حكمة التوفير في المطبخ التقليدي الوجدي

أستاذ محاضر
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول بوجدة
المغرب

ملخص

ظفر المطبخ التقليدي المغربي بمكانة عالمية في فن الطهو، ولا يقتصر هذا الصيت على نكهاته ووصفاته الساحرة، ولا على مميزاته في طريقة الإعداد والجمع بين المالح والحُلو، ولا على صِحية الكثير من الوجبات التي يبدعها، ولكن أيضا لما يقدمه من توفير يرقى لمستوى الحكمة. في هذه المقالة، سنحاول إبراز هذا بالاعتماد على المطبخ التقليدي الوجدي، كونه جزءا من المطبخ التقليدي المغربي، وذلك اعتمادا على المعطيات التي حصلنا عليها من مقابلات شفوية وأخرى ميدانية مع أناس من أصول وجدية، مقتنعين كل الاقتناع بأن التعريف بما يكتنزه هذا المطبخ من فوائد؛ هو جزء من التثمين الذي يستحقه، والاستمرارية التي تعرقلها الأكلات السريعة (طعام بدون قيمة غذائية)، والهدر الغذائي.

Abstract

Moroccan traditional cuisine has gained a global status in gastronomy. This is not limited to the reputation for its charming flavors and recipes, or its advantages in the method of preparation and combination of salty and sweet, or even on the healthy aspect of many of the meals that it creates, but also for the savings that it provides, and which qualifies as thrifty. In this article, we shall try to highlight this topic by relying on the traditional Oujdi cuisine, being part of the traditional Moroccan cuisine. We shall be based on the data we have obtained from oral and field interviews with people of genuine origin and are fully convinced that introducing what is this kitchen is has multiple benefits and will guaranty great valorisation and continuity this tradition deserves, which often fast food and junk food attenuate nowadays.

مقدمة

كيفما نظرت وتأملت في المطبخ التقليدي المغربي، سواء في مكوناته الغذائية، أم تقنياته في الطهو وطرائق التقديم والتقاسم والتخزين والتوظيف المناسباتي، بل حتى في الأزمات والعلاج… إلا ووجدت حِكما وقيماً وفوائداً ومواعظا يندهش لها مختصون عصريون في التغذية. وبما أن هذا الموضوع شاسع بشكل يفاجئ أي دارسٍ جِدي، اخترت أن أعالج حكمة واحدةً من حكم المطبخ التقليدي المغربي متخذا نموذجَ المطبخ الوجدي[1] لقربي الشديد منه، وتحديدا الفترة الزمنية الممتدة من فجر الاستقلال إلى أواخر الثمانينيات، في ارتباط وامتداد وثيق بالعقود والقرون السابقة، وهذه الحكمة التي أعنيها هي “التوفير”، لا أقصد التوفير القريب من البخل، أو لغرض الربح المادي، أو لقلة الموارد الغذائية بالضرورة، أو الخوف من الجوع فقط، بل أقصد ذلك التوفير الذي ينسجم مع تعاليم ديننا السمحةِ، ويتناغم مع البيئية الطبيعية بالمفهوم المستدام، وأيضا ذلك التوفير الذي تَغْزُرُ فيه قيم التضامن، وبُعد النظر، والحفاظ على الصحة. ولكشف ماهية هذا التوفير سأركز على فعل التخزين كشكل من أشكال التوفير، ثم فعل الاستهلاك الذي يحرص على عدم التبذير وإعادة الاستهلاك لاحقا، مع توليد حكمٍ أخرى متراصةٍ مع الحكمة التي نتناولها بالشرح في هذه المقالة، إنها تقنيات توفيرية للغذاء تأتي في مقابل الإحصائيات الخطيرة التي تتحدث عن فاقد وهـدر غذائي يبلغ سنوياً 1.3 مليار طن؛ أي ثلث إجمالي الأغذية المنتجة عالميا، علما أن العالم لا يزال فيه حوالي 800 مليون شخص يعانون من الجوع،[2] والمغرب بدوره معني بهذا الأمر، إما بفعل فقدان الأغذية أثناء إنتاجها وتخزينها، أو هدرها عند مرحلة الاستهلاك،[3] وهذا ما تشير إليه الإحصائيات بالأرقام التالية:42,6 % من المغاربة يرمون ما قيمته 6 إلى 20 دولار من الغذاء شهريا، وتشكل نسبة 3,3 % فقط المغاربة الذين لا يرمون أي غذاء صالح للأكل في القُمَامِيَةِ،[4] إنه تناقض مخجل لآدميتنا، ربما يلهم مطبخنا التقليدي صانعي القرار على تصحيحه، خصوصا أن المغرب كان قد خطط فعلا لخفض هذا الهدر إلى النصف بحلول نهاية عام 2024.[5]

على ضوء هذا المنطلق ستسير هذه المقالة نحو الآتي؛ متخذة من المطبخ الوجدي التقليدي نَموذجا:[6]

أولا- حكمة التوفير في مهارات التخزين [قبل الاستهلاك]؛

ثانيا- حكمة التوفير في طرائق الاستهلاك وما بعدها، أي من فعل الاستهلاك إلى تدبير البقايا، وتقدير الكمية المطبوخة لاحقا؛

ثالثا- ارتباط حكمة التوفير بحكمَ أخرى من التخزين إلى ما بعد الاستهلاك.

1- حكمة التوفير في مهارات التخزين (قبل الاستهلاك)

للتخزين في البيوت الوجدية التقليدية مكانة مركزية، تختلف بدرجات بين البيوت المرتبطة بالبساتين (الجْنَانْ)[7] والبيوت التي لا ترتبط أسرها بالنشاط الفلاحي أو تلك التي تتمركز داخل أسوار المدينة القديمة، ويتجلى ذلك أساسا في المساحة المخصصة لمكان التخزين، وأيضا في وجود بيت تخزين إضافي لدى الوجديين أصحاب البساتين محجوز فقط لتخزين ما تحتاجه المواشي، لكن القاسم المشترك بينها؛ هو فعل تخزين المواد الغذائية في «بِيتْ لْخْزِينْ»[8] والتي لا تتوفر على مدار العام، أو هي من الضروريات طيلة السنة، مع استخدام نفس المبادئ التقنية وكذلك الإيقاعات الزمنية.

1-1 «بيت لْخْزينْ» (نوعان: الأول مخصص لغذاء الأسرة والثاني موجه للمواشي)

ترتبط عملية التخزين زمنيا بفصل الربيع لتصل ذروتها صيفا استعدادا لفصل الخريف وخصوصا الشتاء، وترتبط مكانيا بالحجرة المسماة «بِيتْ لْخْزينْ»، هذه الأخيرة لا تهم مساحتها بقدر أهمية تواجدها في بيوت الوجديين، ومن مواصفاتها بالنسبة لمن يتوفرون على بساتين زراعية أنها مشيدة داخل منازلهم[9] وبمواد بناء طبيعية أبرزها الطين «لْمَرْكَزْ»[10] والخشب، ليس لها باب، إنما مجرد ستارة، وليس لها نوافذ بل فتحات صغيرة للتهوية وضعت في الجدار المناسب حسب اتجاه سطوع أشعة الشمس،[11] ذاتُ نسبةِ رطوبةٍ منخفضةٍ، كما يُمنع دخولها إلا بإذن مسبقٍ من الوالدين.

أما بالنسبة للوجديين الذين لم يتوفر لهم الفضاء الكافي لتشييد «بِيتْ لْخْزينْ»، ونقصد هنا من واصلوا استقرارهم في المدينة القديمة، أو في الأحياء التي شيدت بجانبها، فهم يكتفون بتخصيص حجرة صغيرة في بيوتهم لهذا الغرض، أو حتى ركن صغير من حجرة…

يتوفر الوجديون المرتبطون ببساتينهم، والذين استقروا فيها بعد خروجهم من أزقة المدينة القديمة وما جاورها على «بِيتْ لْخْزينْ» الخاصة بعلف البهائم أيضا، ويُخَزَّنُ فيها أساسا الخرطال[12] (تنطق اللام ميما بالدارجة = الخرطام) والتبن والشعير والذرة والنخالة وقشور الفول المجفف المدقوق المسمى «أَدَّلْكْ» (مشتق من فعل دَلَكَ أي فَرَكَ)، وكذلك قشور البازلاء المجففة، وبالنسبة لهذين الأخيرين يمكن استعمالهما أيضا كسمادٍ زراعي طبيعي إضافة إلى روث الحيوانات «لُغْبَارْ».

وفيما يلي التقنيات المتبعة من طرف الوجديين في تخزين موادهم الغذائية داخل «بِيتْ لْخْزينْ» وبصنفيه:

2-1- التخزين بتقنية التعليق (خضر وفواكه وأعشاب وبذور)

تتلخص هذه التقنية في تعليق مواد غذائية بخيوط مربوطة بالخشب الذي يُكَوِّنُ سقف «بِيتْ لْخْزينْ» بعلوِّ حوالي مِترين، وهي تشمل البصل والثوم على شكل ظفائر، والرمان[13] والفلفل الأحمر صغير الحجم «انْيُورَهْ»، وكلها تخزن في موسم جنيها، مع انتقاء أجودها وأصلحها للتخزين، إضافة إلى ما سبق يخزن بنفس الطريقة كل من النعناع الذي يجنى صيفا بشرط تركه حتى يبلغ أقصى نمو له (الوَاصِلْ) ويختار من النوع الخشن، وأيضا تخزن نبتة “اللويزة” بتقنية التعليق نفسها.

ومن المواد المخزنة بهذه التقنية نضيف أيضا بذور المواد التالية وهي: البصل، وبصل «البُورُّو»[14] والخس والثوم والكرمب، والطمامطم، هذه الأخيرة تُصَفَّى منها بذورها وتوضع في شبكة دقيقة وتعلق لتجف، ولاحقا عندما يأتي موسم زرعها تُرمى في حوض؛ لتنبت بعض الشيء، ثم تنقل لتزرع «النُقلةُ»[15] بشكل منظم في البستان.

3-1- التخزين في أواني طينية (اللحم والسمن والزيتون)

الــلــحـــــم: يذبح الخروف ويختار جزء من لحمه ليتم استهلاكه في الحين، لكن أكثر ما تبقى منه يوجه للتخزين على شكل قديد «لْخْلِيعْ» وذلك بتجفيفه ثم تقطيعه لإربٍ صغيرة ليُطهى بعد ذلك في قدر ثم يضاف إليه شحمه، وشيء من الزيت والملح بكمية إضافية وقليل من التوابل والكزبرة، وأثناء عملية الطهو تقوم السيدة المشرفة على هذه العملية بإسدال فتيلة من ثوبٍ داخل القدر، فإن قطر ما علق بها، تواصل عملية الطهي، وإن لم يحدث ذلك تطفئ النار، يوضع ذلك القديد في آنية طينية متوسطة أو كبيرة الحجم ليبرد، ويتحول لونه إلى الأبيض بفعل الدهون، ثم تغطى فوهة الآنية الطينية بثوب ولا يُمَسَّ محتواها إلا بملعقة مصنوعة من الخشب، ومخصصة لهذا الغرض حصرا، ودائما موضوعة جانبا، ولتفادي تكرار فتح وغلق تلك الخابية، تملأ آنية صغيرة مصنوعة من الطين أيضا بما يحتاجه المطبخ لمدة معينة لضمان بقاء جودة ما بداخلها.

– السَّمْنُ الحَارُّ: تستخرج الزبدة بعد رَجِّ الحليب في (الشكوة)[16] ثم يضاف إليها الملح وتوضع في إناء طيني لتتحول إلى سمنٍ حار، وتغطى بثوب نباتي يسمى (الخيش)،[17] ولا تمس بدورها إلا بملعقةٍ خشبية، ويُمنعُ منعاً باتاً استخدام ملعقةٍ معدنية أو اليدين، ويضاف السمن الحار عادة إلى الكسكس أو «بْرْكُوكَشْ».[18]

– الزيتون الأخضر: يُختار أفضلهُ بعد القطف، ويهشم بضربة حجرٍ واحدة، ثم يوضع في خابيةٍ طينية داخل «بِيتْ لْخْزينْ».

– الزيتون الأحمر: كذلك يُنتقى من بين أفضل الحبات، ثم يشقق بسكين ويوضع بدوره في خابية طينية مليئة بالماء في «بِيتْ لْخْزينْ».

– الزيتون الأسود: يخلط بالملح ويعبأ في الأكياس النباتية المشار إليها سابقا (الخِيش)، بعدها توضع فوق بعضها البعض، وعليها ثقل حجر يساعد على تضغيط الزيتون الأسود ليخرج منه ماؤه، ثم بعد ذلك يفرش أرضا ليتعرض لأشعة الشمس قصد تجفيفه، وتكرر هذه العملية عدة مرات حسب الحاجة، وتنتهي برش زيت الزيتون عليه ثم تخزينه داخل خابيات طينية.

4-1- التخزين في أكياس نباتية (كيس الخيش تحديدا)

– التين المجفف: يفرش حَصيرٌ أسفل شجرة التين؛ لتتساقط عليه ثمار التين المُلْتوية «الكَرْمُوسْ اللاَّوْيَا» التي جفت في الشجرة، ثم توضع تحت أشعة الشمس لتجف جيدا، وبعدها تخزن في الأكياس النباتية المسماة بــ: (الخيش).

– الفول والذرة: يضاف إلى ما سبق حبات الفول والذرة اليابسين، وهما أيضا من البذور الموجهة للتخزين بغرض زرعهما لاحقا، وبالنسبة للفول يصنع منه أيضا (البِصارةُ).[19]

5-1- التخزين في أواني زجاجية وبتقنيات مختلفة

يتم تخزين عدة أغذية، وبعدة أشكال في أواني زجاجية رغم قلتها في الماضي، لكن مع مرور الوقت أصبحت أكثر شيوعا، وهي إما:

– معصورة: كزيت الزيتون: اعتمد الوجديون على إمكانياتهم الذاتية في عصر الزيتون، فبعد انتقاء أجوده من الأخضر والأحمر والأسود، والذي يوجه للتخزين بالطرائق التي سلف ذكرها، يبقى منه الأقل جودة نوعا ما، وغالبا ما يكون نصفهُ، وبذلك يخصص لعملية العصر المكونة من مرحلتين كبيرتين، الأولى هي تهشيم حبات الزيتون واحدة بواحدة بضربة حجر ورميها في حفرة صغيرة مصقولة، ثم في المرحلة الثانية يسكب عليه الماء المغلي لتقوم سيدة ثقيلة الوزن، وكبيرة الرجلين برفس ذلك الزيتون، علما أنها نظفت جيدا رجليها بالماء الساخن جدا والحجر،[20] وشيئا فشيئا يتصاعد الزيت إلى الأعلى ليتم تجميعه في أواني زجاجية إن توفرت، شريطة تغطيتها بثوبٍ كحماية من الضوء ولو كان قليلا. ولاحقا وبعد ظهور المعاصر، تلاشت طريقة العصر هذه بالتدريج حتى انقرضت.

– مخللة كالفلفل الحار الأخضر صغير الحجم: يوضع الفلفل الحار الأخضر صغير الحجم بعد التنظيف والتنشيف في قارورة زجاجية، نصفها ماء، ونصفها خل، ويرص داخلها جيدا، ثم تغلق القارورة، ليصبح مخللا بعد مرور مدة معينة.

– مضغوطة كالفلفل الأخضر: عندما يشارف موسم الفلفل الأخضر على الانتهاء، يجمع منه قدر معين، ويشوى على النار الموقدة بالفحم، ثم ينظف ويترك ليجف، بعد ذلك يدهن بالزيت العادية [زيت الصوجا]، ويكدس في علب زجاجية، بحيث لا يترك مكان لتسرب الهواء، وعند الرغبة في استهلاكه مقليا يبقى في زيته التي خزن بها، وإن رغب في استهلاكه بشكل آخر يغسل من تلك الزيت.

– مهروسة كالفلفل الأحمر صغير الحجم «النْيُورة»: هو فلفل أحمر صغير الحجم حلو المذاق، يسميه الوجديون بـ «أَنْيُورَه»، يُقَطَّعُ ويجفف تحت أشعة الشمس، ثم يهرس بــ :«المَهْرَازْ»[21] مع قليل من زيت الزيتون، تفاديا لتطايره، ثم يخزن في قارورات زجاجية، وقد سبق الإشارة إليه في تقنية التخزين بالتعليق.

– مطبوخة كالطماطم: تقطع إلى قسمين أو أربع حسب حجمها، ثم تغلى جيدا في قدر كبير، وبعدها تُصَفَّى وتُطْحَنُ فيما يشبه الرحى اليدوية التي تعزل القشور والبذور عما تبقى من الطماطم، وبعدها ترجع للقدر قصد غليها مرة أخرى مع قليل من الملح وزيت الزيتون حتى يميل لونها للسواد؛ وبهذا تتوقف عملية الغلي، وتترك لتبرد ليلة كاملة لتخزن في قارورات ضيقة الفتحة؛ كالتي يباع فيها ماء الزهر أو الصودا…. وحتى يُحْكَمَ إغلاقها تستعمل السدادة الفلينية، مع وضع قليل من الزيت في الأعلى لإحكام عزلها عن الهواء الخارجي.

6-1- التخزين فوق الأرض (القرع الأحمر)

نقصد هنا بالضبط نبتة القرع الحمراء والتي تُجنى شريطة تركها تَحْمَرُّ جيدا حتى جذورها وهي في الحقل، وهذا سر صمودها طويلا بعد القطف، بعد ذلك تُخزن ببساطة فوق الأرضية الترابية في «بِيتْ لْخْزينْ»، وكلما احتاج أصحاب المنزل شيئا منها قطعوا جزءا دون أن تتعرض للتعفن، كما أن بذورها أو «زْرِّيعَتَهَا» تستخرج وترش بالسكر، وتقلب في الرماد، بعدها تُجَفَّفُ قصد زرعها لاحقا، ويكون منتوجها لذيذاً حلوَ المذاق.

7-1- التخزين في المطامير (الحبوب: القمح والشعير)

المطامير هي مكان تخزينٍ خارج «بِيتْ لْخْزينْ»، وتكون قريبة منه، وفي مكان من وسط الدار، هي حفر تتراوح بين 4 و10 أمتار عمقا، وبعرض متر واحد أو أكثر حسب عمق الحفرة، تُصْقَلُ جنبات الحفرة، ويوضع فيها القمح أو الشعير (الزرع)، يمكن أن تصمد لعدة سنوات علما أنها في مأمن من سيلان وجريان المياه، أو أي شيء يضر بما تحتويه. وزيادة على ما سبق هناك ميزة علاجية لحبوب الشعير المخزنة في المطامير شريطة أن تكون حائلة «الحايلة» أي قضت مدة طويلة في المطمورة، فهي توصف لمرضى ضيق التنفس إما بأكل خبزه، إذ يقال لكل من أصيب بذلك المرض: ”كُولْ خُبْزْ الزْرَعْ“؛ أيكل خبز الشعير”، أو بطبخه في الماء مع عيدان من «عَرْقْ أَسُّوسْ»[22]، وبعد تصفيته، يوضع في قارورة زجاجية ويشرب كل صباحٍ.

2- نماذج من حكمة التوفير في طرائق الاستهلاك وما بعدها وارتباطها بحكم أخرى

رغم توفر الغذاء بشكل فائض في مواسم فلاحية جيدة ومتتابعة، هذا لا يعني بتاتا التوقف ولو مرة واحدة عن فعل التخزين، أو معناه ضوءا أخضرا لشيء من التبذير أو الترف؛ لذلك تجد الأم الوجدية حريصة على طبخ ما تحتاجه أسرتها بأقصى دقة ممكنة. كما تحرص أيضا على تدبير الفائض – إن وجد – والبقايا بشتى الأساليب الممكنة. باختصار يرفعن شعار: “لا شيء يرمى، لا شيء يضيع”.

1-2- نموذج إعداد الخبز واستهلاكه وتدبير بقاياه

لنأخذ نموذج إعداد الخبز من طرف الأمهات اللاتي اكتسبن نوعا من مهارة التقدير[23]، التي تبدأ بقياس كمية الدقيق الذي يحول لعدد محدد من الخبز باستخدام آنية تسمى (الطَّاسَةُ)، ولها واحدة إضافية مخصصة لأنواع أخرى من الطعام، وتبقى دائما في كيس الدقيق، وعندما تلاحظ الأم في آخر اليوم بقاء خبزة أو أكثر لم تستهلك، تقوم في اليوم الموالي بإنقاص (طاسةٍ) من الدقيق أو أكثر؛ حتى تزيد فُرصَ استهلاك الخبز المتبقي «الخُبْزْ البَايِتْ». وفي هذا السياق يشار إلى أن العائلات الوجدية لا تستهلك في الغالب الخبز في وجبة العشاء، مكتفية بأنواع الحساء المختلفة؛ كـ(الحريرة) و«التْشِيشَة»[24] وغيرها.

بالرجوع إلى موضوع تدبير الخبز، تعجن الأم كل يوم خليطا من دقيق القمح الطري ودقيق القمح الصلب ودقيق الشعير، باستثناء يوم الخميس الذي يُعجن خبز الدقيق الطري فقط، والسر في ذلك أن الأفران التقليدية لا تشتغل يوم الجمعة، وخبز القمح الطري أو «الفَرِينَة»[25] كما يسمى، يصمد ليوم السبت عكس الخليط المعتاد.

كما تقوم بعض السيدات وتحديدا الفقيرات بتوفير كوب واحد من الدقيق من الحصة التي تعجن كل يوم، وبعد مرور نصف شهر يجتمع لديهن كم يومين أو ثلاث، كنوع من الاحتياط في حالة عدم قدرة أزواجهن على توفير الدقيق لبضعة أيام.

عندما يبيت الخبز، يصبح أكثر تَيَبُّساً، ولتجاوز ذلك يتم تسخينه ويُأكل مع زيت الزيتون أو يُقلى مع البيض، وهي تقنية تعلمها الوجديون من الفرنسيين الذين استقروا في مدينة وجدة، وإن لم تنجح هذه التدابير في استهلاكه، يوضع تحت أشعة الشمس ليصبح يابسا أكثر، ثم يعطى للبهائم كالمواشي بعد تكسيره لقطع تستوعبها أفواههم أو يسحق تماما ويخلط مع النخالة والماء الساخن؛ ليقدم للدجاج الذي بمجرد تناوله تُسَرَّعُ عملية تبييضه؛ وبالتالي حُوِّلَ الخبز بشكل عجيب من مادة نشوية إلى أخرى بروتينية!

2-2 – نماذج أخرى

رغم أن المطامير مليئة بقدر معتبر من الحبوب، إلا أن رب الأسرة يفتح ثغرة صغيرة جدا فيها، ويسحب بحذر كبيرٍ قدرَ ما يحتاجه لذلك اليوم؛ ليطحن في الرحى اليدوية في حينها دون أي نوع من التبذير.

تحرص الأمهات بشكل حازم على أن يُتِمَّ الأبناء حصتهم الغذائية، وألا يبقى شيءٌ في الطبق، وبملاحظاتها الدقيقة تكتسب خبرة تجعلها تطبخ ما يكفي دون أي زيادة أو نقصان. إنها خبرة متراكمة وتتبلور باستمرار، وتشمل جميع شؤون الأسرة فيما يتعلق بمواردها، سواء كانت غذائية أو غيرها؛ كالألبسة مثلا. وبشكل آلي ومنظم وتدريجي تمرر الأم هذه الخبرات إلى بناتها منذ الصغر، كما حدث معها سلفا، وهكذا دواليك، فلا غرابة عند سماع نداء يسأل الأم عن المقدار الواجب إعداده من طعام، أو تقديم الأم توجيهات معينة ودقيقة وبنبرة فيها جدية واضحة[26] إلى بِنْتِهَا، أو بناتها، من قبيل توزيع المهام وضبط المقادير في حالة انشغالها بأمور أخرى، أو عدم تواجدها في البيت.

3- ارتباط حكمة التوفير بحكم أخرى من التخزين إلى ما بعد الاستهلاك (نماذج)

– حكمة الاستمرارية: تتجلى في عدة نقاط أولها استمرار وجود طعام رغم انتهاء موسمه مع عدم تعارضه مع شرط الصحية، عكس ما يحدث الآن بإنتاج مواد زراعية في غير موسمها الطبيعي، وثانيها تخزين البذور المنتجة للطعام لضمان زرع محصول جديد الموسم المقبل، إنها استمرارية على شكل دائري.

– حكمة التكامل: تتكامل منظومة المطبخ الوجدي التقليدي بشكل متراص فعلا، فالتخزين في حد ذاته متكامل يغطي احتياجات البشر والحيوانات الأليفة في تناغم تام مع الإيقاع الزمني لليوم الواحد، وصولا إلى فصول السنة، ثم يتكامل مع المتطلبات التي يحتاجها أهل البيت وتدخل بعدها حتى البقايا في هذا التكامل لتعود إلى طاولة الأكل بشكل ما، أو لتتحول إلى غذاء للمواشي التي سينتهي بها المطاف في الموائد أيضا أو توجه للأرض على شكل سماد طبيعي، بدوره سيصبح جزءا من نباتات تنتهي هي كذلك في موائد الأكل.

– حكمة التماهي: إذا ما نظرنا بشكل شمولي، لجميع عمليات التخزين وطرائق الاستهلاك وما بعدها، وكذلك لحكمة التوفير، سنلحظ التماهي الواضح بين نمط المطبخ الوجدي التقليدي، ونمط عيش الكثير من الكائنات الأخرى؛ كالنمل مثلا، إنه تماهي مدهش، يجعل الإنسان يعيش في انسجام تام مع بيئته الطبيعية، كجزء لا يتجزأ منها.

– حكمة الصحية: يسهل الخروج بهذا الاستنتاج عندما نجد كل ما له علاقة بالمطبخ التقليدي الوجدي من أدوات ومكونات وتقنيات لا يضر بالصحة، بل ويزيد من مناعتها، فمواد الطبخ والتخزين من الطين والخشب والزجاج… والمواد المخزنة والمستهلكة خالية من أي مواد كيميائية مضافة، وفيها توازن غذائي دقيق للغاية. يضاف إلى ذلك فعل تخزين مواد علاجية كاللويزة والشعير الحائل.

– حكمة الجمالية: رغم بساطة كل ما يتعلق بالمطبخ التقليدي الوجدي، لكن هذه البساطة بالذات هي سر جماله، جمالٌ يتجلى في تفاصيل دقيقة، ظاهرة وخفية، بالنسبة للظاهرة منها نأخذ مثال طريقة تعليق الثوم والرمان، وكيفية رص المواد المخزنة في «بيت الخزين»، مع وجود روائح زكية تزيد من جمالية المكان رغم تواضعه. أما بالنسبة للخفية، وهي بالأساس عبارة عن مشاعر يصعب وصفها؛ مثل تلك السعادة التي تشع وتملأ المكان عندما تتجمع العائلة لقطف ثمارٍ أو تخزينها، أو استهلاكها أو طبخ وصفة خاصة بمناسبة معينة…

خاتمة

في ختام هذه المقالة، يتضح استنتاج كبير مفاده أن المطبخ التقليدي الوجدي كنز تراثي حقيقي، يختزن في كل ركن من أركانه حكما وإن بدت بسيطة، لكنها في الحقيقة غاية في الأهمية؛ لأنها تمس صحتنا الفيزيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، والمحزن في هذا كله، أن هذا التراث أصبح في حكم شبه المنقرض، لكن في المقابل لازال هناك بصيص أمل يتجلى في ظهور بعض المحاولات لإحياء هذا النمط من التغذية والطبخ، بداية من إنتاج الغذاء إلى تخزينه واستهلاكه وتوفيره وإعادة استهلاكه، أو تدويره ليعود مرة أخرى وفي أشكالٍ جديدة. هذه المحاولات التي تزاوج بين إحياء هذا التراث، وبين تحديثه في نفس الآن، دون المس بجوهره، مع الاستفادة منه في التنمية الاقتصادية، وخصوصا الشق السياحي، والصناعة التقليدية، والزراعة الإيكولوجية…

كل ما ذكر أعلاه في هذه الخاتمة، ينطبق على عموم المطبخ المغربي التقليدي، بل هناك المزيد والمزيد من الأسرار التي تضيفها كل منطقة من مناطق المغرب، وربما كل بيت من بيوته.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. المطبخ الوجدي نسبة إلى مدينة وجدة، وهي مدينة تقع في الشمال الشرقي للمغرب وهي من المدن العريقة في المغرب، وحاليا تعد عاصمة الجهة الشرقية وتتميز بقربها من الحدود الجزائرية، وليست ببعيدة عن البحر الأبيض المتوسط، وتحيط بها قبائل متنوعة ومختلطة الأصول؛ مما أكسبها طابعا خاصا يميزها عن باقي مدن المغرب. ↑
  2. “التصدي للفاقد من الأغذية والهدر الغذائي في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا” عن موقع منظمة الغذاء والزراعة FAO تمت زيارة الموقع بتاريخ 25/09/2022، http://www.fao.org/neareast/perspectives/food-waste/ar/
  3. راجع مفهومي فقد الأغذية والطعام المهدر حسب تعريف منظمة الفاو FAO على رابط موقعها الرسمي: الاطلاع بتاريخ 25/09/2022: http://www.fao.org/platform-food-loss-waste/ar/ ↑
  4. International Centre for Advanced Mediterranean Agronomic Studies (CIHEAM) and Food and Agriculture Organization of the UN (FAO), Mediterra 2016. Zero Waste in the Mediterranean. Natural Resources, Food and Knowledge, Paris: Presses de Sciences Po, 2016,PP 220-221. ↑
  5. Ibid., 306. ↑
  6. أغلب المعطيات التي اعتمدت عليها هي عبارة عن مقابلات شفوية مع وجديين خصوصا من “أهل الجامل” “وأولاد عمران” وهما من الأسر الخمس المكونة لسكان مدينة وجدة القديمة، ولكن أخص بالذكر والشكر السيدة “فاطمة بوكايس” (68 سنة) على مجهودها الاستثنائي في مدنا بما احتجنا إليه من معطيات. ↑
  7. كل الكلمات التي وضعتها بين هلالين ( ـــــــ ) هي التي تتطابق كتابتها باللغة العربية الفصيحة والدارجة الوجدية لكن مع اختلاف النطق. ↑
  8. كل الكلمات التي وضعتها بين مزدوجتين « ـــــــ » هي التي تقابل النطق بالدارجة الوجدية. ↑
  9. يتقاسم الوجديون الذين يقطنون وسط بساتينهم الفلاحية نمطا واحدا في تشييد مساكنهم، وهو ضرورة تواجد (وسط دار) أول وثاني، وكلاهما يتميز بمساحته المتوسطة أو الكبيرة وغير مسقوف، أما الأول فيوجد مباشرة بعد دخول المنزل وتحيط به حجر المعيشة، وأما الثاني يولج له عبر فضاء وسط الدار الأول بباب وفيه نجد حجرا أخرى أهمها «بيت الخزين» الرئيسة و«بيت الخزين» الخاصة بالبهائم وأيضا ممر يؤدي للبستان وحضيرة المواشي. (معلومات مستقاة مما قدمه المستجوبون ميدانيا) ↑
  10. «لْمَرْكَزْ»: عبارة عن جدران مصنوعة من مزيج الطين الأحمر الآجوري والتبن، يُرْكَزُ هذا الخليط داخل قوالب تتماشى مع شكل الجدار ومن هنا جاء اسمه. (تعريف مستقى من ملاحظات شخصية) ↑
  11. يراعى في وضع النوافذ عامل التعريض، فهناك دائمة جهة شميسة وأخرى ظليلة هذه الأخيرة تصلها أشعة الشمس لفترة قصيرة جدا من النهار، بل وتكاد تغيب عنها خلال النهار كله خاصة في فصل الشتاء. وبحكم خبرة الفلاحين فهم يحددون ذلك بسهولة كبيرة. ↑
  12. يدعى أيضا بالهرطمان (القرطمان) أو الخافور أو القصيبة، راجع: صوفي لاكوست، الأعشاب التي تشفي، ترجمة. ألفيرا نصور، بيروت: دار الفراشة، 2013، ص 205. وهو المعروف حاليا على نطاق واسع بالشوفان. ↑
  13. يستهلك الرمان المخزن أول مرة بعد تخزينه في مناسبة «أنَّايِرْ» (تعريف مستقى مما قدمه المستجوبون ميدانيا). ↑
  14. . نوع من البصل الذي يتخذ شكله شكل شرائط طويلة تنتهي برأس صغيرة. ↑
  15. . هي شتلة صغيرة تنمو بعد زرع البذرة، يتم نقل الشتلة الصغيرة إلى أحواض زراعية بشكل متناظر؛ ولذلك سميت “بالنُقْلَةِ”. ↑
  16. الشَّكْوَة: تصنع من جلد الماعز في الغالب وهي مناسبة جدا لعملية رج الحليب لاستخراج الزبدة واللبن وذلك لسهولة تمططها. (تعريف مستقى مما قدمه المستجوبون ميدانيا). ↑
  17. الخِيشْ: “ثياب رقاق النسج غلاظ الخيوط تتخذ من مشاقة الكتان ومن أردئه، وربما اتخذت من العصب، والجمع أخياش، قال: وأبصرت ليلى بين بردي مراجل، وأخياش عصب من مهلهلة اليمن وفيه خيوشة أي رقة. وخاش ما في الوعاء: أخرجه.” ورد في: أبي الفضل جمال الدين محمد ابن مكرم ابن منظور، لسان العرب المجلد السادس س- ش، بيروت: دار صادر، 2003، ص301. كما يعرف هذا النوع من الثوب في أرجاء مختلفة من العالم، إذ يطلق عليه بالإنجليزيةCanvas وورد تعريف له في موقع المعجم الأكسفوردي كالتالي: قطعة قماش قوية غير مقصورة مصنوعة من القنب أو الكتان أو القطن أو خيوط مماثلة، تستخدم لصنع أغراض مثل الأشرعة والخيام وسطح للرسم الزيتي.(ترجمته) اطلع عليه بتاريخ: 30/09/2022، الرابط:
  18. https://en.oxforddictionaries.com/definition/us/canvas ↑
  19. . «بْرْكُوكَشْ»: يصنع عن طريق دعك دقيق القمح مخلوطا بقطرات من الماء، ليصبح على شكل كريات كبيرة مقارنة مع الكسكس العادي، ثم يبخّر ويمزج مع المرق والتوابل والقطاني، ترتبط هذه الأكلة بعدد من المناسبات كزيادة مولود أو عيد المولد النبوي… ↑
  20. البِصَارَةُ: تصنع من الفول أو البازلاء، تطبخ مع الماء والملح والتوابل والكزبرة، يضاف إليها زيت الزيتون والحار عند التقديم، وهي أكلة شتوية لأنها تساعد على تدفئة الأبدان. (تعريف مستقى مما قدمه المستجوبون ميدانيا). ↑
  21. الحَجَرْ: أو الحجرة إنها صخرة كروية لكن مسطحة تشبه حجر التيمم، حجمها يناسب قبضة كف اليد وهي بين الملساء والخشنة يتم اختيارها من بين صخور الواد وتستعمل لحك الجلد أثناء الاستحمام وتحديدا لمناطق الرجلين والركبة والكوعين واليدين. (تعريف مستقى مما قدمه المستجوبون ميدانيا). ↑
  22. . «المَهْرَازْ»: وعاءٌ مجوَّفٌ من الحديد أو النحاس أو غيرهما، يُدقّ فيه الطَّعام والتَّوابل أو الدَّواء. ↑
  23. . «عَرْقْ أَسُّوسْ»: عرق السوس: كلمة من أصل يوناني معناها “الجذر الحلو”، هو نبات عشبي أزهاره أرجوانية، ينمو في مناطق عديدة منها شمال إفريقيا، يحصد في فصل الخريف بعد سنتين إلى 3 سنوات من زراعته، ذو نكهة حلوة ومميزة، نظرا لاحتوائه على السكر، وله فوائد عديدة بسبب توفره على المعادن والفيتامينات. ↑
  24. . التقدير: معناها هنا قاسَ الشيء، وجعله على مِقدار. ↑
  25. . «التْشِيشَة»: شربة الشعير. ↑
  26. . «الفَرِينَة»: مشتقة من الكلمة الفرنسية La farine وهي مسحوق الحبوب.   ↑
  27. قام عالم اللسانيات والأنثروبولوجيا الشهير إدوارد سابير Edward Sapir بتصنيف هذه النقطة بالذات في المستوى الثاني للكلام ضمن خمس مستويات، وهذا المستوى الثاني هو الديناميكية الصوتية التي تنقسم بدورها إلى الرنة الصوتية، الإيقاع، الانسياب، السرعة. وكلها ذات طابع فردي واجتماعي تختزن حمولة تواصلية كبيرة أهم من مضمون الكلمات المنطوقة نفسها.
  28. Edward Sapir, Anthropologie Tome 1: culture et personnalité, trad. Christian Baudelot et Pierre Clinquart , 1921; l’Université du Québec à Chicoutimi, 2001, P26-28. ↑
Scroll to Top