نماذج من وسائل
الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم

الدكتور عبد الاله بنالشلح

دكتوراه  في الفقه والأصول
الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة سوس ماسة
 المغرب

ملخص

سعت الدراسة إلى بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نعم المربي والمعلم بل أفضل مرب ومعلم لأصحابه رضوان الله عليهم، حيث كان أقدر الناس على الاستفادة من الوسائل التعليمية التي تقرب المفاهيم إلى الأذهان، وتساعد على ترسيخها في عقولهم وقلوبهم. وكلما أحسن المعلم في اختيار الوسيلة المناسبة والتوقيت المناسب ساعد على تنمية معلومات الطلاب وتثبيتها في أذهانهم، فمثلا يساعد ربط الخبرات التي يحتوي عليها الدرس مع بعضها بحيث تعتمد الخبرة على خبرة سابقة وتؤدي إلى خبرة تالية مع حسن التوقيت على تمكين المتعلمين من الوصول إلى مدركات أوسع وفهم أعمق وتعميمات أشمل..

Abstract

The study sought to show that the messenger of Allaah (peace and blessings of Allaah be upon him) was the best educator and teacher, but the best educator and teacher for his companions, may Allaah be pleased with them, as he was the most able for people to benefit from educational means that bring concepts closer to their minds and help to consolidate them in their minds and hearts. For example, linking the experiences contained in the lesson with each other so that the experience depends on previous experience and leads to the next experience with timeliness enables learners to reach broader perceptions, deeper understanding and more comprehensive generalizations

مقدمة

يختلف الناس في سرعة استيعابهم وتعلمهم لما يلقى عليهم، ولهذا اهتمت البحوث التربوية بتنويع أساليب التعليم وصدرت العديد من البحوث التربوية التي تتناول الفروق الفردية بين سريع التعلم وبطيئه والمتوسط بينهما، ومن صفات المعلم الناجح أن يكون قادرا على مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين قادرا على التنويع في مادته العلمية معتمدا على وسائل مختلفة.

ولم يعد خافيا ما تشكله الوسائل التعليمية من أهمية في نجاح العملية التعليمية، بحيث باتت الآثار الإيجابية لاستخدام تلك الوسائل في التدريس من المسلمات التربوية التي برهنت على جدواها الدراسات وأثبتها الواقع. فهي تساعد المدرس على أداء عمله بكفاءة عالية وجـودة فائـقة، حيث ثبت من دراسات علمية أن بوسع المدرس الذي يستخدم وسيلة تعليمية سمعية بصرية أن يوفر 50% من وقت الحصة، مع إمكانية الحصول على مستوى تعليمي أفضل.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم المربي والمعلم بل أفضل مرب ومعلم لأصحابه رضوان الله عليهم، حيث كان أقدر الناس على اعتماد وسائل تربوية هادفة وناجعة تقرب المفاهيم إلى الأذهان، وتساعد على ترسيخها في العقول والقلوب.

  1. المفاهيم الإجرائية: الوسيلة التعلمية، العلم، التعليم
    • مفهوم الوسيلة التعليمية

ورد في معجم مقاييس اللغة لابن فارس:” وَسَلَ” الْوَاوُ وَالسِّينُ وَاللَّامُ: كَلِمَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ جِدَّا. الْأُولَى الرَّغْبَةُ وَالطَّلَبُ. يُقَالُ وَسَلَ، إِذَا رَغِبَ. والْوَاسِلُ: الرَّاغِبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْوَسِيلَةُ[1].

والمراد بالوسائل الأدوات التي تستخدم للوصول إلى المطلوب[2]، كما قال ابن كثير في تفسيره (الوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحقيق المقصود)[3] وهناك من شبهها بالقناة أو القنوات التي تمر خلالها الرسالة بين المرسل والمستقبل فهي باختصار عبارة عن قنوات للاتصال ونقل المعرفة[4].  والوسيلة: بمعناها التعليمي هي: ما يتوصل به المتعلم إلى تطبيق مناهج التعليم من أمور معنوية أو مادية[5] .

وعرفها الدكتور محمد الشافعي بقوله: “كل شيء يحمل فكرة أو معنى أو رسالة، ويستعين بها المعلم – أو غيره- لكي يوصل هذا المعنى أو هذه الرسالة إلى غيره، بجانب ألفاظه وأسلوبه”[6].

وقد أشارت العديد من الكتب التربوية الحديثة إلى أهمية الوسيلة التعليمية لكونها تساعد على تنمية الإدراك الحسي وسرعة الفهم وإثارة التفكير واكتساب المهارات المتعددة إضافة إلى ما تقدمه الوسيلة من فرصة لترسيخ عناصر الدرس في أذهان الطلاب[7].

    • مفهوم العـــــــــلم ومكانته

العلم هو ذلك النور الذي يهدي الله به الناس في مسالك الحياة، وينير لهم السبل، والعلم هو تلك النافذة الواسعة المفتوحة على المجهول، والشعاع النافذ إلى ظلمات العلم من أكثر الكلمات شيوعا قديما وحديثا، به توصل الإنسان إلى معرفة الله[8]، وهو كما ورد في لسان العرب[9]: علم: من صفات الله عز وجل العليم والعالم والعلام، قال الله عز وجل (وهو الخلاق العليم )[10] وقال تعالى : (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير)[11] وقال: علام الغيوب، فهو الله العالم بما كان وما يكون قبل كونه.

والعلم نقيض الجهل، وعلمت الشيء أعلمه علما عرفته، قال ابن بري: وتقول علم وفقه، وعلم وتفقه أي ساد العلماء والفقهاء، وعلمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه، وفرق بسبويه بينهما فقال: علمت كأذنت، وأعلمت كأذنت، وعلمته الشيء فتعلم وليس التشديد هنا للتكثير.

ويقال تعلم في موضع أعلم، وفي حديث الدجال: تعلموا أن ربكم ليس بأعور بمعنى علموا، وكذلك الحديث الآخر: تعلموا أنه ليس يرى أحد منكم ربه حتى يموت، كل هذا بمعنى اعلموا وقال عمرو بن معد يكرب:

تَعَلَّم أنَّ خيرَ الناسِ طُرَّاً    ***    قتيلٌ بين أحجارِ الكُلابِ

قال: ولا يستعمل تعلّم بمعنى علم إلا في الأمر، قال : ومنه قول قيس بن زهير: تعلم أن خيرا الناس ميتا.

وقول الحرث بن وعلة فتعلمت أن قد كلفت بكم.

قال: واستغني عن تعلمت بعلمت قال ابن السكيت تعلمت أن ثلاثا خارج بمنزلة علمت، وتعالمه الجميع أي علموه.

وعلم الأمر وتعلمه أتقنه.

وذكر عن الأعرابي أنه قال: تعلم بمعنى علم، قال: ومنه قوله تعالى: (وما يعلمان من احد)[12] ، قال: معناه أن الساحر يأتي بالملكين فيقول: أخبراني عما نهى الله حتى أنتهي، فيقولان : نهى عن الزنا،… فهذا معنى يعلمان إنما هو يعلمان.

 وقوله تعالى: (الرحمان علم القرآن)[13] قيل في تفسيره: إنه جل ذكره يسره لأن يذكر، وأما قوله علمه البيان فمعناه أنه علمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء.

 والعلم: إدراك الشيء بحقيقته، وعرفه الأمر علمه إياه، والتعريف الإعلام، ومثل هذا في سائر المعاجم، والمعنى المشارك فيه مفهوم الإدراك، إدراك النفس على الوجه العام الشامل حسيا كان أو ذهنيا، فالإحساس والشعور، وإدراك الأشياء وتصورها وفهم معاني الألفاظ، مفرداتها ومركباتها وما يعقل وما يتخيل، وما يتوهم… كل ذلك يصح لغة، أو لعله يصح أن يؤدى حصوله في النفس لفظ العلم، ولفظ المعرفة على حد سواء[14].

    • مكانة التعليم

إن التعليم في أي مجتمع من المجتمعات على مدى هذه العصور نجده الركيزة والعقل المدبر لكل هذه الأمم بما يفرزه من فكر وآراء على الكيان الإنساني فهو يعمل على تنشئة جيل أو أجيال على أسس معرفية وثقافية وحضارية وكلما كانت الفلسفة التعليمية بناءة قائمة ومدعمة قوية شديدة البنيان لا تقوم على الشعارات والطموحات الوضعية، وإنما تقدم على مجموعة من الخطط الواقعية التي ستكون حكومتها قادرة على تنفيذ آمال شعب عريق ينظر إلى آفاق جديدة في ضل سياسة متطورة تقوده لتحقيق طموحاته وأهدافه ومجسدة ،لها ، وكلما كانت النتائج المرجوة في استثمار الطاقات البشرية تشكل مثل أقرب إلى التحقيق فإن المجتمع يصل إلى زهو وريادة بعيدا عن عواقب مثلث الجهل… الفقر… الأمية، والتعليم كما نعرف له دوره من توزيع الدخل القومي ويرفع مستوى الصحة والتغذية ويقلل الخصوبة السياسية والاجتماعية وثمة علاقة إيجابية موجودة بين مستويات الدخل الفردي، ومستويات التعليم، والأمة تنتعش في أكثر البلدان فقرا وتقل تدريجيا كلما ارتفع مستوى الدخل.

كما لا يخفى علينا أن لهذا العلم أهمية كبرى في إسعاد البشرية، والوصول بها إلى ذروة ما قدر لها من الاطمئنان والنجاح في الدارين إذا ما اقترن بالدين، ومن جهة أخرى نرى أن الهدف والغاية من العلم هو الكشف عن الحقيقة وخدمة في الحياة: لأن العلم ينشد المعرفة عن طريق البحث والملاحظة، ومقاييس التعليم والاختيار، والعلم يصف ويحلل ويستطيع أن يفيدنا ما هو الإنسان؟ وكيف أصبح على ما هو عليه.

ونجد أن الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ قد فسح مجال العلم للعقل الإنساني وتعدى به أسرار الطبيعة وتغلغل به في أسرار الكون والحياة … ولم يقف عند حدوده المادية الطبيعية، بل تعداه إلى كل شيء في الحياة يفيد الإنسان ويعود عليه بالسعادة[15]

    • إبراز الفرق بين التعليم والعلم والتعلم

 يستدعي التمييز بين المصطلحات التي ترتبط بالعلم، وأخص بالذكر “العلم والتعليم والتعلم” الرجوع إلى أهل الاختصاص من علماء التربية والمهتمين بمجال التعليم والتعلم، أما العلم وعلاقته بالتعليم فقد تحدث عنها محمد بن عبد الله الدويش بقوله:” بأن الحديث عن التعليم الشرعي لدى فئة من المهتمين به هو الحديث عن محتوى العلم الشرعي نفسه، أو عن النص الشرعي، وأثارت القلق كثير من الدعوات المعاصرة التي نادت بتطوير مناهج العلوم الشرعية في التعليم، وتطوير أدوات التعليم الشرعي، وهذا التطوير وما خلفه من قلق جعل هذا الأستاذ الباحث يبرز أهمية الفصل بين محتوى العلم الشرعي وبين التعليم الشرعي، فمحتوى العلم الشرعي يتعلق بالنصوص الشرعية وما يتصل بها. أما التعليم الشرعي فهو عمل بشري، ويستمد هذا العمل البشري قيمته من انتمائه للعلم الشرعي واتصاله به، ولكن ذلك كله لا يخرجه عن كونه عملا بشريا”[16] ، هذا من جهة أما من جهة أخرى فعلماء التربية يعرفون التعلم تعريفات متعددة غير أنها ذات مفهوم واحد من خلال نتيجتها، ونسوق هذا التعريف من معجم علوم التربية الذي يعرف التعلم بأنه: “التعلم عملية اكتساب لسلوك أو تصرف معين (معارف، حرکات، مواقف، مهارات…) ويتم هذا الاكتساب في وضعية محددة، ومن خلال تفاعل ما بين الفرد المتعلم والموضوع الخاص بالتعلم[17].

أما مصطلح التعليم فهو: “فعل ديداكتيكي منظم وموجه من طرف شخص ذي وضعية محورية (المعلم) داخل الجماعة بغرض إحداث تغييرات سلوكية لدى أعضاء الجماعة، ويحدد هذا الفعل نمط تدخل كل مدرس لفظيا كان أو غير لفظيا – يتوخى إقامة تواصل مع التلاميذ قصد تبليغ رسالة أو مراقبتها (ضبطها) أو استحسان سلوك التلاميذ أو إحداث تغييرات على مواقفهم وضبط نشاطهم[18].

فمن خلال التعريفين السابقين تبدوا العلاقة التفاعلية والجدلية بين التعلم والتعليم، فالأول يركز على شخص المتعلم باعتباره ذاتا مستقبلة للمعرفة وتكتسب سلوكات وتصرفات معينة من خلال المعرفة التي تستقبلها. أما التعريف الثاني فهو فعل ديداكتيكي موجه من طرف معلم قصد تغيير سلوك أفراد جماعة، أو بناء كفاية أو مهارة لديها.

فالتعليم والتعلم إذن طرفان يلاقيهما العلم والمعرفة، بمعنى أن العلم هو محور عملية التعليم والتعلم، ولا يمكن الحديث عن هذه العملية إلا في إطار وفي مجال العلم، إنها حوار بين -المتعلم والمدرس – يجري داخل سياق ذي خصائص مميزة، فيتبع التعلم التعليم ويؤثر ما يتحقق من تعلم على التعليم على نحو دائم ومستمر.

  1. بعض وسائل الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم
    • الإشارة

الإشارة وسيلة تعليمية لتوضيح الفكرة كما أن التعليم بها أبلغ ورسول الله ﷺ استخدم الإشارة كوسيلة من وسائل الإيضاح لتقريب المعاني إلى أذهان الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك ما رواه في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة – وأشار بيده على أنفه – واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر[19]،[20].

 وأيضا ما ورد في صحيح البخاري من قوله ﷺ ” لا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم”[21].

 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ويستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته ليكون أوقع في نفس السامع”[22].

 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “الاكتفاء بالإشارة المفهمة عن التصريح”[23].

فالإشارة وسيلة مهمة للمعلم أثناء تعليمه لطلابه لأنها تقوم مقام اللفظ والإيضاح باللسان إذا فهم المراد منها[24] ، كما أن الإشارة اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير[25] ، لذا ينبغي للمعلم الحرص على استخدام هذه الوسيلة لمالها من فائدة للمتعلم، فإنه قد يفهم ويستوعب مقصد المعلم من خلال حركات يده.

    • رسم الخطوط

 رسم الخطوط يساعد على تقريب المفاهيم إلى السامعين لأنه يقرن بين حاستي السمع والبصر ورسول الله ﷺ استخدم هذه الوسيلة لتقريب ما أراد توصيله إلى السامعين، ومن الشواهد الدالة على هذا ما رواه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خط النبي ﷺ خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج أجله، وهذه الخطط الصغار الأعراض[26] ، فإن أخطأه هذا نهشه هذا[27]  وإن أخطأه هذا نهشه هذا[28].

ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد والحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله ﷺ، خطا، ثم قال: “هذا سبيل الله”، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال : ” هذه سبل ” قال يزيد متفرقة.

على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه، ثم قرأ: (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )[29]،[30].

 قال الملا علي القاري تعليقا على قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “خط لنا ” أي لأجلنا تعليما وتفهيما وتقريبا لأن التمثيل يجعل المقصود من المعنى كالمحسوس[31] ، فعلى المعلم أي يقتدي بفعل الرسول ﷺ ويسعى إلى استخدام الرسوم التوضيحية التي تشرح الفكرة أو تفسرها وتعنى بالترتيب وبالعلاقات بين الشكل وأجزائه وتوضح قيمة كل منهما بالنسبة للآخر[32].

    • استخدام الأدوات المادية

 الأدوات المادية الملموسة لها أثر بالغ في تثبيت المعاني في الأذهان لذا فهي من وسائل الإيضاح المهمة في التعليم، ومما يدل على أهميتها استخدام رسول الله ﷺ لها فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ غرز بين يديه غرزا[33] ثم غرز إلى جنبه آخر، ثم غرز الثالث، فأبعده، ثم قال : ” هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : ” الله ورسوله أعلم ” قال : ” هذا الإنسان وهذا أجله، وهذا أمله، يتعاطى الأمل[34] يختلجه [35] دون ذلك [36] وقد أشار علماء التربية إلى استخدام الأدوات المادية على أنها خبرات يتم فيها التفاعل بين الظروف الخارجية في البيئة التي تستطيع أن تستجيب لها، سواء كانت بيئة طبيعية أو فكرية أو نفسية أو اجتماعية، وقد قسم التربويون الخبرات التي يمكن للفرد اكتسابها من خلال استخدام الأدوات المادية إلى قسمين خبرات مباشرة تعتمد على تفاعل المتعلم المباشر مع الشيء المراد تعليمه ولكنها صورة منقحة عنها[37].

 فالرسول ﷺ استخدم أدوات محسوسة لتفهم كلامه للسامعين وتقريبه إلى أفهامهم فها هو يستخدم أعوادا لتعليمهم أن الأجل أقرب إلى الإنسان من أمله، حيث غرز العود الذي كان يمثل الأجل أقرب إلى العود الذي يمثل الإنسان من العود الذي يمثل أمله.

والمعلم الناجح ينبغي عليه استخدام الأدوات المادية المحسوسة عند تعليمه لتقريب المعاني إلى أذهان الطلاب وتفهيمهم ما يريد توصيله إليهم.

    • التعليم بالفعل والمشاهدة.

 الأداء العملي النموذجي أمام المتعلمين أوقع في النفس وأثبت من القول[38] لأنه يثبت في الذهن بصور أوسع لذا اهتم الرسول بهذه الوسيلة لمالها من أهمية في التعليم خاصة في تعليم أصحابه الأمور العملية، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعية ثلاثا، ثم مسح برأسه فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثم قال: “هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد ساء وظلم أو ظلم وأساء”[39].

فعلى المعلم أن يقرن القول بالفعل لأنه أبلغ في إيصال رسالته إلى المتعلمين، فإذا امتزج القول بالتطبيق ساعد على ترسيخ المفاهيم في أذهان المتعلمين مما يساعد على سهولة تطبيقهم لما تعلموه، ومما يؤيد ذلك ما ذكره العلامة ابن أبي جمرة الأندلسي بقوله: ” الاستدلال بالأعمال أولى من الاستدلال بالمقال لأن المقال قد يحتمل التجوز في الكلام وغيره والفعل ليس كذلك[40].

وبهذا يتضح أن الرسول ﷺ قد استخدم العديد من الوسائل التي تساعدنا على زيادة الفهم أو تؤكد المعاني وتجسد المعلومات المجردة، وهذا هو بالفعل ما تقدمه الوسائل التعليمية الحديثة في عصرنا الحاضر، حيث إنها ومن خلال الاستخدام الجيد لها تساعد على استشارة اهتمام الطلاب وإشباع حاجتهم للتعلم، كما أنها تساعد على زيادة خبرة المتعلمين وتجعلهم أكثر استعدادا للتعلم إقبالا عليه، هذا خلاف تنويع الخبرات والمساعدة في تكوين وبناء المفاهيم السليمة، وتنويع أساليب التعزير مما يؤدي إلى تثبيت الاستجابات الصحيحة، وتأكيد التعلم، كما أن استخدام الوسائل التعليمية يؤدي إلى تعديل السلوك وتكوين الاتجاهات الحديثة[41].

 ولابد من التأكيد على أن المعلمين أثناء استخدامهم للوسائل التعليمية التي تعتمد على التقنية الحديثة أو غيرها أن يراعوا في ذلك أن تكون منضبطة بأحكام الشرع فلا يستخدم إلا المشروع منها وليبتعد عما سواها.

    • تعليمه صلى الله عليه وسلم بالممازحة والمداعبة.

وكان يداعب أصحابه في بعض الأحيان ويمازحهم، ولكنه ما كان يقول إلا حقا[42]، وكان يعلم كثيرا من أمور العلم خلال المداعبة والممازحة، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ” كان رسول الله ﷺ يدخل علينا، ولي أخ صغير يكنى أبا عُمير، وكان له تُغرّ يلعب به، فمات، فدخل عليه النبي ﷺ ذات يوم فرآه حزينا، فقال: ما شأنه؟ قالوا مات نُغَرُه، فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير[43] ؟[44]. وروى أبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ” إن رجلا استحمل رسول الله [45] : إني حاملك على ولد الناقة فقال الرجل: يا رسول الله ما ﷺ أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله ﷺ وهل تلد الإبل إلا النوق؟ فأهمه الرسول ﷺ من طريق هذه المداعبة اللطيفة أن الجمل ولو كان كبيرا يحمل الأثقال، ما يزال ولد الناقة[46].

والدعابة اللطيفة تروح عن الإنسان وتلطف من ثقل المتاعب التي تنتابه أو تصاحبه، فإن الحياة لا تخلوا من المرارة والمكاره، فالدعابة تخفف من وطئ ذلك على النفس، والمرء يتعلم بالابتسام والبشر أكثر مما يتعلم بالعبوس والقطوب.

وما أعذب الدعابة المعلمة الهادية المبصرة، فإن الجد الدائم يورث رهق الذهن، وكلل الفكر فالمزاح اللطيف الهادي بين الحين والحين يعيد إلى الإنسان نشاطه وانتباهه، فما أعلم هذا المعلم الحكيم، الوقور الرؤوف الرحیم ﷺ قال العلامة ابن قتيبة رحمه الله تعالى: إنما كان رسول الله ﷺ يمزح، لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاعتداء بهديه ولو ترك الطلاقة والبشاشة، ولزم العبوس والقطوب، لأخذ الناس أنفسهم بذلك على مما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا، وكان لا يقول إلا حقا[47]،[48].

خاتمة

إن من الأمور المهمة في هذا العصر السعي إلى ربط الناشئة منذ البداية بالسيرة النبوية العطرة، ليتم تلقي المعرفة من خلالها موضوعا وأسلوبا، وذلك لما يجده الدارس لهذه السيرة من علم ومعرفة تنسجم جدا مع حاجاته ومتطلباته في الدنيا والآخرة، بل إنه ليجد التطبيق الحي لهذا العلم.

وإن مما يعانيه المجتمع اليوم الانفصام البين بين العلم والتطبيق، فكثير من الناس لا تنقصهم المعرفة، ولكن ينقصهم جانب كبير من تطبيق لتلك المعرفة، وتحويلها إلى سلوك عملي مؤثر، ولذلك فإن من المهم اليوم أن يتجه الأساتذة والمربون، وهم قادة المجتمع ومربو أجياله، وقدوة ناشئته إلى السيرة النبوية للارتباط بها، والسعي إلى تلقي تلك الدروس النبوية، ومعايشة موضوعاتها والوسائل الذكية المستخدمة من قبل سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم .

كل هذا تأكد لنا من خلال نتائج هذه الدراسة المختصرة لجزئية من سيرة الرسول المتعلقة بالتعليم حيث برز اهتمامه بتعليم أصحابه وتوجيههم، مما يشير إلى ما للتعليم عنده من عناية فائقة، واتبع في ذلك أرقى الأساليب التعليمية وأنجع الوسائل التي توصلت إلى بعضها أخيرا النظريات التربوية الحديثة.

وكان من نتائج هذه الدراسة بروز القيمة العلمية المهمة للجوانب التعليمية التي وردت في سيرة المصطفى والتي لابد من تنبيه المعلمين إلى قيمتها العظيمة للاستنارة بها في سيرتهم التعليمية.

ولهذا فيمكن توظيف نتائج هذه الدراسة فيما يحقق خدمة المعلمين في العصر الحاضر من خلال توجيه المعلمين للاستعانة بالوسائل التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم الأصحاب، والمزج بينهما وبين النظريات التربوية الحديثة وإبراز السيرة النبوية الشريفة في مختلف المواقف وتعميق ذلك في نفوس الطلاب، وكذلك دراسة تلك المواقف واستخلاص الفوائد المهمة المتصلة بالمعلم والربط بينها وبين مقدرته في إيصال المادة العلمية لتحقيق نجاح العملية التربوية، هذا خلاف ضرورة لفت انتباه الدارسين والممارسين من رجال التربية والتعليم إلى ما تحفل به السيرة النبوية الشريفة من درر تربوية عظيمة ينبغي أن تكون حاضرة في ذاكرة المعلم.

وأخيرا، فإن هذه الدراسة، تعتبر إسهاما متواضعا في الجهود الرامية إلى التأصيل الإسلامي للعلوم النفسية والتربوية.

والحمد لله رب العالمين

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. [1] – مقاييس اللغة لابن فارس، مادة “وسل “، ج 6/ 110
  2. [2] – أحمد أباطين، ” المرأة المسلمة المعاصرة ” ط 1، الرياض دار عالم الكتب: 1411 هـ، ص: 46.
  3. [3] – ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ط: 7، (بيروت : مؤسسة الريان للنشر والتوزيع، 1423 هـ )، 2 / 74.
  4. [4] – انظر وسائل الاتصال والتكنولوجيا في التعليم، ط: 14: 1416هـ – 1996م، للدكتور حمدي الطوبجي، دار القلم الكويت، ص: 31.
  5. [5] – انظر البيانوني: ” مدخل إلى علم الدعوة ” ص: 282، بتصرف، ط: 2: 1414 هـ، ط: مؤسسة الرسالة.
  6. [6] – التربية الإسلامية وطرق تدريسها للدكتور محمد إبراهيم الشافعي، ص: 269.
  7. [7] – انظر: إبراهيم عباس: ” أفكار تربوية “، ص: 60، ط: 1400 هـ، تهامة للنشر بجدة.
  8. [8] – قبسات من الرسول الأعظم، لمحمد قطب، ص: 34.
  9. [9] – لسان العرب لابن منظور، مجلد 2، ص: 870
  10. [10] – سورة يس الآية 81.
  11. [11] – سورة الأنعام الآية 73.
  12. [12] – سورة البقرة الآية 102.
  13. [13] – سورة الرحمان الآية 1.
  14. [14] – مجلة العلم والإيمان، ص: 10، ( ج. ع. ل. 100 تونس 150 ، 2 / 1396) بقلم: أحمد عبد الرحمن السائح.
  15. [15] – مجلة العلم والإيمان، ص: 12.
  16. [16] – مجلة البيان السنة الحادية والعشرون العدد 235 ربيع الأول 1421 هـ، مارس 2007 م، ص: 25.
  17. [17] – معجم علوم التربية مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك مجموعة أساتذة سلسلة التربية، 9 – 10، ط: 2 /.1998
  18. [18] – معجم علوم التربية، ص :8.
  19. [19] – لا نكفت الثياب والشعر: أي لا يجمع الثياب والشعر، انظر فتح الباري، ج: 2 / 296.
  20. [20] – صحيح البخاري كتاب الآذان، باب السجود على الأنف، رقمه ( 812 )، ج: 1 / 222
  21. [21] – جزء من حديث ورد في صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، رقمه ( 1304 )، ج: 2.106-105/
  22. [22] – فتح الباري، ج: 10 / 450
  23. [23] – فتح الباري، ج: 3 / 9 – 10.
  24. [24] –  شرح الكرماني على صحيح أبي عبد الله البخاري، ج 4 / 118، ط: 2: 1401 هـ، إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان
  25. [25] –  بدائع القرآن، لابن أبي الإصبع ص: 82، ط 2 ، بدون سنة الطبع، دار النهضة مصر .
  26. [26] – الأعراض الآفات العارضة له فتح الباري، 11 / 238.
  27. [27] – نهشه اصابه فتح الباري، ج: 11 / 238.
  28. [28] – صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب: في الأجل وطوله.
  29. [29] – سورة الأنعام، الآية 153.
  30. [30] – المسند 1 / 435، وانظر النيسابوري، المستدرك على الصحيحين دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، کتاب التفسير، ج: 2 / 239 ، وقال عنه الحاكم: ” هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه المرجع السابق، ج: 2 /.239.
  31. [31] – انظر: الملا علي القاري، “مرقاة المفاتيح “، ج: 1 / 411، بدون، الطبعة، وستة الطبع، المكتبة التجارية بمكة المكرمة.
  32. [32] – الوسائل التعليمية، ص: 304.
  33. [33] – غرز بين بدية: غرزا غرز: أي أدخل في الأرض.
  34. [34] – يتعاطى الأمل يباشره ويستعمله، ويشتغل بما يأمله ويريد أن يحصله، انظر مرقاة المفاتيح، ج: 9 / 129.
  35. [35] – يختلجه: أي يجتذبه ويقتطعه انظر: النهاية في غريب الحديث، والأثر مادة ” خلج “، ج: 2 / 129.
  36. [36] – مسند الإمام أحمد، ج 18/3، وقال عنه الحافظ الهيثمي، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير علي بن على الرفاعي وهو ثقة نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، ج: 10/ 255، بدون الطبعة وسنة الطبع، 1406، مكتبة المعارف، بيروت – لبنان.
  37. [37] – دراسات في المناهج والأساليب العامة، ص: 117/115
  38. [38] – انظر عمدة القاري، ج: 4 / 112.
  39. [39] – صحيح سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا رقمه (135)، ج: 1، ص: 28.
  40. [40] – أبو جمرة الأزدي الأندلسي: “بهجة النفوس، ج: 1 / 134، ط: 3، 1979م، دار الجيل، بيروت، لبنان.
  41. [41] –  الطوبجي: ” وسائل الاتصال والتكنولوجيا في التعليم “، ص: 44 – 48، ط: 8، 1987م، دار القلم، الكويت
  42. [42] – رواه الترميذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المزاح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا يارسول الله إنك تداعبنا؟ قال إني لا أقول إلا حقا “.
  43. [43] – النغير: تصغير النغر، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار
  44. [44] – رواه البخاري في كتاب الأدب باب الانبساط إلى الناس ومسلم في كتاب الآداب باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير والترميذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المزاح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله إنا تداعبنا؟ قال إني لا أقول إلا حقا ” أبو داوود في كتاب الأدب وابن ماجة كتاب الصلاة باب الصلاة على البسط وكتاب البر والصلة باب ما جاء في المزاح.
  45. [45] – أي سأله أن يعطيه بعيرا من إبل الصدقة ليحمل عليه متاعه.
  46. [46] – وفيه من الأمور التعليمية: تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم المتعلم وغيره على أنه إذا سمع قولا ينبغي له أن يتأمله وأن لا يبادر برده وهذا خلق هام جدا يتعين سلوكه على المتعلم ليفلح . وفيه أيضا لفت الذهن إلى إدراك المعاني الدقيقة.
  47. [47] – الفتوحات الربانية على الأذكار النووية للشيخ ابن علان، 6 / 297.
  48. [48] – الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم بقلم عبد الفتاح أبو غدة، ط: 2، 1417 هـ / 1997م، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان.
Scroll to Top