نظرات في مفهوم المثقف الكوني
عند هادي العلوي

رشيد الاركو

طالب باحث بسلك الدكتوراه
كلية الآداب والعلوم الإنسانية – وجدة 
جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب.

ملخص

قاربَ الباحثُ مفهوم المثقف عند هادي العلوي مُنْطَلِقًا من السؤالين الآتيين: هل تمكن هادي العلوي من خلال تمثله لمفهوم المثقف من قراءة التـراث قراءة تجديدية؟ وهل استطاع من خلال فهمه للمثقف أن يستوعب تراثه، ويحافظ على القيم الحاكمة فيه، ويوظفه التوظيف الأمثل من أجل حاضره ومستقبله؟

وقد عالج الباحثُ هذا الموضوع وفق المباحث الآتية:

1- سيرة هادي العلوي إنسانا ومثقفا.            

2- مفهوم المثقف عند هادي العلوي.

3- نظرات تجديدية في التراث.

فخلص الباحثُ إلى أن هادي العلوي آمن بمثقفه الكوني المصاغ أساسا من تفاعل الحضارات الثلاث؛ الحضارة الصينية ممثلة في التاوية، والحضارة الإسلامية ممثلة في الصوفية، والحضارة الحديثة ممثلة في الماركسية.

وقد تمثل هادي العلوي المثقف الكوني بشروطه وخصاله إلى حد أن انعكس ذلك على حياته الشخصية، سواء في علاقته مع نفسه أو مجتمعه، أو في علاقته مع التراث، أو في علاقته مع السلطات الثلاث: الدولة والمال والدين.

وقد دعا ختاما إلى المثاقفة مع الحضارة الحديثة والانطلاق منها في تأسيس معرفتنا، دون التخلي عن خصوصياتنا التراثية والإقليمية، مفصحا بذلك على أن عمق مشروعه التجديدي يتحدد عبر فهمه للثقافة والمثقف بوصفهما مقاومة ومعارضة أبدية لأي سلطة غير فاضلة..

Abstract

     The researcher explored the concept of the intellectual according to Hadi Al-Alawi, following two research questions. First, Has Hadi Al-Alawi been able, through his representation of the concept of the intellectual, to present a renewed reading on heritage? And second, has he been able, through his mapping of the concept, to assimilate its heritage, preserve its governing values, and employ it optimally for present and future time?

     The researcher addressed this topic according to the following axes:

1-      A biography of Hadi Al-Alawi as a human being  and an intellectual individual.

2-      The concept of the intellectual according to Hadi Al-Alawi.

3-      Renewed perspectives in heritage.

     The researcher concluded that Hadi Al-Alawi believed in his universal intellectual as shaped primarily by the interaction between three civilizations, namely the Chinese civilization represented by Taoism, the Islamic civilization represented by Sufism, and the modern civilization represented by Marxism.

     Hadi Al-Alawi represented the universal intellectual with its conditions and characteristics to the extent that it reflected on his personal life, notably at the level of his relationship with himself and his society, his relationship with heritage, and in his relationship with the three authorities: state, money, and religion.

     Eventually, Hadi Al-Alawi expressed the need to engage in acculturation with modern civilization and to build our knowledge on that basis, without abandoning our heritage and regional specificities. He revealed that the depth of his renewal project is determined by his understanding of culture and the intellectual as being eternal resistance and opposition against any unjust authority.

مقدمة

يُعدُّ مصطلح المثقف من بين المصطلحات الكثيرة التداول والمثيرة للجدل، إذ يصعب على أي باحث صياغة مفهوم جامع مانع حاصر له، وبالتبع يصعب عليه تحديد وظائفه وأدواره ومهامه ومسؤولياته، وأغلب المحاولات البحثية التـي قاربته إلا وخرجت بمصطلحات جديدة تحمل مفاهيم مختلفة هي الأخرى تحتاج إلى حصر وتقييد وتدقيق.

فيجد القارئ نفسه في كل مرة أمام مثقف من نوع آخر؛ فهو مثقف عضوي عند غرامشي، ومثقف متخصص بحسب فوكو، ومثقف محترف أو هاوٍ لدى إدوارد سعيد، ومثقف كوني كما يرى ذلك هادي العلوي.

وعلى أي فكلُّ باحث يقارب هذا المصطلح من زاوية فهمه للدين والتراث والثقافة والحضارة والفكر والسلطة، ويسنده إلى مفهوم ما ويحدده به انطلاقا من تحيزاته ومرجعياته المعرفية والثقافية والسياسية.

وقد جاء هذا البحث ليبين موقع مفهومِ المثقفِ ومفتاحيته في المشروع الإصلاحي لهادي العلوي، ولبلوع هذا المقصد تم التوسل بالسؤالين الآتيين:

هل تمكن هادي العلوي من خلال تمثله لمفهوم المثقف من قراءة التـراث قراءة تجديدية؟ وهل استطاع من خلال فهمه للمثقف أن يستوعب تراثه، ويحافظ على القيم الحاكمة فيه، ويوظفه التوظيف الأمثل من أجل حاضره ومستقبله؟

وقد ارتكز البحث على فرضيتين اثنتين؛ الأولى تذهب إلى أن تمثل هادي العلوي لمفهوم المثقف قد انعكس بشكل واضح على حياته الشخصية فصار هاجسا معرفيا وسلوكيا لديه، إلى حد أن اتخذه (براديغم) يقرأ به التراث والثقافات والحضارات ويحللها ويصنفها انطلاقا منه.

والثانية ترى أن هادي العلوي قد نجح نسبيا في وضع أرضية تجديدية للاشتغال وفق المحصلة التاريخية للثقافات، مع امتزاجها بالخصوصيات الحضارية والثقافية والإقليمية، فمشروعه يعمل على الوصل مع العناصر الملائمة من التـراث وتوظيفها توظيفا ثوريا يراعي الخصوصيتين المكانية والتاريخية.

وللإجابة عن السؤالين أعلاه وفحص الفرضيات المنطلق منها ارتأيتُ سلك المسار البحثـي الآتي: مقدمة وثلاثة مباحث فخاتمة.

المبحث الأول: سيرة هادي العلوي إنسانا ومثقفا  

حاول هذا المبحث إبراز بعض مواقف هادي العلوي الإنسان ومقارنتها بهادي العلوي المثقف، وذلك من خلال تتبع محطات حياته وأهم مواقفه.

  1. اسمه وألقابه

اسمه الكامل هادي نوري سلمان العلوي، ولُقب بألقاب عدة وضحها بنفسه في النص الآتي:” كتب لي أحد أصدقائي الخلص يهزأ مني قائلا: لعلك الآن تسمي نفسك “أبو ماو” بعد أن كنت تتسمى “أبو فيدل” وأنا اليوم لا أبو فيدل ولا أبو ماو، فالمقدس عندي هو القضية والثوابت المبدئية وليس الأسماء، على أني أميل الآن إلى تلقيب نفسي (سليل الحضارتين) ولا يدخل ذلك في باب التقديس؛ لأني أمارس بنفس الوقت نقد أسلافي”[1].

ويقصد هادي العلوي بسليل الحضارتين؛ الحضارتين الشرقيتين الصينية والإسلامية، ومن هذا المنطلق علَّقَ على باب شقته عبارة تقول “مرتقى الحضارتين”[2].

  1. ولادته ووضعه الاجتماعي

وُلِدَ هادي العلوي في كردة مريم ضاحية ريفية من ضواحي بغداد سنة 1932م، وترعرع في أحضان عائلته الفقيرة، حيث كان والده يشتغل في البناء، وكان جده سلمان فقيه الكردة وإمامها.

وقد وصف هادي العلوي مرة أهل منطقته بقولة أنجلز: (فلاحين مستقرين لكنهم في حالة انحطاط)[3].

وكان وضعه الاجتماعي من بين العوامل الفاعلة والمؤثرة في هادي العلوي الإنسان والمثقف، وهذا جلي لكل عارف بهادي العلوي، وقد وضح هذا الأمر بنفسه عـبر إجابته عن إحدى الأسئلة القائلة: ألم تكن للتأثيرات الاجتماعية عليك، أواخر الأربعينيات، دورا في وصولك إلى الماركسية؟ فأجاب قائلا: أنا لا أخضع للجو السائد… يمكنني أن أكون مع الأقلية ضد الأكثرية، لكن تأثرت طبقيا بوضعي العائلي، لأني عانيت الفقر والجوع مع والدتي، مما غرس في وعيي الصغير كرها للأغنياء ولدولة الأغنياء، وصرت أبحث في مصادري الإسلامية عن ما يشبع هذه النزعة، وأذكر مما صدمني مبكرا أن أكتشف أن الإسلام يبيح التملك الخاص… ترافق ذلك مع استمراري في القراءة واكتشاف المزيد من النقاط الحساسة التي تصدم وعيـي الطبقي… فهكذا يكون انتقالي ليس بفعل الموجة السائدة، بل بعامل داخلي”[4].

  1. مسار التحصيل والتأليف

إنَّ ثقافة هادي العلوي الأولى ترجع بالأساس إلى مكتبة جده الزاخرة بكتب التراث والتاريخ، قال في هذا الصدد متحدثا عن فترة الأربعينيات: “في ذلك الوقت لم أكن قادرا على شراء كتاب، بل ولم يكن عندي مذياع للاستماع إلى الإذاعة، فكنت أقرأ فيما ورثته من كتبٍ حتى نهاية الأربعينيات”[5].

ولقد تأثر هادي العلوي بعدد من المفكرين العراقيين ابتداءً من الخمسينيات من بينهم: كامل الجادرجي صاحب جريدة الأهالي الجريدة المفضلة له فعبرها تابع المستجد من الأفكار اليسارية والديمقراطية، وشاكر جابر، وعلي الشوك، وحسين مروة، وجلال الحنفي الذي رشحه ليحل محله في تدريس العربية في الصين.

ومن بين المواقف الراسخة في أذهان المحيطين بهادي العلوي أثناء تحصيله الدراسي، تفاديه مصافحة الملك فيصل الثاني سنة 1954م عند توزيعه الشهادات على الطلاب المتفوقين الذي كان هادي العلوي واحدا منهم.

ولعلَّ موقفه الرافض للمصافحة راجع بالأساس إلى تشبعه الكبير بثقافة المعارضة، والنصوص والأقوال التراثية التي استقى منها هادي العلوي هذه الثقافة ورسخت لديه مفهوم المثف الكوني كثيرة جدا، منها على سبيل المثال قول يحيى بن معاذ: “كنت أمشي مع سفيان الثوري في طريق فمررنا بباب[6] منقوش مزوق فنظرت إليه، فجذبني سفيان حتى جزت، فقلت: ما تكره من النظر إلى هذا؟ فقال: إنما بنوه لينظر إليه، ولو كان كل من مرّ به لم ينظر إليه ما بنوه. فكأنه خشي أن يكون بنظره معاونا له على بنائه”[7].

فالمصافحة تدخل في حاسة اللمس والنظر إلى الباب المنقوش أو القصر المشيد تدخل في حاسة البصر، لهذا تحدث في موضع آخر عن ثقافة المعارضة بالحواس قائلا فيه: “والخيار الأرأس لمثقف المقاومة مقاطعة الأنظمة… ولعلنا سنرميهم (المتصوفة والتاويين أو المثقفين الكونيين) بالطفولة اليسارية إذ علمنا أنَّ المقاطعة عندهم تمتد إلى الحواس الخمس ومنها حاسة البصر، فإذا كنت ماشيا في طريقك وصادفت قصرا سلطانيا فلا تلتفت إليه؛ لأنك إذا التفت إليه تكون قد ساعدتهم على بنائه والإقامة فيه”[8].

أمَّا بخصوص بداياته الأولى في الكتابة، فقد بدأ بعد أن استكمل أدوات المنهج الماركسي، وكانت أول بحوثه المنشورة عام 1960م في مجلة المثقف… وفي مجلة اتحاد الأدباء، وكان البحث عن أبي حيان التوحيدي… وقد كتب البحث باسم مستعار[9].

وبعد ذلك كتب ما يزيد على عشرين كتابا في مجالات شتى، منها الأدب واللغة والفلسفة، والسياسة، والتاريخ، والترجمة، ونشر أبحاثه في مجلات عدة، وكان يرفض تقاضي أي أجر مقابل كتاباته.

  1. زهدُ هادي العلوي

عاش هادي العلوي حياته وفق التزامات وقيود فرضها على نفسه إيمانا منه بالحكمة التي تقول: “يجوع الحكيم لكي يشبع الناس” وتطبيقا لها؛ لأنه يرى أنَّ المثقف مناضل اجتماعي يستمد قدرته على خوض النضال من قوته الروحية؛ أي من تجرده من مطالب الجسد (الأكل، والشرب، والجنس) ومطالب النفس (السلطة والوجاهة)، والمثقف بهذه الشروط يأكل ليعيش ويلبس ليستر جسمه فقط، وإذا فكر بسلطته فلكي يقابل بها سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة المال[10].

وقد ألزم هادي العلوي نفسه في حياته بقولة الحلاج: “أجوع مع الجائعين فذلك هو شرط المعرفة، وألتحف المنافي فذلك هو شرط الحرية”[11]، وهو في ذلك معتد بالشعار الآتي:” شرط الحرية الخروج من الملكية”[12].

وقد تزوج هادي العلوي امرأة واحدة امتثالا لموقفه من الزواج الضرائري (التعددي)، ولم ينجب منها ولدا، اقتداء بشيخ المعرة أي العلاء المعري الذي قال: “هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد”.

وألزم هادي العلوي نفسه كذلك بعدم أكل اللحوم، حيث اقتصر على النباتية وما ينتجه الحيوان من لبن وعسل وسمن وبيض.

وإذا دخل أحد بيته وجد أثاثه بسيطا، إضافة إلى صورة لكارل ماركس وأخرى للينين وثالثة لغيفارا، وصورة متخيلة لحكيم الصين كونفوشيوس… ولوحة “حالة صوفية” لجبـر علوان، وقصائد وكتابات مختلفة مؤطَّرة ومعلقة، فضلا عن كتب قليلة وبعض المعاجم والمغلَّفات، ونظارتين سميكتين وعدسة مكبرة، وكرسي متواضع وطاولة صغيرة، وبعض البطاقات الملونة المرسَلة من الأصدقاء[13].

وقد كان في معاملته مع الناس كما تحكي زوجته بسيطا وتطيب عشرته، وكان محبا بصدق للفقراء والجياع وأصحاب القضايا العادلة… وكان يكره المظاهر البرجوازية والنفاق والمهادنة… وتضيف بأنه لم يدخل يومًا إلى فندق من ذوات النجوم الخمس، وكان يتفادى حضور الحفلات والولائم والمناسبات التي يُدعى إليها[14].

وكل ما قيل يسهم في إلغاء الفوارق والحدود التـي يمكن أن تكون بين هادي الإنسان وهادي المثقف؛ لأن نظرته للثقافة تنعكس تماما في واقعه المعيش، وفي معاملته مع الناس، رغم كل ما عاشه من نفي وإبعاد عن بلده الأم، وارتحاله بين العراق والصين ولندن وبيروت، واستقراره أخيرا في دمشق، وبقي في قلبه شيء من حلمه الأبدي الرجوع لأول منزل.

  1. وظائفه وبعض مواقفه الجريئة

اشتغل هادي العلوي سنة 1957م في دائرة صندوق احتياط مستخدمي الحكومة، بعدها انتقل إلى وزارة الثقافة والإرشاد ونُسب إلى إحدى مديريات الوزارة، وقد اهتم رفقة جلال الحنفي سنة 1961م بالفلكور والتراث الشعبي[15].

وانتقل في السبعينات إلى الصين فشغل منصب خبيـر في تدريس اللغة العربية في جامعات بكين، حيث درس العربية في معهد اللغات الأجنبية، وأشرف على طلاب الدراسات العليا، وساعد الأساتذة الصينيين في التأليف والبحوث[16].

وفي الصين اهتم هو الآخر بالبحث والتأليف، وقد أسس جمعية بغداد المشاعية وبلور سياستها في كتابه مدارات صوفية.

قال أسعد جاسم حنظل زميله في دائرة صندوق احتياط مستخدمي الحكومة عن بعض مواقفه في العمل: مرة كتب قصيدة يهجو بها أحد موظفي الدائرة (صندوق الاحتياط) كاتب طابعة اسمه عباس؛ لأنه كان يتأخر في طبع الكتب التي يرسلها إليه:

عباس يا جرثومة الصندوق      وذبابة في مركز مرمـــــــــــــــــــــــــــــــــــوق[17]

وفي إحدى المرات كتب أبيات عدة يهجو فيها الدائرة ومديرها، لكون موقعها بين بيوت قديمة ومطابع كثيرة وخرائب وأزبال:

تبا لها من دائــــــــــــــــــرة         دارت عليها الدائــــــــــــرة
مديرها مستهـــــــــــــــتر          وأهلها طراطــــــــــــــــــرة
     في شرقها قمامـــــــــة         وفي الشمال (عاهرة)[18]

وعلى المنوال نفسه نظم قصيدة تهكمية عند صدور نتائج الانتخابات آنذاك، وكان اسم أحد النواب الفائزين سمرحر، قال فيها:

نظر الله سمرحـــــر           نائب الشعب المظفر
وجزاه الخـير عنــــــــا             بالذي شاد وعمّــــــــر[19]

  1. مرضه ووفاته

كان هادي العلوي مريضا (بمرض الربو) ضيق التنفس، وقد عانى الكثير منه، لكن رغم معاناته ثبت واستمر مقاطعا لكل الأدوية غير الوطنية، منسجما مع أفكاره وثقافته المعارضة، فاقتصر على التداوي بالبدائل الوطنية إلى أن وافته المنية صبيحة يوم الأحد 21 شتنبر 1998م، عن سن تناهز ستة وستين عاما في مستشفى الشامي بدمشق، وقد دفن هناك[20].

وفي ختام هذا المبحث، لا يجد المتتبع لحياة هادي العلوي ومواقفه خيرا ممَّا قاله حسن العلوي في حق أخيه ملخصا سيرته: “هـادي الـعـلـوي يـطـبـق عـلـى نـفـسـه مـعـتـقـداتـه الـفـكـريـة، فـإذا دوّن نـصًّـا فـي الـزهـد سـارع إلـى الأخـذ بـه فـي حـيـاتـه الـبـسـيـطـة، وكـان يـقـرّ بـنـظـريـة الـقـدوة والـنـمـوذج الـمـشـع والـمـؤثـر فـي الـمـجـتـمـع”[21].

المبحث الثاني: مفهوم المثقف عند هادي العلوي

اهتم هادي العلوي كثيرا بالثقافة وكل ما يرتبط بها، باعتبارها إرثا إنسانيا مشتركا، وحاول في أغلب كتاباته أن يوضح بعض الإشكالات المرتبطة بها، لهذا تتبع مفهوم الثقافة في اللغات، وحدد الفروق بينها و بين مفاهيم مرتبطة بها كالعلم والمدنية و الحضارة، وحاول تأصيل هذه المفاهيم.

فها هو يعرف الثقافة بقوله إن: “الثقافة (culture) كلمة مشتركة استعملت في ثلاث ظواهر مختلفة حسب اللغات الأوربية، فأطلقت بالاشتراك، على الحضارة والثقافة… فهي تستعمل من طرف علماء الاجتماع و الأنتربولوجي عند البحث في وسائل الحياة في مجتمع ما كالمجتمع البدائي، فيقال (Primitive Culture). ويضعها الفلاسفة مقابل مدنية (civilization) عند الحديث عن منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية للمجتمع الأوربي الحديث… وثمة تساهل في استعمال حضارة بإطلاقها على المدنية… حيث يقال: الحضارة الصينية، الحضارة الإسلامية. والأدق أن يقال: المدنية الصينية، المدنية الإسلامية، المدنية الحديثة. لكن من المعلوم أن المدنيات لها في الوقت نفسه قيم إنسانية وأخلاقية تجـيز تسميتها حضارة”[22].

ويذهب هادي العلوي إلى وجوب التفريق بين العلم والثقافة، باعتبار أن العلم يضم الفيزياء والكيمياء والفلك والطب والتكنولوجيا… وبهذا المعنى يجب بحسبه تحصيل العلوم بكل الوسائل المتاحة ولو بسرقتها ممن يحوزها، أمَّا الثقافة فهي في نظره شيء آخر.

وقد اجتهد هادي العلوي فاشتق من مثقف مصطلحا بدل الثقافة، قال معللا ذلك: “يمكننا لأجل الدقة والتمييز أن نلجأ إلى اشتقاقها من مثقف فنقول: مثقفية كاشتقاقنا مؤسسية من مؤسسة”.[23]

وموضوع الثقافة عنده مرتبط أشد الارتباط بنظرته للمثقف لهذا يحاول هذا المبحث إبراز مفهوم المثقف كما تمثله هادي العلوي عبر المطالب الآتية:

  1. تعريف المثقف

قارن هادي العلوي اشتقاق كلمة المثقف بين اللغة العربية واللغات الأوروبية، فوصل إلى أن أصل اشتقاقهما متباين، فالكلمة الأوربية مشتقة من (intellect) وتعني العقل. وفي العربية مفردتان تدلان على هذا المعنى: عقل التـي تفيد القدرة على التصور والفهم، وذهن ويعرفه القدماء بأنه قوة تنطبع فيها صور الأشياء، فهو يفيد محض الاستعداد للتعقل.

وبناء على هذا يصل إلى أن المشتق من (intellect) لا يدل على العاقل في العربية، فالعاقل يرد بمعنى الرزين والحكيم المضاد للطيش والخفة، أما المعنى الأوربي فهو يشير إلى من امتلأ ذهنه بالمعرفة وصار له عقل يستطيع به أن يتصور ويفكر ويحاكم الأشياء، وهذا هو المثقف عندنا، وهو مصطلح مستحدث إلا أنه يستند إلى جذر قاموسي قديم، ففي القاموس المحيط: ثقِف فلان ثقافة: صار حذقا خفيفا فطنا، وفي تاج العروس: التثقيف والتهذيب والتأديب، يقال هل تهذبت وتثقفت إلى على يدك. واشتق المعاصرون في نظره مثقف من جملة هذه الدلالات التي تجمع بين الفكر الراقي والسلوك الراقي، ويختلف هذا التحديد للمثقف عن الكلمة الأوربية التي تدل على الفكر حصرا[24].

  1. المثقف عند القدماء

بعد أن حدد هادي العلوي دلالة المثقف في اللغة العربية واللغات الأوربية، حاول أن يبحث عن المثقف عند القدماء وتساءل عن الاسم الذي كان يطلق عليه باعتبار أن مصطلح المثقف مصطلح مستحدث فقال: “المثقف عند القدماء هو العالِم ضمن تحديدات معينة”[25].

من خلال هذا الكلام يتبين أن مصطلح العالِم كان حمالا لعدة دلالات من بينها دلالة المثقف، لهذا قام هادي العلوي بتفكيك هذا المفهوم وبيان كل من يدخل فيه، ليحدد في الأخـير النقاط المشتركة بين من يطلق عليهم اسم عالِم.

قال في هذا الصدد: “كلمة عالم لم تستقر على معنى واحد في العصور الإسلامية، هناك من خصها بالفقيه أو عممها على المشتغلين بعلوم الدين (الفقه، الحديث، التفسير، الأصول) … لكن البحوث التي كتبها بعض المشتغلين بالدين وسعت التسمية بالعلم لتشمل فروع المعرفة كلها، وعلى هذا بنى ابن عبد البر كتابه جامع بيان العلم وفضله… وقد طبقت صفة عالم على كل من علوم الدين المشار إليها، ثم على اللغة، والنحو، والأدب، والطب، وعلم الأوائل؛ كالفلك والكيمياء. واتسع الوصف ليشمل كل نشاط ذهني”[26].

وبعد هذا مباشرة يصل إلى نتيجة أولية هي أن المطابقة بين المثقف والعالم نعثر عليها في نصوص ذات طبيعة خاصة ترتبط بأوساط المعارضة أو بالاتجاهات النقدية في المجتمع، ويستشهد على ذلك بنصين لعلي رضي الله عنه، الأول مذكور في نهج البلاغة وهو قول علي رضي الله عنه: “أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم”، والنص الآخر يرويه ابن سعد في الطبقات، قال فيه علي رضي الله عنه عن أبي ذر الغفاري إنه” وعى علما فأوكأ عليه”[27].

فيخلص هادي العلوي من خلال هذين النصين إلى مفهوم جوهري في رؤيته للمثقف، وهو مفهوم المعارضة، ويرى أن اللغة التي كتب به النص الأول مثلا تدخل ضمن لغة المعارضة.

وقد حاول هادي العلوي إبراز عناصر هذه المعارضة في الإسلام، من خلال تصنيفه العلوم حسب هذا المفهوم، حيث أدخل ضمن معسكر المعارضة الأصناف الآتية: المتصوفة، والفقهاء، والأدباء، وعلماء الكلام. واستبعد الفلسفة؛ لأنها ازدهرت في نظره في كنف السلطة[28].

وبنظرة متفحصة للتقسيم أعلاه يلحظ المتتبع أن معسكر المعارضة يدخل فيما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية، وهي العلوم التي يشتغل فيها المثقف في المعتاد بحسب هادي العلوي، وقد أدخل أهل هذه العلوم إلى معسكر المعارضة لسببين اثنين؛ أولا لكونهم يعلمون ما فرضه الإسلام عليهم، وثانيا لكون هذا العلم وتبحرهم فيه يلزمهم ويجعلهم مسؤولين عن العمل ضد تخمة الظالم وجوع المظلوم[29].

ثم يعطي في هذا السياق مثالا عن أبي ذر الغفاري، حيث يرى أنه لم يكن عالما بالدين ولم يشتغل لا في الفقه ولا في التفسير ولا في الحديث، وعلمه لا يزيد على علم المسلمين، فعلم أبي ذر لا يتفق مع المعنى الاصطلاحي للعلم، لهذا خلص هادي العلوي إلى أن هناك صفةً يتفرد بها شخص مثل أبي ذر ويعبر عنها بالعلم، وهي في نظره لن تعدو أن تكون إشارة إلى خصوصية وعيه الاجتماعي، وبناء على هذه الخصوصية يدرج أبا ذر الغفاري في معسكر المعارضة[30].

     ويصل بعد كل هذا إلى الخلاصات الثلاث الآتية:

  • إن مصطلح عالم إذن كما يفهمه معارضونا القدماء يتكافأ مع المثقف في لغتنا المعاصرة، ولا ينطبق على ما نسميه اليوم علوما بحتة وتطبيقية[31].
  • مفهمة المثقف تتكون من مفهومين: سمو الوعي الاجتماعي، وسمو العقل المتفرد بالإحاطة[32].
  • الوعي الاجتماعي تبع المثقف هو في الأساس نتيجة وعي معرفي[33].
  1. من خصال المثقف عند هادي العلوي

حدد هادي العلوي خصالا لمثقفه، انطلاقا من ثلاثة أسس جوهرية في رؤيته هي:

  • اطلاعه على ثلاث حضارات: الصينية، والإسلامية، والحديثة، واستخلاص أهم السمات المشتركة بينها[34].
  • تعامله مع تراث الحضارات الثلاث بمنهجية مأخوذة عن الماركسية والخلدونية ومنهج توينبي (التزاما بمبادئ التأريخ ومنهجيته).
  • تعامله مع التراث على أساس الانتقاء؛ بمعنى التوظيف الثوري للتراث[35].

وبناء على هذه الأسس استطاع أن يصل إلى الخصال الآتية التي تدور في جملتها على هذا التضاد:

  • الانفكاك عن الدولة أو السلطة (الانفكاك من السلطة هو من الخيارات الكبرى للمثقف/المثقفية تحمل في كينونتها مقت السلطة/السلطة قرين أصلين؛ الجهل والعدوان، فحضورها يتضمن إلغاء المثقف)[36].
  • استبعاد الدين من حساب الفكر (إن الإيمان والمثقف لا يجتمعان/ لا يوجد مثقف مؤمن)[37].
  • تجاوز الإيديولوجيا (لا يستقل المثقف عن الدين بل عن كل إيديولوجيا/الإيديولوجيا منظومة أفكار يقينية تتسم بالثبات/ليس مهمة المثقف إعلان الحرب عليها وإنما الكفاح لتطويرها)[38].
  • الارتباط بالناس[39].

بالإضافة إلى المفهوم الجوهري لديه، وهو خط المعارضة بوصفه (التزام مثقفي) يدخل في مضمار نشاط المثقف، والمعارضة بمعناها العام عند هادي العلوي هي تحرك منظم لإسقاط سلطة غـير فاضلة[40].

  1. المثقف الكوني

إنَّ مصطلح المثقف الكوني مصطلح استحدثه هادي العلوي ليعبر عن مفهومه للمثقف، والمثقف الكوني بالنسبة له هو ذروة متعالية وجدت في الحضارتين الصينية والإسلامية، قال في هذا الصدد: “تبرز في الحضارتين الصينية والإسلامية فئة من المثقفين تتركز فيها خصائص وإلزامات المثقفية على نحو مخصوص، يتكامل فيه شمول الرؤية مع مفردات الوعي الثقافي والاجتماعي مع سلطة معرفة تقف في توازٍ مع السلطتين السياسية والدينية”[41].

ويضيف في حوار له: “المثقف الكوني مصطلح استحدث لوصف غرار المثقف الذي يتميز بعمق الوعي المعرفي والوعي الاجتماعي معا، وبعمق الروحانية التي تجعله قويا على مطالب الجسد، ومترفعا على الخساسات الثلاث، وبالتالي قادرا على خوض النضال ضد سلطة الدولة وسلطة المال ومن أجل الشعب… ويصعب في الوقت الحاضر إطلاق هذا الوصف على أي مثقف عربي”[42].

ويمـيز في هذا الإطار بين مصطلحات عدة مثل: الثقافي، والمثقف، والمثقف الكوني، والمثقفية، والتنويري. فالمثقف بالنسبة له مشروط بالعمل؛ أي مشروط بالنضال الاجتماعي. والثقافي هو الفكري في دائرته الواسعة. والمثقفية تتجلى في استقلال الثقافي عن السياسي والإيديولوجي معا. وتترقى المثقفية إلى مستوى كوني بانعتاق المثقف من فروض الدولة والدين والإيديولوجيا أولا، ومن فروض الذات ثانيا. والمثقف الكوني مستقل عن الدولة والدين والإيديولوجيا كاستقلاله عن المال والوجاهة والأحلام الشخصية بالمجد، وهو يتمتع بالإضافة إلى كل هذا بالروحانية المستمدة من علاقته بالأسمى، والمثقف الكوني يتميز باستغنائه عمن سواه. والمثقفية بمعناها العام مرادف للتنوير، لكن الأخير مشروط بالمعرفة الكثيفة. والمثقفية قد تكون من نواتج هذه المعرفة الكثيفة، وقد تكون من نواتج تسامي الذات وتمتعها بوعي اجتماعي أو حس إنساني رفيع”[43].

  • من شروط المثقف الكوني

بالإضافة إلى الخصال التي يتميز بها المثقف، يضع هادي العلوي شروطا أخرى للمثقف الكوني هي:

  • الزهد والحرمان: “الحرمان فرض على أهل العقل حين تعظم ثقافتهم فتبلغ النصاب الذي تجب عنده الضريبة… والحرمان آية المثقف الكوني”[44].
  • الاستغناء عمن سواه: “المثقف الكوني مستغنٍ عمن سواه فهو لا يحتاج إلى الدولة، أيضا لا يحتاج إلى الناس، كما لا يحتاج إلى الله حسب الحكمة الصوفية التي تقول إن الصوفي من لا تكون له حاجة إلى الناس أو إلى الله”[45].
  • الوعي والنضال الاجتماعيان.
  • الوعي المعرفي والثقافي.
  • الروحانية: “يتمتع بروحانية تميـزه عن أهل الدين، يتجرد فيها عن لذائذيتهم ومطالبهم الحسية”[46].
  • الانعزال والارتباط بهموم الناس: “المثقف الكوني يحمل في عزلته صورة المجتمع وينشغل عنه بإيجاد أفكار تساهم في تطويره أو تقويم انحرفاته/المثقف الكوني يعتزل الناس ولا ينقطع عنهم”[47].
  • اعتدال المعيشة: “ولهؤلاء المثقفين على اختلاف حضاراتهم… يتماثلون في اعتدال المعيشة/الإقلال من الأكل والجنس مع بساطة الطعام والملبس والمسكن”[48].
  • الحلم: “الحلم هو أحد مصادر الثقافة عند هذه الفئة من المثقفين”[49]
  • لا يتميز عن العامة: “إذا التقى مع عامي يحاول أن يرفع كل فارق بينهما، فيتعامل معه باعتباره عاميا، ومن هنا التعبير الذي أميل إلى استخدامه المثقف الأمي”[50].
  • المثقف الكوني لا يملك شيئا لئلا يملكه شيء[51].
  • الاصطفاف إلى جانب صفوف الخلق ضد السلطات الثلاث.
  • نماذج من المثقفين الكونيين

وضع هادي العلوي نماذج للمثقف الكوني في كتابه مدرات صوفية، وخاصَّة في مدار الباء، وأطلق عليهم اسم الأبدال، وهم وفق الترتيب الذي وضعه في مدار الباء كالآتي: لاوتسه، ومنشيوس، وموتسه، وتشوانغ تسه، ويسوع الناصري، ومزدك، وأبو ذر، وروزبه، وعامر العنبري، وإبراهيم بن الأدهم، والحلاج، والنفري، وأبو العلاء المعري، وعبد القادر الجيلي، وشاو يونغ، وغوته، وكارل ماركس، ولينين، وتولستوي، وأخيرا إيفار لو يوهانسون.

وقال هادي العلوي عن مثقفي الوقت الحاضر: “يصعب في الوقت الحاضر إطلاق هذا الوصف على أي مثقف عربي”[52].

     والمتفحص للأسماء التي اختارها هادي العلوي يتبين له بجلاء أن نماذجه من المثقفين الكونيين شملت التاويين الصينين، والصوفيين الإسلاميين، ثم أخيرا الماركسيين الذين ينتمون إلى الثقافة الحديثة.

  1. موقف هادي العلوي من المثقفين في الفترة المعاصرة

ميز هادي العلوي بين المثقف الأمي والمثقف الجاهل، وهو في تمييزه هذا لا يخفي موقفه المعادي والمتشنج للمثقف العربي الجاهل.

ومسألة المثقف حاضرة في أغلب كتاباته وملازمة له، فهـي تمثل بالنسبة له هاجسًا معرفيًا وسلوكيًا، يقول في دعائه اليومي المشهور بـ” الصلاة اليومية إلى روح الكون”:

سلام عليكِ أيتها الروح السارية في وجودي

أيتها النار الأبدية التي تتوقد في صدري فتحميه من برد النسيان

سلام عليكِ أيتها الحروف العاليات

ها أنا ذا أبدأ يومًا جديدًا من صراعي ضد الأغيار الأربعة

مستعيذًا بكِ من الخساسات الثلاث

ومستمدًا منكِ القدرة على الاقتحام

يا معيني على البلوى…

أعني على التأويب في ديار الهم والغربة[53]

فهادي العلوي في ابتهاله هذا دائما ما يذكّر نفسه بصراعه ضد الأغيار الأربعة؛ أي الحكام، والمثقفون، والرأسمالية، والاستعمار. ويستعيذ من الخساسات الثلاث التي ترتبط بهم؛ أي يستعيذ من السلطة، والمال، والجنس.

إذن فالمثقفون عنده هم أغيار، يحتلون الموقع الطبقي والحضاري نفسه الذي يحتله الرأسماليون ورجال الدولة وعملاء الاستعمار، وقد صاغ هادي العلوي تعبير “المثقفية الكونية” ليميز بينها وبين مثقفية “الأفندية” أو شيوعية الأفندية[54].

وقد فسر موقفه من المثقفين العرب بتفصيل بقوله: “سبقني إلى معاداة المثقف شيخنا الروسي فلاديمـير لينين الذي اتهم المثقفين بالرخاوة والروح البرجوازية، وهذا الوصف يأتي من طبيعة الثقافة الغربية. ومثقفونا العرب غربيون في جملتهم، وعدائي لهم هو جزء من عدائي للثقافة الغربية، إن الأكثرية الساحقة لمثقفينا… لا تفرق بين فكر رسمي وفكر معارض، وتخدم الجميع على السواء… لذلك نجد التكالب عندهم على الامتيازات، فهم مأخوذون بالخساسات الثلاث… ويجعلونها من صميم العمل الثقافي، وقلما أجد فيهم مثقفا يرضى بالكفاف في العيش أو يقتنع بامرأة واحدة هي زوجته أو يتعالى على الشهرة والجاه… عندنا شعراء يلطمون في شعرهم عن الجياع ولكن حلمهم الأقصى هو الحصول على قصور يسكنونها ليكتبوا فيها الشعر؛ لأن الشعر عندهم لا يكتب إلا في ظروف جيدة… وجميع هؤلاء يتكالبون على ترجمة مؤلفاتهم إلى اللغة الغربية حتى يقرأهم الغرب ويشتهروا هناك ومعظمهم يدفع الرشوة لهذا الغرض، مؤكدين بذلك تبعيتهم للمرجع الغربي ومن هنا ضعف شعورهم الوطني وانسلاكهم في سلك العولمة، ولولا خوف أكثرهم من الجماهير لذهبوا كلهم إلى إسرائيل”[55].

المبحث الثالث: نظرات تجديدية في التراث (من ثنائيات هادي العلوي)

ترك هادي العلوي إرثا فكريا متميزا، ووضع بصمته الخاصَّة في التراث العربي الإسلامي عبر قراءته له وفق منهجية جديدة؛ جامعة بين عمق الحضارتين الصينية والإسلامية وخلاصة الحضارة الحديثة.

وسيحاول هذا المبحث أن يشير إلى بعض نتائج قراءات هادي العلوي للتراث وفق الثنائيات الآتية:

  1. التراث والماركسية

يتلخص مشروع هادي العلوي في المزواجة بين التراث والماركسية، وقد انبنت هذه المزاوجة أساسا على دراسته التراث بطريقتين؛ الأولى شكية وليست إيمانية، والثانية انتقائية غرضها التوظيف الثوري للتراث.

وهذا ما جعله يتمسك بالتراث ولا يتخلى عنه رغم انتقاله إلى الماركسية كما يفعل البعض، والتراث بحسبه ترثان؛ التراث العربي الإسلامي والتراث الصيني، وهذه المزاوجة هي جوهر مشروعه.

قال في هذا الشأن: “التجارب الشيوعية المعاصرة فشلت عندنا بسبب أحاديتها المرجعية، إذ اعتمدت حصرًا على المصادر المترجمة، وقد قلت في مناسبات كثيرة إن الماركسية وحدها لا تكفي، وقد أهمل شيوعيونا مصدر التأصيل للفكر الشيوعي والنضال الشيوعي… الذي يتمثل في التراث المكتوب والتراث المشفوه؛ أي في تراث الحضارة الإسلامية والبيئات المحلية”[56].

وبناء على هذا الأساس دعا هادي العلوي إلى أقلمة الماركسية على غرار تصيين الماركسية التـي أنتجت الشيوعية الصينية بمنجزاتها الباهرة، وأيضا على غرار التوظيف الثوري للمذهب الماركسي في عناصره السياسية والاجتماعية الذي طوره لينين ليكون أساسا للثورة الروسية؛ بمعنى أنه روسن الماركسية، وقد أُطلق على ماركسية روسيا الماركسية اللينينية كمذهب اجتماعي تتكيف للظروف والتقاليد[57].

ويضيف في هذا السياق أن: “تكييف الماركسية للظروف يعـني مزجها بالقيم الوطنية الموروثة والمعيوشة”[58].

ويتمثل هادي العلوي في مشروعه قولة العلامة حسين مروة التي تدعو إلى “استمرار الماضي في الحاضر” ويرى ذلك من خلال وعيينا لسيرورة التاريخ عندنا والتي يجب أن تبدأ مع تعاملنا مع البيئات المحلية ومحتوياتها التي تجسد استمرار الماضي في الحاضر.[59]

إذن فهو يدعو إلى القيام بعملية مدامجة بين عناصر الفكر التنويري حيثما وجدت في التراث العربي الإسلامي والتراث الصيني، وحتـى في تراث الإغريق، بلا تجزئة بين مصادر هذا الفكر، ثم إدماجها بالثقافة الحديثة، وعندئذ تتسع الأفاق ويصبح الماضي جزءا من الحاضر، بعد إخضاعه لمنهجنا النقدي[60].

ويرى كذلك أن الاهتمام بالتراث حاليا له ثلاث ساحات وثلاثة دوافع: الأول الرجوع للتـراث بوصفه عقيدة وهذا هو تراث الأصولية، الثاني الرجوع للتـراث لمحاربته باعتباره قاعدة الأصولية وهذا نمط مرتبط بالحملة الغربية القائمة على الإسلام، والثالث الرجوع للـتراث لتأصيل الثقافة الوطنية وهذا النمط معاد للأصولية وللاستعمار في آن واحد ومؤسسه بالتحديد هو العلامة حسين مروة، وهادي العلوي أحد تلاميذه السائرين في دربه[61].

ويرى تبعا لذلك أن جماهير التراث المدروس أيضا ثلاثة: جمهور سلفي يقرأ التراث كعقيدة، وجمهور مستغرب يدعم الخط المعادي للتراث في الوسط العلماني بدعوى معاداة الأصولية، وجمهور وطني يتثقف بالتراث في مواجهته للأصولية والاستعمار. وحديثه هنا عن جماهير المتعلمين وليست الجماهير الأمية[62].

إذن فجوهر مشروعه هو قراءة التـراث بصبغة ماركسية، دون أن ينسى نفسه أو ينسلخ من هويته، أو تبتلعه الإيديولوجية، فقراءته بحسبه تتسم بالنقد ونزع القداسة سواء عن التراث أم الماركسية، امتثالا لفهمه أنَّ أيَّة معرفة حقيقية إلا وتنطوي على عنصر النقد.

  1. التصنيف الثقافي للحضارات (حضارات مثقفة وحضارات غير مثقفة)

صنف هادي العلوي الحضارات معتمدا على مفهومه للمثقفية، فها هو مثلا يعلل تسميته الحضارة الصينية بالحضارة المثقفة؛ “لإنها عنيت بالمعرفة الفلسفية والفكر المنظم، وأنتجت فلاسفة عظاما، ومدارس فلسفية كبرى، كما أنتجت علوما وصناعات”[63].

وهو بهذا التعليل يحدد شرطين أساسين في تصنيف الحضارات إلى حضارات مثقفة وهما: إنتاج فلسفة وفلاسفة وإنتاج فكر منظم.

وفي نظره لا يجوز وصف الحضارات التي أنتجت فقط فنونا متقدمة أو تساهم في العلوم البحتة أو التطبيقية لكنها لا تنتج فكرا منظما، ولم تخلف مكتبات فكرية ولا مدارس فلسفية ولا فلاسفة بالحضارات المثقفة. ويمكن وصفها بحسبه بحضارات عمرانية أو مدنيات[64].

ويمثل للحضارات المثقفة بــــــحضارة الصين، وحضارة اليونان، وحضارة الهند، والحضارة الإسلامية، ويمثل للحضارات غير المثقفة بــــــــــــــــاليمنيين، والساميين، والسومريين، والفراعنة.

وقد علل تصنيفه للحضارات غير المثقفة بقوله: “لقد نظم اليمنيون الزراعة والري… لكنهم لم يتركوا لنا كتابا واحدا، ممَّا يعـني أنهم لم يعرفوا الثقافة بمفهومها العقلي المنظم، وأنتج الساميون والسومريون… فنونا متقدمة وساهموا في علوم الفلك والرياضيات، ومثلهم الفراعنة، لكنهم بقوا في دائرة الأسطورة، ومن هنا لا يسعنا تصنيفهم ضمن الحضارات المثقفة”[65].

وهو يعدُّ أنَّ العلمَّ البحت والصناعة قد تتزامن مع الأسطورة؛ لأن المهارة التكنولوجية مقطوعة الصلة بسيرورة العقل المنظم، ومثَّل عن ذلك بقوله: يمكن أن تجد كيمياويا عظيما، لكنه ضعيف العقل. ويستشهد في هذا السياق بوصف لينين لــــ ( هــــــنري.بوانكاري) بــــــــالفيزياوي العظيم جدا، والفيلسوف التافه جدا[66].

  1. الثقافة الغربية والثقافة الحديثة

من المفاتيح الأساس التـي تجلي فكر هادي العلوي ونظرته إلى الثقافة والمثقفين تفريقه بين الثقافتين الغربية والحديثة، وانطلاقا من هذا التفريق يحدد طريقة التعامل معهما.

وبناء على هذا التفريق اعتبر خطَّ الثقافة الغربية متصلا من اليونان فالرومان فالعصور الوسطى فعصر النهضة حتى العصر الحديث، وينتظمها محور تدور عليه وهو التملك الخاصُّ وغريزة الربح. ويكمن في جذورها؛ همجية الإغريق الإبادية، وسلوكيات صولون في حروبه، ثم همجية الرومان/الغالدياتورية، وصراع الأسرى العزل مع الضواري في حلبات مقفلة داخل المسرح[67].

ويعدّ أنَّ الثَّقافة الغربيَّةَ ضمن هذا الخط غير مؤنسنة بل هي موروث روماني/غالدياتوري. بينما الثقافة الحديثة في نظره تختلف جذريا عن الثقافة الغربية رغم منشئها في الغرب؛ لهذا حدد بننية الثقافة الحديثة العامة بأنها “تختلف عن الثقافة الغربية بمفهومها الحاضر، فالثقافة الحديثة لها خط أخر ليس غربيا خالصا بل تتمثل فيه مصادر متعددة، ويمكن البدء فيها من الرشدية اللاتينية، فلسفة الأحرار الأوربيين في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة… ويتكامل مع هذا الخط الرشدي أو الإسلامي بوجه عام خط مسيحي بدأ يتمايز منذ عصر النهضة في اتجاه لفصل المسيح عن بولص والاتصال رأسا بثقافة الأناجيل المشاعية المؤنسنة[68].

ويضرب أمثلة عن تأثيرات هذا الخط وبعض معالمه بــثورة الفلاحين الألمان في القرن السادس عشر، وثقافة غوته التي امتزجت فيها مسيحية الأناجيل مع الأفق الشرقي المروحن، والماركسية بثورتها الفكرية الشاملة والمنفتحة على ثقافات الأمم.

وفي هذا السياق يرى هادي العلوي أنَّ مصطلحي العولمة والأممية ناتجان عن هذا التفريق، فالعولمة في نظره هي الأمركة، التي من معانيها إخضاع الشرق للغرب الممثل في أمريكا، والبديل عنده هو الأممية المشتقة من أمم جمع أمة التي يقصد بها تمايز الأمم واستقلالها من جهة، وتضامنها وتكاملها من جهة أخرى [69].

     لهذا فهو يضع الأمميين الغربيين أو المنتسبين إلى الثقافة الحديثة من غوته إلى كارل ماركس، ومن كارل ماركس إلى لوناتشارسكي ولينين وتولستوي ويهانسون، وقبلهم يسوع، ولاوتسه، وتلامذته المشاعيون المسلمون من أبي ذر إلى القرامطة، ومن إبراهيم بن الأدهم إلى عبد القادر الجيلاني، في كفة، ويضع معلمي الهمجية الغربية أو المنتسبين إلى الثقافة الغربية من صولون إلى كلنتون في الكفة المقابلة[70].

وبناء على هذا التفريق اتخذ هادي العلوي موقفه المعادي من الثقافة الغربية، ومن كل المثقفين الذين يجعلون الثقافة الغربية مصدرهم الأوحد للتثقيف، نظرا لترعرعها في الإرث الإقطاعي ثم الرأسمالي، بالإضافة إلى أنها تتألف من عبودية الفكر الفلسفي اليوناني، وهمجية الرومان، وإبادة المدن المحتلة، وتدمير الحضارات المنافسة، ثم همجية الكنيسة القروسطية، ثم العنصرية، وأخيرا ثقافة العصر الرأسمالي المتجذرة في التجارة والتملك الخاص[71].

وهو بهذا يدعو إلى أمرين مهمين: الأول المثاقفة مع الحضارة الحديثة؛ لأنها ليست غربية بالمعنى المعرفي الخالص بقدر ما هي محصلة تطور الحضارة والفكر في العالم الأوراسي منذ فجر الحضارات، وهي مدينة في أصلها الإغريقي لــلساميين والفراعنة، وفي منطلقها الحديث لثقافة الإسلام[72].

وأمَّا الأمر الثاني فالانطلاق من الحضارة الحديثة في تأسيس معرفتنا الجديدة؛ بمعنى التتلمذ على من يسميهم بناة حضارتنا الحديثة من أمثال ديكارت، وبيكون، وكانط، وهيغل، وماركس[73]. ودعوته هاته لا يفهم منها الاستغناء عن مصادر الفكر الأخرى، وخاصَّة الترث العربي الإسلامي وتراث الشرق؛ الصيني والهندي.

  1. العقل والذهن

فرق هادي العلوي بين مصطلحي العقل والذهن، فعدَّ الذهن هو الوعاء الذي يتلقى انعكاسات الخارج، فإذا كانت هذه الانعكاسات بسيطة وبدائية وقف الذهن عند حدود الإنتاح الفني والأدبي، وإذا كانت فكرية تحول الذهن إلى عقل[74].

وقد أشار في تعريفه للمثقف إلى هذا التمييز حيث عدَّ كلمة مثقف في اللغات الأوربية”مشتقة من intellect وتعني العقل، وفي العربية مفردتان تدلان على هذا المعنى: عقل التي تفيد القدرة على التصور والفهم، والذهن ويعرفه القدماء بأنه قوة تنطبع فيها صور الأشياء، فهو يفيد محض الاستعداد للتعقل، والذهن أصيل في القاموس العربي، والعقل مولد لأن أصله التقييد والربط… ثم استعمل لوصف سيرورة التفكير بقرينة تقييد الفكرة والتمكن منها في الذهن، وكون الذهن أصليا في القاموس يفهم منه أنه من مفردات ما قبل التعقل، وهو الطور الذي تنشأ فيه اللغة… والذهن أعم من العقل، إذ يمكن أن ننسب إليه الأسطورة والخرافة والفن ونقول إنها من عمل الذهن البشري، ولا نقول إنها من عمل العقل البشري، وبالتبعية يمكننا القول إن الأمي والبدائي ليس له عقل وإنما له ذهن”[75].

وانطلاقا من هذا التمييز يحكم هادي العلوي على الشعر بأنه ليس من عمل العقل، وإنما من عمل الذهن، ويمثل على هذا التمييز بنماذج من الواقع فيعتبر مثلا أن الشاعر العراقي الجواهري العملاق كان يملك ذهنا عبقريا وليس عقلا عبقريا، فالعقل هو الذي امتلكه طه حسين، لا شوقي ولا الجواهري[76].

واعتمادا على تمييزه بين العقل والذهن فهو لا يعتبر الشعر فعلا ثقافيا، وقد أكد هذا المعنى بقوله إن: الشعر لا يتصنف كفعل ثقافي أو مثقفي؛ لأنه من عمل الفطرة ولا دخل للعقل فيه، ما لم يتعقلن الشاعر فيضيف إلى نتاجه الفطري بعدا عقلانيا. وهو شأو لا تجده إلا عند الأفذاذ كبشار قديما، وأدونيس حديثا[77].

ويضيف في السياق نفسه: ملحمة جلجامش لا تصنف ضمن الفكر المنظم، بل هي عمل أدبي، والأدب والشعر كما صنفته لا يدخل في دائرة الثقافة العقلية، بل هو من عمل الذهن الحي الفياض المتحرك بالخيال، ولذلك أنا لا أوفق على عبارة (عقل الشاعر) أو (عقل الفنان) بل يقال (ذهن الفنان) أو (ذهن الشاعر)[78].

ويختم حديثه عن هذا التمييز الخاص باللغة العربية؛ لأن اللغة الإنجليزية بحسبه لا تميز بين العقل والذهن على الأقل من حيث الاستعمال، ولو أن مصطلح mind قد يفيد معنى ذهن؛ لأن الكتاب الأنكليز يستعملونه بمعنى العقل[79].

  1. الأمي والجاهل

تابع هادي تمييـزه بين المصطلحات المرتبطة برؤيته للثقافة والمثقفين، باعتبار أن هذه التمايزات والفروق توضح فكره وتصوره ومواقفه تجاه المثقفين والثقافة بشكل عام.

وقد قال موضحا الفرق بين الأمي والجاهل: الأمي هو من عامَّة النَّاس الذي لا يقرأ ولا يكتب وليس له نصيب من الثقافة المكتوبة… وأمَّا الجاهل في نظره فقد يقرأ ويكتب ويكون له نصيب من الثقافة المكتوبة، لكنه يسيء فهم حقائق الأشياء، ويفتقر إلى الوعي الاجتماعي أو السياسي[80].

وانطلاقا من هذه الإساءة يرى هادي العلوي أن الجاهل المثقف تصدر عنه تصرفات وأفكار ضارة أكثر ممَّا يصدر عن الأمي[81]، ويضيف في هذا السياق أن الفلسفة الإسلامية ميزت في الجهل بين مرتبتين: الجهل البسيط ويقصد به ألا تفهم شيئا، والجهل المركب ويقصد به أن تفهم شيئا مغلوطا، والجهل الثاني هو جهل المثقف[82].

وقد أعطى مثالا يبين فيه جهل بعض المثقفين في العالم قائلا: إن براتراند راسل أعظم فلاسفة القرن العشرين دعا سنت 1947م الولايات المتحدة الأمريكية إلى قصف الاتحاد السوفياتي بالقنابل الذرية للقضاء عليه قبل أن يمتلك القنبلة الذرية. وعقب على هذا القول: أي جهل أشد من هذا الجهل الذي يرتكبه فيلسوف كبير، حين يدعو إلى إبادة شعوب بأكملها من أجل بقاء حضارته الغربية؟[83].

واعتبر أخيرا أن جهل مثقفينا المعاصرين يجمع بين جهل العقل وجهل السلوك، وأن أكثر ما يجهلونه هو التاريخ[84].

  1. التصوف المعرفي والتصوف الاجتماعي

إنَّ التَّصوفَ عند هادي العلوي حركة اجتماعية فكرية محكومة بخصوصياتها التي تضمنت تمثلها لخط المعارضة في التراث العربي الإسلامي، إذ يرى أن هذه الحركة ذات وجهين متداخلين هما الفكر والنضال الاجتماعي، ويطلق على هذه الحركة مصطلح التصوف القطباني الذي يقسمه إلى شعبتين: التصوف الاجتماعي والتصوف المعرفي، ويقصد بالتصوف المعرفي نمطا فكريا يتجه للبحث عن الحقائق المبحوث عنها في الفلسفة بمنهاج صوفي، ونموذج هذا الصنف من التصوف هو محيي الدين ابن العربي، ويسجل هادي على التصوف المعرفي أنه لم يهتم كثيرا بالمشكلات الاجتماعية؛ لذلك فهو يعد مثقفية التصوف المعرفي تتماهي بالاستقلال الفكري دون الاستقلال الاجتماعي-السياسي[85].

ويرى في المقابل أن التصوف الاجتماعي يستقل اجتماعيا وسياسيا، وينتظم هذا الخط العديد من المتصوفين بدءا من إبراهيم بن الأدهم في القرن الثاني للهجرة، مرورا بالبسطامي والحلاج وعبد القادر الجيلي، بالإضافة إلى رموز صوفية أخرى مثل: بشر الحافي، وسهل التستري، وشقيق البلخي، وشعيب أبو مدين، ومعروف الكرخي، وابن سبعين[86].

ويضيف بأنَّ هذا الخطَّ يتماثل مع التَّاوية الصينية في منحاها الفلسفي، وفي نظره أن المتصوفة والتاويين يتكلمون لغة واحدة فيما يخص الموقف من السلطات الثلاث: الدولة والمال والدين[87].

  1. ثقافة المعارضة وثقافة السلطة

يظهر لقارئ كتابات هادي العلوي تمييز واضح بين ثقافة المعارضة وثقافة السلطة في التراث العربي الإسلامي، فهو يرى أن ثقافة المعارضة هي النمط السائد في الثقافة الإسلامية ويتمثلها في القرن الأول ونصفه الثاني كل من الفقه وعلم الكلام، وفي القرون اللاحقة بعض الفقه وبعض علم الكلام، والتصوف القطباني في جملته الساحقة[88].

ثم يضيف على هذه الأصناف بعض المثقفين الذين لا يصنفهم في مدرسة معينة كالمعري. ويدخل أيضا في ثقافة المعارضة ثقافة الفرق المعارضة ويحصرهم في الخوارج والشيعة بتفرعاتها المختلفة والحركات المعارضة التي لا تنتمي إلى الفرقة كحركة الخرمية والزنج[89].

وفي المقابل يحصر ثقافة السلطة في الأدب نثرا وشعرا، فالنثر الفني في نظره عاش في دواوين الدولة، وكان الكتاب الكبار من عبد الحميد الكاتب إلى ابن المقفع إلى الجاحظ وأبي حيان التوحيدي يعيشون من الدولة ويكتبون لها كما يكتبون لأنفسهم[90].

ويجعل من الشعر الألصق بالسلطة فيطلق حكما عاما عليه بالقول: “إن مجمل ديوان الشعر العربي بعد الجاهلية وصدر الإسلام مكرس للارتزاق، ولا يعني ذلك انعدام عنصر الإبداع الذي يتوزع بين الدولة والمعارضة في ظروف الازدهار الثقافي”[91].

كما يضيف ثقافة رعتها السلطة ولم تكن ثقافة سلطة ويقصد بها الفلسفة؛ لأن الفلاسفة اشتغلوا كلهم تقريبا تحت رعاية السلطة التي ضمنت لهم الحماية ضد رجال الدين، لكن مع ذلك لم يضع الفلاسفة ثقافتهم في خدمة السلطة[92].

ويشير في الأخير إلى مسألة مهمة هي أن ثقافة فرق المعارضة يمكن أن تتحول إلى ثقافة سلطة عندما تصل الفرقة إلى الحكم، ويمثل على ذلك بالزيدية في اليمن والإسماعلية في المغرب ومصر حيث أقيمت الدولة الفاطمية… وقد حدث ذلك في عصرنا عندما نجحت بعض الأحزاب في الوصول إلى السلطة واتخذت من الماركسية عقيدة رسمية[93].

  1. قل كلمتك وامش/قل كلمتك ولا تمش

عدّ هادي العلوي الشاعر العربي أدونيس من أعظم المثقفين العرب المعاصرين لما قدَّمه من إسهامات على المستويين النقدي والإبداعي، لكنه عارضَه في قوله:

قل كلمةً وامضِ

زِدْ سعة الأرض

فهادي العلوي يرى أنه يجب أن “تقول كلمتك” من دون أن تمضي، بل تناضل في سبيلها، ودعا في سياق تكريس مفهوم المعارضة إلى قطع العلاقة مع الدولة وأربابها، الذين هم في عرف العلوي “عماد الظلم[94].

  1. عربية القاموس وعربية الدارج

قدم هادي العلوي مشروعه اللغوي من الناحية التنظيرية في كتابه (المعجم العربي الجديد-المقدمة)، ومما قال فيه: يعالج هذا الكتاب مواد من الموروث الراهن أريد بها إنشاء صورة إصلاح مقترحة تطمح إلى توفير حلول معقلنة لمشكلة التعبير الساكن في مناحيه المتعددة من لغة علم وكتابة وكلام وتلاوة- و هو باستمزاجه كلا من الموروث والراهن- يريد أن يكون المقترح وسيلة إصلاح وإثراء لا انقطاع وإفقار… ويصبو المقتـرح إلى أن يتأسس معجم جديد يقوم على العربية الموسعة: عربية القاموس مضافا إليها عربية الدارج، بعد تشذيب محتوياتها[95].

وهذا المشروع يدخل تعديلات على الإعراب باعتباره حسب هادي العلوي هو المشكلة الأساسية في لغتنا الحديثة ويقترح لتجاوز هاته المشكلات، انتقال لغة الكتابة إلى النحو الساكن.

وقد حاول في مشروعه الذي لم يكمل منه إلا ثلاثة قواميس أن يدمج اللهجات المحكية مع الفصحى بغية المقاربة بين العامة والمستويات الكتابية التي يستخدمها أهل العلم[96].

وقد كان هادي العلوي في ممارساته الكتابية يطبق مشروعه اللغوي وتعديلاته المقترحة.

خاتمة

بين هذا البحث بعجالة وباختصار شديدين أن هادي العلوي الإنسان آمن بمثقفه الكوني الذي حدد له شروطا وخصالا يتميز بها عن الأغيار، وحاول أن يقتفي آثاره ويتمثله في حياته الشخصية سواء في علاقته مع نفسه أو مع مجتمعه، أو مع التراث أو السلطة أو الدين.

كما أبرز أن ماهية المثقف عنده مستخلصة من التراث في التقائه مع الثقافة الحديثة الذي يعدّها محصلة تطور الحضارة والفكر في العالم رغم منشئها في الغرب، وهذا ما جعله يدعو إلى المثاقفة مع الحضارة الحديثة والانطلاق منها في تأسيس معرفتنا الجديدة، دون التخلي عن خصوصياتنا التراثية والإقليمية؛ بمعنى مزجها مع القيم الوطنية الموروثة و”المعيوشة”.

كما دعا البحث إلى ضرورة نقد التراث والثقافة الحديثة وتوظيف عناصرهما بشكل ثوري بما يفيد الحاضر والمستقبل.

ليوضح هذا البحث في الختام أن مدار مشروع هادي العلوي التجديدي يحدده فهمه للثقافة والمثقف بوصفهما مقاومة ومعارضة وممانعة أبدية لأي سلطة غير فاضلة.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

[1] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، دار الطليعة الجديدة، دمشق، ط1، 1999م، ص88.

[2] ينظر، إبراهيم حاج عبدي، عودة هادي العلوي… مثقفا كونيا، موقع معابر (Maaber) على الشابكة، تاريخ الولوج: 26 أبريل 2024م.

[3] إبراهيم حاج عبدي، عودة هادي العلوي… مثقفا كونيا، مرجع سابق، ص24.

[4] نفسه. ص40.

[5] إبراهيم حاج عبدي، عودة هادي العلوي… مثقفا كونيا، مرجع سابق. ص40.

[6] نقل هادي العلوي هذا النص في كتابه محطات في التاريخ والتراث، وذكر بدل باب منقوش قصرا مشيدا.

[7] أبو طالب المكي، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، تحقيق: محمود إبراهيم محمد الرضواني، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 2001م، ج1، ص468.

[8] هادي العلوي، المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ط2، 2003م، ص31.

[9] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص41.

[10] نفسه. ص131.

[11] ينظر، إبراهيم حاج عبدي، عودة هادي العلوي…مثقفا كونيا.

 [12]ينظر، هادي العلوي، مدارات صوفية ثرات الثورة المشاعية في الشرق، دفاتر النهج، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق، ط1، 1997م، ص37.

[13] ينظر، إبراهيم حاج عبدي، عودة هادي العلوي…مثقفا كونيا.

[14] نفسه.

[15] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص86.

[16] أسعد جاسم حنظل، شذرات من سيرة المفكر هادي العلوي، جريدة المدى الثقافي، العدد 216، السبت 2 أكتوبر 2004م، ص11.

[17] نفسه.

[18] أسعد جاسم حنظل، شذرات من سيرة المفكر هادي العلوي، ص11.

[19] نفسه.

[20] كمال غفور عبد الكريم، هادي العلوي معجميا، رسالة ماجستر في اللغة العربية وآدابها، جامعة السليمانية، كلية اللغات، العراق، 2017م، ص16.

[21]– حسن العلوي، عمر والتشيع ثنائية القطيعة والمشاركة، دار الزوراء، لندن، ط1، 2007م، ص154.

[22]– هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، مجلة مواقف، عدد 63، لبنان، 1989م، ص248.

[23] هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، مرجع سابق، ص248.

[24] نفسه، ص247.

[25] هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، مرجع سابق، ص248.

[26] ينظر، هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، ص251.

[27] ينظر، هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، مرجع سابق، ص248.

[28] نفسه، ص251.

[29] نفسه.

[30] نفسه، ص249.

[31] ينظر، هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، مرجع سابق، ص251.

[32] نفسه، ص255.

[33] نفسه، ص256.

[34] نفسه.

[35] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص150.

[36] هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، صص 256-257.

[37] نفسه، ص257.

[38] نفسه، ص257.

[39] نفسه، ص256.

[40] هادي العلوي، المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة، ص24.

[41] هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، ص257.

[42] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص158.

[43] هادي العلوي، محطات في التاريخ والتراث، صص 138-139.

 [44]هادي العلوي: مدارات صوفية ثرات الثورة المشاعية في الشرق، ص16.

[45] هادي العلوي، محطات في التاريخ والتراث، ص138.

[46] نفسه، ص138.

[47] هادي العلوي، المنتخب من اللزوميات، نقد الدولة والدين والناس، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق، ط1، 1990م، صص 92-93.

[48] هادي العلوي، المنتخب من اللزوميات، نقد الدولة والدين والناس، مرجع سابق، ص86.

[49] نفسه، ص89.

 [50]خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص132.

 [51]نفسه، ص12.

[52] نفسه، ص158.

 [53]خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص7.

[54]– محمود مراد، هادي العلوي… حلاج القرن العشرين ومشروع المزاوجة بين التراث والماركسية، موقع الحوار المتمدن، على الشابكة، تاريخ الولوج: 26 أبريل 2024م.

[55] – خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص154.

[56]– خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص56.

[57] نفسه، ص56.

[58] هادي العلوي: مدارات صوفية ثرات الثورة المشاعية في الشرق، ص152.

[59] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص67.

[60]  نفسه. ص 68.

[61] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص63.

[62] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص63.

[63] نفسه، ص80.

[64] نفسه، ص80.

[65] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، مرجع سابق، ص80.

[66] نفسه، ص81.

[67] هادي العلوي، المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة، صص 11-12.

[68] نفسه، ص13-12.

[69] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص147.

[70] هادي العلوي: المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة، ص14.

[71] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص146.

[72] ينظر، هادي العلوي: الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي.

[73] نفسه.

[74] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص23.

[75] هادي العلوي، الفكر العربي-الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، ص247.

[76]  خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص23.

[77] هادي العلوي، مدارات صوفية ثرات الثورة المشاعية في الشرق، ص34.

[78] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص81.

[79] نفسه، ص81.

[80] نفسه، ص65.

[81] نفسه، ص65.

[82] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص65.

[83] نفسه، ص66.

[84] نفسه، ص66.

[85] هادي العلوي: محطات في التاريخ والتراث، ص136.

[86] هادي العلوي: محطات في التاريخ والتراث، ص136.

[87] نفسه، ص136.

[88] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص48.

[89] نفسه، ص48.

[90] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص47.

[91] نفسه، ص47.

[92] نفسه، ص48.

[93] نفسه، ص49.

[94] إبراهيم حاج عبدي “عودة هادي العلوي…مثقفا كونيا”.

[95] هادي العلوي، المعجم العربي الجديد: المقدمة، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، ط1، 1983م، صص 6-7.

 [96] خالد سليمان وحيدار جواد، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ص18.

Scroll to Top