السرديات ما بعد الكلاسيكية
أستاذ التعليم العالي
كلية اللغة العربية
جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب
ملخص
تعتبر مقاربات القصة باعتبارها طريقة في التفكير، مقاربات نظرية تنتمي إلى السرديات ما بعد الكلاسيكية، التي حولت مركز الاهتمام من الذهن الذي يقف عند حدود جانبي القصة والخطاب السردي من الحكاية بمقولاته الإجرائية المعروفة كالصوت والصيغة والزمن التي تنتمي للسرد البنيوي الكلاسيكي إلى الذهن الذي يدركها معرفيا. ويشمل هذا الذهن كل من النشاط الذهني للكاتب والقارئ، مادام هناك نص وفعل لغوي وتواصل. وتحاول السرديات ما بعد الكلاسيكية وهي تعني بدراسة كيفية اشتغال الذهن البشري في واحد من أكثر مظاهره الأساسية كونية والأكثر تعقيدا، وهو التخييل، أن تطرح الأسئلة التالية: - ما علاقة القصة بالذهن على مستوى إنتاج السرد وتلقيه؟ - وهل التخييل قادر على تمثيل عالم الذهن؟ بمعنى قدرة الأدب على تعليمنا شيئا عن حياة الذهن والتعرف على كيفية اشتغاله؟ وسنحاول في هذا الورقة البحثية، تقديم أرضية أولية لربط الصلة بين السرديات الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية، وسنعرض لأهم الأسس التي قامت عليها هذه السردية الجديدة كما ظهرت في الدراسات الأمريكية، وأهم اتجاهاتها ورهاناتها. وهو ما يجعل السرديات ما بعد الكلاسيكية حقلا علميا متعدد التيارات والمسارات؛ فقد أفضى إقبالها على توسيع المدونة وانفتاحها على العلوم الأخرى إلى بروز ميادين فرعية، من قبيل السرديات السياقية والسرديات المعرفية والسرديات المتعالية على الأجناس وسرد وسائط التواصل أو الميديا.
In this research paper, we will attempt to provide a preliminary ground for linking the classical and post-classical narratives, and we will present the most important foundations on which this new narrative was built as it appeared in American studies, and its most important trends and bets. This is what makes post-classical narratives a scientific field with multiple currents and paths; its interest in expanding the corpus and its openness to other sciences has led to the emergence of sub-fields, such as contextual narratives; cognitive narratives; narratives that transcend genres, and narratives of communication or media. Post-classical narratives attempt to answer the following questions: - What is the relationship between the story and the mind at the level of narrative production and reception? - Does imagination teach us something about the life of the mind and how it works ?
كلمات مفتاحية: السرديات البنيوية- ما بعد الكلاسيكية - المعرفية - نظرية الذهن.
مدخل عام
لقد حوّل السرد، باعتباره طريقة في التفكير، مركز الاهتمام من الذهن الذي يفك شفرة الحكاية التي تنتمي إلى السرديات البنيوية الكلاسيكية إلى الذهن الذي يدركها معرفيا. ويشمل هذا الذهن كل من النشاط الذهني للكاتب المرسل والقارئ المتلقي، مادام هناك نص وفعل لغوي وتواصل.
وتعتبر مقاربات القصة بوصفها طريقة في التفكير، مقاربات نظرية تنتمي إلى السرديات ما بعد البنيوية، ودفعت هذه الطبيعة التنظيرية عدد من الباحثين المعرفيين إلى طرح عدد من التصورات التي تبالغ في تضخيم الأهمية المعرفية للقصة. فقد أشار مارك تورنر إلى أن البشرية قد اخترعت اللغة لحاجتها إلى السرد ، واقترح جيروم برونير أن السرد أداة تمكننا من الحصول على نظرية للذهن. وقد تم تطوير هذه الفكرة بشكل منهجي من قبل دانيال هوتو بعنوان “النظرية السردية”
وتحاول السرديات ما بعد الكلاسيكية وهي تعني بدراسة كيفية اشتغال الذهن البشري في واحدة من أكثر مظاهره الأساسية كونية والأكثر تعقيدا أن تطرح الأسئلة التالية:
- ما علاقة القصة بالذهن على مستوى إنتاج السرد وتلقيه؟
- وهل التخييل قادر على تمثيل عالم الذهن؟ بمعنى قدرة الأدب على تعليمنا شيئا عن حياة الذهن والتعرف على كيفية اشتغاله.
وسنحاول في هذا الورقة البحثية، تقديم أرضية أولية لربط الصلة بين السرديات الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية، وسنعرض لأهم الأسس التي قامت عليها هذه السردية الجديدة كما ظهرت في الدراسات الأمريكية، وأهم اتجاهاتها ورهاناتها. وهو ما يجعل السرديات ما بعد الكلاسيكية حقلا علميا متعدد التيارات والمسارات؛ فقد أفضى إقبالها على توسيع المدونة وانفتاحها على العلوم الأخرى إلى بروز ميادين فرعية، من قبيل السرديات السياقية والسرديات المعرفية والسرديات المتعالية على الأجناس وسرد وسائط التواصل أو الميديا.
- السرديات الكلاسيكية
لا يمكن الحديث عن السرديات ما بعد الكلاسيكية دون أن نقدم توطئة موجزة عن السرديات الكلاسيكية وحدودها المنهجية، وما حققته من نجاحات.؛ وذلك لسببين: الأول أن السردية الكلاسيكية والمعروفة بداية بالبنيوية قد حققت نجاحات مهمة، وتراكمات كان لها دورها في تطور الدرس الأدبي على مسار أربعة عقود تقريبا، ولهذا لابد من الانطلاق من النجاحات التي حققتها حتى ندرك الإكراهات المنهجية التي واجهتها لاحقا. والثاني، أن السرديات ما بعد الكلاسيكية هي امتداد لها وتطوير لها ولا تلغيها، وكما سنبين لاحقا ونحن نقدم السرديات ما بعد الكلاسيكية أن المبادئ القاعدية للسردية بقيت ثابتة لكن تم تطوير مناهج البحث بتطور العلوم المعرفية التي عرفها الدراسات والأبحاث الإنسانية أواخر القرن الماضي ومع مطلع هذا القرن.
ظهرت السردية بصفتها علما واختصاصا وتصورا منهجيا إجرائيا، وكذلك إبدالا معرفيا في المرحلة البنيوية أواسط الستينيات بفرنسا، وبالتالي فهي فرنكوفونية المنشأ مع رواد ذاع صيتهم في أنحاء العالم بما قدموه من دراسات وبحوث في المجال، ومن فرنسا انطلقت لتتوسع في جغرافيات ثقافية مختلفة سواء في أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن الأسس الأولى للسرديات الكلاسيكية كانت قبل الستينات بعقود من خلال ما قدمته الشكلانية الروسية في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، وكذا الدراسات الأنثروبولوجية التي قدمها كلود ليفي سترواس في الأربعينات وما بعدها، دون أن ننسى التطور اللساني الذي عرفته الدراسات اللغوية بعد ظهور كتاب “محاضرات في اللسانيات العامة” لفردناند دوسوسير.
نكتفي هنا، بالوقوف عند الحقل الفرنسي خلال الستينيات وما بعدها. فصدور العدد الثامن من مجلة “تواصل” communicationضم العديد من المقالات لرواد السردية الكلاسيكية” رولان بارت، تزيفتان تودوروف، جرار جنيت، كلود برومون” وغيرهم، وتوحدت الرؤى في ثنائية القصة/ الخطاب، لتجعل السردية من الخطاب حقلا لدراستها، أي الطريقة التي تقدم بها المادة الحكائية، وتتم مقاربة الخطاب من خلال مقولات أساسية حددها جنيت في كتابه “صور III”، وبالضبط الجزء الخاص بخطاب المحكي، في “الزمن، الصيغة وأدرج ضمنها المنظور السردي الذي أشار إليه بالتبئير، ثم الصوت السردي”. وشكلت هذه المنظومة المتجانسة تصورا منهجيا إجرائيا قابلا لمقاربة كل الخطابات السردية. فالسردية إذن تهتم بما يجعل من نص ما نصا سرديا، وتحصر ذلك في الخطاب الذي يعمل على إعادة تنظيم أحداث القصة وفق رؤية تسلسلية خاصة. فما الإكراهات التي واجهت السردية الكلاسيكية لاحقا؟
نقدم هذه الإكراهات بإيجاز من منظور أحد رواد السردية أنفسهم، وهو تزيفتان تودوروف، الذي يقدم في كتابه “الأدب في خطر” (2007) علاقته بالمنهج كيف تبناه في البداية، ومسار تطوره لاحقا، ثم الإكراهات التي استخلصها في ظروف لاحقة ليعيد تصوره للدرس الأدبي السردي بصفة عامة. وقبل أن نتابع تودوروف نشير إلى أن رولان بارت أعلن في أواسط الستينيات موت المؤلف، لكنه سيعيده بعد عقد من الزمن تقريبا عندما كتب سيرته الذاتية الموسومة ب “رولان بارت من طرف رولان بارت Roland Barthes par Roland Barthes”، والسيرة بميثاقها التجنيسي لا يمكن أن تقرأ بعيدا عن مؤلفها وعن حياته الخاصة الثقافية والاجتماعية، والشيء نفسه يقال عن بعض رواد الرواية الجديدة الذين كتبوا سيرتهم الذاتية إما بميثاق سيري أو ميثاق تخييلي “ناتالي ساروت وألان روب غريي”. هكذا إذن ينبعث حس جديد من داخل السردية يعيد الاعتبار للمؤلف
فتودوروف نفسه، يشير في كتابه “الأدب في خطر ” يشير إلى علاقته بالدراسة الشكلانية كانت محاولة للتخلص من النزعة الإيديولوجية التي كانت مسيطرة في بلاه سياسيا[1] .
بعد تطور رؤيته المنهجية بانتقاله إلى فرنسا، وعمله إلى جانب جرار جنيت على إرساء منهج للمقاربة السردية في إطار بنيوي. بدأت رؤية تودوروف تتغير فيما يخص السردية الشكلانية، لذلك وصفها بقوله: “عيب هذا النمط من العمل هو تواضعه، وأنه لا يذهب بعيدا جدا، فلن يكون أبدا سوى دراسة أولية لأنه يقوم بالضبط على ملاحظة المقولات المشتغلة في النص الأدبي، والتعرف عليها، لا على أن يحدثنا عن معنى النص”[2] ؛ ولهذا أصبح تفكيره لاحقا منصبا على جوانب أخرى في تصور طبيعة العمل الأدبي وما يمكن الاهتمام به في دراسة الأدب، واعتبر أن مكتسبات التحليل البنيوي “هي أدوات لا أحد يعترض عليها، ولكنها لا تستحق أن يستهلك فيها الإنسان جميع وقته”[3]؛ لأن الأدب بالنسبة إليه هو مثل الفلسفة، والعلوم الإنسانية ” فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه، والواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو بكل بساطة… التجربة الإنسانية”[4]. ويخلص إلى القول: “لا ينبغي بعد الآن أن يكون تحليل الأعمال الأدبية في المدرسة هو إيضاح المفاهيم التي استحدثها هذا العالم أو ذاك من علماء اللسانيات أو هذا المنظر للأدب أو ذاك… هدف التحليل سيكون الوصول بنا إلى معناها لأننا نصادر على أن هذا المعنى سيقودنا بدوره نحو معرفة الإنساني، هذه المعرفة التي تهم الجميع”[5].
يتضح من خلال هذا المسار العلمي الذي رسمه تودوروف عبر مراحل في هذا الكتاب أن السردية البنيوية تعرف انحصارا، وحتى في مجال التعليم كان لها آثار سلبية، لأنها تُكوِّن أفرادا يطبقون مفاهيم جاهزة على نصوص، ولا يمتلكون قدرات فكرية تحليلية تمكنهم محاورة النص الأدبي معرفيا وفكريا. ومن ثم تصبح الحاجة ملحة إلى انفتاح منهجي أكثر مرونة قادر على أن يجعل من السردية الكلاسيكية قاعدة له وأن يطور أدواتها وآلياتها في المقاربة النصية لتجاوز البنيات الشكلية إلى ما هو معرفي ودلالي بصورة تكون أكثر انسجاما، ويمكن أن ندرك التحول نفسه عند جنيت إذا تأملنا مساره في ثلاثة مؤلفات أساسية هي: صور 3 Figures III ؛ الطروس Palimpsestes؛ التخييل والإنشاء Fiction et diction . وتعبر مونيكا فلوديرنيك على وضع السردية الكلاسيكية متسائلة ” إلى أي حد تعتبر “نظرية السرد” بكل بساطة طفلا في زمانها؟ فلا يمكننا أن نخفي – بما في ذلك التجاؤها إلى العلوم المعرفية- أنها توجد حاليا في موضع حرج. وتكون الإجابة عن السؤال سهلة بالقول إن السرديات أدارت وجهها عن البنيوية السوسورية في اتجاه الأنحاء النصية المستوحاة من شومسكي ورفاقه، وفي اتجاه التداولية، وتحليل الخطاب واللسانيات المعرفية”[6].
هذه إذن أرضية أولية لمد الجسور بين السرديات الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية، وسنعرض فيما يلي؛ لأهم الأسس التي قامت عليها السردية الجديدة، وأهم اتجاهاتها ورهاناتها.
- السرديات ما بعد الكلاسيكية Narratologie postclassique
استعمل مصطلح “السردية ما بعد الكلاسيكية” لأول مرة في مقال لدافيد هرمان David Herman صدر عام 1997[7]، في مجلة الرابطة الأمريكية للغات الحديثة Modern Language Association of America، تحت عنوان: “النصوص والمتتاليات والقصص: عناصر السرد ما بعد الكلاسيكي” «Scripts, Sequences, and Stories: Elements of a Postclassical Narratology»، الذي أبرز ضرورة إعادة التفكير في “مشكلة المتواليات السردية” من أجل إثراء نظرية السرد بـأدوات يمكن استعارتها من “تخصصات بحثية أخرى[8]“.
يحدد رفائيل باروني هذه التخصصات التي قام عليها السرد ما بعد الكلاسيكي في ركيزة العلوم المعرفية: “تشير السرديات ما بعد الكلاسيكية إلى تيارات مختلفة من السرديات المعاصرة المتميزة عن المقاربات البنيوية أو الشكلانية التي ينظر إليها على أنها من سمات الفترة “الكلاسيكية” لنظرية السرد التي سادت خلال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي. ظهر مصطلح “السرد ما بعد الكلاسيكي” لأول مرة في مقال لديفيد هيرمان (1997)، عندما أكد أن استخدام المنظورات المستوحاة من العلوم المعرفية يسمح لنا بإعادة التفكير في مشكلة المتتاليات السردية التي تشكل محور التفكير السردي”.
بعد ذلك بسنتين، وضع هيرمان كتاب “علم السرد: منظورات جديدة للتحليل السردي”[9]؛ عرّف فيه السرد ما بعد الكلاسيكي على النحو التالي: ” إن إعادة التفكير في مسألة المتتاليات السردية يسمح بإمكانية تطوير سردية ما بعد كلاسيكية، والتي ليست بالضرورة ما بعد بنيوية، وهي نظرية متجددة ثرية، ترتكز على تصورات ومفاهيم لم تكن متاحة للسرديين الكلاسيكيين[10]“.
ويرى جيرالد برينس أن السرد المعاصر هو امتداد للمقاربات “الكلاسيكية”، لكنه يمثل آفاقًا جديدة للدراسات السردية:” يطرح السرد ما بعد الكلاسيكي الأسئلة التي يطرحها السرد الكلاسيكي: ما هو السرد (في مقابل لا سرد)؟ على ماذا ترتكز السردية؟ وما الذي يُنَمِّيها أو يقلصها، ما الذي يؤثر على طبيعتها ودرجتها؟ أو ما الذي يجعل من محكي ما قابلا لأن يُروى؟ إضافة إلى أسئلة أخرى ترتبط بالعلاقة بين البنية السردية والشكل السيميائي، وتفاعلهما مع الموسوعة (معرفة العالم)، وأسئلة ترتبط لا باشتغال السرد فقط بل بوظيفته أيضا…[11]“. وغيرها من الأسئلة المتعلقة بالسياق وأثره في المتلقى وكذا المعرفة التي ينتجها السرد.
هي إذن سردية ترتكز على تصورات جديدة تغني السردية الكلاىسيكية وتوسع آفاقها في البحث، ويبرز هرمان هذا التوسيع بقوله: “السردية ما بعد الكلاسيكية (التي يجب ألا تلتبس بنظريات السرد ما بعد البنيوية) تتضمن السردية الكلاسيكية باعتبارها لحظة من لحظاتها ” ولكنها تتميز بوفرة المناهج وفرضيات البحث الجديدة: وينتج عن ذلك تعدد منظورات جديدة حول أشكال المحكي ووظائفه. يضاف إلى ذلك، أن السردية في مرحلتها ما بعد الكلاسيكية، لا يقتصر بحثها عن كشف حدود السرد فحسب، بل تستغل أيضًا إمكانيات النماذج البنيوية الأكثر قدما. بالطريقة نفسها التي لم تلغ فيها الفيزياء ما بعد الكلاسيكية النماذج النيوتونية الكلاسيكية، بل تعيد التفكير في أسسها المفاهيمية وتعيد تقييم مجال تطبيقها[12]“
وقد استخدم المصطلح في وقت لاحق ليشير إلى مجموعة من المقاربات التي تهدف إلى التنظير للسرديات من خلال منظورات أكثر تداولية. واستنادًا إلى متن لا ينحصر في التمثيلات الأدبية أو اللفظية. وعرضت “أرلين أينسكو” رفقة باحثين آخرين، للخصائص الرئيسة الأكثر شمولا وتمثيلا لاتجاهات السرد ما بعد الكلاسيكي، التي يُنظر إليها على أنه مكسب لهذه المرحلة، رغم أنها ليست مشروعا موحدا، لكونها تجمع عدد من النماذج المتداخلة والتي تصل في بعض الأحيان إلى تضارب في المنطلقات النظرية والمنهجيات والأهداف، وحددت هذه الاتجاهات في السرد البلاغي والسرد النسوي، والسرد الرقمي (عبر وسائطي)، والسرد غير الطبيعي[13] ، والسرد المعرفي، والسرد الجسدي[14].
أما جون ألبر (Jan Alber) ومونيكا فلودرنيك (Monika Fludernik) فيؤكدان أن المقاربات ما بعد الكلاسيكية تعالج الثغرات المحتملة للنموذج السردي البنيوي، مقترحين أنماطا مختلفة من الإضافات لتداركها:
- إضافات منهجية (لسانية، وتحليلية نفسية…)؛
- إضافات موضوعاتية (نسوية، وما بعد كولونيالية…)؛
- أو إضافات وسائطية (السينما، والسرد المصور…)[15].
وقد حدد جان كريستوف ميستر ثلاثة اتجاهات رئيسة تميز المقاربات السردية المعاصرة: [16]
– السردية السياقية: التي تربط المحكيات بسياقاتها الثقافية والتاريخية والتيماتية والإيديولوجية (خاصة في السرديات النسائية أو ما بعد الاستعمارية)[17]؛
– السردية المعرفية: التي تركز على المعالجة الفكرية والذهنية للمحكيات[18]؛
– السردية العبر تجنيسية أو الوسائطية: التي ترفع تحديا لتوسيع المفاهيم السردية لدراسة الأنواع أو الوسائط التي تقع خارج المحيط “الكلاسيكي” للنصوص الأدبية[19] .
نستخلص من خلال هذه الدراسات أن الانفتاح الذي عرفته السرديات ما بعد الكلاسيكية هو انفتاح متعدد الأبعاد، يتوزع بين الجانب المنهجي والجانب الموضوعاتي ووسائل تلقي السرد؛ وبالتالي فهي:
أ) توسيعات منهجية: ارتبطت بالانفتاح المنهجي الذي عرفته السرديات ما بعد البنيوية خصوصا في الاستفادة من علوم مجاورة اهتمت هي الأخرى بالإبداعات السردية منها السيكولوجيا المعرفية، والتداولية، وفلسفة الذهن والظاهراتية، والبلاغة، وعلوم المعرفة بصفة عامة، وقد أغنت هذه العلوم السرديات بتصورات جديدة في مقاربة النص السردي من حيث بناؤه القصصي ومقاصده، وكذا الموجهات المتحكمة فيه باعتباره سيرورة فكرية قبل أن يكون سيرورة سردية. كما أن انفتاح السرديات على التداولية فتح الباب أمام البعد التواصلي للخطاب السردي.
ب) توسيعات تيماتية: وفي هذا المستوى حاولت بعض الاتجاهات السردية أن تهتم بإطارات موضوعية خاصة جعلت منها محور اهتمامها، وفي مقدماتها ما يسمى «السرديات النسائية” التي اهتمت بالجانب النسائي وخصوصياته في الكتابة السردية، وكأنها تضع حدودا أو شبه حدود بين الذكوري والأنوثي في الإبداع السردي، وقد تفرعت عنه ما عرف بـــ «corpus narratology”، واتخذ هذا اللفظ معاني متعددة منها حرية الجسد.
ج) توسيعات وسائطية: ارتكزت على وسائط التلقي المتنوعة التي يستخدمها السرد في التواصل مع المتلقي؛ فقد انتقل من الوسائل التقليدية، “الخطابات الشفوية والمكتوبة”، إلى وسائط التكنولوجيا الحديثة سمعية، وبصرية، ورقمية، وركزت السرديات الوسائطية على التحولات التي يعرفها البناء الحكائي عندما يتحول من وسيط إلى آخر بحيث تغيب في الوسائط السمعية والبصرية والرقمية، مثلا، المؤشرات اللفظية أو المكتوبة التي تفيد السببية، مما يستدعي جهدا استدلاليا مضاعفا من قبل المتلقي للربط بين المتتاليات البصرية التي تسرد الأحداث والوقائع.
وتشدد ماري – لور رايان (Marie-Laure Ryan)، بدورها، على ظهور سرديات عبر وسائطية، تستجيب لـ ” تحول رقمي” ملحوظ في الدراسات السردية: يمكن أن يظهر عبر تعدد وسائط التواصل وأجناس الخطاب”.
ينبغي الإشارة إلى أن توسيع المدونة هذا يفضي، من جهة، إلى ضرورة التفكير في الوظائف المعرفية المتداخلة والتي تستدعيها الآثار السّردية جميعها، ومن جهة أخرى، إلى مراعاة خصائص التجسيدات الميديائية للمحكيات، ممّا يؤدي إلى تطوير ما أسْماه رايان وطون (Thon) “سرديات واعية بالميديا”؛ أي سرديات تدرك القضايا المرتبطة بالخصائص السيميائية والثقافية لوسائط التواصل[20].
وقد انتقد ماير شترنبرغ (Meir Sternberg)، بشدة، التعارض كلاسيكي/ما بعد كلاسيكي، مستدلا بأن المقاربات البديلة للشكلانية كانت موجودة قبل الحقبة المسماة “كلاسيكية” وأثناءها وبعدها. كما شدَد آخرون على أن هذا التمييز يفتقر إلى التماسك النظري، وأنّه من الأفضَل الاستعاضَة عنه بالتعارض بين الإبستومولوجيا الموضوعية والمؤسسة للمقارَبات الشكلانية والمقارَبات البنائية التي تراعي حقيقة أن المحكيّ هو نتاج تفاعل بين الأثر السردي والوعي الذي يحينه[21].
ويؤكد جرالد برينس أن السردية ما بعد الكلاسيكية “لا تشكل نفيا، أو رفضا، أو إنكارا للسردية الكلاسيكية، بل هي استمرار، وامتداد، وصقل، وتوسيع لها[22]“؛ ولهذا فالجانب البنيوي من السردية يبقى ضروريا وحاضرا باستمرار في كل عمل سردي، لكنه يبدو غير كاف للوقوف عنده دون تجاوزه إلى القضايا الأخرى التي تطرحها السرديات الجديدة.
ويمكن أن نشير على المستوى المنهجي أن “السرديات المعرفية” تشكل المتنفس الأوسع للسرديات وذلك للأسباب التالية:
أ. لأنها تشكل تصورا منهجيا موسعا يرتكز على السرديات البنيوية ليتحول إلى ما هو أبعد من البنيوي، ويحاول أن يضع تفاعلا بين البنيات الذهنية للمؤلف والمتلقي من جهة والبنيات السردية المنتجة أو التي يعاد إنتاجها عن طريق التلقي من جهة ثانية.
ب. أنها قادرة على استيعاب كل السرديات الأخرى التي نحت نحوا تيماتيا، فالأبعاد المعرفية يمكنها أن تشمل كل التشكلات السردية بمختلف تيماتها وموضوعاتها.
ج- ما عرف أيضا بالسرديات الطبيعية وغير الطبيعية يستند في قواعده المنهجية إلى مفاهيم معرفية لمقاربة هذه الأنماط السردية التي تنعت بالطبيعية وغير الطبيعية.
عموما، تعتبر السرديات المعرفية امتدادا طبيعيا للسرديات البنيوية بما توفره من تصورات معرفية ومنهجية ساهمت في تطوير النظرية السردية ومقاربتها للنصوص السردية؛ وقد نجد في الأسس المنهجية والمعرفية لكل من ألان بالمير ودافيد هرمان السند الأساس الذي يدعم التصور السردي في تطوير أدواته المنهجية الإجرائية من جهة، واستيعاب التحولات التي يعرفها التواصل السردي عبر الوسائط السمعية البصرية والرقمية الحديثة من جهة أخرى.
الإحالات:
- [1] تزفتان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2007، ص 7-8.
[2] تزفتان تودوروف، الأدب في خطر، ص 18.
[3] نفسه، ص 15.
[4] نفسه، ص45
[5] تزفتان تودوروف، الأدب في خطر، ص 52-53.
[6] Introduction à la narratologie postclassique Les nouvelles directions de la recherche sur le récit. Sylvie Patron (dir.). Presses universitaires du Septentrion, 2018. P129.
[7] أي قبل عشر سنوات من ظهور كتاب تودوروف “الأدب في خطر”.
[8] David Herman, ‘Scripts, Sequences, and Stories: Elements of a Postclassical Narratology’, PMLA 112.5 (1997): 1049 and 1057.
[9] Prince, Gerald (2006), « Narratologie classique et narratologie post-classique », Vox Poetica. En ligne, URL : http://www.vox-poetica.org/t/articles/prince.html
[10] David Herman, ‘Introduction: Narratologies’, in Narratologies: New Perspectives on Narrative Analysis, ed. David Herman (Columbus, OH: The Ohio State University Press, 1999), 2-3.
[11] Raphaël Baroni: «Narratologie postclassique / Postclassical Narratology», Glossaire du RéNaF, mis en ligne le 10 septembre 2018.
URL:https://wp.unil.ch/narratologie/2018/09/narratologie-postclassique-postclassical-narratology
[12] Arleen Ionescu, Postclassical Narratology: Twenty Years Later, Word and Text A Journal of Literary Studies and Linguistics, Vol. IX 2019, P 9.
[13] يعد “بريان ريتشاردسون” أحد أهم الأصوات في مجال السرد غير الطبيعي، ويدرس هذا الاتجاه الروايات غير التقليدية التالي تتحدي وتتجاوز فهم العالم الحقيقي للتاريخ والهوية والزمان والمكان، مما يضع القارئ في مواجهة الأحداث المستحيلة في العالم الفعلي، للبحث أكثر ينظر:
Brian Richardson, Unnatural Narrative: Theory, History, and Practice (Columbus, OH: The Ohio State University Press, 2015)
[14] Arleen Ionescu, Postclassical Narratology: Twenty Years Later, Word and Text A Journal of Literary Studies and Linguistics, Vol. IX 2019, P 9 _14.
[15] Alber, Jan and Monika Fludernik (dir.) (2010), Postclassical Narratology: Approaches and Analyses, Columbus, Ohio State University Press.
[16] Meister, Jan Chrstoph (2014), « Narratology », The Living Handbook of Narratology. En ligne, URL : http://www.lhn.uni-hamburg.de/article/narratology §45-47
[17] يركز هذا الاتجاه على تيمات السرد وموضوعاته بإدخال السياق وكل الجوانب التي تتصل بالمؤلف والقارئ والظروف الخارجية الذي أنتج فيه العمل السردي. بعدما كان التركيز على دراسة النص السردي من الداخل، الذي حدده جنيت في “الخطاب” الذي ينهض على صوت السارد والمسرود.
[18] من أبرز الأصوات الممثلة لهذا الاتجاه “دافيد هيرمان” و”برانس جيرالد”. وينطلق علماء السرد المعرفي من الافتراض القائل بأن “القراء يؤولون” العوالم الخيالية” للسرد على أساس معرفتهم بـ “العالم الحقيقي” باستخدام مجموعة من العمليات الذهنية التي يمتلكونها والتي يسعى السرد المعرفي لوصفها وتفسيرها، للبحث أكثر ينظر:
– ماري- لور ريان، السرديا والعلوم المعرفية: علاقة إشكالية، ترجمة: زهير القاسمي، مجلة فصول، العدد 100، 2018، ص (186-208).
– David Herman, ed., Narrative Theory and the Cognitive Sciences (Stanford, CA: CSLI, 2003);
– Alan Palmer, Fictional Minds (Lincoln, NE: University of Nebraska Press, 200
– Lisa Zunshine, Why We Read Fiction: Theory of Mind and the Novel (Columbus, OH, OH: The Ohio State University Press, 2006).
[19] تمثل هذا الاتجاه ماري لوريانـ وتم الانتقال فيه من السرد الأدبي إلى السرد الرقمي المتعدد العلامات والوسائط، كالفلم والكرتون والشريط المصور، أي السرد حيثما وجد. ينظر:
Marie-Laure Ryan, «L’expérience de l’espace dans les jeux vidéo et les récits numériques », Cahiers de Narratologie [En ligne], 27 | 2014, mis en ligne le 18 décembre 2014, consulté le 01 septembre 2022. URL :
[20] Ryan, Marie-Laure and Jan Thon (dir.) (2016), Storyworld Across Media. Toward a Media-
[21] Raphaël Baroni, Postclassical Narratology
https://wp.unil.ch/narratologie/2018/09/narratologie-postclassique-postclassical-narratology/
[22] Prince, Gerald (2008), « Classical and/or Postclassical Narratology », URL : http://www.vox-poetica.org/t/articles/prince.html