جهودُ محمد بازِّي في التّجديد البلاغي:مرجعيات مشروع البلاغة الكبرى وآفاقه
دكتوراه في اللسانيات العربية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة
المغرب
مقدمة
مكّننا الاطّلاع على مؤلفات الباحث الأكاديمي المغربي محمد بازِّي-في شقّيْها التأويلي البلاغي والتربوي التكويني[1]-من استيعاب الكثير من القضايا الابستمولوجية التي تؤطّر مشروعَه المعرفي، وبخاصة ما يتعلق بمسألة التجديد البلاغي في ضوء مشروعه (البلاغة الكبرى).
ولعل الثلاثيّة البلاغيّة الحديثة التي صدرت للباحث عن دار كنوز المعرفة بالعنوان العريض (البلاغة الكبرى)[2] خير أنموذج معرفيّ في إبراز منطلقات الباحث واقتراحاته التجديدية، ودورها في تطور المعرفة البلاغية في شقّيها النظري والتطبيقي، فقد استطاع الباحث أن يقدم مجموعة من الاقتراحات العلمية، منها نظرية التقابل والتساند ومشروع البلاغة الكبرى والأدب القاصد والنقد المتعالي، وغيرها من القضايا التي تشكل في مجموعها المشروع التأويليّ الذي بناه الباحث خلال العقود الأخيرة في سعيه لإعادة التفكير البلاغي والتأويلي إلى أصوله النقية المستمدة من خطاب الوحي، القائمة على التكامل بين اللغة والأدب، والتساند بين مختلف العلوم والمعارف.
نسعى في هذا البحث إلى دراسة معالم التجديد البلاغي عند الباحث محمد بازِّي وتصوراته في ضوء مشروع البلاغة الكبرى، لنُبيّن مرجعيات الباحث، ومنطلقات تصوراته، وآفاق آرائه، في مجالات منها البلاغة وتحليل الخطاب واللسانيات والأدب والنقد الأدبي.
ولأن المشروع المعرفي للباحث محمد بازِّي من المشاريع المعرفية الكبرى في ساحتنا العلمية الحديثة، كان من الضّروري أن يكون قائما على أعمدة كبرى وصلبة، تلك الأعمدة هي المرجعيات التي تشكّلت وِفقها أفكاره وتصوراته.
والمشروع المعرفي لمحمد بازّي لا نقصد به مشروعه البلاغي والتأويلي فقط، بل مشروعه المعرفي في تكامله وشموليته التي تتجاوز حدود البلاغة والتأويليات وتحليل الخطاب، إلى علوم التربية وتكوين الأطر، والأدب، والنقد، والمعرفة بشكل عام، إذ لا تكتمل حقيقة هذه المرجعيات الأساس إلا عندما يمتدّ تأثيرها إلى مختلف قضايا المشروع المعرفي، فنجد المرجعية نفسها هي المحركة لمختلف اهتماماته وتصوراته حول الموضوعات التي يقاربها.
همّنا في هذا البحث هو الكشف عن تلك المرجعيات والمنطلقات الموجِّهة للمشروع المعرفي للباحث محمد بازِّي، وإبراز محوريتها ودورها في نسج تصوراته ومواقفه المعرفية في مختلف المجالات التي اهتم بها وكتب فيها. ثم البحث عن أثر منطلقات محمد باِّزي وخلفياته المعرفية والفكرية والحضارية في صياغة تلك التصورات. وكذا الآفاق الرحبة التي تفتحها أمام الباحثين والمهتمين بقضايا المشروع المعرفي لمحمد بازي في مجال البلاغة وتحليل الخطاب، وعلوم التربية، وتكوين المدرسين وغيرها.
وفي السعي لتحقيق هذه الأهداف، اخترنا تقسيم البحث إلى مقدمة وندخل ومبحثين، نشير في المدخل إلى جهود بعض البلاغيين المغاربة في تجديد الدرس البلاغي منهم محمد العمري ومحمد الولي ومحمد مشبال، وإلى موقع جهود محمد بازي ضمن هذه الجهود. ونخصص المبحث الأول لبعض القضايا النظرية في مشروع البلاغة الكبرى، من قبيل التعريف والامتداد والأهداف، ثم ندرس في المبحث الثاني مرجعيات تصورات الباحث في مسألة التجديد البلاغي وآفاقها على المستوى النظري والإجرائي، ثم نختم البحث بأهم الخلاصات التي توصلنا إليها.
مدخل إلى جهود البلاغيين المغاربة المحدثين، وموقع جهود محمد بازي منها
لقد تميزت جهود الباحثين المغاربة في الدرس البلاغي الحديث بالتجديد المستمر والمواكبة الدائمة لأحدث ما وصل إليه البحث العلمي الحديث، وتجاوز بعض البلاغيين ما كان متداولا في كتب البلاغة القديمة، وشرعوا في بناء صروح تخصصات وفروع مهمة داخل إطار البلاغة.
وتمثل معظم هذه الجهود اليوم بحق مدارس بلاغية قائمة الذات، كما هو الشأن بالنسبة لجهود محمد العمري ومحمد مشبال ومحمد الولي ومحمد بازي وغيرهم، وكذا بعض الطلاب النجباء والباحثين المتميزين الذين تكونوا في مدارسهم، وأصبح لهم شأن في البحث البلاغي الحديث أمثال مصطفى رجوان وعبد الوهاب صديقي وميلود عرنيبة وغيرهم.
والمتأمل في جهود هؤلاء الأعلام يلحظ منذ الوهلة الأولى تنوع اهتماماتهم وتعددها، وهو ما تؤكده دراساتهم البلاغية التي أغنت المكتبة العربية بمصادر في تخصصات جديدة لم يُسبق إليها، كما أضحت كتاباتهم مصادر معتمدة لدى كثير من الباحثين ليس في المغرب فحسب، بل في كل ربوع الوطن العربي. وفتحت آفاق جديدة سلكها العديد من الباحثين فأصبحوا يمثلون هذه المدارس ويتبنّون أطروحاتها العلمية.
كما يلحظ المتأمل تنوع المرجعيات والمنطلقات التي استند إليها كل باحث في بناء صرحه المعرفي، وتنوع الآفاق التي يشيدها، وهو ما يدعو بالضرورة إلى إعادة الاعتبار لهذه الدراسات والتعريف بأصحابها وبجهودهم في إعادة تشكيل معالم البلاغة العربية في عصرنا الحالي.
لا يقلّ ازدهار الدرس البلاغي الحديث بالمغرب عن ازدهار الدرس اللساني فيها، فإن كان الفاسي الفهري وأحمد المتوكل ومحمد الأوراغي وأحمد العلوي ومصطفى غلفان وغيرهم من أهم اللسانيين المغاربة المؤثرين في العالم العربي في مجال اللسانيات الحديثة، فإن جهود محمد العمري ومحمد مشبال ومحمد الولي ومحمد بازي وحسين بنو هاشم من الرواد البلاغيين الذين وجهوا الباحثين العرب في مختلف البلدان، وما تزال دراساتهم تفتح الكثير من الآفاق بالرغم من عدم مواكبتها من قبل الباحثين والتعريف بها بالشكل المطلوب.
والتعريف بجهود هؤلاء البلاغيين، وتقريب مشارعهم العلمية إلى الباحثين العرب، يحتاج إلى جهود جماعية وفردية، وإلى تظافر الجهود من خلال فعاليات دورية ومجلات وكتب جماعية ومشاريع في الجامعات، وبخاصة في أبحاث الماستر وأطاريح الدكتوراه، ويُتَطلّب اليوم من المختبرات توجيه الباحثين إلى التعريف بجهود الأعلام الكبار وإعادة تطبيق أطروحاتهم في مجالات معرفية متعددة.
وفي إطار التعريف بجهود البلاغيين المغاربة، صدر العدد الأخير من مجلة المناهل المغربية[3]، في موضوع (نظرات في البحث البلاغي بالمغرب). وشارك فيه عدد من البلاغيين المغاربة منهم محمد مشبال وعبد الرحيم وهابي وعبد الوهاب صديقي والحسين بنو هاشم ومصطفى رجوان وعبد العزيز الحويدق وغيرهم.
يبرر المشرفون على المجلّة تخصيص العدد للبحث البلاغي بالمغرب لعدم وجود مواكبة تعريفية بجهود المغاربة المحدثين في البلاغة، جاء في افتتاحية العدد “ويعرف البحث البلاغي بالمغرب اليوم، طفرة ملحوظة على المستويين الكمي والنوعي، إذ ارتفع عدد البحوث البلاغية المغربية المنشورة بالمغرب والمشرق وتميز بعضها بالجدة والاجتهاد، أهلت مؤلفيها للفوز بجوائز عربية قيمة، وأصبحت بعض أعمال البلاغيين المغاربة متداولة بالبلدان العربية ومراجع معتمدة في أعمال الباحثين في البلاغة هناك. يلاحظ مع ذلك، أن الظفرة المذكورة لم تُواكَب بدراسات تعرف بها وتقيم منجزها”[4].
ولأن التعريف بجهود كل الباحثين البلاغيين يحتاج إلى جهود فرق بحثية، فإننا سنقتصر في هذا البحث عل بعض جهود محمد بازي، وبخاصة ما يتعلق بالقضايا التي وردت في كتابه الأخير البلاغة الكبرى.
المبحث الأول: البلاغة الكبرى: التعريف والامتداد والمرجعيات
1- ظهور أطروحة “البلاغة الكبرى”
أسس بازّي مشروعه التأويلي البلاغي عبر أربع أطروحات، هي[5]:
أولا: الأطروحة التساندية؛ وتعني: “تبادل العون والمساندة في عملية بلوغ المعنى بين العناصر المعتمدة في الفهم”[6]؛ والتي من مزاياها كما يقول بازّي “أنها معبر مفتوح، تنتقل فيه المعلومات والمعارف بحرية وانتظام؛ فالخطاب التأويلي التساندي شبيه بطريق سيّار، بين النص ومجموع الموازيات والمعارف والسياقات التي تحتويه؛ فاللغة تعمل إلى جانب الاشتقاق والأنساق النحوية التي تدعم بدورها النسق البلاغي، والنصوص الموازية تغذي المعاني والتخريجات والفروض والاستكشافات”[7].
ثانيا: أطروحة الكون المتقابل والتأويل بالمقابل، وهي أطروحة في فهم العالم والخطابات عن طريق التقابلات الضمنية والصريحة؛ ذلك أن الوجود بأكمله قائم على تقبلات، وأن خطابات الناس على اختلافاتهم مبنية على أنواع من التقابلات، يؤدي فهمها إلى فهم الوجود وتحليل الخطابات وفك شفراتها. وقد عرفها بازي بقوله: “إجراء في الفهم، يقوم ذهنيا على التقريب التقابلي بين العناصر والمستويات، في المعطى موضوع التأويل بأي شكل ممكن. إنه إحداث لتواجه بين بنيتين، أو موقفين، أو وضعين، أو عنصرين، أو غير ذلك. وهو ما ينتج علاقات متباينة لها معان”[8]. ينظر كتاب (البنى التقابلية)[9]، وكتاب (نظرية التأويل التقابلي)[10].
ثالثا: أطروحة الاستعارة المنوالية وتحليل طرازات الخطاب، وقد عرفها بازّي بقوله: “حركة ذهنية تموجية لا حدود لها داخل الثقافة والدوال والنصوص والمعاني، تقوم على مبدأ الحاجة الاستعارية ومبدأ الملاءمة والوظيفية ومبدأ الفعالية”[11]، واستثمر بازي ما تزخر بها البلاغة العربية في إعادة بناء مع إعادة بنائه للفعل الاستعاري بعيدا عن القوالب الجاهزة التي حددتها الدراسات البلاغية العربية، وقد بين بازي آفاق الاستعارة المنوالية في نظرتنا للوجود وطرق تحليلنا للنصوص والخطاب بشكل دقيق في كتابه (البنى التقابلية).
رابعا: أطروحة البلاغة الكبرى إطارا وجوديا وفلسفيا لعلوم البلاغة الصغرى، وهي أطروحة تدعو إلى الارتقاء بعلومنا ومشاريعنا التأويلية والبلاغية إلى مستوى متناغم مع وجودنا، والبلاغة استنادا إلى ذلك بلاغة كبرى وبلاغة صغرى، يقصد بازي بالأولى “علم أخلاقيات الخطاب، ومقاصده الإنسانية العليا المحتفية بالوجود الدال المتناغم مع السنن الكونية”[12]، ويقصد بالثانية “علوم الخطاب البليغ وملكاته، وقوانينه الأدبية والبيانية والتأويلية والنقدية والجمالية”[13]. وقد فصلها الكاتب في ثلاثية البلاغة الكبرى، إضافة إلى دراسته الحديثة (التأويليات الجديدة)[14].
ورأى أن هذه النماذج التحليلية قابلة للاقتراح والاشتغال في الدرس البلاغي المعاصر[15]، وفي مجال تحليل الخطاب.
لقد اشتغل بازّي على تطوير هذه النماذج خلال عقود من الزمن، وتراكمت فيها تجربته، فأغنى المكتبة العربية البلاغية والتأويلية بالعديد من الدراسات، جسّد من خلالها مفاصل هذا المشروع تنظيرا وتطبيقا. ولأن المقام لا يسمح لنا بالتفصيل في الكتابات التي مثلت مسيرة تطور هذه النماذج، والإشارة إليها جميعها، فإننا سنقتصر على النموذج الرابع، وهو النموذج الذي قدمه الكاتب من خلال أطروحة (البلاغة الكبرى).
وتستند أطروحة البلاغة الكبرى على ضرورة بناء المشاريع التأويلية والمعرفية والبلاغية “في مسار متناغم مع حقيقة وجودنا الإنساني، وهي بلاغته الكبرى التي من أجلها وُجد الإنسان قبل الأدب والفكر والكتاب والهاتف، فلا تعارض بين العلوم الأداتية: البلاغات الصغرى، والعلوم الغايات: البلاغة الكبرى؛ التي تظهر فيها العبودية لله إجلالا واعتبارا”[16].
لقد كان بلوغ هذه الأطروحة نتاجَ اطّلاع كبير ومساءلة مستمرة للكاتب على مدى عقود، شملت الدراسات القديمة من التراث اللغوي العربي، والدراسات الغربية الحديثة في مجال البلاغة والتأويليات وتحليل الخطاب، وهوما خلُص إليه في قوله: “ثم تفقّدنا طوال ذلك-وعلى مدى عقود من الاطّلاع والمساءلة-أقوى ما عندنا ثقافة ونقدا، فلم نجد أقوى من الأنموذج الأدبي القاصد ذي المرجعية الوجودية الإيمانية”[17]، وهذه المرجعية هي الركيزة الأساس التي سوف يقوم عليها المشروع البلاغي والتأويلي لبازّي، وفي ضوئه يمكن إعادة قراءة مختلِف النصوص التراثية والحديثة، لاختبار مدى استجابتها لمعايير البلاغة الكبرى.
ومن تلك الرؤية، ينطلق بازِّي في تجديده البلاغي، إيمانا منه أن الأدب والخطابات المتداولة الآن -بين الباحثين من جهة وبين القراء من جهة أخرى-يحتاج إلى الكثير من النقد والمراجعة، وإعادة بناء تصوراتنا الجديدة التي تحمل همّ الإنسان الدنيوي والأخروي، يقول بازِّي: “نطمح أن تتغير الأنساق الثقافية في رؤية الوجود لتتناغم مع ما جاء به خطاب الله للناس، ولا خير في بلاغة تترك ذلك، وتتّبع الأدباء في أهوائهم وأخبارهم ومعانيهم دون تملك سلطة لبيان الحقيقة، وتقويم المعاني والخطاب، وتوجيه الأدب وجهة صحيحة قاصدة مُسدّدة تنفع صاحبها أولا، وينتفع بها غيره ثانيا”[18]. واستنادا إلى ذلك سوف يعيد بازّي النظر في كثير من مسائل البلاغة والأدب، منها المفهوم الدقيق للبلاغة، والفرق بين البلاغة الكبرى والبلاغات الصغرى، ومرجعيات البلاغة الكبرى، وعلاقة البلاغة بالأدب والأدب القاصد، وعلاقتها بالأدب الإسلامي، ومعاييره، ومؤهلات الأديب البليغ، والقاري البليغ.
2- البلاغة الكبرى والبلاغات الصغرى
أسفر توسيع مفهوم البلاغة عند بازّي عن نوعين من البلاغة، هما: (البلاغة الكبرى) و(البلاغة الصغرى)، وأدى هذا التوسيع إلى خروج مفهوم البلاغة “من معاني الصناعة النظرية المتعلقة بقوانين الخطاب، وما يحسّنه، ويجعله بليغا محققا لمنتهى مقاصد مُنشئه، ومن محمولات بلاغة التأويل المدعومة بقوانين الفهم وعلومه وضوابطه، إلى مفهوم البلاغة الوجودية بوصفها مجموع علوم معاني القول الدال، وفلسفة مقاصد الوجود البليغ، التي تجعل من علوم البلاغة (البلاغة الصغرى) قديمة وحديثة أدوات لها”[19]. واستنادا إلى ذلك يعيد بازّي صياغة موضوع البلاغتين معا، ويبرز العلاقة بينهما، ودور كل بلاغة في إغناء الأخرى، ويمكن أن نشير إليهما في الآتي:
- البلاغة الصغرى: هي العلم بأساليب القول البليغ[20]، وهي قوانين القول الوصفية والتأويلية، أو علم نماذج القول البليغ[21]، ويتطلب من الباحثين “استثمار البلاغة الصغرى: علم البلاغة، القديم والجديد وإغناؤهما بما جدّ في الدرس اللساني والنقدي الحديث، وتحليل الخطاب، وعلم النفس المعرفي، والحاسوبيات[22]، ويتطلب منهم كذلك ربطها بالبلاغة الكبرى لتستمد قوتها منها “لأنها بلاغة متناغمة مع سنن الكون، عابدة مُسبّحة تشرق عليها شمس الحقائق الوجودية كل حين”[23]. والغاية أن يتمكّن البلاغيون من استثمار جهودهم في البلاغات الصغرى، وإخضاعها لمبادئ البلاغة الكبرى القائمة على احترام الأخلاق وتجنب الشر والدعوة إليه[24]، وجعل سعادة الإنسان وأمنه واطمئنانه فوق كل اعتبار.
- البلاغة الكبرى: وهي “مجموع الأهداف والقيم والمبادئ والمرجعيات والفلسفات التي تبلغ بالإنسان منتهى ما أراد له الشرع من كرامة وعزة ونبل”[25]، وهي علم مستقى من روح الخطاب الربّاني للإنسان، ومن نور الرسالة المحمدية للعالمين، ومن كل خطاب يجري مجرى هذين الأصلين المرجعيين بيانا، وتفسيرا، وتوجيها، وتأصيلا، وتأويلا، وفهما صحيحا لبلاغة وجود الإنسان”[26].
وبناء على ذلك تتجاوز البلاغة الكبرى مفهوم البلاغة قديما وحديثا، إذ ليس همّها تحديد الأدب من حيث موضوعه أو شكله، وإنما “تسعى إلى توجيه رؤيا العالم عند الإنسان كاتبا وغير كاتب نحو الماورائيات التي ستكون في ما بعد ميزان الوجود، وتبعا لذلك، فقضايا الأدب المتناغمة مع هذا المنظور هي كل ما يستحق أن يكون موضوعا للأدب وأما أشكال الأدب فلا حصر لها”[27].
وعلى عكس تحديد موضوع البلاغة الكبرى وشكلها، يتم اختبار المنتجات اللغوية والرقمية لقياس مدى تناغمها مع أهداف البلاغة الكبرى ومقاصدها، ومدى استحضارها للقيم السامية التي تدعو إليها، وهي القيم المستمدة من الوحي والشريعة الإسلامية، والقوانين التي تسعى لحفظ كرامة الإنسان وتحقيق سعادته واطمئنانه وأمنه.
تهدف فلسفة البلاغة الكبرى إلى استثمار البلاغات الصغرى وتسخيرها في جعل رسالة الأدب مكمّلة وخادمة لخطاب الشرع[28]، وتسعى لتكون خادمة لما جاءت به الشريعة من أجل الإنسان[29]، وتخرج البلاغة الكبرى عند بازِّي عن حدود البلاغة كما هي بين المتخصصين لتعانق كل الخطابات الوجيهة الساعية إلى تخليص الإنسان عاجلا أو آجلا، وتقوية إيمانه بخالقه، وتعريفه بما يحفظه في الدارين[30]. واستنادا إلى هذه الأطروحة يمكن إعادة النظر في كل ما اعتبره النقاد سابقا ضمن إطار البلاغة، كما يمكن للنقد الأدبي أن يعيد النظر في كثير من القضايا والتصورات بشأن الأدب، ومؤهلات الأديب في ضوء أطروحة البلاغة الكبرى.
3- في توسيع مفهوم “البلاغة”
البلاغة الكبرى، والبلاغة الوجودية، وبلاغة الكينونة، والبلاغة البليغة، كلها تسميات يُكمّل بعضها بغضا لتشكيل الصورة النهائية لأطروحة البلاغة الكبرى التي اقترحها بازِّي، وقد سُميت بالبلاغة الوجودية “لما يبلغ بصاحبه من تحقيق أنموذج الكينونة البليغة الموسومة بمعالم الاستقامة، والصلاح، وقوة الانتصار، واحترام كرامة الإنسان أينما كان، فضلا عن جمالية الخطاب”[31]، وهي بلاغة كبرى لأنها –في نظر بازِّي-ليست مجرد “زخارف شكلية لتسويق المعنى، إنها بلوغ تام بالجمال الأسلوبي إلى الجمال المقصدي، وإلى جمال الحياة الفعلي، وجمال الخلاص يتم بتحصيل التناغم بين روح مقاصد الخطاب الإلهي وبين ابتكارات الخطاب البشري المتنوعة والمتشعبة الهادفة إلى بلوغ الجمال المعنوي الذي يحترم كينونة الإنسان وكرامته عبر الإكبار به في الخطاب، لا بالانحدار به إلى التوصيفات الحيوانية، أو التزييف والكذب أو التلهية والتسلية، وتشتيت انتباهه عن حقيقة وجوده في هذا العالم”[32]، وهكذا تجمع أطروحة البلاغة الكبرى بين مقاصد الشريعة وما أراده الله للإنسان، وبين السمو بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال ليعيش حرا سعيدا واعيا بحقيقة وجوده ومصيره.
ويتوسّع مفهوم البلاغة الكبرى استنادا إلى ذلك ليشمل كل النصوص التي تحقق هذه الغاية القديمة منها والحديثة، والأدبية منها وغير الأدبية، وقد كان للتراث العربي الإسلامي حضور كبير في أطروحة البلاغة الكبرى اعتبارا للمادة الثرية التي تجسّد هذه البلاغة في النصوص التراثية باختلاف أجناسها وأنواعها، يقول بازي: “يتضمن التراث الإسلامي مادة ثرية في بلاغة الكينونة يجدها القارئ في كتب الأدب والحكمة والفلسفة والدين وهي مجموع الأقوال المتبصرة التي وقفت على حقيقة الحياة وحقيقة الوجود، وأدركت ذلك وصاغته في قوالب الحكمة الجميلة المعبّرة، وجعلت لذلك امتدادات لا حد لها في السلوك والقول”[33]، على أن هذا الاعتماد على التراث اعتماد نقدي يروم استخراج كنوزه من خلال إعادة قراءته قراءة نقدية متبصّرة تعي جوانب القوة والضعف فيه، لاستثمار ما يخدم أهداف البلاغة الكبرى ومقاصدها من ذلك التراث، وإعادة مراجعة ما يُخلّ بتلك الأهداف وتقويمه،ومنها كل ما تم إدراجه ضمن البلاغة والأدب دون نقد وتمحيص.
يقول بازي: “إن هدف مقترحاتنا البلاغية هو الدّفع بالقوّة الاقتراحية في مجال التأليف البلاغي الحديث إلى دخول مرحلة اقتراح نماذج تأويلية وجودية، انطلاقا من البلاغة النظرية والتطبيقية القديمة، وتأصيل نماذج صناعة الخطاب البليغ، وبناء مناهج مناسبة لتحليله، استئناسا بالمرجعيات الثقافية والعلمية والتشريعية والبلاغية، وانطلاقا من استراتيجية تأليفية واضحة تجعل المصادر التراثية موردا أصليا، والاجتهادات الغربية داعما، حتى لا يظل البحث البلاغي الحديث تابعا لاجتهادات الآخرين”[34]. وبهذا يجمع التجديد البلاغي عند بازي بين إعادة قراءة المادة التراثية قراءة نقدية في ضوء مفهوم البلاغة الكبرى والأدب القاصد، وفي ضوء الاجتهادات البلاغية الغربية الحديثة، على أن التجديد يكمن في الاستفادة من ذلك من أجل الارتقاء به إلى مستوى بناء النظريات والنماذج الحديثة، والانتقال من الاشتغال بالقديم والحديث إلى صياغة ذلك في نماذج جديدة تحتفظ بخصوصياتنا ومرجعياتنا، وتؤهلنا لمواكبة العصر، والمشاركة في البحث عن حلول للإشكالات التي تواجه الإنسان في الوقت الراهن.
المبحث الثاني: مرجعيات اجتهادات محمد بازِّي في تجديد البلاغة العربية وآفاقها
سوف نشير في هذا المبحث إلى بعض مرجعيات الدرس البلاغي عند محمد بازي ومحدداته، وهي في الوقت نفسه إشارات إلى بعض الآفاق التي يفتحها الباحث أمام المهتمين بالدرس البلاغي والتأويلي، وكذا المهتمين بالشأن التربوي والتعليمي.
1- الهم المعرفي الابستمولوجي في الدرس البلاغي عند بازِّي
لم يكتفِ بازِّي بالبحث في البلاغة والتأويلية وتحليل الخطاب فحسب، بل استطاع أن يقترح أنموذجا بديلا يتجاوز به القصور الذي وسمت به النماذج التي قام بدراستها ونقدها. والتفكير في تقديم البدائل المعرفية مرحلة متقدمة جدا في صناعة المعرفة تحتاج إلى خبرة كبيرة، وتعمّق دقيق في مجال الابستيمولوجيا ونظرية المعرفة والأفكار، إذ ينتقل الباحث فيها من التفكير في الموضوع إلى التفكير في المنهجية التي يدرس به الإنسان الموضوع وينظر إليه.
والمتأمل في كتابات بازِّي يدرك حجم الهمّ المعرفي الذي تصدّى له الباحث في مجال تطوير نماذجه التأويلية والبلاغية، يظهر ذلك من خلال الشقّ النظري الذي خصّصه الباحث لنقد المعرفة؛ الذي يُعدّ الموضوع الأهم للابستيمولوجيا.
يتميّز المشروع التأويلي والتربوي للباحث محمد بازي بالحضور الكبير للهمّ الابستمولوجي، باعتباره من أهم المداخل العلمية لتجاوز الإشكالات المعرفية الراهنة، وتقديم البدائل التي تستجيب لتطلّعات الإنسان الدنيويّة والأخرويّة، ولعلها من الآفاق التي يمكن للباحثين الاشتغال بها في تخصّصاتهم المعرفية. ويتجلى ذلك في سعيه لإعادة بناء مشروعه البلاغي على أسس علمية تستند قوتها من الابستمولوجيا، والانتقال من التنظير البلاغي إلى النمذجة وبناء النظريات العلمية.
2- غاية الدرس البلاغي والتأويلي عند بازي
يستمد بازّي تصوراته من مصادر المعرفة الإسلامية؛ القرآن الكريم، والسنة النبوية، ويمتح من آي الذكر الحكيم؛ الذي أخبر بصدق منذ البداية أنّ خلق الإنسان والجنّ كان من أجل العبادة، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالِانسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[35]، ويبني بازّي أفكاره المعرفية على الهدف الأسمى الذي حرّك البحث العلمي في الحضارة العربية الإسلامية. وهو الرهان الأخروي؛ آي الفوز بالجنة والقرب من الله، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة على السواء، يقول بازِّي: “وحسبنا هذا المطلب الأخير، فلو أسّسنا وجودنا التعليمي على تحقق هذا المطلب، وبيّنا ذلك لتلامذتنا وطلبتنا لنصرناهم بالهدف الحقيقي من تلقي العلوم، ولذهبت آمالهم ومطامحهم أبعد مما تذهب إليه اليوم”[36].
إن هذه الغاية الأسمى هي التي ينبغي أن يضطلع الأدب والفكر البلاغي والتربوي إلى تحقيقها، فالغاية الجمالية والانتفاعية لا تكتمل حقيقتها إذا لم تحظ بالغاية الإصلاحية والتربوية وبالعناية الكبرى في علومنا ومعارفنا. وقد كانت هذه الغاية هي التي نُسجت على منوالها كل التآليف التربوية للباحث بازّي، كما كانت المحرّك الأبرز للنماذج البلاغية والتأويلية التي طوّرها، وصولا إلى نموذج البلاغة الكبرى؛ الذي يسعى بدوره إلى “الرّقي بطريقة التفكير في الوجود، وعدم تقبّل الوجود الواقعي على حالاته الناقصة، ثم السعي إلى صياغة نماذج جديدة للتناول والتحليل، ترقى بتجربتنا في فهم الكون الذي نعيش فيه، والخروج منه بأقل الخسائر، والأحسن من ذلك أن نتمكن من الخلاص بالروح والجسد معا، بالعلوم والنظريات والمناهج التي تعمق معرفتنا بالكون والإنسان والخطاب”[37].
إن غاية خلاص الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة هي الغاية المحرّكة للباحث بازّي، ومن هذه الغاية تفرّعت كل قضايا المشروع في شقيه البلاغي والتربوي، ومنها اشتُقّ الجهاز المفهومي والمصطلحي للمشروع. وعلى تلك الغاية قامت معالم هذا النموذج المعرفي الذي ما يزال بازِّي يطوّر فيه ويقترحه على الباحثين في الساحة العلمية.
3- مرجعية الدرس البلاغي والتأويلي
المرجعيّة، هي كل تلك الأصول والمنطلقات التي يرجع إليها الباحث ويعتمد عليها في بناء فكره ومعرفته، والمرجعية كما يشبّهها أحمد مرزاق “أشبه ما تكون بكرة ثلج تحمل نواتها داخلها، وتتدحرج من قمة الجبل، فتضاف إليها عبر مسيرتها، عناصر تساهم من جهتها في إثرائها وإغنائها، وتحاول هي؛ أي المرجعية أو النواة من جهتها تذويب وهضم هذه العناصر”[38]. والمرجعية عامل حاسم في تشكيل الأفكار، وتطوير النماذج والنظريات، كما أن اختبار النماذج والنظريات وفحصها الابستمولوجي يستدعي بالضرورة التوقّف عند المرجعيات أو المرجعية، ودراستها، والبحث عن أثرها في البناء المعرفي للنموذج المدروس.
وسؤال المرجعية يرتبط أشدّ الارتباط في مشروع بازّي التأويلي والبلاغي بسؤال الغاية المشار إليه سلفا. يؤكد الباحث ذلك بتأكيد حاجتنا إلى “فلسفة إيمانية، وقوة مرجعية، وأسلوب عمل إيماني احتسابي، يجمع المنظورين المعتدلين الدنيوي والأخروي، وإلى قدوات حيّة تجسد هذه الفلسفة في القول والعمل”[39]. هذه المرجعية القائمة على نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، والتراث الإسلامي المبني على الإسلام وحقائق الله والكون والوجود ورؤية العالم، هي المرجعية المؤسسة للمشروع العلمي لبازِّي.
يتميّز مشروع بازّي البلاغي والتربوي بالتكامل القائم بين البعدين الدنيوي والأخروي، ويقوم على كل ما يُسهم في تحقيق هذا التكامل، وينقل الرسائل الربانية، ويُبيّن للإنسان أسرار وجوده، ويربّيه على السلم والعدل والمساواة والاحترام والتسامح وتجنب العنف والتعصب للرأي[40]، وهي مرجعية مستمدة من الدين الإسلامي.
4- هوية الدرس البلاغي والتأويلي عند محمد بازّي
تتشكّل هوية كل أمة من عناصر تُكوّن نسقا ومنظومة متكاملة، منها الدين واللغة والأعراف والتقاليد وغيرها، ولا تموت الأمم إلا إذا تحلّلت هذه العناصر بسبب الانهزام والتبعية؛ حيث تفقد مقوماتها، وتبدأ من جديد في تشكيل هوية مضطربة، منها ما بقي من الهوية المتحلّلة، ومنها عناصر جديدة تسللت من هويات الأمم الغالبة التي تعدّ في ذلك الوقت أنموذجا للتقدم والرّقي والازدهار.
لقد حذّر بازّي من التوجّه الخطير للأمة في مجال القيم، والتأثير الكبير للحضارة الغربية على خصوصيات الأمة وأصولها وهويتها؛ حيث هيمنت مرجعية الربح المادي وحبّ الظهور، والتفكير الدنيوي الذي هو خلاصة نتاج العقلية الغربية المتفسخة، يوازيه في المقابل غياب كبير للفكر التأصيلي المعتدل القائم على الرحمة والتسامح[41]، وحب الخير للناس والكون، ويحثّ بازّي على ضرورة “تشكيل منظومة قيم متسامحة لا إفراط فيها ولا تفريط ولا غلو ولا عنف، تقوم على ما اختاره الله تعالى لعباده من سبل الصلاح، ومن انتهاج سبل العبودية، والإحساس بالاستخلاف في الأرض، وتحمّل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها”[42].
5- حاجة الدرس البلاغي والتأويلي إلى النماذج
الأنموذج هو المثال الذي نريده للناس، وهو القدوة والمثل الأعلى الذي نقترحه على الإنسانية للخروج من الضيق إلى السعة، ومن الشقاء إلى العيش الكريم وإلى الطمأنينة. والأنموذج هو مرآة تُعكس فيها خصوصيات الأمة وهويتها وغاياتها وأهدافها، لذلك يحتاج بناء الأنموذج الأمثل والناجح إلى فحص دقيق لمرجعيات المؤسّسين ومنطلقاتهم وأصولهم، وإلا كان الأنموذج المقدم بعيدا عما نريده، وعما يريده الله والقرآن للإنسان والكون.
لقد آمن بازي بأهمية “إدراك مدى هوان الأنموذج الاجتماعي والخلقي بسبب القيّم المستعارة، وتفسّخ الأنوال الحياتية التي اكتسبناها من الإعلام وتقليد نماذج غربية ليست من هويتنا وأصولنا وحضارتنا”[43]، وشرع في المقابل إلى بناء نماذج وفق تلك الرؤى والتصورات في مجال البلاغة والتأويلية والتربية وتكوين المدرسين، مؤكّدا أننا “نحتاج إلى تقديم الأنموذج انطلاقا مما قدّمته الحضارة الإسلامية والسيرة النبوية الغرّاء، وبما سطّره الخطاب الربّاني للناس قبل ذلك”[44]، ودعا من جهة ثانية إلى العودة لدراسة نماذج مثالية في مختلف المجالات، والاستفادة من تجاربها الناجحة.
يحظى موضوع التربية والتكوين بأهمية كبيرة في بناء الأنموذج الناجح وفق خصوصيات الأمة وهويتها، يقول بازِّي: “مدرس اليوم لابد له من مرجعية قويّة موحدة بينه وبين غيره، وفلسفه قويّة في الحياة، ورؤية إلى الكون والحياة، رؤية مليئة بمحبّة الآخرين، وتقبّلهم، والعمل على التصحيح بأحسن الأساليب وبالكلمة الطيبة، وكل ما يبني القيم الفاضلة ويرسّخ الهوية الإسلامية والحضارية للمتعلم”[45]. فالتكوين القائم على وضوح الرؤية والمرجعية من المداخل الأساس في بناء النماذج الناجحة وتنزيلها.
7- اللغة بوصفها رمزًا من رُموز مرجعيّتنا
يؤكد بازّي ضرورة الاعتماد على اللسان العربي في تقديم الأنموذج الناجح الذي يخدم الإنسان والكون، يقول: “لا يتمّ تأصيل مناهج العلوم، والتفكير العلمي في الأمم المتقدمة إلا بلغتها الرسمية، ولا يحدث التطوّر المطلوب إلا باعتمادها لغة للتدريس”[46]، ويرجع في المقابل إشكالية عدم استقلال الأمة، وعدم تخلّصها من التبعية في لغات العلوم والتدريس، وفي الإعلام والبيت ومختلف مناحي الثقافة، إلى الانبطاح والاستسلام للغات غيرها[47].
يظل سؤال اللغة من أهم الأسئلة التي يطرحها الباحث الابستمولوجي، وذلك لخطورتها في نقل المفاهيم والتصورات والمرجعيات المتعلقة بالجماعة المتكلمة بها، كما أن اللغات تجسّد ذلك الصراع الحضاري المخفي، فانتصار لغة على أخرى هي بداية لانتصار الأمة المتكلمة بها، اقتصاديا، وسياسيا، وعلميا، وأي أمة لا تعتمد لسانها في الازدهار والنهضة تظل دوما تابعه للأمة التي فرضت عليها لسانها، كما أن أي مشروع يلجأ إلى لغة غير لغة أمته لبناء تصوراته ومعارفه يظل مشروعا فاشلا وقاصرا.
8- قضية المفهوم والمصطلح في مرجعيات بازي
حظيت قضية المصطلحات والمفاهيم في المشروع البلاغي والتربوي للباحث بازِّي بأهمية كبيرة من عدّة جوانب، منها الإدراك الكبير لخطورة المفاهيم والمصطلحات في نقل المرجعيات والخلفيات المنضوية تحت الأفكار والمعارف، ونقده لما واكب عملية التلقي والانفتاح على الثقافة الغربية من إشكالات معرفية ومنهجية في الجانب الاصطلاحي والمفهومي، ومنها اجتهاده الكبير في التدقيق المصطلحي، والإبداع فيه، وفي بناء صرح معرفي قائم على مفاهيم ومصطلحات تخدم الغايات والمرجعيات والأصول التي أقام عليها صرح مشروعه المعرفي التأويلي والبلاغي والتربوي.
تحمل المفاهيم والمصطلحات في خلفياتها مرجعيات وتصورات الأمة التي نشأت فيها، وتبقى تلك المرجعيات ملازمة لها حتى وإن انتقلت إلى سياقات أخرى. وأمتنا اليوم تعاني إشكالات كثيرة في هذا الباب؛ حيث اقتحمت الكثير من المصطلحات والمفاهيم الغربية الساحة المعرفية العربية الإسلامية دون فحص ونقد لمرجعياتها وخلفياتها. وزاد الطين بلّة ما تميز به التراث الإسلامي من قوة اصطلاحية ومفهومية كبيرة، مما خلق نوعا من الفوضى الاصطلاحية والمفهومية بين المستمدين من التراث والذاهبين مذهب الاستعارة والترجمة والنقل عن الغرب.
وفي السعي إلى تقديم نماذج ناجحة تُبلّغ رسائلنا ورؤيتنا للعالم، لا بدّ أن يسعى الباحث إلى الالتزام بالمصطلحات والمفاهيم التي تحقّق تلك الغاية، وأن يّبدع في صناعة المصطلحات واجتراحها، والبحث في مفاهيمها وأصولها قبل أن يصبّ فيها رحيق مشروعه المعرفي. “فقد اجترح بازّي عدة مفهومية غنيّة استحضر في إعدادها ثلاثة أبعاد: البعد التأصيلي، إذ استمدها من الفكر التراثي العربي، والبعد الإبداعي، إذ طوّرها وعدّلها متّبعا نهج التوسيع، والبعد الإجرائي، إذ بلورها بشكل بيداغوجي ووظيفي يجعلها قابلة للتوظيف والتجريب والتقويم”[48]. ولعل هذا ما جعل مشروعه المعرفي متماسكا وصلبا.
9- التكامل المعرفي في مشروع بازّي
عرف حقل التكامل المعرفي بين العلوم والمعارف تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة بفضل مجموعة من العوامل؛ منها التطوّر التكنولوجي السريع؛ الذي أسهم في كسر مجموعة من الحواجز بين التخصصات، وأكد أن الصيغة التكاملية والتداخلية هي التي طبعت العلوم على مر التاريخ، وأن التخصّص الضيق، وصناعة الجزر المتباعدة بين العلوم برز بشكل كبير مع الحداثة الغربية، التي دأبت على قطع المتصل وفصل المجموع.
يُحذر بازّي في المقابل من خطورة التباعد الحاصل بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية؛ حيث سيؤدي ما يلازمه من الكراهية والنبذ والاحتقار والاحتقان، إلى أوضاع اجتماعية ونفسية وفكرية نتاجها فئات اجتماعيه متباينة التصورات حول الحياة، والدين، والأدب، والمجتمع، والحرية، واحترام الآخرين، والتربية، واللغة، وستقضي الثقافات المتباينة وقتا كبيرا في الصراع نتاج غياب بلاغة وجوديّة جامعة تلتحم حولها، وتحتكم إليها في تقويم المرجعيات المتضاربة الوافدة، وفي الفلسفات المتباينة التي تؤثر سلبا في منظور الأجيال القادمة للحياة والإنسان والخطاب”[49]؛ وهكذا يتحول غياب التكامل بين المعارف إلى عامل مانع لتقديم أنموذج ناجح للإنسان الذي نريده، وسيسهم على عكس ذلك في صناعة المجتمعات ما بعد الإنسان.
إن مشروع البلاغة الكبرى الذي يقترحه بازّي للرقي بالإنسان إلى المقام الذي يريده له الخالق عز وجل، هو مشروع وجودي، ووجوديته لا تتحقّق إلا باستثمار كل المعارف والعلوم في خدمة الغايات السامية، وتحقيق القيم النبيلة التي يقوم عليها مشروع رؤية العالم. ولأن هذا المشروع يمتد إجرائيا إلى الجانب التربوي، فإنّه وجب بالضرورة “ربط الصلة بين معاني الأدب وبين التربية على القيم والسّلوكات الإيجابية الفعلية، ومراقبة تأثير ذلك في تغيير منظور المتعلم، وتمكينه من نقد المحتوى (المضامين، مقصدية النص، أطروحة الكاتب، الأفكار، سداد المعاني، فساد رؤية العالم…)، نقدا بنّاء يستند إلى أدلة ومبادئ وقواعد حوارية وأصول مرجعية.
خاتمة:
لقد شق الباحث المغربي الأكاديمي محمد بازّي طريقه في تجديد الدرس البلاغي وبناء معالم تأويليات جديدة تعيد الاعتبار لمرجعيات الأمّة وخصوصياتها الدينية والحضارية، ولأن المعرفة نسبية لا مطلقة، وأن الاختلاف بين الحضارات والأمم سنّة من سنن الله تعالى، كان من الضروري إعادة الاعتبار للبحث في ابستمولوجيا العلوم، والحفر في اللحظات المهمة في ولادة المعارف، والتنقيب في المرجعيات والأصول والخلفيات الكامنة خلف تلك النشأة، لا من أجل الحكم عليها بمعيار العلم والمعرفة من وجهة نظر أمة من الأمم، بل من أجل إعادة الاعتبار لخصوصيات كل أمة وأصولها، وإعادة طرح الأسئلة المحورية والمركزية سعيا إلى تقديم نماذج ناجحة تعيد الاعتبار لحقيقة الإنسان والكون، وتصحّح ما شاب رؤية الإنسان المعاصر للعالم من ضبابية وتشوّه، وتعيد بناء المعرفة القادرة على إسعاد الإنسان وحماية الكون.
لقد قادنا البحث في المرجعيات المؤسِّسة للفكر البلاغي والتربوي للباحث بازّي، إلى أنها تلتقي في البحث عن إجابات حاسمة وصادقة لسؤال سعادة الإنسان، فالبحث عن الغايات المتوخاة من العلم والبلاغة والتربية والتكوين، يحتاج إلى إعادة الاعتبار لحقيقة الإنسان وأصله ومصيره وعلاقته بالكون، وهو الهدف الأسمى والمقصد الأسنى الذي تبتغيه أطروحة البلاغة الكبرى، مُسخّرة في ذلك كل التقنيات والطاقات اللغوية والإبداعية التي تُشكل مضمون البلاغة الصغرى. وتلك الحقائق المتجلية في القرآن الكريم والسنة النبوية هي الأصول والمرجعيات التي يمكن أن يبنى عليها الإنسان المنشود، وهي حقيقة الهوية التي قام عليها نموذج الإنسان والعمران الناجح في الحضارة العربية الإسلامية.
لقد وسّع محمد بازّي من مفهوم البلاغة في إطار أطروحة البلاغة الكبرى لتشمل كل المنتجات اللغوية والتقنية المتناغمة مع غايات البلاغة الكبرى؛ المستمدة من خطاب الوحي والشريعة الإسلامية والقوانين المدافعة عن كرامة الإنسان وسعادته. ولأجل هذه الغاية توقفنا على بعض الآفاق التي فتحها مشروع البلاغة الكبرى أمام المهتمين والباحثين، منها حاجة معارفنا الحديثة – ومنها البلاغة الجديدة – إلى مواكبة المنهج النقدي لتطوراتها بالمراجعة والنقد في ضوء مرجعيات الأمة وخصوصياتها الدينية والحضارية، ووفق الغايات الإنسانية السامية التي جاء من أجلها الوحي، ومنها محورية اللسان العربي ومركزية المفاهيم والمصطلحات في التجديد وبناء المعرفة، وأهمية التكامل بين المعارف في بلوغ النظرة الشمولية والوجودية باعتبارها من المداخل الرئيسة لفهم أطروحة البلاغة الكبرى، والاشتغال بها في إنتاج ونقد الخطابات.
الإحالات:
- هما الكتاب الجماعي (النظرية التأويلية بالمغرب)، الصادر عن دار دجلة الأكاديمية سنة 2022، وكتاب (فلسفة تأهيل المدرسين: أبحاث محكمة وقراءات تحليلية معمقة في أعماله التربوية)، الصادر عن دار فضاءات بالأردن سنة 2023. ↑
- البلاغة الكبرى؛ نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله (3)، الوجود بالخطاب: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، والبلاغة الكبرى؛ نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله (2)، البلاغة والوجود: إبدالات مرجعية لصناعة الخطاب ونقده، والبلاغة الكبرى؛ نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله (1)، القارئ البليغ: المسار المسلوك والأفق المنتظر، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2023. ↑
- مجلة المناهل، وزارة الشباب والثقافة والتواصل، قطاع الثقافة-المغرب، العدد 107، أكتوبر، نونبر، دجنبر 2023 ↑
- مجلة المناهل، وزارة الشباب والثقافة والتواصل، قطاع الثقافة – المغرب، العدد 107، أكتوبر، نونبر، دجنبر 2023،
ص 9. ↑ - بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله (3)، الوجود بالخطاب: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2023، ص 209. ↑
- بازي (محمد)، التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، منشورات ضفاف، ومنشورات الاختلاف، ط1، 2015، ص 384. ↑
- بازي (محمد)، التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، مرجع سابق، ص 20. ↑
- نفسه، ص 382. ↑
- بازي، (محمد) البنى التقابلية: خرائط جديدة لتحليل الخطاب، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط1، 2015. ↑
- بازي (محمد)، نظرية التأويل التقابلي: مقدمات لمعرفة بديلة بالنص والخطاب، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط2، 2020. ↑
- بازي (محمد) البنى الاستعارية: نحو بلاغة موسعة، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، ط1، 2017، ص 21. ↑
- البلاغة الكبرى 1، ص 9. ↑
- نفــسه. ↑
- بازي (محمد)، التأويليات الجديدة، من مناط الحدود إلى بساط الوجود: أنموذج التناغم، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط1، 2023. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ نحو نظرية وجودية لصناعة الخطاب وتأويله (1)، القارئ البليغ: المسار المسلوك والأفق المنتظر، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2023، ص 29. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ الوجود بالخطاب: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، ص 203. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ الوجود بالخطاب: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، ص 211. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ البلاغة والوجود: إبدالات مرجعية لصناعة الخطاب ونقده، ص 83. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى: القارئ البليغ: المسار المسلوك والأفق المنتظر، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2023، ص 11. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ الوجود بالخطاب: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، ص 16. ↑
- نفسه، ص 14. ↑
- نفسه، ص 61. ↑
- نفسه، ص 38. ↑
- نفسه، ص 128. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ الوجود بالخطاب: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، ص 14. ↑
- نفسه، ص ص 14-15. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ البلاغة والوجود: إبدالات مرجعية لصناعة الخطاب ونقده، ص 110. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، ص 40. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ البلاغة والوجود: إبدالات مرجعية لصناعة الخطاب ونقده، ص 212. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى: تنزيل الإبدال في نظرية الأدب الدال، ص15. ↑
- نفسه، ص 16. ↑
- نفسه، ص 171. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة والوجود: إبدالات مرجعية لصناعة الخطاب ونقده، ص 99. ↑
- بازي، (محمد)، البلاغة الكبرى؛ القارئ البليغ: المسار المسلوك والأفق المنتظر، ص ص 15-16. ↑
- الذاريات، الآية 56. ↑
- بازي، (محمد)، صناعة التدريس ورهانات التكوين. منشورات مجلة كلية علوم التربية، الرباط، ط1-2010، ص 21. ↑
- بازي، (محمد)، التأويلية البليغة: الطموح إلى بناء النماذج؛ مختصرات مسار متشعب، ضمن كتاب النظرية التأويلية بالمغرب: طموح متجدد إلى بناء نماذج تحليل الخطاب، إشراف وتنسيق: مصطفى العادل، دار دجلة الأكاديمية، العراق، ط1، 2022، ص 38. ↑
- مرزاق، (أحمد)، المرجعية والمنهج: دراسة نظرية تطبيقية، كتاب المجلة العربية، رقم 210، الرياض، 2010، ص 39. ↑
- بازي، (محمد)، أي أنموذج لتكوين المدرسين؟: العلوم والكفايات والآداب، دار الأمان، الرباط، ط.1، 2023، ص 140. ↑
- بازي، (محمد)، سؤال الأنموذج في تدريسية اللغة والأدب وفلسفة القيم، منشورات القصبة، أكادير، ط1-2019، ص ص 79-80. ↑
- بازي، (محمد)، تدريس الأدب والبلاغة بالمغرب: رؤية نقدية، (فاس، منشورات قسم الأدب واللسانيات البينية بمركز مفاد، وجامعة المبدعين المغاربة، مطبعة وراقة بلال، الطبعة الأولى، 2022، ص ص 31-32. ↑
- نفسه، ص 34. ↑
- نفسه، ص 8. ↑
- بازي، (محمد)، سؤال الأنموذج في تدريسية اللغة والأدب وفلسفة القيم، منشورات القصبة، أكادير، ط1-2019،
ص 80. ↑ - بازي، (محمد)، صحائف التكوين: مدونة شاملة لكل ما يحتاجه مدرس اللغة العربية وآدابها تمثلا وعملا، (دار ضفاف، ومنشورات الاختلاف، ودار الأمان، ودار كلمة، 2015)، ص 35. ↑
- بازي، (محمد)، تدريس العربية والتدريس بها: تحديات تحصين الهوية وآفاق تحصيل العلوم، منشورات حلقات الفكر المغربي، مطبعة بلال، فاس، ط1-2021، ص 20. ↑
- نفسه، ص7. ↑
- عزنيبة، (ميلود)، تقديم لكتاب “النظرية التأويلية بالمغرب: طموح متجدد إلى بناء نماذج تحليل الخطاب”، مجموعة مؤلِّفين، إشراف وتنسيق: مصطفى العادل، ص 28. ↑
- نفسه، ص 56. ↑