك، تأثر فولتير بالعديد من كتاب عصره الذين ينتمون للمدرسة الكلاسيكية الحديثة، وزاد اهتمامه بالأدب الإنجليزي الأقدم عمرًا -خاصةً أعمال شكسبير – التي لم تكن قد نالت قدرًا كبيرًا من الشهرة في أوروبا القارية في ذلك الوقت[10].

وبعد قضائه قرابة ثلاث سنوات في المنفى، عاد فولتير إلى باريس وقام بنشر آرائه حول الموقف البريطاني من الحكومة ومن الأدب ومن العقيدة في صورة مجموعة من المقالات التي تأخذ شكل الخطابات بعنوان Lettres philosophiques sur les Anglais رسائل حول الإنجليز، وقد اعتبر فولتير أن الملكية الدستورية البريطانية أكثر تقدمًا واحترامًا لحقوق الإنسان (خاصةً في الجانب الذي يتعلق بالتسامح الديني) من نظيرتها الفرنسية، لذلك لاقت هذه الخطابات اعتراضات كبيرة في فرنسا لدرجة القيام بإحراق النسخ الخاصة بهذا العمل وإجبار فولتير مرةً أخرى على مغادرة فرنسا[11].

فعلى الرغم من السجن والنفي ومصادرة أتباع الكنيسة والدولة كل كتبه تقريبا، فقد كان فولتير كاتبًا غزير الإنتاج قام بكتابة أعمال في كل الأشكال الأدبية تقريبًا؛ فقد كتب المسرحيات والشعر والروايات والمقالات والأعمال التاريخية والعلمية وأكثر من عشرين ألفًا من الخطابات، وكذلك أكثر من ألفين من الكتب والمنشورات[12]، ويمكن تقسيم الإنتاج الفكري لـفولتير على النحو التالي: 

أولا: المسرحيات: وأغلب مسرحيات فولتير هي مسرحيات فكاهية ساخرة وفيها ما يمكن أن يطلق عليه الكوميديا السوداء، فهي تنتقد الأوضاع الاجتماعية بمرارة، وتسخر من الشخصيات الاجتماعية المنافقة والتي تهتم بالمظهر دون الجوهر، مثل “بروتس” عام 1730 و”موت قيصر” عام 1731م، وكانديد .(Candide)

ثانيا: الروايات: وقد كتب فولتير الكثير من الروايات الفلسفية الناجحة وفيها تقترن الأسطورة والخرافة بأساليب الخيال العلمي.

ثالثا: الكتب الفلسفية: إن أهم كتب فولتير الفلسفية هي (تاريخ أخلاق وروح الشعوب) وكتاب (الموسوعة الفلسفية)، ومقالة في التسامح، ويعتبر أكبر الأعمال الفلسفية التي أنتجها فولتير هو Dictionnaire philosophique، كما صدرت له “الرسائل الفلسفيّة”، وتسمى أيضا “رسائل حول الإنجليز” سنة 1734م تناول فيها مسائل اجتماعيّة وعلميّة ودينيّة وأدبيّة وفكريّة فيها الكثير من الإطراء والمدح للتجربة السياسيّة الانجليزيّة والنقد للكنيسة الكاثوليكيّة ونظام الملكيّة المطلقة بفرنسا.

وفي سنة 1778م اشتد به المرض فأخذه الشوق والحنين لزيارة باريس، وعلى الرغم من تدهور صحته فقد انتقل في عربته إلى باريس وقد استقبلته الجماهير الفرنسية استقبالا منقطع النظير وبدأ زيارته إلى باريس التي استقر فيها بخطاب في الأكاديمية الفرنسية وسط الجماهير المحتشدة، وفي 30 ماي 1778م توفي فولتير قبل الثورة الفرنسية بعام واحد عن أربع وثمانين سنة.

وبسبب انتقاده المعروف للكنيسة، لم يتم السماح بدفن فولتير وفقًا للشعائر الكاثوليكية، لكن في سنة 1791م، أجبرت الجمعية الوطنية الملك لويس السادس عشر على نقل رفاة فولتير إلى مقبرة العظماء البانثيون في باريس، وقد اصطف في الشوارع أكثر من 600 ألف من الرجال والنساء في وداع الفيلسوف الكبير.[13]

المطلب الثالث: فولتير وإشكالية السلطة السياسية:

كان فولتير يرى أن مكان السلطة في أيدي من هو مؤهل لقيادة المجتمع نحو السعادة، وهذه الأيدي ما هي إلا في أيدي الملك، لأنه هو الوحيد الذي يملك القوة ليصل بالدولة إلى الهدف المطلوب، ولقد كانت ثقته تتجه أكثر فأكثر نحو نظام قوي، معتبرا أن عهود “هنري الرابع-ملك انجلترا-” و”لويس الخامس عشر-ملك فرنسا-” الذين حكموا بأنفسهم كانت من أسعد سنوات الملكية، وكان يتأفف من الدور الذي كانت تحاول أن تؤديه البرلمانات في فرنسا، ويصفها بأنها نوع من المحاكم.

وقد حاول أن يعطي انطباعا حسنا عن النظام الملكي المستنير، شأنه شأن مفكري الطبقة البورجوازية في عصره، معتبرا أنه النظام الوحيد القادر على انتشال فرنسا من حالة الفساد والتردي عبر الإصلاحات التي بإمكانه القيام بها، فالنظام الملكي المستنير له فضائله التاريخية الناجمة عن صراعه مع فوضى النظام الإقطاعي، أما النظام الديمقراطي فلم ير فيه سوى أنه مجرد سلطة عددية[14].

وقد قام فولتير أثناء نفيه إلى انجلترا بدراسة النّظام السّياسي الإنجليزي وانبهر به، لأنّه يحمي للمواطن الإنجليزي حرّيته، ويضمن له صورته المدنيّة، البعيدة عن التسلّط الدّيني المتعصّب، ويعتبر فولتير أنّ النّظام السّياسي الإنجليزي أحسن النّظم القائمة، فهو نظام يكفل حريّات الإنسان، إذ المواطن الإنجليزي يحميه النّظام السّياسي من الجور والظلم، فالسّلطة السّياسيّة مقنّنة بقوانين تجري على الجميع، والجميع يخضعون لها على قدم المساواة[15].

لكنه كان مقتنعا بعدم إمكانية نقل هذا النموذج السياسي كما هو إلى بلاده فرنسا، وذلك لعدم توفّر أسباب وجوده بها، إذ المسألة الدّينيّة بفرنسا لا يمكن التّعامل معها بنفس الحكمة الإنجليزية، لأن شرط التّسامح كان مفقودا بها، وهو ما سيجعل العيش جماعيّا متعذّرا، إذ كلّ أسباب التّفرقة متوفّرة ببلده، التعصّب الدّيني، الطائفيّة، وهذه الأسباب كفيلة بنشوب الصّراعات، وعدم الاستقرار السّياسي، والاضطرابات الاجتماعيّة، غير أنّ الشيء الوحيد الذي يعتبره من المكاسب بالنّسبة إلى الملكيّة الفرنسيّة، أنّها استطاعت أن تحمي الفنون، وهو مكسب يحسب للملكيّة.

وحسب فولتير، للتخلص من حكم الكنيسة وجور البرلمان والنبلاء الذين لا يرون إلا مصالحهم، كان لا بد من الوقوف إلى جانب الملك، لإنارته حتى يعمل على إصلاح البلاد، وقد أبرز هذه الرؤية خاصة في كتابه “رسالة في الأخلاق” التي تعتبر فلسفة تاريخية كونية، لما جاء فيها من بيان للصّراعات الدّائرة بين ما ينسب للعادات وما ينسب للطبيعة، وقد كان لويس الرابع عشر رمز الملك الكبير الذي اتسمت سياسته بالحكمة على بعض هفواته، فقد استطاع أن يصل بفرنسا إلى مراتب محترمة بين الأمم، حتى صار لفرنسا مكانة عالية، وذلك بالإصلاح الزراعي، والصناعي، وخاصة بالتشجيع على الآداب والفنون، فأصبحت فرنسا متألقة بآدابها عالميا.

ومما سبق يتضح أن فولتير كان معجبا بالنظام الملكي الإنجليزي المستنير والذي يضمن الحريات السياسية والمدنية التي كانت غير مضمونة في فرنسا، لذلك عمل على المطالبة بالإصلاح، وداعيا إلى الاقتداء بالنظام الإنجليزي.

المطلب الرابع: فولتير والمسألة العلمية

كان فولتير من المعجبين بالثّورة الفلسفيّة الإنجليزية، التي اعتمدت على العلوم التّجريبية، لذلك قام أثناء نفيه إلى انجلترا بدراسة نظريات “نيوتن” العلمية، فكتب “مبادئ فلسفة نيوتن” الموجه إلى القراء ذوي الثقافة المتوسطة[16]، كما أجرى فولتير اختبارات عن طبيعة النار وطريقة انتشارها وكتب مقالة خاصة في الموضوع[17]، ويؤمن فولتير بأننا لا نعرف شيئا عن العالم إلا بالتجربة، وإذا ادعينا معرفة أي شيء عنه مسبقا وبالمحاكمة، فما ذلك إلا جنون[18].

ويرى فولتير “أن عقلنا، حين تقوده وتدعمه التجربة يتيح لنا أن نثبت عددا صغيرا من المبادئ الجوهرية، إثباتا يقينيا أو قريبا من اليقين، إلا أن بعض هذه المبادئ تظل فيها بعض النقاط الغامضة التي تترك مجالا لاعتراضات يمكن لنا أن نجيب على بعضها أجوبة تزيح الشك، و لكن بعض هذه الاعتراضات -في طبيعتها- تجعلنا نجهل الوسائل للإجابة عليها، فيتوجب علينا، أمامها، أن نعترف بجهلنا و أن نعلن عنه برضانا، إلا أن جهلنا هذا ليس سببا كافيا للشك في حقيقة المبادئ التي توصلنا إليها بعقلنا، فالفيلسوف الحق إذن يجب أن لا يتردد في كثير من الأحوال في أن يقول: لا أدري، ويجب عليه أن يعلن عن نفسه أنه فيلسوف جاهل، ولكن يجب -إلى جانب هذا- أن يشك في ما يثبته له عقله بشكل لا يقبل الجدل أو التأويل”[19].

وقدر فولتير أعظم تقدير إضافات ديكارت إلى الهندسة لكنه رفض فلسفته بكاملها، حيث يقول: “أن ديكارت بعد أن تظاهر بالشك، عاد فتكلم بلهجة حازمة جدا عما ليس يفهم، وظهر بمظهر الموقن بما يقول بينما هو يخطئ أخطاء فظيعة في علم الطبيعة، وراح يبني عالما ممنعا في الخيال، كما أن نظريته المتعلقة بالمادة ودواماتها نظرية عجيبة مضحكة، مما جعلني أشك في كل ما قاله عن الروح بعد أن ضللني كثيرا في ما قاله عن الأجسام”[20].

لذلك اعتبر أن نيوتن اكتشف ما كان يجهله ديكارت، لأنه بنا علمه على أساس من التجربة والحساب الدقيق، وهكذا نجد فولتير يعلن أنه من أتباع نيوتن، لأنه من أتباع الحقيقة، فهو يؤمن بقيمة علم الطبيعيات الجديد الذي اطلع عليه أثناء مقامه في انجلترا، ودعا الفرنسيين في كتابه “رسائل عن الإنجليز” أن يتخلصوا من ديكارت وينصرفوا إلى دراسة نيوتن، ويقول أن إنجلترا أدركت أن العلوم الحقيقية هي العلوم التجريبية، وبذلك استطاعت أن تتجاوز ديكارت نفسه.

المبحث الثاني: مظاهر تجاوز التعصب الديني من خلال تجربة فولتير

المطلب الأول: تأليف رسالة في التسامح

يعالج كتاب “رسالة في التسامح” لفولتير الكثير من المسائل، ولكن المسألة الجوهرية تكمن في التسامح، فقد خصص فولتير فصلين كاملين للتحدث عن مصرع جان كالاس في مارس سنة1862 الذي تم تعذيبه وإدانته حتى الموت، والذي كان يبلغ من العمر ثمان وستين سنة، وكان يعمل تاجراً في مدينة تولوز الفرنسية، والذي أجمع الكل على أنه كان أبا صالحا، وكان بروتيستانتيا …لماذا تمت إدانته؟ لأنه اتهم بأنه قتل ابنه مارك أنطوان شنقا لأنه اعتنق المذهب الكاثوليكي، غير أن الحقيقة أن ابنه انتحر، ويتحدث بالتفصيل عن النتائج المترتبة على إعدام كالاس، من تشريد عائلته كاملة بعد إدانته، وفي الفصل الثالث يتطرق فولتير إلى فكرة الإصلاح في القرن السادس عشر، ويسرد فيه مدى التعصب في فرنسا وما يفعله الكهان لتضليل الناس، وكذا القتل الشنيع الذي أحدثه أعضاء في محكمة مقاطعة البروفانس الذين آمروا بذبح ما لا يقل عن ستة آلاف شخص بمن فيهم: نساء، شيوخ، أطفال، ودمروا ثلاثين بلدة وأحالوها رمادا….ويتساءل لماذا كل هذا؟ ويجيب فيقول: فقط لأنهم ولدوا فالديين، تم نحرهم كالحيوانات الشاردة، التي تذبح في حظيرة مغلقة…ومعنى الفالديين هنا: هم أتباع بيير فالدو الذي هجر أملاكه ليعيش حياة الفقر على مثال حواري المسيح… وأبرز في هذا الفصل على أن المجازر في فرنسا كابدت تسعة حروب أهلية، وأشار إلى مجزرة عيد القديس بارتليمي في باريس يوم 23 و24 أغسطس 1572 التي تمت بأمر الملك شارل التاسع…كما أشار  إلى رجل الدين والمستشار القانوني دي بور الذي صارح الملك بضرورة إصلاح أخلاق حاشية القصر وانتهاج سياسة التسامح مع البروتستانتيين، فأمر الملك باعتقاله، ثم قُدم للمحكمة في الساحة العامة يوم14  تشرين الأول سنة 1559 حيث تم إعدامه، بينما عنون الفصل الرابع بسؤال: هل التسامح خطر ولدى أي شعوب يسمح به؟ وفي هذا الفصل يدعوا فولتير إلى عدم التخوف من التسامح، لأنه بالضرورة لن يخلف أسوء مما خلفه التعصب، وأن الشعوب التي تتمتع بالتسامح لم يحدث فيها مجازر مثل التي حدثت في الشعوب المدافعة عن التعصب، وضرب لذلك عدة أمثلة.

وفي الفصل الخامس تحدث فيه عن كيفية تقبل التسامح، والنتائج التي يمكن الحصول عليها إذا ما مورست هذه القيمة الأخلاقية، وفي الفصل السادس عنونه بسؤال مفاده هل التعصب قانون طبيعي وقانون إنساني؟ ويقول في هذا الفصل على أن الحق في التعصب حق همجي وعبثي إذ أنه حق النمور، وإن فاقه بشاعة فالنمور لا تمزق بأنيابها إلا لتأكل، أما نحن فقط أفنينا بعضنا بعضا من أجل مقاطع وردت في هذا النص وذاك…وفي الفصل السابع عنونه كذلك بسؤال: هل عرف الإغريق التعصب؟ مشيرا فيه إلى قصة محاكمة سقراط، واعتبر أن مثال سقراط هو في النهاية أقوى وأرهب حجة يمكن أن تشهر ضد التعصب، بينما في الفصل الثامن يتساءل عن ماذا لو كان الرومان متسامحين؟ ليؤكد فولتير على أن الرومان كانوا يعتبرون التسامح البند الأسمى والأكثر قداسة في القانون المنظم لشؤون الأمم، كما أشار في الفصل التاسع إلى كلمة شهيد التي كانت تطلق على من يدلي بشهادة لا على من يعذب حتى الموت.

كما تحدث في الفصل العاشر عن الاضطهاد وخطر الأساطير الكاذبة، وتطرق إلى قصة العذارى وأكد على صعوبة تصديقها، ثم انتقل إلى قصة القديس رومانوس الشاب الذي رمي به في النار، واعترف بأن المسيحيين كانوا أكبر الناس ظلماً وكان يعيثون في الأرض فساداً يقتلون دون تمييز ودمروا مئة مدينة، ولم يكفوا عن إشعال نار المحارق منذ عهد قسطنطين، وفي الفصل الحادي عشر أشار إلى مسألة الغلو في التعصب، إذ يقول فولتير بقدر ما يكون الدين المسيحي إلهياً، يتعين أن تكف يد الإنسان عن التحكم به، فمادام الله هو من يمنعه، فهو من سيثبته ويصونه من دون كون أحد، وأكد على أن التعصب لا يولد إلا المنافقين والمتمردين، وفي الفصل الثاني عشر  يتساءل هل كان التعصب شرعا إلهيا في الدين اليهودي، وهل كان معمولا به على الدوام؟ ويقول بأن الله لا يعاقب على التعبد بعبادة أجنبية، بل يعاقب على انتهاك وتدنيس عبادته هو، وعلى الفضول المسرف أو المعصية، أو ربما النزوع إلى التمرد، ومن الواضح مثل هذه العقوبات حكر على الله في النظام الديني اليهودي، وعليه نعود فنكرر أن تلك الأزمان والأعراف لا تمت بصلة إلى زماننا وأعرافنا، بينما في الفصل الثالث عشر يذكر أن تسامح اليهود اللامحدود، ففي الديانة اليهودية يقول فولتير أنه يوجد تسامح في سياق أفظع أشكال الهمجية، ويتساءل بعدها في الفصل الموالي الرابع عشر: هل المسيح هو من علم التعصب؟ بالنسبة لهذا الفصل يؤكد على أن المسيح هو المحبّة، وختم فولتير هذا الفصل بسؤاله: هل من مستتبعات القانون الإلهي التعصب؟ أم بالعكس التسامح؟ ويقول “فإن شئتم أن تتشبهوا بالمسيح فكونوا شهداء لا جلادين”.

وفي الفصل الخامس عشر يعرض شهادات ضد التعصب، لقديسين تدين جميع أشكال التعصب، وفي الفصل السادس عشر  حوار بين شخص قيد الاحتضار وآخر على أتم الصحة والعافية، وكان الحوار مع الشيطان، لكن البصر يرى أبعد مما يفكر في فعله هذا المتعجرف، بينما في الفصل السابع عشر توجد رسالة موجهة في 6 آيار مايو 1714 من صاحب دخل كنسي إلى الأب اليسوعي لوتلبيه؛ وهي رسالة غريبة ومضحكة حقا، وهي رسالة استبدادية إجرامية مدمرة وقاتلة، وفي الفصل الثامن عشر يتحدث عن الحالات الوحيدة التي يكون فيها التعصب من مستلزمات القانون البشري، في الفصل التاسع عشر حكاية شجار مجادلة في الصين؛ والشجار نشب بين مرشد رهبانية دنماركية وكاهن من باتافيا وأب يسوعي، وفي الفصل العشرون يتساءل هل من فائدة من تنشئة الشعب على الخرافة؟ يقول في هذا الفصل بأن هناك جانب إيجابي قد يؤدي إلى أضرار كارثية من جراء ذلك.

وفي الفصل الواحد وعشرون يؤكد أن الفضيلة خير من العلم ويقول  فيه هذا أن الدين وُجد لنكون سعداء في الحياة الدنيا والآخرة؛ فما المطلوب كي نكون سعداء في الآخرة؟ قال أن نكون صالحين، وما العمل كي نكون سعداء في الدنيا في حدود ما يسمح به بؤس طبيعتنا؟ قال أن نكون متسامحين، كما دعى في الفصل الثاني والعشرون المعنون بالتسامح الكوني المسيحيين إلى أن يجعلوا من جميع الناس إخوة لهم رغم اختلاف عقائدهم وذلك لكونهم أبناء رب واحد، وفي الفصل الثالث وعشرون كان عبارة عن دعاء وصلاة إلى الله من أجل ترسيخ التسامح وعيش حياة سليمة ومباركة كإخوة بين كل الذين يختلفون في المعتقدات، والفصل الرابع والعشرون أكد أنه حين بدأ كتابة هذه المقالة، وضع في باله أن يجعل من البشر أكثر رحمة ووداعة، والفصل الخامس والعشرون والأخير عاد ليؤكد أن عدم التسامح والظلم في قضية جان كالاس هما سببا كتابته هذه الرسالة، وأن هذا ما جعل طريقه للشغف بالعدل والحقيقة والسلام وترسيخ التسامح بين الشعوب، وأكد على أن القضاة الذين ظلموا جان كالاس وعائلته يجب أن يعتذروا لأرملته وأبناءه، ويقرّوا بخطئهم، ومن الجميل أن ترفض العائلة ذلك، ورجع يقول مادام الله غفور، فعلى البشر أيضا أن يغفروا لمن يسعى إلى التكفير عن جائر عمله، وأعاد السيد باكنتور استعراض مراحل الدعوى وإجراءاتها كافة وتم إجماع القضاة بعد ذلك على براءة أسرة جالاس، وأجازوا للأسرة اللجوء إلى الجهة المختصة لمقاضاة قضاتها والحصول على نفقات التعويضات والنفقات التي كان يفترض بمحكمة تولوز أن يقدموها من تلقاء أنفسهم، وعمت الفرحة بعد ذلك أرجاء باريس واجتمع حشد من الناس في الساحة العامة والمنتزهات لرؤية الأسرة التي عانت كثيرا قبل أن تبرّأ على خير وجه.

فهذا الكتاب إذن هو محاولة من فولتير للبحث عن أسباب التعصب الديني والجرائم المرتكبة باسم الدين والمذابح التي عصفت بأوروبا في القرون الوسطى، فقد حاول فولتير من خلاله إيضاح قضيته والتأكيد على أن الأصل في العلاقات الإنسانية هو التسامح بالاستدلال على ذلك من النصوص الدينية، وكذلك تعامل البشر مع الاختلافات الدينية في المجتمعات اليونانية والرومانية الوثنية، وهو تتويج لواحدة من كبرى معاركه؛ ففولتير الذي ينتمي من حيث أصله العائلي إلى الأغلبية الكاثوليكية في فرنسا يقف في هذا الكتاب مدافعا شرسا وجريئا عن أسرة بروتستانتية اضطهِدت بسبب انتمائها المذهبي ودفعت ثمناً للتعصب أباً أعدم بالدولاب وابناً سُجن وأمّاً نُفت.

إن فكر فولتير وفلسفته يشكل بالضرورة مدخلا لتنوير الفكر في اتجاه دحض التعصب الديني وتشييد حضارة قائمة على الحوار والتحاور.

المطلب الثاني: إحلال التسامح بدل التعصب

يشير مفهوم التعصب إلى “غلو في التعلق بشخص أو فكرة أو مبدأ أو عقيدة، بحيث لا يدع مكانا للتسامح، وهو ضرب من الحماسة الشديدة التي قد تؤدي إلى العنف والاستماتة، وهو بهذا حال غير سوية على مستوى الفرد والجماعة، ويصاحبها ضيق أفق وبعد عن التعقل، والتعصب ضربان: ديني أو إيديولوجي”[21].

ويعتبر التعصب الديني أخطر أنواع التعصب وأشدها خطراً على الإنسان وعلى المجتمع، لأن الإنسان المتعصب دينياً يشعر بالتمييز والتفوق على الآخرين، ويعتقد أنه هو الوحيد الذي يمتلك الحق والحقيقة وغيره على باطل، والتعصب الديني قائم على فكرة أنه لا يوجد إلا دين واحد صحيح في العالم، أو مذهب واحد صحيح، وبقية الأديان والمذاهب في النار، وبالتالي فالتعصب الديني  يؤدي إلى نشوب الصّراعات، وعدم الاستقرار السّياسي، والاضطرابات الاجتماعيّة، وانتشار الحروب الدينية، وهذا ما حصل في أوربا في عصر فولتير حيث كان التعصب الديني هو المسيطر، ولمحاربة التعصب الديني، ظهر مصطلح التسامح كبديل له.

والتسامح هو “سعة صدر تفسح للآخرين أن يعبروا عن آرائهم ولو لم تكن موضوع تسليم أو قبول، ولا يحاول صاحبه فرض آرائه الخاصة على الآخرين”[22]؛ فمصطلح التسامح يدخل ضمن المفاهيم المرتبطة بالقيم عموما، فهو جزء من كل، إذ يحضر ضمن مفاهيم أعم مثل المواطنة وحقوق الإنسان والسلوك المدني، ونجده أحيانا حاضرا باللفظ أو بمرادفاته مثل التعايش وتدبير الاختلاف والعلاقة مع الآخر.

فالتسامح إذن قيمة مدنية وحقوقية وثقافية ذات صلة بحقوق الإنسان والمواطنة والسلوكات المدنية، إذ بتبنيه سلوكا وممارسة يتم التجسيد الفعلي للقيم المدنية والعلاقات الإنسانية والقوانين المنظمة للمجتمع، و”التسامح هو السلوك المدني الذي ينقل كل ذلك من إطاره النظري العام إلى جوانبه العملية التي تظهر في السلوكات والممارسات اليومية والمعيشية وفي العلاقات الإنسانية التي تظهر بين الأفراد، أو بينهم وبين المؤسسات بمختلف أشكالها”[23]، والتسامح كمصطلح حديث ظهر في القرن 17م و18م لمواجهة مفاهيم أخرى مثل التشدد والتطرف والتزمت والتعصب والانحياز وغيرها، ولاسيما في الأفكار والآراء والقيم والمعتقدات؛ “فالتسامح لا يعني أن نتخلى عن معتقداتنا وأفكارنا، وإنما التسامح أن نمتنع عن غضب وإكراه الآخرين لاعتناق آرائنا، أو قهرهم للتخلي عن آرائهم، أو الاستهزاء بوجهة نظرهم أو النيل منهم، وفي التسامح إقرار بأن الحقيقة ليست حكرا لطرف من دون سائر الأطراف الأخرى”[24].

فالتسامح إذن يعني الاحترام المتبادل والقبول والتقدير والإيثار للآخر، والاعتراف بحقه في التمسك بمبادئه ومعتقداته وآرائه، والإقرار بحقه بالعيش بسلام دون عنف أو تمييز لأي سبب كان؛ فممارسة التسامح كسلوك داخل المجتمع، له تأثير كبير على استقراره، وهو بمثابة صمام أمان للعيش بسلام بين جميع أفراد المجتمع الواحد، رغم اختلاف مكونات وأعراق وطبقات سكانه وأفكارهم ومعتقداتهم ومرجعياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، فمن مصلحة الجميع، نبذ كل أشكال العنف والتطرف الديني، والسعي إلى لم الشمل والوحدة، لذلك ركز فولتير جهوده الفكرية والفلسفية لإشاعة روح وثقافة التسامح كحل لمحاربة كل أشكال التعصب الديني.

المظهر الثالث: الدعوة إلى التسامح الديني

اقترن اسم فولتير بالدعوة إلى التسامح أكثر مما اقترن اسم غيره من المفكرين، فمعلوم لدى دارسيه أنّه ركّز أغلب معاركه الفكريّة على تكريس هذه القيمة النبيلة التي طالما قرنها بحريّة العقيدة وبحريّة التعبير في آن  معا، وقد سعى فولتير إلى إشاعة روح وثقافة التسامح، دون السقوط في السجالات العقيمة والمناقشات البيزنطيّة حول ما إذا كان العنف يسبق التسامح والشرّ يسبق الخير أم العكس؛ بل حارب العنف والتعصّب الديني والإيديولوجي المقيت، وكان براغماتيّا في مقاربته لمفهوم التسامح من خلال دفاعه المستميت منذ  أكثر من قرنين ونصف عن قضيّة جان كالاس Jean Calas، المنتمي إلى مذهب الأقليّة البروتستانتية والذي اتّهم زورا بقتل ابنه  لوي كالاس Louis Calas بوحشيّة وبشاعة لمجرّد اعتناقه للمذهب الكاثوليكي المخالف لمذهب العائلة البروتستانتي فيما هو بريء تماما من ذلك، إلّا انّه أعدم رغما عن ذلك بتسرّع مثير للريبة والإستغراب ودون احترام للإجراءات القانونيّة، وقد تبنّى فولتير هذه القضيّة  بعد أن سجّل الإخلالات التي رافقتها منذ انطلاقها، فدافع عنها بشراسة وإصرار لرفع الظلم عن صاحبها ولو بعد مصرعه.

وتبني هذه القيمة من طرف فولتير كان نتيجة  إعجابه بما وصلت إليه إنجلترا من تقدّم خاصّة على صعيد مبادئ حقوق الإنسان، وذلك من خلال نشر مبدأ التّسامح بين النّاس، الذي مكّن هذه الطوائف الدينيّة من التّعايش بينها، في كنف احترام حقوق الجماعات والأفراد في ممارسة معتقداتها دون تدخّل الأطراف الأخرى في ذلك، اعتمادا على مبدأ حريّة الفرد الإنجليزي في طريقة عيشه، حرّ في معتقداته، يمارسها دون المساس بمعتقدات الآخرين، فالإنجليزي متسامح مع الإنجليزي، يمارس طقوسه الدينيّة في كنيسته، ولا يحارب معتقد الإنجليزي الآخر الذي يمارس طقوسه الدينيّة في كنيسة مختلفة عن كنيسته في طريقة تطبيق شعائرها الدينيّة، ومبدأ التّسامح هذا أهّل المواطن الإنجليزي إلى التّعايش السّلمي مع أخيه الإنجليزي، ومن أكبر ثمار مبدأ التّسامح، تجنّب الصّراعات الدمويّة، خاصّة التي تقوم على أساس دينيّ، إذ تعمل كلّ طائفة دينيّة على التعصّب لمبادئها، وإرادة تزّعم البلاد على المنهاج الذي تراه صالحا لها، فتتصادم فيما بينها وتنشب الحروب ويعمّ القتل البلاد، وهو ما جعل فولتير يدعو إلى التّسامح، ويشيد بعمل إنجلترا بهذا المبدأ، إنّها بلد التّسامح، وهو ما ترجم عن تعدّد الطوائف والشّيع، وهو أيضا ما خفّف من الخلافات الدينيّة، فالإنجليزي رجل حرّ يصعد إلى السّماء من أي طريق شاء، وتعدّد الكنائس يجنّب من الدّخول في صراعات دمويّة، تنتج عندما تتقابل ديانتان لتتزعّم قيادة البلاد، التّسامح إذن يجلب السّلم وخاصّة يرقّق من الهوس الدّيني.

بهذه الطّريقة في التّعامل مع المسألة الدينيّة، أمكن لإنجلترا أن تخمد لهيب المشاعر الدينيّة وهو ما كان يحلم فولتير بتحقيقه في بلده، لكنّه مؤمن بأنّ تحقيقه في ذلك الوقت غير ممكن، وذلك لشدّة التعصّب الدّيني، والتّطاحن الطّائفي الشّديد الدّائر رحاه في ربوع بلاده، حتّى في فترة ربيع الأنوار فإنّ هذه الطّوائف الدينيّة لم تنفكّ عن الاقتتال.

وبذلك يكون صوت الفيلسوف الفرنسي فولتير، قد نادى بأعلى صوته بضرورة إحلال التسامح كبديل عن حروب الاستئصال الدينية، التي لا أرضاً ستقطع، ولا ظهراً ستبقي، وهو ما يؤكده الدكتور هاشم صالح في كتابه: «مدخل إلى التنوير الأوروبي» عندما يتحدث عن تاريخ الفكر الأوروبي، إذ يقول: “أصبح اسمه رمزاً يستنجد به الناس في كل مكان في العالم عندما يزيد التزمت والإكراه في الدين عن حده”[25]، وبهذا يمكن القول أنه لم يعرف شخصا كرس حياته كلها لمحاربة التعصب الديني مثله.

خاتمة:

وفي ختام هذا المقال يمكن القول أن فولتير عاش في القرن الثامن عشر أو “عصر التنوير”، وكان عصر العلوم والاكتشافات والفلسفة والفكر، وكان  التعصب الديني المسيحي قويا جدا آنذاك حيث أدى مولد البروتستانتية  على يد مارتن لوثر، إلى الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت، والتي استمرت لأكثر من مائة عام، ولا شك أن العصر الذي عاش فيه ﭬولتير كان يسجل تبايناً في الحريات على طرفي بحر المانش، وفي فترة السنوات الثلاث التي قضاها هناك لاحظ الفرق، فوصف بريطانيا “بأن فيها شعب له آراؤه الخاصة وحريته المميزة. شعب أصلح دينه وشنق مليكه وأنشأ برلماناً أقوى من أي حاكم في أوربا ولا وجود فيه للباستيل وفيه ثلاثون مذهبا دينيا بدون قس واحد”، وأقام فولتير مقارنة بين وضع فرنسا ووضع إنجلترا آنذاك، حيث إن فرنسا لا تسمح إلا بوجود مذهب مسيحي واحد هو المذهب الكاثوليكي وهذا ما أدى إلى وجود تعصب شديد لدى الفرنسيين، في حين أن إنجلترا تسمح بعدة مذاهب وتيارات فكرية، وهذه المذاهب تتعايش مع بعضها البعض بكل محبة وسلام ووئام بسبب سيادة روح التسامح لدى الإنجليز، وعلى الرغم من أن فولتير ينتمي إلى الأغلبية الكاثوليكية في فرنسا، إلا أنه لم يتوان عن الدفاع عن ضحايا التعصب الديني وتكريس مبدأ التسامح وقبول الآخر المختلف دينيا أو طائفيا، وإن نضال فولتير جاء مجردًا من كل الأسلحة المعهودة أو كل الأدوات التقليدية الممكنة، تخلى عن دعم سلطة الدولة أو الدعم السياسي أو العسكري وتخلى عن سلطة الدين حين كانت الكنيسة في أوج انخراطها في تقرير شؤون المجتمعات وسياسات الدول، وانتقد الجميع وامتنع عن التعاون مع أية قوة تقليدية معتبرًا أن السياسات القديمة متحدة مع سياسة الكنيسة الصارمة هي التي أوصلت واقع الحال إلى أماكن مسدودة في إطار سعادة الفرد، وحورب فولتير على أنه عنصر مشاغب وفوضوي وملحد متنكر للأعراف والتقاليد؛ نبذته فرنسا ونبذته الكنيسة وأصبح مثالاً للعصيان وصورة الساخر المتهكم والوقح، ولتتويج أفكاره و نشرها في أوساط العامة، قام فولتير بكتابة العديد من الأعمال الدراميّة التي تناولت مواضيع الإنسان في صميم طبيعته، فتكلّم عن الظّلم، وعن الاستبداد، والتعصّب الدّيني، وطالب بالحريّة، ودعا إلى التّسامح، وتبقى رسالته في التسامح من أبرز أعماله الخالدة، والتي تضمنت أفكارا مهدت لقيام الثورة الفرنسية سنة 1798م.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [[1]– ول ديورانت، قصة الحضارة عصر ﭬولتير، ترجمة: فؤاد أندراوس، ط دار الجيل، بيروت: 1408هـ/1988م، 9/12.
  2. [2]– المصدر نفسه، 912/.
  3. [3]– المصدر نفسه، ص: 9/13-14.
  4. [4] -هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، ط 1: دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت: 2005م، ص: 134-135.
  5. [5]– ول ديورانت، قصة الحضارة عصر ﭬولتير، 9/353-357.
  6. [6]– الموسوعة العربية الميسرة، إشراف، محمد شفيق غربال، ط دار الجيل، بيروت 1416هـ/1995م، 2/1337.
  7. [7]-عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1984م، 2/201-207.
  8. [8]-جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت: 1987م، ص: 434-438.
  9. [9]-نفس المصدر السابق.
  10. [10]-نفس المصدر السابق.
  11. [11]-نفس المصدر السابق.
  12. [12]-نفس المصدر السابق.
  13. [13]-نفس المصدر السابق.
  14. [14]-مصطفى الخشاب، تاريخ الفلسفة والنظريات السياسية، ط1، لجنة البيان العربي، القاهرة: 1953م، ص: 431.
  15. [15]-عبد العزيز عزت، فلسفة التاريخ وعلم الاجتماعيين، ط، (د.ن)، القاهرة: 1951م، ص: 114-115.
  16. [16]-أندريه كريسون، ﭬولتير حياته-آثاره-فلسفته، ترجمة، صباح محي الدين، ط2، منشورات عويدات، بيروت: 1984م، ص16.
  17. [17]-المصدر نفسه، ص 20.
  18. [18]-المصدر نفسه، ص 56.
  19.  [19]-أندريه كريسون، ﭬولتير حياته آثاره فلسفته، ص 59-60.
  20. [20]-المصدر نفسه، ص 55-56.
  21. [21]-إبراهيم مدكور، المعجم الفلسفي، ط الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983م، ص 49.
  22. [22]-إبراهيم مدكور، المعجم الفلسفي، ص 44.
  23. [23]-جمال بندحمان، دراسة وضعية قيم التسامح في المنظومة التعليمية في المغرب، دراسة ضمن كتاب قيم التسامح في المناهج المدرسية العربية، ط: مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، (د.م): 2012م، ص 112-113.
  24. [24] عامر عبد زيد، من أجل أخلاقيات التسامح في ظل ثقافة اللاعنف، ط، بيت الحكمة، بغداد 2010م، ص 73.
  25. [25] -هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت: 2005م، ص: 214.
Scroll to Top