المسرح بين الأنثروبولوجيا والإثنو سينولوجيا

باحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الشرق
المغرب

ملخص

لقد نتج عن انفتاح الغرب على تجارب المسرح الشرقي؛ الياباني والصيني والهندي، وكذا الإفريقي وغيرها من الفرجات، ربط المسرح بالأنثروبولوجيا والفلكلور، وبمواضيع مستقاة من صلب الثقافة الشعبية، وهو ما أدى إلى تجاوز حالة العقم والركود التي عاشها المسرح الغربي نتيجة تعاليه عن الواقع المعيش من جهة، ونتيجة تمركزه وانغلاقه الإيديولوجي الدُّغْمائي حول الذات من جهة ثانية. كما أسهم هذا التناسُج في تغيير نظرة الباحثين إلى الثقافة الشرقية، ونزع الاعتراف بدور هذه الأخيرة في تطوير الممارسة المسرحية بشكل عام؛ عبر مدِّها بالمادة والموضوع المرتكِز على مجموعة من العناصر الفرجوية: الحركية واللفظية والرمزية الطقسية. اعتمد المسرح الغربي، بعد تجربة الانفتاح على الآخر، في بناء مواضيعه، على المرجعيات الفكرية المشتركة بين مختلف الثقافات العابرة للحدود الجغرافية واللغوية والثقافية والدينية، وعلى مناقشة المواضيع المستأثرة باهتمام مختلف الطبقات الاجتماعية النخبوية والشعبية على حد سواء؛ حيث انبرى بعد هذا الربط إلى معالجة القضايا العامة، والمواضيع الراهنة التي تشغل المتلقي؛ من خلال الاستعانة بالموروث الثقافي الشعبي في مسرحة الواقع. ولا شك في أن تعزيز الدور الفرجوي للمسرح كان مرهونا بالانفتاح على مواضيع الثقافة الشعبية؛ حيث استفاد، في تحقيق أهدافه وبلوغ مقاصده، من الدور الكبير الذي لعبته الأنثروبولوجيا، بمختلف فروعها، في دراسة الإنسان من مختلف جوانبه: الثقافية والاجتماعية والطبيعية التطورية والدينية والسياسية، دون أن نغفل كذلك تسليط الضوء على الإثنو سينولوجيا، المتفرعة من أنثروبولوجيا المسرح نهايةَ القرن العشرين، التي تعنى - حسبه مؤسِّسها Jean Marie Pradier - بدراسة الأداءات المشهدية، بما تتضمنه من تعبيرات جسدية/ حركية ولفظية وطقسية، بأبعادها ومظاهرها الرمزية والجمالية. ويُحْسَب لهذا التخصص المعرفي الجديد إسهامه في رد الاعتبار للهوامش المقصية من دائرة الإبداع؛ بفَرْض الاعتراف بما أنتجته الثقافات غير الغربية من أشكال فرجوية؛ ومن ثَمَّ دعم الجهود العلمية الرامية إلى تجاوز مبادئ المركزية الغربية، والانفلات من قبضة القالب المسرحي الأرسطي، وهو ما مكَّن المسرح من النضج والاكتمال، وساعده على الخروج من مرحلة التيه والضياع، الناتجة عن نمطية القواعد الغربية المكبِّلة للممارسة المسرحية.

Abstract

The openness of the west to the experiences of Oriental Theater; Japanese، Chinese، Indian، as well as African and other genres، has resulted in linking theater with Anthropology، folklore and topics derived from the core of popular culture، which led to overcoming the state of infertility and stagnation experienced by the Western Theater as a result of its condescension from the lived reality on the one hand، and as a result of its ideological dogmatic self-centeredness and closure on the other hand. This reproduction also contributed to changing the researchers ' view of the Eastern culture، and to the de-recognition of the role of the latter in the development of theatrical practice in general، by providing it with material and subject based on a set of elements: movement، symbolism and ritual. After the experience of openness to the other، the Western Theater based its themes on the intellectual references common to various cultures across geographical، linguistic، cultural and religious boundaries، and on the discussion of topics that are influenced by the interest of various elite and popular social strata alike ،where after linking it with Eastern cultures، he came to the fore to address general issues and current topics that concern the recipient، by using the popular cultural heritage in the theater of reality. There is no doubt that the promotion of the theatrical role of the theater was conditioned by openness to the topics of popular culture، benefiting in achieving its goals and achieving its purposes from the great role played by Anthropology in its various branches in the study of man from his various aspects; cultural، social، natural evolutionary، religious and political. Without ignoring to highlight the ethnocenology branching from the anthropology of theater at the end of the twentieth century، which، according to its founder Jean Marie Pradier، is concerned with the study of scenic performances with their physical/motor، verbal and ritual expressions with their symbolic and aesthetic dimensions and manifestations. This new cognitive discipline is credited with its contribution to the restoration of consideration for the excluded margins of the circle of creativity، by imposing recognition of the forms of vulgarity produced by non-Western cultures، and then supporting scientific efforts aimed at bypassing the principles of Western centralism and escaping from the grip of the Aristotelian theatrical template.

مقدمة

أسهم الاتصال المباشر بين الجماعات والسلالات البشرية؛ عن طريق الحروب والرحلات العلمية والدينية والتجارية، إسهاما كبيرا في تأثر الحضارات بعضِها ببعض، وفي بلورة أرضية ممهِّدة للتلاقح والتبادل الثقافيين، ليس على مستوى تبادل الخيرات والخدمات فقط، وإنما في تحقيق تلاقحٍ ؛على مستوى اللغة والدين والعادات والتقاليد أيضا، مما مكن الأطراف المحتكّة من اكتساب معرفة، ومراكمة تجارب، وترصيد خبرات عن الآخر، وتوظيفها لمعرفة نمط تفكيره وطريقة عيشه وتديُّنه؛ ذلك أن الآثار أو الإرهاصات الفكرية الأولى لدراسة الإنسان غير مرتبطة بولادة الأنثروبولوجيا كعلم قائم بذاته مستقل عن غيره فقط، يجعل من الإنسان – بمختلف جوانبه – موضوعه الرئيس، بل إن بواكير هذا الفكر متضمَّنة بين ثنايا الفكر الفلسفي في شقه الاجتماعي، الذي لا يخلو من محاولات فكرية جادّة للإحاطة بمختلف جوانب الطبيعة الإنسانية، ويتجلى ذلك بوضوحٍ في الاقتراحات الفلسفية الافتراضية المفسِّرة للتطور البشري، والمبرِّرة للاختلافات الثقافية والفيسيولوجية بين الجماعات والسُّلالات المختلفة، والمقارنة بينها، كما تعززت مكانته المركزية بعد حصر الأنثروبولوجيا مواضيعها في الإحاطة بشتى جوانبه، في محاولة جادةٍ منها لوضع أسس علمية رصينة، وأدوات منهجية فعالة؛ لدراسة وفهم نُظمه وبنائه الاجتماعي والثقافي والتاريخي في مختلف مراحل ارتقائه. ولذلك، لا مهرب للعلوم الاجتماعية والإنسانية من الرجوع إلى نتائج الدراسات الأنثروبولوجية المتراكمة حول هذه البنية المعقدة.

وهناك من يربط نشأة هذا العلم بالهيمنة الاستعمارية والغزو الأوروبي لباقي الشعوب والحضارات نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن 20، معتبرا نتائجه وثماره المعرفية تمهيدا للاختراق الثقافي والغزو العسكري وسندا علميا لبسط السيطرة على الشعوب المستضعفة، وعاملا مبررا للاستلاب الثقافي عبر ترويجه ودفاعه عن فكرة مفادها أن الشعوب الأوروبية متحضرة ومتطورة، وغيرها من الثقافات بدائية ومتخلفة؛ تحتاج للتدخل لتطويرها بهدف تمكينها من اللحاق بالركب الأوروبي، وهي ادعاءات تبريرية مكرسة لعنصرية الإنسان الأوروبي ومعززة لمبدإ المركزية الغربية، ولا تستند إلى أسس علمية متينة.

– مفهوم الأنثروبولوجيا وأهدافها:

يسمى هذا العلم الحديث النشأة بالأنثروبولوجيا أو علم دراسة الإنسان، أو علم الإناسة، ويعنى بالإحاطة الشاملة بمختلف جوانب الحياة الإنسانية، لرصد وتتبع مختلف مراحل تطورها من الناحية البيولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية… وإبراز طفراته التطورية من مراحل دنيا وبسيطة إلى أخرى عليا ومعقدة على مر الأزمنة والحقب التاريخية وفي كل الحضارات الإنسانية، منطلقا في مسعاه من كون الإنسان كائنا اجتماعيا يعيش ضمن جماعة لها أساليبها التواصلية وقوانينها وأعرافها المنظمة وعاداتها وتقاليدها وطقوسها الدينية. وعناصر أخرى تشكل ثقافتها المميزة لها عن غيرها.

يعرف شاكر سليم الأنثروبولوجيا بأنها العلم الذي يهتم بـ”دراسة الإنسان طبيعيا واجتماعيا وحضاريا”[1]، كما ينظر إليها بمثابة منهج لدراسة الإنسان من مختلف جوانبه، و”ذلك بهدف تقديم فهم متكامل ومترابط عن الإنسان وحياته ونتاجه الحضاري في الماضي والحاضر؛ ومن ثم يكون لها القدرة أيضا على استقراء أنماط الحياة المستقبلية”[2]. في حين حاولت مارغريت ميد تعريف هذا العلم؛ من خلال وصفها الدقيق لعمل الأنثروبولوجي، قائلةً: “نحن نصف الخصائص الإنسانية، البيولوجية والثقافية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن. ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية والمحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة، كما نهتم بوصف وتحليل النظم الاجتماعية …ونعنى أيضا ببحث الإدراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة فنحن الأنثروبولوجيون نسعى لربط وتفسير نتائج دراساتنا في إطار نظريات التطور أو مفهوم الوحدة المشتركة بين البشر.”[3]

يتجلى الطابع الشمولي لهذا العلم في الجمع بين مختلف الفروع العلمية الاجتماعية والطبيعية والسيكولوجية الكفيلة بالإمساك بكافة التطورات المادية والفكرية المتحكمة في السلوكات البشرية، مع تتبع مراحل الحضارة الإنسانية المعاصرة باعتماد المنهج المقارن، لاستخلاص التباينات بين أبناء الجنس البشري، كما يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي تمكن الباحث والمهتم بدراسة الإنسان من تعزيز خبراته، وتطوير معرفته العلمية بهذا الكائن الفريد المتعدد الأبعاد، الذي تشترك في مقاربته العديد من العلوم الاجتماعية والانسانية بغية إخضاعه للتشريح العلمي الدقيق باستحضار البعد الشمولي في دراسته، ومن جملة أهدافه نذكر ما يلي:

  • دراسة الثقافات البشرية دراسة علمية ومقارنتها لاستخلاص القوانين المتحكمة فيها وصياغة قانون عام يحكمها.
  • استخلاص الفروق اللغوية والجسمانية (الطول، اللون…) بين مختلف الشعوب والجماعات ومقارنتها مع تحديد دور الطبيعة الجغرافية في إحداث هذه الاختلافات.
  • الوصف الدقيق لنمط الحياة الاجتماعية السائد والإشارة إلى أسباب وكيفية الانتقال من نمط إلى آخر، وذلك باعتماد طريقتين مختلفتين:

الطريقة الأولى: “هي الدراسة المتزامنة، أي في زمن واحد، بمعنى دراسة المجتمعات والثقافات في نقطة معينة من تاريخها.

الطريقة الثانية: هي الدراسة التتبعية أو التاريخية، أي دراسة المجتمعات والثقافات عبر التاريخ”[4].

ينقسم هذا العلم إلى أقسام عدة، وهي:

الأنثروبولوجيا البيولوجية: يصف هذا الفرع الإنسان بالكائن البيولوجي، فيختص بدراسة تطوره الفيسيولوجي بالتركيز على الخصائص الجسمانية، من قبيل الطول واللون وشكل بعض الأعضاء ومقارنة هذا التطور من مرحلة إلى أخرى لاستخلاص الفرق في التطور والتكوين حسب الحقب والأجناس، مع الأخذ بعين الاعتبار في هذه المقارنة دور العوامل الجغرافية وتأثيرها على الجوانب التطورية باعتماد المنهج المقارن.

– الأنثروبولوجيا الاجتماعية: تعنى بدراسة العلاقات المختلفة بين أفراد المجتمع في سائر المجتمعات سواء في الصناعية المتحضرة، أو في المجتمعات الريفية الزراعية أو في المجتمعات البدائية، كما تدرس أشكال التضامن السائدة بين أفرادها ووصف طريقة تقسيم العمل، وعلاقات أخرى أساسية في هذا البناء من قبيل نظام القرابة والقبيلة والعصبية بالتعبير الخلدوني والأسرة والتعاون والتدين، وأشكال الاحتفال في مختلف المناسبات والطقوس، دون إغفال تبيان دور هذه العلاقات في بناء المجتمع والمحافظة على البناء الاجتماعي ككل، وقد حدد رادكليف براون مهمة هذا الفرع في ” اكتشاف كيف تحافظ العادات الاجتماعية على النظام الاجتماعي، الأمر الذي يمكن أن يؤدي بالعلم إلى قوانين عامة، ويشترك مع مالينوفسكي في محاولة الوصول إلى قوانين عالمية تنطبق على كل المجتمعات”[5].

– الأنثروبولوجيا الثقافية: يسعى هذا الفرع إلى دراسة الإنسان بالتركيز على كل العناصر التي تشكل ثقافته وترسخ انتماءه للمجتمع الذي يعيش فيه، فينكب الباحث فيه على وصف وتحليل عاداته وتقاليده وأنماط تدينه وطرق احتفالاته وأحزانه، فيصف ويحلل ويفسر ظواهر ثقافية من قبيل: الزواج والولادة والختان والموت وغيرها، كما يهتم هذا الفرع بالجوانب المادية للحضارة، فيدرس مخلفات الإنسان المادية من آثار عمرانية وتحف وأوان فخارية وغيرها من النقوش والرسوم والزخارف المنقوشة على الصخور والجدران والزرابي. يعرف باتريس بافيس هذا الفرع بالدراسة التي “تهدف إلى كشف الأسباب التي تؤدي إلى امتثال الجماعة للمعايير والرموز الاجتماعية، مع كشف الخصائص الثقافية المؤثرة في سلوك الأفراد”[6]، إضافة إلى اهتمامه بدراسة اللغات الموظفة في التواصل اللفظي أو غير اللفظي أو في الاحتفال أو في ممارسة الشعائر الدينية لإبراز خصائصها ووصف التغيرات التي طرأت عليها ومقارنتها مع غيرها لإبراز سماتها الحقيقية.

– الأنثروبولوجيا التطورية: يصف أصحاب هذا الاتجاه الإنسان بالكائن التطوري، ويعتبرون أن إدراك تطور العقل الإنساني رهين بربطه بالبعد التاريخي، فالحضارات البشرية حسب هذا الاتجاه شبيهة بحلقات تطورية مرتبطة جدليا ببعضها البعض، تنتقل من طبقة دنيا إلى أخرى عليا في عاداتها وتقاليدها وبنائها الاجتماعي؛ أي إنها تسير في اتجاه تصاعدي، متمثل في الانتقال من المرحلة البدائية إلى المرحلة الثقافية المتحضرة، من القطف والجني والرعي إلى المرحلة الصناعية. وبالتالي، فلفهم المؤسسات والظواهر الثقافية الحالية، ينبغي الرجوع إلى تاريخها وأصولها البدائية؛ حيث يعد المجتمع الغربي – حسب تصوراتهم – الحقل النهائي والمرجعي للتطور. ولتدعيم هذا الطرح، قدموا خطاطات عديدة لتطور الإنسانية، تخدم أهدافهم. و”لذلك، كان الأوروبيون والأمريكيون يتوافدون على المجتمعات غير الغربية؛ لمعاينة مجموعة من السلوكات والظواهر البدائية، التي لا زالت منتشرة في المجتمعات غير الغربية على شكل بقايا وآثار، وذلك لتعزيز النظرية التطورية”[7].

لقد أسهم كل من تايلور وموركان في تطوير الدراسات الأنثروبولوجية في بُعدها الثقافي، وذلك بربط هذا التخصص بالفن والأخلاق والعلم والعادات والتقاليد، لكن سرعان ما ظهرت محدودية التعريف الذي صاغه تايلور، واتضح قصوره؛ لعدم ملامسته أبعادًا ثقافية أخرى؛ الأمر الذي مهد السبل لانفتاح الأنثروبولوجيا على دراسة الفلكلور والقرابة ونظام الزواج والطقوس الدينية والأشكال الفرجوية؛ عن طريق توظيف مناهج علمية حديثة معززة للمنهج الوصفي، ومكملة لدوره.

لقد اعتبر هذا العلم الحديث الثقافة واسطة أساسية ومدخلا رئيسا لفهم الإنسان واستكناه أسراره عبر تتبع مراحل تطوره وارتقائه من البسيط نحو المعقد المركب، وانطلاقا من هذه المهمة المتمثلة في رصد هذا الانتقال ووصفه، حاد بعض الباحثين عن أهداف هذا العلم، فجعلوا منه أداة لخدمة مآرب استعمارية أو إيديولوجية غربية، باعتماد الوصف والمقارنة بين الغرب والشرق واعتبار الأول قمة التمدن والحضارة، والثاني ضربا من ضروب التخلف والهمجية، وهو ما شكل ذريعة مرجعية مهدت للغرب فيما بعد غزو الشعوب، وطمس الهويات الثقافية القائمة على الاختلاف والتميز.

  • أنثروبولوجيا المسرح: بين الأسس العلمية والملامح الفنية

تأسس هذا التخصص العلمي الجديد على يد أوجينيو باربا، سنة 1980؛ بغرض تطوير المسرح الغربي، وتحفيزه لتجديد مواضيعه، وتجويد أساليب عرضه، وتكييفها لمعالجة القضايا المرتبطة بالعصر الذي نعيش فيه جراءَ ما تعرضت له الشعوب المستضعْفَة من حملات استعمارية وحروب وغزو ثقافي، أسهم في تذويب الخصوصيات، ويسَّر مهمة النيل منها، كما أدى إلى تنميط الإنسان وفقا لمبادئ العولمة وغاياتها، وهو ما تسبب في خلق أزمات أخلاقية وثقافية واجتماعية ونفسية؛ لذلك ركز هذا الاتجاه على البحث في الجوانب الخاصة، الأصيلة والمتفردة المميزة للثقافات والحضارات بعضها عن بعض؛ أي إن تأثر أوجينيو بالفرجة والمسرح الشرقيين كان سببا رئيسا وراء ظهور أنثروبولوجيا المسرح، التي ارتبطت ولادتُها بظهور وتطور الأنثروبولوجيا بشكل عام؛ بمعنى أن تبلور الفرع كان مسايرا ومواكبا لتطور الأصل.

لقد شكلت نتائج مجموعة من العلوم والمعارف الإنسانية، إضافة إلى تضافر مجموعة من العوامل الفكرية المحفزة أرضية خصبة وقاعدة مرجعية للمسرح أدت فيما بعد إلى تبلور هذا الفرع العلمي، “فرغم ارتباط ظاهرة أنثروبولوجيا المسرح “بباربا”، فإن ثمة من يذهب إلى أنها نشأت وتطورت جنبا إلى جنب مع الأنثروبولوجيا بوصفها علما في أوروبا وأمريكا، نتيجة لأزمة ثقافية وأخلاقية لا يمكن فصلها عن التطور الحضاري وظهور الاستعمار، فقد دفعت هذه الأزمة في اتجاه البحث عما هو أصيل ونقي في أصول الحضارة الغربية في بداية تشكلها، أو في الحضارات الأخرى”[8].

تروم أنثروبولوجيا المسرح دراسة دور الممثل على خشبة المسرح في أماكن العرض القائم على المحاكاة والتقليد لأدوار الناس داخل المجتمع لإعطاء صورة حقيقية عن حياتهم وتصرفاتهم السلوكية في الواقع المعيش، من خلال وضع الإنسان “في وضع تجريبي يمنح المسرح والأنثروبولوجيا المسرحية الفرصة لإعادة توظيف هذا المجال في المجتمعات الصغيرة وتقييم ارتباط الفرد بالمجموعة”[9]، كما تناط بهذا الفرع مهمة “دراسة التصرفات البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حالة العرض المسرحي”[10]؛ أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم في الحياة اليومية، ذلك لأن الممثل يستخدم جسده في الحياة اليومية المعتادة بنوع من التقنية المشروطة بثقافته ووضعه الاجتماعي وطبيعة مهنته، في حين يستخدمه في العرض المسرحي بطريقة أخرى وتقنية مغايرة مختلفة كليا عن المستخدمة في الحياة اليومية والسلوكات المعتادة، لذلك حددت أهداف هذا الفرع في وصف وتحليل السلوك البيولوجي والثقافي والاجتماعي المجسد بحضوره الجسدي تبعا لشروط مفارقة للشروط الموضوعية والذاتية المتحكمة في مجريات الحياة اليومية، وهو ما يسمح للباحثين في هذا المجال بتوظيف الفرص التي يتيحها العمل المسرحي للتأثير في البيئة الاجتماعية.

وضع أوجينيو باربا الأسس واللبنات الأساسية لأنثروبولوجيا المسرح وحدد مهمة هذه الأخيرة في اقتراح السبل التي تمكن المسرح من اعتماد هذا الفرع كآلية لاكتساب طرق معينة للحركة والنطق والإيماءات، وغيرها من الممارسات الفرجوية الحرة التي يمكن الارتكاز على فاعليتها المترجمة لذاتية الممثل أثناء التدريب، دون أن ننسى التأثير الذي مارسه غروتوفسكي على باربا؛ عبر اعتماده على الممارسات الطقسية، والأخذ من الفلسفات الشرقية، مع ميلِ أعماله إلى التركيز على الممثل على حساب الفضاء والديكور وباقي العناصر المؤثثة للعرض المسرحي العصري؛ لأن أهم عنصر، عند غروتوفسكي، هو “ما يدور بين الممثل والجمهور وكل ما عدا ذلك يعد ثانويا، فما كان يريده هو توفير قاعة خالية تصلح لجلوس المتفرجين بين فجوات وممرات لأداء الممثلين مشركين معهم الجمهور”[11]. يعد هذا الطموح مبررا لنظرة بعض المسرحيين إلى بناية المسرح، بوصفها “تكريسا لما يزخر به المجتمع من تمايز بين طبقاته، كما نظر المسرحيون المجددون إلى الفصل بين الخشبة والصالة بوصفه مكرسا للفصل بين صناع القرارات ومن تطبق عليهم القرارات؛ فصانع القرار له حق الكلام، بينما ليس للمواطن سوى حق المتابعة والانصياع، وهو بالضبط ما يحدث بين الممثل وجمهوره في المسرح التقليدي؛ فالأول متكلم، والثاني صامت. وهكذا، كان توْق المسرحيين المجددين إلى مسرح تختفي فيه الحواجز، ويحدث كاحتفال بسيط بين محتفلين متساويين في الرتبة والهمية”[12].

تتجلى أهمية الطقسي الاحتفالي – عند غروتوفسكي – في “لجوئه منذ منتصف الستينات إلى استخدام الأساطير الوثنية والدينية، وتضمينها في عروضه، ولكن ليس بالمعنى الجمالي أو المعرفي، وإنما بوصفها حاملا لقضايا الإنسان المعاصر في همومه ومحنته في الجماعة، عبر العديد من الطقوس الروحية، وفي مقدمتها الإفادة من تكنيكات اليوغا الهندية؛ ما دفع باربا إلى تأسيس المدرسة العالمية للأنثروبولوجيا، التي ركزت على دراسة السلوكات والتصرفات الذاتية للمثل، وربطه بالجماعة والمجتمع”[13].

تعد الظاهرة المسرحية، من وجهات نظر غروتوفسكي وباربا وباتريس بافيس، ظاهرة عامة وشمولية؛ فهي ليست مجرد عرض لحظي محدد بزمان وفضاء العرض المشروط بجمهور وإضاءة وديكور وتشخيص، وإنما تعدت ذلك؛ فصارت مجالا لإبراز التقاليد والعادات، وعرض الأفكار المتباينة ومناقشتها، ونقل القيم لتصوير ثقافات الانتماء المختلفة، بوصف المسرح فضاءً معبرا عن مجتمع مصغّر، بما يسوده من علاقات اجتماعية من ناحية، وآلية لتدبير الاختلاف بين مختلف الأجناس البشرية من ناحية ثانية.

من بين الأسباب التي أسهمت، كذلك، في ظهور هذا الفرع الرغبةُ في العودة إلى الأصول، ومقارنة باقي الثقافات بالثقافة الغربية؛ من خلال الانفتاح على الممارسات الطقسية والجوانب الدينية المقدسة، التي ما زالت منتشرة في المجتمعات البدائية؛ وبذلك صار التلاقي والحضور الجسدي المباشر بين الممثلين والجمهور مناسبة ثقافية لاسترجاع أصالة ونقاء العلاقات الإنسانية، التي تأزمت بسبب العولمة والغزو الثقافيين، وانتشار قيم الفردانية.

لقد كان من الطبيعي أن تجعل الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية المسرح ضمن دائرة اهتمامها لارتباط هذا الأخير بالمعيش اليومي للإنسان من جهة، وبالأسطورة والخرافة والدين والعادات والتقاليد من ناحية أخرى، فاضطلعت بمهمة المترجم الحقيقي لهموم الإنسان، والمجسد الفعلي لطموحاته، والحامل الحي لأحزانه وآلامه عبر وصف وتأويل دلالات الأشكال الاحتفالية المتنوعة؛ من رقص وغناء وحكاية ولعب وممارسات أخرى مميزة لمناسبات اجتماعية وشعائر دينية ومواسم شبه دينية، دون أن ننسى إسهامات الفرع الطبيعي للأنثروبولوجيا في وضع المسرح تحت الدراسة والتحليل لقدرته العلمية على دراسة حركات الجسد وتقنياته الموظفة لتجسيد العرض، ومن ثم رصد دلالاتها واصطياد معانيها الرمزية رغم مفارقة هذه الحركات المشبعة بالتقنيات المسرحية للنمط اليومي المعتاد.

يشير باربا، في تناوله تقنية الجسد، إلى وجود تعارض في استخدامه بين حالتي التمثيل واليومي؛ فنحن “نستخدم أجسادنا بطريقة مختلفة في الحياة، وفي المواقف التمثيلية. فعلى المستوى اليومي، لدينا تقنية الجسد المتكيفة بثقافتنا، وضعنا الاجتماعي ومهنتنا، ولكن في حالة التمثيل هناك تقنية مختلفة تماما للجسد”[14].. هذا التعارض هو ما تسعى الأنثروبولوجيا المسرحية إلى تذويبه لتجاوز التعارض بين الطبيعة المتمثلة في الجسد الفرجوي والثقافة المتمثلة في الجسد في حالة العرض والتمثيل”[15].

لقد نتج عن زيارات الفرق المسرحية الشرقية للمسارح الغربية خلق نوع من الدهشة والاستغراب لدى المسرحيين الغربيين، مما حفزهم على زيارة الشرق بهدف استغوار هذه الأشكال المسرحية ومتابعتها في منبتها، بوصفها دافعا علميا يغري بالبحث بغرض استلهام العناصر الضرورية الكفيلة بتطوير المسرح الغربي مادة وموضوعا، وقد مكن انفتاح المسرح على الأنثروبولوجيا من حصد نتائج إيجابية يمكن أن نحصر بعضها فيما يأتي:

  • تغيير نظرة الغرب لثقافة الشرق ودحض التعالي الفكري وفتح آفاق للتلاقي والتقارب الثقافيين.
  • اكتشاف أشكال ما قبل مسرحية وفنون أداء جسدي غنية بالمعاني والدلالات والوظائف.
  • الاعتراف بدور الثقافة الشرقية في تطوير المسرح لما تتوفر عليه من عناصر فرجوية قيمة.
  • الانفتاح على الثقافات الشعبية للشعوب غير الأوروبية مع الاهتمام بالجانب الطقسي والشعائري، وتوظيفه للتخلص من رتابة المسرح الغربي المكبل بالشعرية الأرسطية.
  • كشف علاقة المسرح بالتدين والطقوس والشعائر ومختلف العناصر الثقافية الأخرى من عادات وتقاليد وقيم وتوظيفها.

شكلت المحاضرة التي ألقاها “باربا” في وارسو سنة 1980 والمعنونة ب: أنثروبولوجيا المسرح: اقتراحات أولية، فرصة للتعريف بهذا المفهوم ومناسبة علمية لتحديد مرتكزاته ودعاماته الأساسية واقتراح سبل تنزيله في الأبحاث المسرحية، وهي اقتراحات عملية زاوجت بطريقة تطبيقية بين العلم والأداء الفني الجسدي، متخذا من دراسة سلوك الإنسان/الممثل من الناحية البيولوجية والاجتماعية والثقافية إبان العرض الجسدي على خشبة المسرح موضوعا لدراسته، مقسما في الوقت ذاته استعمالات هذا الجسد إلى قسمين يمكن أن نعبر عنهما كالتالي:

  • الاستعمال اليومي المعتاد: يقصد به استخدام الإنسان لجسده وفقا لثقافة المجتمع وقوانينه وأعرافه، وهو استخدام مؤطر بالتربية وبالتنشئة الاجتماعية، وهو بذلك سلوك ثابت متوارث عبر الأجيال، متوافق عليه من طرف الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، ومثال ذلك: طريقة الجلوس والأكل والشرب والمشي.
  • الاستعمال الخارج عن المعتاد والمألوف: يقصد به التقنيات التي لا تكتسب إلا عن طريق التعلم والتدريب الذهني والجسدي كما هو الشأن بالنسبة لممارسة بعض الطقوس، أو تقديم لوحات راقصة أو تمثيل دور من الأدوار على خشبة المسرح.

ولا شك في أن أنثروبولوجيا المسرح مرتبطة، في نشأتها، باسم باربا، المندهش بجمالية المسارح الشرقية، المستندة إلى الحكاية والتدين والرقص والطقوس، وهو الذي أجرأ إعجابه الشديد بما خلفته فيه من انطباع فني جيد في استثمار جمالياتها، وتوظيف ثرائها وغناها الحركي اللفظي والرمزي الطقسي في تغذية المسرح الغربي، على أملٍ في كسر نمطية المسرح التقليدي ورتابته، وذلك في مقابل انعكاس نتائج هذا الفرع إيجابا على المسرح الشرقي بتطويعه وتبيئته لمواكبة المستجدات التي عرفها هذا الفن كتابة وتقنية وإخراجا، رغم ما نتج عنه من مس صريح بأسسه وبمقوماته؛ حيث “إن بعض تجارب “باربا” تقوم على نوع من الهجنة التي تتناغم وسياق العولمة، كما في عرضه “إيغوف أوست” الذي وظف فيه عددا من الفرق الموسيقية التي ترافق الأداء بعزف حي يمزج بين الأنماط الموسيقية الهندية واليابانية، وتستخدم أحيانا قرع الطبول الإفريقية، بذريعة أنها تمثل مقترحا لمسرح كوني تنصهر فيه الهويات الفرعية والأجناس الفنية الممثلة لشعوب مختلفة، ويشكل نوعا من التقاء الثقافات وتمازجها. وهو في الحقيقة مسرح يخفي تحت قشرته الخارجية نزعة مركزية غربية، ومنظورا ثقافيا كولونياليا”،[16]وهو ما فتح المجال أمام محاولات التجديد والتطوير انطلاقا من الغوص في الثقافة والتراث الشعبي واعتباره عنصرا كونيا تشترك فيه كل ثقافات العالم وحضاراته. الأمر الذي أسفر عن ربط المسرح الغربي ومعه العالمي بالبعد الأنثروبولوجي، وقد شكل هذا الربط في حد ذاته “ولادة جديدة للمسرح، ولادة وقعها التفكير التجريبي الذي يسترشد بخطى الاختلاف بعيدا عن هيمنة النموج الكوني الذي جعل الفكر والفن حبيسي نظرة نمطية غربية كاسحة”[17]، وقد تم هذا الربط كذلك عن طريق:

  • “الانفتاح على أشكال فرجوية ممسرحة.
  • انتشار الاهتمام الأنثروبولوجي بالثقافات المختلفة للشعوب والسلالات البشرية والاطلاع على ما تتضمنه من ممارسات وثروات رمزية وتعبيرية وطقسية وأنساق لغوية جسدية وحركية مشفرة.
  • العودة بالمسرح إلى عمقه التاريخي الخالص الذي تلوث عبر تدجينه في قوالب الشعرية الأرسطية بالمفهوم النتشوي، وإحياء بعده الطقسي الاحتفالي، وهو ما سمح بالاعتراف بما أنتجته الشعوب غير الأوروبية من أشكال فرجوية.
  • الاعتراف بالفلكلور، وإنزال لغات المسرح من أبراجها السماوية واللاهوتية إلى صلب الثقافات الشعبية وأفضية الهامش”[18].

تنطلق أنثروبولوجيا المسرح من توجه معين” في إعداد الممثل وتركز على مفهوم التعبيرية القبلية التي تشكل الأفق المشترك بين مختلف صانعي الفرجات في الشرق والغرب، الشمال والجنوب…كما تفترض وجود فيزيولوجيا عبر ثقافية يخضع لها الشرق والغرب، الشمال والجنوب؛ فالتعبيرية القبلية تضيء المبادئ المشتركة بين مختلف صانعي الفرجة لامتلاك الحضور”[19]، بمعنى أن التعبير القبلي يبحث في الأسس التي تمكن الممثل من تجسيد أدائه بطرق حية تيسر استقطاب الجمهور وتتملك حضوره، عن طريق استلهام التجارب وتقنيات الأداء وأنماط التعبير الجسدي القائمة على الحركة (الرقص) واللفظ (الغناء) ودمجها كمادة أساسية لتطوير الممارسة المسرحية، لإغناء هذه الأخيرة وإفادتها بغرض مدها بالحلول التي تمكنها من تجاوز فقرها وضعفها الخطابي والوظيفي.

  • الإثنو سينولوجيا وآفاق التناسج الثقافي:

في عالم ما بعد الحملات والدراسات الكولونيالية، وما بعد مخلفات الحرب الباردة، تعالت الأصوات العلمية المطالبة بضرورة تحصين الإرث المحلي، وسابقت الزمن لترميم إرثها الشفهي باعتباره جزءا من ثقافتها المحلية وكيانها المستقل، كخطوة من خطوات المقاومة والممانعة الثقافيتين ضد الثقافة العالمية التي “تغلب على غيرها مع الزمن، إذ كلما تحضر الشعب فقد جزءا من تراثه الشعبي المحلي، وفقد نتيجة لذلك جزءا من شخصيته…جراء طغيان الحضارة الغربية على ثقافتنا ومحاولتها طمس معالم حياتنا الشخصية بما تضمه من عادات وتقاليد وميزان للقيم الأخلاقية والعملية”[20]. فلحماية الهويات المحلية من الذوبان في أحضان الثقافة العالمية، ظهر علم جديد يروم بحث واقتراح السبل الكفيلة لتحصين الذات من تأثير العولمة الجارفة للجذور الثقافية وإخضاعها لتدور في فلك الثقافة العالمية الجديدة، يصطلح على هذا التخصص الجديد بالإثنوسينولوجيا، فما هي الإثنو سينولوجيا؟ وما هي أهدافها ومجالاتها؟

يتكون مصطلح “الإثنو سينولوجيا” من ثلاثة مقاطع، هي:

الإثنو Ethno: التي تعني الانتماء العرقي.

سينو Sceno: مقابلة للفظ الفرنسي Scène التي تعني المشهد.

لوجي Logie: تعني الدراسة العلمية أو العلم.

يتضح، من خلال هذا التقسيم، أن هذا المصطلح المركب، يستخدم للدلالة على علم وتخصص معرفي جديد، يعنى “بدراسة الفرجات أو الفنون المشهدية الحية والبحث في سياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي”[21]، كما يهتم بدراسة “الأداءات الجسدية لمختلف الجماعات الثقافية في العالم كله بعيدا عن التمركز والانغلاق حول الذات”[22].

يهدف هذا التخصص المعرفي الجديد، “المتموقع بين الإثنولوجيا وفنون الفرجة، إلى تحليل وفهم وتأويل مختلف أنواع الأداء؛ من قبيل الرقص والحكايات والطقوس وغيرها من الممارسات الخاصة بشتى الإثنيات بغية فهم ثقافتها، آخِذا بعين الاعتبار سياقها الثقافي والاجتماعي. كما تُرَد أسباب نشأته إلى عملية التثاقف الحضاري بين مختلف حضارات العالم؛ لذلك وظف في العديد من الدراسات باعتباره منهجا لدراسة الخطاب الفرجوي، وتحليل المعاني الخفية الكامنة خلف مختلف ضروب الأداء”.[23]

يرتكز هذا العلم المتفرع من أنثروبولوجيا المسرح على مجموعة من التخصصات والمعارف والعلوم، التي تزود الباحثين بالآليات العلمية الضرورية لاستخلاص الأبعاد المركبة للظاهرة الفرجوية الإنسانية، الحية والعريقة الخارجة عن دائرة اهتمامات المسرح الغربي، حيث يدخل ضمن مجال اهتمامه الطقوس والاحتفالات والموسيقى والرقص وحركات الجسد وإيماءاته، وبعض الألعاب الجماعية ذات الطابع الاحتفالي، وغيرها من المشاهد المجسدة في الهواء الطلق عكس المسرح المرتبط وجوديا بالعلبة الإيطالية.

الإثنو سينولوجيا، إذاً، “مصطلح علمي جديد يشير إلى تخصص معرفي يهتم بالأساس بدراسة الممارسات والسلوكات الإنسانية الاحتفالية المنظمة لمختلف الجماعات الاثنية المتعددة الثقافات في العالم بأسره”[24]، أي يختص بدراسة الأشكال الفرجوية بمختلف ألوانها المعبرة عن الجانب الفطري الأصيل في الثقافة الإنسانية؛ كالغناء والرقص والحلقة، وغيرها من الأشكال الموظفة عبر مجموعة من الطقوس سواء للترويح عن النفس، أو للتعبير عن انفعالاته وتفريغ مكبوتاته، وتجسيد مخياله في قالب فلكلوري متعدد الأبعاد والوظائف والدلالات، “إنها ليست مجرد نظرية، بل هي علم جديد يفتح آفاقا واعدة لاستكشاف الخصوصيات الثقافية للكائن البشري خاصة الممارسات والأشكال الاحتفالية”[25]،  ويهدف هذا العلم فيما يرى مؤسسه “جون ماري براديي” إلى “التحقيق في العديد من الممارسات والفنون الخاصة بالحضارات المختلفة عن الحضارة الغربية لتبيان هوياتهم الخاصة”[26]، بمعنى أن الإثنو سينولوجيا “خطاب علمي هدفه دراسة الممارسات الأدائية لمختلف الإثنيات”[27]، مع اعتماده في الإحاطة بالشكل الفرجوي على مجموعات من العلوم، وارتكازه على تخصصات معرفية شتى اتخذها سندا رئيسيا يستعان به في فهم موضوع الدراسة منها: اللسانيات والسيميائيات وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، إضافة إلى معارف أخرى، وتتمثل أهدافه حسب مؤسسه الفعلي الفرنسي Jean Marie Pradier فيما يأتي:

  • ” دراسة الأبعاد الجسدية في الممارسة الاحتفالية.
  • دراسة الأبعاد الرمزية للشكل الاحتفالي.
  • دراسة الأبعاد الجمالية للأشكال الاحتفالية.
  • دراسة اللغة في ارتباطها بالإثنية الموظفة في الحقل الدلالي المعبرة عن الطقس الاحتفالي.
  • دراسة التمثلات العالمة والعامية المكونة حول الجسد والروح.
  • دراسة وظائف الممارسات الاحتفالية.
  • دراسة مختلف الأبعاد المعرفية والوجدانية والروحية للممارسات الاحتفالية.
  • دراسة تأثير الممارسات الجسدية على الأنظمة الفكرية.
  • دراسة المواد المساعدة الموظفة في الشكل الاحتفالي من مكياج وزخارف ومواد الزينة.
  • دراسات مختلف الممارسات الفرجوية المرتبطة فيما بينها.
  • دراسة الإبداع الفرجوي.”[28]
  • الاهتمام بالمكون الثقافي الشعبي في بعده الفرجوي الاحتفالي.
  • صيانة المكون الثقافي من الاندثار وحمايته من الآثار السلبية للعولمة.
  • جعل الأشكال الفرجوية موضوعا للدراسة المنهجية العلمية.
  • استخلاص وظائف وأبعاد هذه الأشكال وإبراز بعدها الجمالي.

يعد تحقيق التقارب الثقافي بين الشعوب، ومحاربة التبعية الثقافية ونظرة الاستعلاء الغربي تجاه الموروث الشرقي، من بين الانشغالات الرئيسية لهذا التخصص، إيمانا من مؤسِّسه بأن مستقبل العالم بأسره سيكون مبنيا على أسس ثقافية، وهو ما يتماشى مع طرح صاحب كتاب “صراع الحضارات” لصامويل هنتنغتون، الذي يرى أن “هناك مرحلة جديدة من تاريخ العالم قد بدأت. وفي هذه المرحلة لن تكون المصادر الرئيسية للصراع اقتصادية أو إيديولوجية في المقام الأول، لكن الانقسامات العميقة بين أبناء الجنس البشري والمصدر المهيمن على الصراع ستكون ذات طابع ثقافي”[29]، وانطلاقا من هذا القول التنبئي يمكن أن نفسر أصل التباين والفوارق الشاسعة في التطور بين الأمم في مختلف الفروع إلى تبايناتهم الثقافية الشاسعة، مع إمكانية أن يصير هذا الاختلاف عائقا أمام التناسج والانسجام، فيغدو سببا رئيسيا مغذيا للصراع وللتطاحن الإيديولوجي بين الشرق والغرب.

على سبيل الختم:

يعد المسرح من المجالات التي تطورت بفضل انفتاحه على الأبعاد الإثنو سينولوجية وعلى الفلسفة الشرقية والتاريخ وغيرها من العلوم التي ساهمت بشكل واضح في إرساء أسسه وبناء قواعده. مع تحكمها في اختيار مواضيعه وطرق معالجتها ومسرحتها بفضل جهود مجموعة من الرواد، الذين فتحوا الممارسة المسرحية على الأبعاد الطقسية والحركية، وجدير بالذكر أن المخرج الفرنسي أنتونان أرتو هو أول من تنبه لغنى وتنوع الأشكال المسرحية غير الغربية عند مشاهدته وتحليله لعروض الرقص المقدمة من طرف الفرق القادمة إلى فرنسا من جزيرة بالي الأندونيسية. وهي الأسباب نفسها التي جعلته يتخذها مصدرا لإبداعاته المبنية على الممارسات الطقسية وعلى الحركة والرقص والإيماءات ومختلف أنواع الاحتفال الجماعي، مع الانفتاح على الفلسفات الشرقية.

لقد نتج عن انفتاح الغرب على الثقافات الشرقية في مجال الفرجة والمسرح بروز مفهوم التناسج الثقافي، الذي يتنافى جوهره مع المفهوم التقليدي المكرس لقرصنة تراث الهوامش من أجل توظيفه بما يتماشى والمسرح الغربي. ذلك أن هذا المشروع يروم فتح آفاق ثقافية جديدة بين الشرق والغرب قوامها الاعتراف بالمكون الشرقي وتثمين دوره في بناء مسرح متعدد المصادر، مع السعي إلى تجاوز مبادئ المركزية الغربية باقتراح سبل عملية لتدارك حالة العقم التي عاشها المسرح الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، بسبب تقوقعه وانغلاقه على ذاته وادعائه النضج والاكتمال. وفعلا ساهمت هذه الهجنة الخلاقة التي أفرزتها عملية التناسج في ارتقاء أبي الفنون الذي ظل جامدا بسبب الالتزام بالقالب الأرسطي المكبل للممارسة المسرحية، وذلك بالاقتراض من تقنيات الفرجة الآسيوية والإفريقية.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. حسين فهيم، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في علم الإنسان، سلسلة “عالم المعرفة”، الكويت، ع.98، فبراير 1986، ص:17.

  2. المرجع نفسه، ص: 18.

  3. حسين فهيم، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في علم الإنسان، ص: 14.

  4. محسن النصار، أنثروبولوجيا المسرح، مجلة الفرجة المسرحيةwww.Theaterars.blogspot.com، نشر بتاريخ: 01/09/2017، تاريخ التصفح: 03/06/2022.

  5. نظرية الثقافة، مجموعة من الكتاب، ترجمة علي سيد صاوي، سلسلة “عالم المعرفة”، ع.223، يوليوز 1997، ص: 22.

  6. Patrice Pavice، Le Théâtre au Croisement des cultures، José corti، 1990، p :15.

  7. محمد أسليم، حول مفهوم الأشكال ما قبل المسرحية، نحو إثنولوجيا للمسرح المغربي، مجلة الأنطولوجيا، نشر بتاريخ: 03 دجنبر 2017، تاريخ التصفح:25/06/2021.

  8. محسن النصار، أنثروبولوجيا المسرح، م. س.

  9. محسن النصار، أنثروبولوجيا المسرح، الهيئة العربية للمسرح www.atiteatre.com، بتاريخ: 13-12-2017، تاريخ التصفح: 03/06/2022

  10. Josette Feral، pourquoi l’anthropologie Théâtrale، Revue de Théâtre، N 68،1993، p:120.

  11. محسن النصار، أنثروبولوجيا المسرح، م. س.

  12. أحمد السبياع، الخروج من قاعة المسرح.. الثورة على تقاليد القاعة الإيطالية، مجلة الفيصل، نُشر بتاريخ: 01 يوليوز 2022. تاريخ التصفح 04 ماي 2023.

  13. محسن النصار، أنثروبولوجيا المسرح، م. س.

  14. أوجيينو باربا، الأنثروبولوجيا المسرحية، ترجمة: انتظار علي جبر، مجلة الفنون المسرحية théateras.blogspot.com، بتاريخ: الجمعة 22 يونيو 2018، تاريخ التصفح:12/03/2023.

  15. نفسه.

  16. قاسم بياتلي، إيوجينو باربا من لحام إلى مؤسس أنثروبولوجيا المسرح، www.aranthropos.com، بتاريخ 26-12-2019، تاريخ التصفح:03/06/2022

  17. محمد نوالي، الفرجة في خطاب النقد المسرحي المغربي: قراءة نقدية، مجلة علامات، مكناس، ع.35، 30 يونيو 2011، ص: 63.

  18. المرجع نفسه، ص ص: 64 -65.

  19. خالد أمين، المسرح والهويات الهاربة: رقص على حد السيف، من منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، السلسلة 63، ط.1، 2019، ص:35.

  20. حسين مؤنس، الحضارة: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، سلسلة “عالم المعرفة”، الكويت، ع.237، ط.2، سبتمبر 1998، ص:391.

  21. Jean Marier Pradier، L’éthnoscécologie، vers une science générale، revue québécoise d’études théâtrales،
    n 29، 2001، p :1.

  22. Jean Marier Pradier، L’éthnoscécologie، vers une science générale، revue québécoise d’études théâtrales،
    n 29، 2001، p :2.

  23. www.langue francaise.com/ Dictionnaire/ Définition/ Ethnoscénologie.

  24. Jean Marie Pradier، L’ethnoscénologie : la chair de l’esprit www.effetsdepresense.uqam.ca، Octobre 1997، p :1

  25. J.M.Pradier، Ethnoscénologie : La Profondeur des émergences،(ouvrage collectif : La scène et la terre، questions d’ethnoscénologie)، Maison des Cultures du Monde، 1996، p :16

  26. J.M.Pradier، Ethnoscénologie : La Profondeur des émergences،(ouvrage collectif : La scène et la terre، questions d’ethnoscénologie)، Maison des Cultures du Monde، 1996، p :19

  27. Gilbert Rouget، Question posées à L’ethnoscénologie، (ouvrage collectif : La scène et la terre، questions d’ethnoscénologie)،1996، p :44

  28. Jean Marie Pradier، L’ethnoscenologie : la chair de l’esprit، www.effetsdepresense.uqam.ca، Octobre 1997، p : 17

  29. آدم كوبر، الثقافة: التفسير الأنثروبولوجي، ترجمة: تراجي فتحي، سلسلة “عالم المعرفة”، ع.349، 2008، ص: 19.

Scroll to Top