منطلقات التأسيس الإبستمولوجي
لعلم الاجتماع ومقتضياته المنهجية والتحليلية
باحث في الفكر والحضارة
جامعة محمد الأول بوجدة
المغرب
ملخص
من المعلوم أن لكل علم أصوله التاريخية ومنابعه التي يستقي منها كافة المباحث والقضايا التي يتناولها بالبحث والدرس والتحليل، وإن علم الاجتماع هو أحد أبرز العلوم الإنسانية التي عرفت مخاضا طويلا لتنبثق منه مناهج وتصورات تعمل على توجيه الظواهر المجتمعية، وتصبح إحدى الآليات التي يلجأ إليها الباحثون أثناء تعرضهم لمختلف ما يعتري داخل المجتمع، وذلك من أجل التحكم واستيعاب المادة المدروسة، وإيجاد كافة المقتضيات التي تعمل على رسم صور متعددة وواقعية لتلك الظواهر، وعليه يصبح النظر إلى علم الاجتماع واستيعاب منشأه وتطوره ومناهج بحثه إلى حين رسوخه ضروريا باعتبار فوائده المتعددة.
ومنه فإن البحث سيتناول نشأة علم الاجتماع ومنطلقاته الإبستمولوجية، والنظر إلى بعض مناهجه، من أجل الكشف عن أبرز ما تقتضيه عملية التحليل الاجتماعي، منطلقا في ذلك إلى الإشكال العام المتمثل في ماهية الخلفية الفلسفية لعلم الاجتماع متوسلا في ذلك بالمنهج الوصفي والتاريخي لرصد المحطات التاريخية لتأسيس علم الاجتماع، وكذا المنهج التحليلي والاستنباطي لاكتشاف المناهج البحثية لعلم الاجتماع.
كلمات مفتاحية: التأسيس الإبستمولوجي – علم الاجتماع – مناهج البحث التحليلية.
It is known that every science has its historical roots and springs from which all research areas and issues are drawn which are tackled with research, study and analysis. Sociology is one of the most prominent human sciences that has known a long labor from which a set of methods and and perceptions are emerged guiding societal issues. Such methods and perceptions become one of the mechanisms that researchers appeal to while exploring what is going on in society. This occurs for many purposes such as controlling and grasping of the thoughtful material and finding all the requirements that work on drawing realistic and numerous images for such phenomena. Hence, there comes the looking at sociology, grasping its foundation, its development, and its research methods until it is necessarily enhanced taking into account its several benefits. Therefore, this research tackles the foundation of sociology and its Epistemological premises and considering some of its methods for discovering what social analysis requires moving throughout to the general problematic. The latter is represented through the entity of philosophical background of sociology depending on historical and descriptive methodology for allocating the historical milestones of sociology in addition to deductive and analytical methodology for discovering the research methods of sociology
Keywords: Epistemological Foundation – Sociology – Analytical Research Methods.
مقدمة
أضحى علم الاجتماع من التوجهات الأكاديمية الجديدة بالنسبة لعلوم الاجتماعيات الأخرى التي تأسست وفق مسار إبستيمولوجي طويل، وتطور في أوائل القرن التاسع عشر، ويعتبر من العلوم الشاملة ذو وجهين أساسيين الذي يرتكز من الوجه الأول على الناحية المعرفية، حيث يسعى علماء الاجتماع إلى بناء معرفة علمية تساعد في فهم وتفسير المجتمع وأجزائه، وإمكانية التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه، ثم الاستخدامات التطبيقية لهذه المعرفة.
وأما الوجه الثاني فيشمل كل ما هو اجتماعي وإنساني؛ من مجتمع وجماعات ونظم وتنظيمات وعلاقات، ولما كان الوجه المعرفي المرتبط في بنائه على تحديد حقيقة الواقع الاجتماعي، فإن هذا يؤدي إلى أهمية المسألة المنهجية.
وهذه الأبعاد الثلاثة من معرفة علمية وواقع اجتماعي ومسائل تشكل المحاور الأساسية لهذا العلم؛ فكثيرة هي المشكلات والقضايا المطروحة قيد البحث في علم الاجتماع، وقد تطرح تساؤلات عديدة تتصل بالمنهج العلمي وتطبيقاته في ميدان هذا العلم، وقد أدت هذه الكثرة وذلك التعدد إلى تباين واختلاف وجهات النظر التي تعالج مسائل المنهج.
وتعتبر مناهج البحث العلمي بمثابة استراتيجيات ووسائل فنية يتبناها المنشغلون بعلم الاجتماع، ومن ثم فإن دراسة المجال الاجتماعي تتطلب إستراتيجية منهجية تناسب تميز الأحداث الاجتماعية، وعلى هذا الأساس يحاول هذا البحث معالجة الإشكالات العامة له حول كيفية نشأة هذا العلم، ومعرفة موضوعاته وأغراضه، والمناهج التي يشتغل بها علماء الاجتماع، وعلاقته ببعض العلوم الأخرى التي تفرض نفسها على كل دارس لمناهج البحث في علم الاجتماع.
وعليه فقد تم تقسيم هذا البحث إلى مقدمة، ومبحثين، وتحت كل مبحث عدة مطالب، ثم خاتمة استخلصنا فيها أهم ما جاء في هذا البحث، متوسلا في ذلك بمنهج الوصف والتحليل.
المبحث الأول: منطلقات التأسيس الإبستمولوجي لعلم الاجتماع
المطلب الأول: الظروف الممهدة لنشأة علم الاجتماع
إن التفكير الاجتماعي قديم قدم الإنسان، فمنذ عصر أفلاطون كانت تغلب على طابع الفلسفة الاجتماعية دراسة مظاهر الاضطرابات في المجتمع ومحاولة البحث عن علاج لها، واستطاع أفلاطون من خلال كتابه الجمهورية أن يعرض منهجا حقيقيا للفلسفة الاجتماعية، ولكنه كان يرسم تخطيطا اجتماعيا للمدينة على ما يجب عليه أن تكون لا على ما هي عليه[1]، وكذلك في العصور الوسطى؛ فقد أدى الأخذ بالمسيحية إلى نبذ فكرة تسلسل الآلهة مما أدى إلى تبرير نظام الطبقات في الحياة الاجتماعية، فأصبح المفهوم الجديد للعالم يتميز بروح المساواة، الأمر الذي يتناقض منطقيا مع نظام الطبقات التي جرت عليه المجتمعات القديمة، فأصبح القانون وعلم الأخلاق شائعين بين الناس على حد سواء، فأصبحت واجبات الفرد الأخلاقية والدينية تفوق واجباته السياسية[2]، كما أنه من الصعب أن نجد في مؤلفات القرون الوسطى صورة واضحة عن علم الاجتماع، أو التحدث عن طريقة منظمة عن تشكيلات المجتمعات في تلك العصور حيث ساد فيها اتجاهين هامين: اتجاه يميل إلى ما دعا إليه القديس أوغسطين، وهو التفريق بين العالم الزمني والعالم الروحي، بالإضافة إلى التشاؤم الذي انتشر بسبب مفهوم الخطيئة الأصلية وعقاب النار في الآخرة، واتجاه آخر يتأرجح بين الظروف وبين ما دعا إليه أوغسطين وبين الالتزامات الأرستقراطية الذي يفرضه النظام الإقطاعي، بالإضافة إلى انتشار النزعة الوجدانية، لهذا كانت معظم الأبنية التي تقام في تلك العصور مقتصرة على الأديرة وكهوف التعبد[3]، إلا أن التطورات التي عرفتها أوربا منذ بداية القرن الرابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، ساهمت بشكل كبير في بروز بوادر هذا العلم، فقد عرفت العديد من التغييرات التي أنتجتها ثورة الحداثة التي تضمنت الثورة الدينية المتمثلة في الإصلاح الديني الذي عرفته منذ القرن الرابع عشر والذي كان بمثابة انقلاب جذري في طريقة التفكير والتعامل مع الواقع المعاش في تلك الفترة فشكل منعطفا أيديولجيا، فظهرت مبادئ جديدة غيرت مسار حياة الإنسان الأوروبي خاصة والعالم عامة، فعرف الإنسان نضجا فكريا كبيرا غير به طريقة تعامله مع القضايا التي تحيط به سواء على المستوى الديني أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ككل واكتمل هذا النضج مع الثورة الفرنسية التي حملت معها شعارات جديدة كالمطالبة بالمساواة والحرية والإخاء، فاستطاعت أن تعيد للإنسان كرامته، وتحدد علاقات الناس فيما بينهم، وعلاقة العمال مع أرباب العمل، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، فظهرت ما يسمى بالقومية، استطاع معها المجتمع الأوروبي الانتقال من مجتمع فلاحي إقطاعي إلى مجتمع رأسمالي.
فاتخذت في هذا العصر جميع الأبحاث من المشكلات الاجتماعية طابع التفاؤل، والذي لم تعرفه قط مجتمعات القرون الوسطى، فقد تميز بالاعتقاد في التقدم خصوصا في بداية القرن السابع عشر، وأصبح الإنسان الأوروبي يحس أنه أرقى وأعلى عمن سبقه من أجيال[4]، وبالتالي يمكننا القول أن هذه الظروف كانت ممهدة لنشأة علم الاجتماع باعتبار أن كل علم يكون نتيجة تراكمات.
المطلب الثاني: نشأة علم الاجتماع في العصر الحديث
رغم أن التفكير الاجتماعي ظهر منذ زمن بعيد إلا أنه توقف بوفاة القديس أوغسطين حوالي عشرة قرون ولم يبعث من جديد إلا على يد العلامة عبد الرحمان ابن خلدون، فلا أحد فطن من قبله إلى أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين ثابتة مطردة كالقوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية والرياضية، وبالتالي لم يعنى أحد من قبله بالكشف عن هذه القوانين، فالباحثون في دراستهم للظواهر الاجتماعية سلكوا طرقا اختلفت اختلافا جوهريا عن الطرق التي اعتمدها علماء الطبيعة والرياضة، حيث اعتمدوا على إحدى ثلاث طرائق، إحداها: الطريقة التاريخية الخالصة حيث يكتفي أصحابها بوصف هذه الظواهر وبيان ما هي عليه، دون الوقوف على القوانين التي تحكمها. وهي طريقة جميع المؤرخين قبل ابن خلدون، أو طريقة الدعوة إلى المبادئ التي تقررها الظواهر الاجتماعية ومعتقدات الأمة وتقاليدها وعرفها، إذ يقوم الباحثون بإظهار محاسنها وترغيب الناس فيها، ويحثهم على التمسك بها، وتحذيرهم من تخطي حدودها وهي طريقة سلكها علماء الدين والخطابة والأخلاق. أو الطريقة التي يوجه فيها أصحابها كل عنايتهم إلى ما ينبغي أن تكون عليه الظواهر حسب المبادئ المثالية التي يرتضيها كل واحد منهم، كما هو الشأن بالنسبة لأفلاطون في كتابيه الجمهورية والقوانين، وأرسطو في كتابيه الأخلاق والسياسة، والفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة؛ إذ كان هدفهم بيان ما يجب أن يكون عليه المجتمع حتى يعتبر فاضلا[5]، غير أن ابن خلدون توصل توصل من خلال مشاهدته وتأملاته لشئون الاجتماع الإنساني، أن الظواهر الاجتماعية تحكمها قوانين طبيعية كالتي تحكم غيرها من ظواهر الطبيعة، والفلك، والكيمياء، والنبات، وبناء عليه أكد على دراسة هذه الظواهر الاجتماعية كما تدرس باقي العلوم الأخرى، فاستطاع من خلال بحوثه في كتابه المقدمة أن يؤسس لعلم جديد لم يسبقه إليه أحد من قبل والذي سماع علم العمران البشري أو الاجتماع البشري وهو ما يسمى الآن بالسوسيولوجيا la sociologie أو علم الاجتماع[6].
ولم يكن التاريخ بالنسبة لابن خلدون مجرد رواية تدون، بل اتخذه علما يدرس، حيث كتبه بطريقة جديدة من الشرح والتحليل استطاع من خلالها وضع نوع من الفلسفة الاجتماعية[7]، ومن أهم الأسباب التي دفعت ابن خلدون إلى إنشاء هذا العلم الجديد هو رغبته في تصفية البحوث التاريخية من الأخبار الكاذبة، وتوفير أداة يستطيع بها المؤلفون في التاريخ التمييز بين الصادق من الأخبار والكاذب منها والمتعلقة بظواهر المجتمع، ويعطي صورة صادقة عن أحوال المجتمعات فلا يختلط في أذهان الناس الحقائق الصادقة بالأمور الزائفة.[8]
ويرجع ابن خلدون أخطاء المؤرخين إلى أسباب متعددة أهمها:
– تعصب المؤرخ لمذهب معين فيقوده هذا التعصب إلى تحليل الوقائع التاريخية حسب ميوله الشخصية.
– أكثرهم لا يحكمون العقل والمنطق في تسجيلهم للأخبار.
– عدم قياس الغائب على الشاهد، بمعنى أن ما قد يحدث في الماضي أو في مجتمع معين من الحوادث الإنسانية قد يحدث في الحاضر أو في مجتمع ثاني، بناء عليه يستوجب على الباحثين في التاريخ أن يقيسوا الأحداث التي يسمعونها على الأحداث التي يشاهدونها، وبالتالي يتجنبون الوقوع في نفس الأخطاء.
– الجهل بالقوانين والنواميس الطبيعية التي يسير بها الكون.
– الجهل بالقوانين والمبادئ الاجتماعية التي تسير عليها العلاقات الإنسانية، فهذه الأخيرة تسير وفق قواعد محددة واضحة وليست بطريقة عشوائية.[9]
وبالتالي فإنه يمكن اعتبار المنتج التأسيسي لابن خلدون في مقدمته، وفي سائر كتبه، لـ«يمكن الجزم بأن ابن خلدون أول عالم يقرر في صراحة ووضوح نشأة هذا العلم الجديد، وأنه المنشئ الأول لعلم الاجتماع لأنه من استكمل الخصائص المنطقية التي يجب توافرها في كل علم من حيث الموضوع والمنهج والأغراض التي يرمي إليها، فالفضل في إنشاء علم الاجتماع يرجع إليه لا كما يدعي الايطاليون الذين ينسبون فضل ذلك إلى فيكو 1668-1744 ولا كما يدعي الفرنسيون بأن فضل ذلك يعود إلى أوجست كونت 1798- 1857، وإنما الفضل يعود إلى هذا المفكر العربي المسلم الذي ظهر قبل هؤلاء جميعا بعدة قرون… وهذا وإن كان عالمنا لم يوفق في جميع نظرياته وقوانيه التي كشفت عنها دراسته فإنه يكفيه فخرا أنه أرس قواعد علم الاجتماع على دعائم قوية[10]»، إلا أن جهود ابن خلدون لم يكتب لها الاستمرار والاتصال بسبب سقوط الحضارة العربية والإسلامية، هذا بالإضافة إلى عوائق اللغة والثقافة التي وقفت حاجزا أمام تعرف المفكرين الغربيين على إنجازات ابن خلدون وأعماله، لهذا تجد أن نشأة علم الاجتماع في الغرب كانت مستقلة عن الشرق.
وقد عرف علم الاجتماع بعد ابن خلدون نوعا من التعثر إذ فقد استقلاليته وغلبت عليه الصبغة الفلسفية في أغلب الأحيان، ولم يسترجع هذا العلم منهجه العلمي إلا بعد أربعة قرون على يد المفكر الفرنسي أوجست كونت في القرن التاسع عشر، فإليه ينسب نشأة علم الاجتماع الحديث، وكانت التطورات والمشكلات الاجتماعية المرتبطة بعمليات النمو الاجتماعي والاقتصادي التي نتج عنها انهيار دعائم النظام الاجتماعي الاقتصادي الأوروبي القديم المتمثل في الإقطاع، وصعود النظام الاجتماعي الاقتصادي الجديد المتمثل في الرأسمالية الصناعية؛ السبب الرئيسي الذي دفع بكونت إلى إنشاء هذا العلم؛ إذ كان على يقين تام أن أسباب الفوضى التي اجتاح المجتمعات الأوروبية سببها الفوضى الفكرية، فالفكر بالنسبة له هو سبب إصلاح أو فساد أي مجتمع، «وعلى إصلاح التفكير يتوقف إصلاح الأخلاق، وعلى إصلاح الأخلاق يتوقف الإصلاح الاجتماعي[11]»، وأنه لا سبيل لعلاج هذا الفساد الفكري إلا بخضوع الظواهر الاجتماعية للدراسة والتفسير بناء على المنهج العلمي كما هو الشأن بالنسبة للظواهر الطبيعية، للوقوف على القوانين التي تحكمها؛ فيتم من خلالها التوصل إلى الخلل الذي تعاني منه المجتمعات فيتحقق الإصلاح المنشود.
لكن هذا العلم عرف أيضا انحرافا كبيرا عن الحدود التي رسمها له أوجست كونت بعد وفاته، فألحقه البعض بعلم الجغرافية كما حصل مع راتزل، والبعض ألحقه بعلم الحياة كهربرت سبنسر، والبعض الآخر أدخله ضمن حدود علم النفس فأدى هذا الاختلاف إلى إفقاد علم الاجتماع استقلاليته،[12] وبناء على ما سبق يتبين لنا أن علم الاجتماع لم تكن له نشأة واحدة كما هو الحال بالنسبة للعلوم الأخرى، بل كانت له نشأتين: نشأة أولى في القرن الرابع عشر على يد مؤسسه العلامة ابن خلدون، ونشأة ثانية على يد الفرنسي أوجست كونت، فإذا كانت النشأة الثانية اتفقت مع النشأة الأولى في الصورة العامة وجوهر الاتجاهات، فإنها اختلفت معها في التفاصيل اختلافا كبيرا[13]، ولكن هذا العلم استطاع أن يسترجع ازدهاره ويتمكن من الانتشار بشكل أوسع على يد العالم إميل دور كايم emile durkhiem وهو أحد تلاميذ كونت؛ عندما تولى الدفاع عنه والتصدي للمعارضين لاستقلاله، فقام بدراسة معظم ظواهر المجتمع ونظمه فتمكن من التوصل إلى قوانين جد مهمة ساهمت بشكل كبير في تطور هذا العلم.
ويعتبر إميل دور كايم زعيم المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع، فإليه يرجع الفضل في إسباغ خصائص العلم الحقيقي على علم الاجتماع؛ فقد حدد بشكل قاطع طرق البحث في هذا العلم، وبذلك حصل علم الاجتماع الدركهيني على العديد من المكتسبات منها:
1- الحقيقة الاجتماعية: وهي القيم والمعايير الثقافية والاجتماعية، وتكون خارج الفرد وفي مواجهة الفرد، فتسمو فوقه. وتعرف الحقيقة الاجتماعية عن طريق القهر، فالفرد يجد نفسه أمام ظواهر اجتماعية مفروضة عليه إما أن يتقبلها بمحض إرادته أو أن يتصدى لها فيواجه العقاب سواء المادي منه أو المعنوي، فيتشكل لديه نوع من القهر الاجتماعي، فعلم الاجتماع ما هو إلا علم الحقائق الاجتماعية التي يتم من خلالها الوقوف على هذه التراكيب الاجتماعية ومعرفة وضعية المجتمع هل هي صحية أم تعاني من خلل ما فيتم معالجته.
2- التمييز بين أحكام القيمة وأحكام الحقيقة: فأحكام الحقيقة هي البديهيات المعروف بين الأفراد كالسماء زرقاء والثلج أبيض، أما أحكام القيمة فتحدد بالتقدير وهي أحكام معيارية تعطي معنى وهدف للحياة الاجتماعية كالقيم الاقتصادية لسلعة ما والقيمة الأخلاقية، كأن فلان خيّر أو أمين.
3- معيار الإكراه: ما كان إلزاما أو إكراها فهو اجتماعي بالضرورة، وقد يكون إيجابيا أو سلبيا، ويحمل أفراد المجتمع هذا الإلزام وهذا الإكراه داخل أنفسهم، فيترجم عن طريق عدم الارتياح والملل وتبكيت الضمير، مثلا عندما يصطدم الفرد بقوانين البلاد أو قواعدها الأخلاقية[14].
4- تقسيم العمل: بمعنى أن التطورات التي تحدث للمجتمعات وتزداد فيها الكثافة الاجتماعية تزداد فيه الحاجة إلى تقسيم واسع للعمل؛ ففي الوقت الذي كان تقسيم العمل في المجتمعات البسيطة يكاد يكون منعدما باعتبار أن الفرد يؤدي عدة مهام في نفس الوقت، ففي المجتمعات الحديثة مهام الأفراد ومسؤولياتهم تقلصت، وبرزت بشكل كبير مسألة التخصصات، فتقلص ميدان قانون العقوبات الذي يوصف بالعقوبة الرادعة ليبرز مكانه القانون المدني الذي يوصف بالعقوبة المصلحة[15].
المطلب الثالث: تفكيك البنية المفاهيمية لعلم الاجتماع
إن مسألة تعريف علم الاجتماع ليست بالأمر السهل فقد تعددت وتباينت تعريفات هذا العلم عند العديد من المتخصصين والمهتمين بهذا العلم، وأول من استعمل كلمة علم الاجتماع sociology هو أوجست كونت، وهذا المصطلح مكون من كلمتين خليطتين من أصل يوناني ولاتيني، فsocio تعني المجتمع، وlogy تعني علم أو بحث باليونانية، وبناء عليه فإن علم الاجتماع عند أوجست كونت هو دراسة المجتمع على مستوى عال من التعميم والتجريد، وقد قسمه إلى شعبتين رئيستين:
الشعبة الأولى: سماها الديناميك الاجتماعي social dynamic، وهي تدرس الاجتماع الإنساني من حيث تطوره وتغييره من حال إلى حال.
الشعبة الثانية: الستاتيك الاجتماعي social static، وهي تهتم بدراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها باعتبارها ثابتة في مرحلة معينة من مراحل التاريخ.
إلا أنه أعطى الأهمية للشعبة الأولى أكثر من الثانية باعتبار أن الستاتيك تعتمد كثيرا على النظريات الديناميكية، لأنه لا يمكن الوصول إلى القوانين الستاتيكية إلا بعد كشف القوانين الديناميكية[16].
ومن التعريفات الحديثة هناك تعريف تعريف ماكجي mcgee وزملاؤه الذي نشر في مؤلفهم سنة 1977 حيث عرفوه بأنه العلم الذي يدرس النظام الاجتماعي social order، والمقصود بالنظام الاجتماعي هو النمط المنظم التي تسير عليه الشؤون الإنسانية ابتداء من أبسط العلاقات بين شخصين إلى علاقات الجماعات المنظمة على مستوى أوسع.
وأيضا تعريف لويس دبرمان وكلايتون هايتجن ومفاده أن علم الاجتماع هو أحد العلوم التي تدرس سلوك الكائنات الإنسانية، بمعنى أنه يعنى بجميع جوانب السلوك الإنساني في وضع اجتماعي معين، كما جاء في تعريف برنارد فيلبس في مؤلفه علم الاجتماع من النظرية إلى التطبيق، والذي نشره سنة 1987، أن علم الاجتماع هو علم دراسة المجتمع، أي من خلاله يتبين للباحثين مدى صحة تصورات الناس وافتراضاتهم عن المجتمعات والحياة الاجتماعية، وهناك من عرفه بأنه علم دراسة الظواهر الاجتماعية أو النظم الاجتماعية، أو الإنسان في علاقته بالبيئة والمجتمع والثقافة[17].
انطلاقا مما سبق يمكن القول أن كل هذه التعاريف لا تخلو من عنصرين أساسيين هما الإنسان والمجتمع، فهذا العلم أساسه ومداره دراسة الإنسان من حيث سلوكه وعلاقته مع غيره، ومن حيث علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه ومدى تفاعله مع المعايير والمنظومات الاجتماعية التي يفرضها عليه هذا المجتمع.
وعليه، فإن مدار علم الاجتماع هو دراسة علم الاجتماع في ظواهره ونظمه وبنيته والعلاقات التي تجمع أفراده، دراسة علمية وصفية تحليلية، إلا أنه ومن أجل المحافظة على الخاصية العلمية لهذا العلم حاول العلماء تحديد ميدانه وتضييق موضوعاته، وهذا الأمر أدى إلى انقسامهم إلى ثلاث فرق:
الأول: يذهب إلى أن موضوعه هو دراسة العلاقات الاجتماعية، والمنتمون إلى هذا الفريق يطلق عليهم أصحاب مدرسة العلاقات، ويتزعم هذه المدرسة المفكر الألماني جورج سيمل g.simmel، ومن أنصارها المفكر ماكس فيبر max weber.
الثاني: يرى أن كل من العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع يتشاركان في دراسة جوانب الحياة الاجتماعية، بحيث يتناول كل منهما جزء من هذه الحياة، على أن يتولى علم الاجتماع وضع المبادئ العامة لهذه الدراسة، ووضع مناهج البحث، وتنسيق النتائج، ويشبه أصحاب هذا الفريق علم الاجتماع بالشجرة الكبيرة حيث تشكل فروعها العلوم الاجتماعية الفرعية، وثمارها القوانين الاجتماعية، فيحقق بذلك علم الاجتماع وظيفتين:
الوظيفة الأولى: دراسة جميع النواحي للحياة الاجتماعية للوصول إلى القوانين المتحكمة فيها عن طريق العلوم الاجتماعية الفرعية.
الوظيفة الثانية: دراسة المقومات الأساسية والسمات العامة للحياة والعلاقات الاجتماعية التي تنظمها والعوامل المؤثرة في تقدم المجتمع وتطوره، ومن أشهر المنتمين إلى هذا الفريق دور كايم durkheim، وجتربرج ginsberg.
الثالث: أصحاب هذا الفريق لا يمثلون اتجاها محددا البعض منهم يرى أن موضوعه هو التغيير الاجتماعي، والبعض الآخر يذهب إلى أن موضوعه دراسة النظم الاجتماعية، والآخر يرى أن مدار علم الاجتماع هو دراسة المقومات التي تدفع بالمجتمع إلى التقدم والتطور وتوطيد العلاقات بين أفراده.[18]
من خلال ما سبق يمكننا أن نستخلص بأن موضوع علم الاجتماع هو دراسة الحياة الاجتماعية من مختلف جوانبها دراسة علمية وصفية تحليلية تقريرية تشمل الظواهر والعلاقات من أجل فهم الواقع ومقوماته والعوامل المؤثرة عليه؛ فلابد لأي علم من العلوم أن يكون له غرض، والغرض الأول من أي علم هو الوقوف على مجموعة من الظواهر واستنتاج القوانين المتحكمة فيها والمنظمة لها، وذلك عن طريق إتباع المنهج العلمي، وعلم الاجتماع لا يخلو من هذا الغرض كغيره من العلوم، فالهدف منه هو الوقوف على طبيعة الظواهر الاجتماعية وما يحكمها من قوانين، وباعتباره من العلوم التي تهتم بالدراسة التقريرية الموضوعية فله أغراض نظرية وعملية:
أ- الأغراض النظرية: من خلال دراسة الظواهر والحقائق الاجتماعية لمعرفة المبادئ العامة للحياة الاجتماعية، ودراسة التغييرات والتطورات التي تمر بها الظواهر الاجتماعية وتتبع مسارها عبر الزمن، باعتبارها ظواهر غير ثابتة، ودراسة وظائف هذه الظواهر واختلافاتها المكانية والزمنية، كدراسة وظيفة الزواج مثلا، والتي أساسها تنظيم العلاقة بين الرجال والنساء ووظيفة السياسة المتمثلة في تنظيم علاقة الدولة وأفرادها، وغيرها من الوظائف، ودراسة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ومدى التفاعل معهم، ودراسة علاقات الأفراد بالظروف البيئية والطبيعية المحيطة بهم، ومحاولة الوصول إلى القوانين والقواعد العامة التي تتحكم في الظواهر الاجتماعية، خصوصا بعدما استطاع منشئ هذا العلم أن يضعوا له مناهج علمية وقوانين خاصة به.
ب- الأغراض العملية: وهو يمثل الجانب التطبيقي لهذا العلم فالقواعد المتوصل إليها من خلال هذه الدراسة الهدف منها إصلاح الأعطاب الموجودة في المجتمع قيد الدراسة، فتقيد عمليا مشاريع الإصلاح والتخطيط الاجتماعي وبذلك يجنب المجتمع الكثير من المشاكل، ويوفر الكثير من المال والجهد[19].
المطلب الرابع: علاقة علم الاجتماع بالعلوم الأخرى
1- علاقته بعلم النفس: إذا كان علم النفس يهتم بما يجري داخل النفس البشرية، فإن علم الاجتماع يدرس التفاعلات الإنسانية الخارجية، أي التأثير المتبادل الذي يمارسه الأفراد في علاقاتهم المتبادلة، فهو لا يهتم بما يدور داخل الفرد الإنساني بقدر ما يهتم بنشاطات هذا الفرد مع غيره داخل المجتمع المتمثلة في الروابط الاجتماعية المختلفة، فهو يدرس الأسرة والجماعات، والتنظيمات الكبرى، كالجامعات والمعامل وغيرها من البنيات الاجتماعية[20].
ومنه فإن علم النفس يهتم بدراسة طبيعة الإنسان الفردية، فهو من العلوم التي تهتم بالغرائز الإنسانية والعمليات العقلية كالذكاء والتخيل والتصور، لكن هذا الفرد هو إنسان اجتماعي بطبعه أي يعيش في مجتمع، وعليه فإن جميع المسائل التي يعالجها علم النفس لابد وأن تكون متأثرة بطبيعة هذا المجتمع فيؤثر على عملياته النفسية والعقلية، لهذا نشأت دراسات مشتركة بين علم الاجتماع وعلم النفس لدراسة تأثير العوامل الاجتماعية في شخصيات الأفراد وسلوكهم، وكذلك لدراسة التفاعل المشترك بين الوقائع النفسية والاجتماعية، كالدراسات التي يقوم بها علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع النفسي، وعلم نفس الشعوب، وعلم النفس الجماعي، وعلم النفس الصناعي، وعلم النفس الجنائي، ودراسات الرأي العام.
2- علاقاته بالأنثروبولوجيا: تعتبر الأنثروبولوجيا إحدى الفروع التي انشقت عن علم الاجتماع العام وتدخل في العلوم الاجتماعية الخاصة، وهي دراسة تهتم بدراسة السلالات البشرية والأجناس والمجتمعات البدائية لمعرفة ثقافاتها وكيفية تطوراتها[21].
3- علاقته بالتاريخ: لا يمكن للباحث في الوظائف الاجتماعية الوصول إلى حقيقة المسائل الاجتماعية وتطورها عبر الأزمنة والأمكنة دون الرجوع إلى التاريخ ليستطيع التحليل والتقرير، لأن فروع الدراسات التاريخية كتاريخ الأدب وتقاليدها والفلسفة والنظم والفنون، يعكس حياة الأمم، ويبين عاداتها وتقاليدها، وبالتالي يستفيدوا من النظريات الاجتماعية ويقوموا بتصحيح الوقائع بناء على القوانين التي تحكم هذه الظواهر الاجتماعية الإنسانية. إذا الظاهرة الإنسانية أو التفاعل الإنساني هو المحور المشترك بين علم الاجتماع وعلم التاريخ، فهو علم اجتماعي وفعل تاريخي في نفس الوقت، لهذا ليس من الغريب أن يستمد التاريخ من علم الاجتماع المبادئ النظرية والمفهومات والتصورات واعتمادها كأدوات للبحث التاريخي، حتى أصبح المنهج الاجتماعي في دراسة التاريخ من المناهج الأكثر علمية من بين مناهج البحث التاريخي، كما يستمد علم الاجتماع من التاريخ المادة التي تساعده في فهم الأوضاع الاجتماعية الحاضرة حتى أصبح المنهج التاريخي في علم الاجتماع هو المنهج الأكثر احتراما وعلمية، إذن من مناهج علم التاريخ المنهج الاجتماعي، ومن مناهج علم الاجتماع المنهج التاريخي.
4- علاقته بعلم الاقتصاد: إن المجال الذي يختص به الاقتصاديون هو مجال الإنتاج والاستهلاك والتوزيع وموارد الثروات، وكل هذا يحتاج إلى أفراد يعيشون في مجتمع يقومون بتحريك عجلة الاقتصاد، مما يجعل صلة الوصل بين هذين العلمية جد قوية، ومن العلوم الفرعية التي أنشأت كعلم جديد هو الاجتماع الاقتصادي التي يهتم بدراسة أصول الإنتاج والتبادل والقوانين المتعلقة بها، وذلك دراسة العملة وتطورها، ودراسة النظم الاقتصادية، وأيضا دراسة العلاقات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال[22].
المبحث الثاني: مناهج البحث في علم الاجتماع
هناك مناهج أساسية يتم استخدامها من طرف علماء الاجتماع في البحوث الاجتماعية، والتي تتنوع بتنوع طبيعة البحث وأغراضه، ولعل الطرق المنهجية الأكثر استعمالا في الدراسات الاجتماعية هو المنهج التاريخي، والمنهج التجريبي، والقياس الاجتماعي، ومنهج دراسة الحالة، والمسح الاجتماعي، والمنهج الإحصائي، قد يحتاج الباحث إلى أكثر من نوع في دراسته فيقوم بالمزج بين عدة مناهج، وسنعطي فيما يلي نبذة عن هذه المناهج.
المطلب الأول: المسح الاجتماعي
هو منهج من المناهج التي تستخدم في البحوث الوصفية، وطريقة من طرق البحث التي يعتمد عليها الباحثين في بحوثهم الاجتماعية.
هناك العديد من التعريفات للمسح الاجتماعي من أهمها تعريف هويتني whentny حيث عرفه بأنه «محاولة منسقة لتحليل وتفسير وتقرير الحالة القائمة لجماعة أو بيئة ما أو لنظام اجتماعي، وهو يتصل بالحاضر ولا يهتم بالماضي، ويهدف إلى جمع بيانات يمكن تصنيفها وتفسيرها وتعميمها وذلك للاستفادة بها في أغراض عملية تتعلق بالمستقبل[23]»، كما تعرفه بولين يونغ pollin young بأنه «عبارة عن دراسة للجوانب المرضية للأحوال الاجتماعية الموجودة في موقع جغرافي محدد، وهذه الأحوال لها دلالة اجتماعية ويمكن قياسها ومقارنتها بأحوال أخرى تعتبر نماذج يمكن قبولها، وذلك بقصد تقديم برامج إنشائية للإصلاح الاجتماعي[24]»، إذن من خلال هذه التعريفات يمكننا أن نستنتج أن المسح الاجتماعي هو منهج يقوم على دراسة أشياء موجودة في الحاضر وليس في الماضي، أي الهدف منه دراسة المشكلات الاجتماعية القائمة، حيث يتم من خلاله جمع المعلومات المطلوبة لدراسة الظاهرة، أو مشكلة، أو وضعية اجتماعية، فيتم تصنيفها وتحليلها، من أجل التنبؤ بالظروف المستقبلية بهدف إدخال الإصلاحات اللازمة على الأوضاع المختلة من أجل إعادة التوازن للمجتمعات.
وينقسم المسح الاجتماعي إلى عدة أصناف حسب مجال الدراسة أي موضوع البحث، أو البعد الزمني، أو المجال البشري أي حسب العدد فتنقسم حسب مجال الدراسة إلى مسح عام حيث يقوم بمسح مجال من مجالات الحياة الاجتماعية كالتعليم والصحة والإسكان وغيرها من المجالات.
مسح خاص يقوم بدراسة قطاع اجتماعي محدد ومن زاوية واحدة كالمسوح الخاصة بعمال قطاع معين بذاته، كالزراعة والصناعة والصيد وغيرها من القطاعات.
أما البعد الزمني فتنقسم إلى مسوح قبلية حيث يجرى هذا النوع من المسوح قبل أن تدخل التعديلات والتغييرات إلى المجتمعات، ومسوح دورية أي تتم هذه المسوح عند وضع خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتنفيذ المشاريع وتشغيلها لتقدير مدى فعاليتها، ومسوح بعدية ينجز هذا النوع بعد اكتمال المشروع وإدخال التعديلات للكشف عن فعاليته وتحقيقه لأهدافه، ومدى نجاحه وفشله وذلك بالمقارنة بين نتائج المسح القبلي والمسح البعدي بعد إنجاز ذلك المشروع في ذلك المجتمع.
أما فيما يتعلق بالمجال البشري، فتنقسم إلى مسوح شاملة أي تشمل كل الأفراد في مجتمع معين، ومسوح بطرق العينة يتم الاكتفاء من خلاله بعينة محددة من أفراد المجتمع أو بعدد من الحالات الموجودة في ذلك المجتمع[25].
ومن المراحل التي يعتمد عليها الباحث أثناء إجرائه للمسح الاجتماعي؛ رسم خطة المسح ويتم من خلاله تحديد الغرض من المسح ومفاهيمه وأدواته، وتقدير ميزانيته، ومجال البحث الزمني والمكاني والبشري، وجمع البيانات من الميدان، وتشتمل على الخطوات التالية: إرشادات الباحثين الميدانيين وتدريبهم، وعمل الاتصالات اللازمة بالمبحوثين، وإعداد المجتمع لإجراء المسح، والإشراف الميداني، ومراجعة البيانات التي تجمع يوميا، ليليها تحليل البيانات وهي أيضا تعتمد على خطوات معينة متمثلة في مراجعة البيانات التي تم جمعها، من أجل التأكد من صحتها وكمالها، ثم القيام بتسجيلها بطريقة منتظمة، وتقسيم البيانات إلى مجموعات متناسقة ثم تصنف، وتحويل البيانات الوصفية إلى بيانات رقمية من خلال ترميز هذه البيانات في كل صحيفة، وجدولة البيانات الكمية، والقيام بتحليل إحصائي للجداول، ثم القيام بعرض النتائج المتوصل إليها وكتابة التقرير النهائي[26].
المطلب الثاني: المنهج التاريخي
من مهام المنهج التاريخي البحث في تطور الظواهر للوقوف على كيفية تشكل الظواهر الحاضرة في الماضي وتطورت حتى أصبحت على ما هي عليه الآن من حيث البناء والوظيفة، ومن الباحثين الأوائل الذين نبهوا إليه المؤرخ ابن خلدون عندما طالب بتعقب الظاهرة الواحدة في تاريخ الشعب الواحد على مر فتراته التاريخية المختلفة مع تحري الأمانة والصدق، بعدها قام أوجست كونت بإضافة هذا المنهج ضمن قواعد المنهج والذي أطلق عليه اسم المنهج السامي باعتباره المنهج الذي يمكن الباحث من الوصول إلى القوانين الرئيسية المسماة بقانون الأدوار الثلاث، والتي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري، كما أكد دوركايم أيضا على ضرورة استخدام هذا المنهج باعتباره ضروري لفهم أصول النظم الحاضرة ووضع النظم المستقلة على أساس سليم، وكغيره من المناهج للبحث التاريخي خطوات لابد من إتباعها وهي تحديد مشكلة البحث، وجمع الحقائق والمعلومات المتعلقة بالمشكلة، وتصنيف الحقائق وتحليلها ومحاولة الربط بينها، وكتابة التقرير وعرض النتائج[27].
المطلب الثالث: المنهج الإحصائي
لابد للباحثين في علم الاجتماع من الاعتماد على هذا المنهج خصوصا بعد أن نمت المجتمعات وأصبحت أكثر تعقيدا وتداخلت المشكلات الاجتماعية فيما بينها، ويمكن حصر هذا المنهج في النقط التالية:
أ_ جمع البيانات، ويتطلب في هذه المرحلة تحديد مجال البحث مكانيا وزمانيا، وتحديد مفاهيم البحث ومصطلحاته.
ب- اختيار العينة: ويتم وفق قواعد ومبادئ عامة، حيث تكون ممثلة لجميع الوحدات، ومن أهم أنواع العينات: العينة الطبقية، والعينة العشوائية، والعينة المتعمدة، والعينة المنتظمة، والعينة المساحية.
ج- طرق جمع البيانات: وتشمل استمارة أو جداول الإحصاء وتستخدم لجمع بيانات معينة لموضوع الظاهرة المدروسة، وتحتوي على مجموعة من الأسئلة التي يقوم الباحث بطرحها على أفراد العينة ويسجل فيها إجاباتهم، والتي يجب أن تكون الأسئلة المطروحة واضحة وبلهجة أفراد معينة، وألا تكون محرجة وجارحة للعينة، وأن تكون غير قابلة للتأويل، بمعنى أن تعني شيئا واحدا، ويفضل أن نكون الإجابة مقتضبة ومغلقة حتى يسهل تفريغها في جدول التفريغ.
وتشمل كذلك صحائف الاستبيان وهي عبارة عن استمارة يتم إرسالها بالبريد لأفراد العينة الذين يصعب الاتصال بهم أو مقابلتهم وجها لوجه، لتليها مرحلة جمع البيانات عن طريق المقابلة وتنقسم هذه المقابلة إلى نوعين؛ مقابلة إيجابية يترك الباحث أفراد العينة الفرصة للتحدث بحرية عن نفسه وأسرته ومشاكله، ثم يقوم الباحث بكتابة التقرير بناء على البيانات التي أدلى بها المبحوث، ثم تأتي المقابلة السلبية وتسمى هذه الطريقة بالمقابلة الموجهة، إذ يقوم الباحث بتوجيه المناقشة بطرحه الأسئلة التي تخدم أغراض دراسته، ثم يليها جمع بيانات من مصادر رسمية كالسجلات والنشرات والإحصاءات الرسمية، والاطلاع على البحوث العلمية السابقة، ثم تأتي مرحلة جمع بيانات عن طريق الملاحظة الشخصية المتعمدة أو العشوائية؛ والمقصود بالمتعمدة أن يقوم الباحث بتفقد المؤسسات المزمع دراساتها، أو قد يحصل على المعلومات عن طريق الصدفة دون أن يكون ذلك في حسبانه.
د- مراجعة البيانات ونقدها وذلك للتأكد من عدم إدلاء بعض المبحوثين بمعلومات كاذبة إما بسبب الخوف من الضرائب مثلا، أو الخوف من الحسد، أو عدم ارتياحهم للباحث أو غيرها من الأسباب.
ه- فرز البيانات وتصنيفها وجدولتها.
و- تحليل البيانات وفيه نوعان؛ التحليل الكيفي الذي يلجأ فيه الباحث إلى إخضاع البيانات للنقد والتفنيد، ووضع الفروض المفسرة للظاهرة المدروسة، والاستشهاد بالقوانين والنظريات السابقة، ثم التحليل الكمي ويفسر فيه الباحث البيانات معتمدا على الطرق الرياضية كالرسوم الهندسية والبيانية وغيرها من الطرق، ثم كتابة التقرير النهائي عن موضوع البحث[28].
المطلب الرابع: القياس الاجتماعي
إن الفهم للظاهرة الاجتماعية يتوقف على تحليل التصورات المختلفة لظاهرة اجتماعية، لذلك فكر علماء الاجتماع في اتخاذ منهج يكون كفيلا بالدقة العلمية، والتي لا تتحقق إلا عن طريق إدخال الكم في الدراسة، فبحثوا عن طريق مكملة للتحليل المنطقي للتصورات، فاتخذوا القياس الاجتماعي sociometrie كمنهج من مناهج البحث في علم الاجتماع.
ويعتبر جاكوب ليبي مورينو Jacob levy moreno، الطبيب النفسي، المنظر والمعلم الأمريكي من أصل روماني، المزداد سنة 1892 في بوخارست هو مؤسس منهج القياس الاجتماعي والدراما النفسية حيث عمل في الحقل الأكاديمي بالنمسا، ثم هاجر إلى أمريكا، وكان جاكوب مورينو تلميذا لفرويد، أنشأ أولا الدراما النفسية سنة 1930م التي قصد بها استثارة الانطلاقات اللاشعورية عن المسرح، ثم تطورت الدراما النفسية إلى الدراما الاجتماعية 1932م، إلا أنه رأى أن هذا لن يخرج عن ميدان الكيف في الدراسة النفسية والاجتماعية، فأنشأ منهج القياس الاجتماعي[29].
نشر عددا من الأعمال العلمية في مجال البحث العلمي، وأهمها مؤلفه الشهير: “لمن سيكتب البقاء” who shall survive؟ عام 1934، وقد قام مورينو في هذا المؤلف بتحليل بناء الجماعات وشبكة علاقاتها الاجتماعية، عادّا القياس الاجتماعي أكثر من مجرد طريقة منهجية دقيقة لتحليل الجماعات، فهو، برأيه مساهمة جادة في سبيل معرفة المجموعة لذاتها، وتمكنيها من القيام بعملية استيعاب أفرادها ودمجهم في شؤونها الحياتية المختلفة[30].
إن القياس الاجتماعي لغويا هو ترجمة للفظة الإنكليزية sociometry التي تتألف من شقين؛ الأول socio، ويعني اجتماعي، والثاني metry، ويعني قياس، ويعرف جاكوب مورينو القياس الاجتماعي بأنه عبارة عن دراسة رياضية للخصائص النفسية للسكان، وتقنية تجريبية، والنتائج التي تم الحصول عليها من خلال تطبيق الأساليب الكمية[31]، ويقصد به تلك الطريقة المنهجية المستخدمة لتقدير العلاقات الاجتماعية كميا، وقياس نوعيتها من حيث مدى الجذب والرفض أو النفور بين الأفراد داخل الجماعات الصغيرة والكبيرة، وبالتالي فإن القياس الاجتماعي نظرية خاصة بالعلاقات الاجتماعية، أو موضوع من موضوعات العلوم الاجتماعية الجديدة، أو منهج في البحث الاجتماعي، أو هو كل ما ذكر في آن معا، أي نظرية وموضوعا ومنهجا وطريقة وأداة من أدوات جمع البيانات.
إن القياس الاجتماعي يقوم على أساس أن الذرة الاجتماعية هي النواة التي تتشكل من كل الأفراد الذين يتجه إليهم الشخص برابطة انفعالية، أو الذين يرتبطون به انفعاليا في الوقت ذاته، هي أبسط الوحدات الاجتماعية، وهي المركز الذي تدور حوله قوى الجذب والتنافر، بناء على ذلك، فإن الذرة الاجتماعية، أي الصلات والروابط الانتقائية بين الفرد وغيره من الأفراد المنتمين إلى هذه الجماعة أو تلك، هي وحدة الدراسة، وليس الفرد بحد ذاته.
وهكذا، فإن القياس الاجتماعي sociometry sociometrie يسعى إلى تحديد قوى التجاذب أو التباعد في الجماعة بصورة كمية من خلال استخدام وسائل القياس المختلفة التي يمكن بنتيجتها عرض البيانات على هيئة خريطة اجتماعية، تبين الانتقاءات السالبة والموجبة للعلاقات بين أعضاء الجماعة باستخدام الرموز، وتسمح هذه الخريطة بتحديد الذرات الاجتماعية، ومقدار العلاقات التي تحيط بالفرد[32].
المطلب الخامس: منهج دراسة الحالة
تعد دراسة الحالة من أهم التقنيات والآليات التي تستعين بها عدة علوم ومعارف، ومن بين هذه العلوم؛ علم الاجتماع الذي نحن بصدد دراسته، ويعرف منهج دراسة الحالة في علم الاجتماع بأنه «طريقة لدراسة الظواهر من خلال التحليل المتعمق لحالة فردية، قد تكون شخصا، أو جماعة، أو حقبة تاريخية، أو عملية ما، أو مجتمعا محليا، أو مجتمعا كبيرا، أو أي وحدة أخرى في الحياة الاجتماعية، ويقوم هذا المنهج على افتراض أن الحالة المدروسة يمكن أن تتخذ نموذجا لحالات أخرى مشابه، أو من نفس النمط، لذلك فمن الممكن عن طريق التحليل المتعمق أن نتوصل إلى تعميمات قابلة للتطبيق على حالات أخرى تندرج تحت نفس النموذج[33]»، ومن هذا التعريف نستخلص أن الحالة هي شخص أو مجموعة من الأشخاص (الأسرة، مؤسسة، مجتمع) يرغب الباحث في دراستها بتفصيل كبير، وبالتالي فإن دراسة الحالة تعرف على أنها منهجا لتنسيق وتحليل المعلومات التي يتم جمعها عن الفرد وعن البيئة التي يعيش فيها، وان دراسة الحالة هي عبارة عن تحليل تنظيمي لوضعية ما من أجل إيجاد الحلول ومعالجة المشاكل.
المطلب السادس: المنهج التجريبي
يمكن اعتبار المنهج التجريبي بأنه «هو المنهج الذي يتمثل فيه معالم الطريقة العلمية بصورة جلية واضحة، فهو يبدأ بملاحظة ويتلوها بوضع الفروض ويتعبها بتحقيق الفرض بواسطة التجربة ثم يصل عن طريق هذه الخطوات إلى معرفة القوانين التي تكشف عن العلاقات القائمة بين الظواهر[34]»، ويلجأ الباحث إلى استخدام المنهج التجريبي في البحث حينما يكون على إلمام كاف بمعظم أبعاد وعناصر الظاهرة موضوع الدراسة، ولكنه يريد أن يختبر العلاقة بين متغيرين أو أكثر من المتغيرات المكونة لها، ومنه يمكننا أن نستخلص أهمية المنهج التجريبي التي تتضح في توفيره للباحث إمكانية السيطرة على متغيرات بعينها، لكن يبقى استخدام المنهج التجريبي في العلوم الاجتماعية محدودا لأن العديد من جوانب الحياة الاجتماعية لا يمكن اختبارها في المعامل كما أن استجابات الذين يكمن اختبارهم قد تتأثر بالبيئة المحيطة غير المسيطر عليها.
خاتمة
انطلاقا مما سبق عرضه، فإنه يمكن القول أن المادة الاجتماعية تحولت إلى موضوع علم متخصص له تعاريفه العلمية، وموضوعه المختلف، والمميز عن باقي العلوم الطبيعية والإنسانية، بعد أن كانت مجرد تأملات فلسفية، أو نفسية ذاتية لهذا المفكر أو ذاك سقراط، ثم أفلاطون، ثم أرسطو، ثم بعض المفكرين العرب أيضا، وبالتالي أصبح علم الاجتماع علما مستقلا له مناهجه التجريبية والموضوعية.
كما أن هذا العلم وكباقي العلوم وخصوصا الإنسانية تنفذ بعضها إلى البعض الآخر، وتتأثر ببعضها، ويتميز هذا العلم أيضا عن باقي العلوم الإنسانية بكونه استطاع اكتشاف قوانين الهيئة الاجتماعية، وكل منتجاتها، وظواهرها الفكرية والسلوكية، والاقتصادية والنفسية والأسرية، والفردية، والقبلية، والسياسية.
وبناء عليه أصبح هذا العلم كنا يعرف الآن علما مستقلا بذاته له تعريفاته، وموضوعه، ويمكن إخضاعه للتجربة الموضوعية، ثم أصبحت له مناهج متكاملة فيما بينها وتناسب طبيعة موضوعه، كما أصبحت له قوانين تؤثر وتتأثر فيما حولها من ظواهر طبيعية وإنسانية أخرى.
الإحالات:
- [1] – تاريخ علم الاجتماع، جاستون بوتول، ترجمة غنيم عبدون، مراجعة حلاق حسن صادق، مكتبة سيد أحمد الجوهري، ص9 -10.
[2] – تاريخ علم الاجتماع، جاستون بوتول، ص18.
[3] – تاريخ علم الاجتماع، جاستون بوتول، ص21-22.
[4] – تاريخ علم الاجتماع، جاستون بوتول، ص29.
[5]– عبد الرحمان بن خلدون حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، علي عبد الواحد وافي، مكتبة مصر، ص148-150.
[6] – عبد الرحمان بن خلدون حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، علي عبد الواحد وافي، ص152.
[7] – تاريخ علم الاجتماع، ص 22-23.
[8] – عبد الرحمان بن خلدون حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، ص 155- 156.
[9]– مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة، 1983، ص10-11.
[10]– مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص12.
[11] – عبد الرحمان بن خلدون حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، علي عبد الواحد وافي، ص189.
[12] – أسس علم الاجتماع، محمد عودة، دار النهضة العربية، بيروت، 1995، ص71-73.
[13] – عبد الرحمان بن خلدون حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، علي عبد الواحد وافي، ص182.
[14] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص15، وتاريخ علم الاجتماع، جاستون بوتول، ص121-122.
[15] – التعزيز هي العقوبة التي لم يشرع فيها الحدود ومقتضاها المصلحة العامة.
[16] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص14.
[17] – أسس علم الاجتماع، محمد عودة، ص17 و18.
[18] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص23 -25.
[19] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص26-27.
[20] – أسس علم الاجتماع، محمد عودة، ص16-17.
[21] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص31-33.
[22] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص33، أسس علم الاجتماع، محمد عودة، ص34-40.
[23] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص37.
[24] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص38.
[25] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص38- 39.
[26] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص39-40.
[27] – نفسه، ص41-42.
[28] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص44-47.
[29] – مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977، ص230-231.
[30] – www.arabency.com/index.php?module=pnencyclopedia&func=display_term&id=13453&m=1
[31]– who shall survive? Moreno, Jacob levy, 1934, revised edition 1953, beacon, ny, beacon house.
[32] – www.arabency.com/index.php?module=pnencyclopedia&func=display_term&id=13453&m=1
[33] – مبادئ علم الاجتماع، أحمد رأفت عبد الجواد، ص47.
[34] – أصول البحث الاجتماعي، حسن عبد الباسط، مكتبة وهبة، القاهرة، ط6، 1977، ص212.