توظيف الثقافة الشعبية المغربية
في البرامج الإذاعية

رضوان خلدون

باحث بسلك الدكتوراه
مختبر استراتيجيات صناعة الثقافة والاتصال والبحث السوسيولوجي         
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة – المغرب

د. وسام شهير

أستاذ محاضر مؤهل
كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
جامعة محمد الأول، وجدة – المغرب

ملخص

تسعى هذه المقالة إلى البحث عن مواطن حضور الثقافة الشعبية في البرامج الاذاعية المغربية، من خلال البحث عن أهم صور الموروث الثقافي في بعض المنابر الاذاعية الوطنية أو الخاصة، والكشف عن صور توظيفها للثقافة الشعبية على برامج الأثير الإذاعي، سواء خلال المناسبات الدينية والثقافية والتاريخية، أو من خلال التظاهرات الاحتفالية، أو من خلال مواضيع تطرح للنقاش بشكل يومي أو أسبوعي.  غير أن السؤال عن طريقة توظيف هذه الثقافة في الإذاعة المغربية يطرح نفسه بقوة، هل بشكل علمي مدروس يمكن اعتبار ه يلبي رغبات المستمعين، ويحقق الإشباعات   الثقافية؟ أم أن الأمر لا يرقى لدرجة تصنيفه صناعة ثقافية، تستهدف توثيق الثقافة الشعبية المغربية، والنهوض بها؟

Abstract

This article seeks to search for the presence of popular culture in Moroccan radio programs, by searching for the most important images of cultural heritage in some national or private radio platforms, and revealing images of their use of popular culture on radio programs, whether during religious and cultural events or Historical events, or through celebratory demonstrations, or through topics raised for discussion on a daily or weekly basis.  However, the question of how to employ this culture on Moroccan radio arises strongly: Is it in a scientifically studied manner that can be considered to meet the desires of the listeners and achieve cultural gratifications? Or does the matter not rise to the level of being classified as a cultural industry aimed at documenting and promoting Moroccan popular culture?

تقديم

تحضر الثقافة الشعبية بشكل واضح في وسائل الإعلام، الذي يسعى لتوظيفها بأشكال مختلفة، بناء على أسس علمية احترافية، أو عفوية دون الخضوع لتوظيف منهج دقيق. كما تفرض وسائل الإعلام نفسها بقوة في مجال التعريف بالثقافة الشعبية، لذا وجب إيلاء عنصر كيفية تناول الإعلام للثقافة الشعبية بالمغرب أهمية بالغة. مادامت جل المدارس الفكرية والثقافية قد ركزت على ضرورية تأصيل المنتوج الثقافي، والعمل على ضمان استمراريته بشكل عقلاني ومنطقي.

من بين وسائل الإعلام اخترنا الإذاعة للحديث عن جوانب حضور الموروث الثقافي في البرامج الإذاعية المغربية، والبحث عن إجابة لبعض التساؤلات، من أبرزها: كيف يساهم الإعلام السمعي الإذاعي في خدمة الثقافة الشعبية؟ وهل يؤثر سلبا أم إيجابا على محتوياتها أم يبقى على حياد؟ وهل تعتبر الإذاعة وسيلة لصيانة الموروث الثقافي الشعبي والحفاظ عليه؟ وهل هي قادرة على تشجيع المنتوج الثقافي الشعبي المغربي وتطويره؟ وهل تلبي الإذاعة الحاجيات الثقافية للمستمعين؟ وماهي مكانة الثقافة الشعبية في الإذاعة المغربية؟  تلك مجموعة من الأسئلة التي تفرض نفسها، لكن الإشكالية الحقيقية تتمثل في طريقة توظيف الثقافة الشعبية في البرامج الإذاعية، هل بطريقة احترافية وعلمية، تضمن إشباعا ثقافيا يغطي كل الرغبات والأذواق؟ أم بشكل عرضي دون الخوض بشكل منهجي في دراسة مظاهر الثقافة الشعبية المغربية؟

ستهتم هذه المقالة بالبحث عن أهم مظاهر حضور الثقافة الشعبية في بعض برامج الإذاعة المغربية الوطنية والإذاعات الجهوية والخاصة، بالتركيز على مضامين أهم البرامج الثقافية، التي تهتم بمختلف ألوان التراث والأدب الشعبي وغيرهما من الموروثات الأخرى، التي تندرج ضمن المفهوم الواسع للثقافة الشعبية.

المطلب الأول: مفاهيم لا بد منها.

  1. مفهوم الإذاعة:

أ – الإذاعة لغة:

جاء في لسان العرب لابن منظور أن كلمة اذاعة من ذاع و” ذيع: الذيع: أن يشيع الأمر. يقال أذعناه، فذاع وأذعت الأمر، وأذعت به، وأذعت السر إذاعة إذا أفشيته وأظهرته.

وذاع الشيء والخبر يذيع ذيعا وذيعانا وذيوعا وذيعوعة: فشا وانتشر. وأذاعه وأذاع به أي أفشاه.

ورجل مذياع: لا يستطيع كتم خبر.

والمذياع: الذي لا يكتم السر، والمذاييع جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه”[1].

ب – الاذاعة اصطلاحا:

تعتبر الإذاعة إحدى تكنولوجيات الإعلام التي سهلت عملية انتقال المعلومات والأفكار إلى الجماهير المستمعة، فهي واحدة من وسائل الإعلام الجماهيري التي تقدم المعلومات الاستهلاكية إلى المتلقي سواء كانت إخبارية أو تثقيفية أو ترفيهية وتساهم في بث الوعي وتطوير الثقافة الجماهرية وترسيخها.[2]

إن الإذاعة «عبارة عن تنظيم مهیكل في شكل وظائف وأدوار، تقوم ببث مجموعة من البرامج ذات الطابع الترفيهي والتثقيفي والإعلامي، وذلك لاستقباله في آن واحد من طرف جمهور متناثر، یتكون من أفراد وجماعات بأجهزة استقبال مناسبة.”[3]

 وتعدّ الإذاعة ” أوسع وسائل الإعلام انتشارا ، وأكثرها شعبية، وجمهورها جمهور عام ، تستطيع الوصول إليه مخترقة الحواجز الأمنية، والعقبات الجغرافية والقيود السياسية التي تمنع بعض الوسائل الأخرى من الوصول إلى مجتمعاتها”[4]،  فهي إحدى وسائل الاتصال  الأكثر جماهيرية  و سهولة، إذ تحتاج إلى جهاز بسيط لالتقاط برامج الإذاعات المختلفة ، تصل منذ نشأتها سنة 1906م  آذان المستمعين وعقولهم وجوارحهم غير أبهة بالقيود الزمنية والجغرافية والأمنية، فهي جهاز إعلامي يعتمد نظاما خاصا لإرسال و بث  الذبذبات الكهرومغناطيسية ،مع تضمين الموجات الصوتية على هيئة دوائر عبر الغلاف الجوي ، و يعد “المذياع” الوسيلة الوحيدة غير المرئية بين جميع وسائل الإعلام، لذا يطلق عليه أساتذة وخبراء الإعلام والاتصال “الوسيلة العمياء”Blind Medium ، وهو يخلق ألفة عاطفية مع متتبعيه، فيحصلون على معارف و ثقافة ويتمكنون من متابعة الأحداث والأنباء والأنشطة  داخل الوطن وخارجه. “[5] وقد بدأ الإرسال الإذاعي في المغرب سنة 1928 م” تحت اسم راديو المغرب.

مفهوم الثقافة الشعبية:

الثقافة الشعبية هي “مجموع العناصر الثقافية التي تصدر عن الشعب وتمثل حصيلة معارفه وخبراته ومهاراته في مرحلة تاريخية معينة، وأكدت الدراسات الإنسانية الحديثة أن الثقافة الشعبية تساير في نموها نمو العقل والفكر والسلوك البشري، تتسم بالأصالة وبالتالي فهي خزان التراث وحافظ له، وهي من أهم عوامل التكامل المحلي والوطني في إبرازها لخصوصية المجتمع وهويته”[6]، وتشمل الخصائص والصفات المُشتركة لمجموعة من الناس، كاللغة، والدين، والطعام، والعادات والتقاليد الاجتماعيّة، والموسيقى، والفنون، وطقوس العبور، والاحتفال، وطرق التنشئة الاجتماعيّة، وهي انعكاس للقيم، والمُعتقدات، والعادات، وتظهر في التاريخ والتراث، وطرق التعبير عن الأفكار، ولها أشكال تعبيرية تندرج ضمن الأدب الشعبي كالزجل والسير والملاحم والخرافة والأمثال والحكم أو المعتقدات. فهي الثقافة التي تميّز الشعب والمجتمع الشعبي ومقابل للثقافة “العالمة” ثقافة النخبة، وتتصف بامتثالها للتراث والأشكال التنظيمية الأساسية، والشعب هو الحامل لهذه الثقافة، وتتمظهر في كل التمثلات الجماعية لحياة الأفراد والمجتمعات، المتمثلة في تطلعات الجماعة ورغباتها ومعتقداتها، وفي نظرتها للحياة.

  1. الحضور التشريعي للثقافة الشعبية المغربية في الإذاعة:

صدر بالجريدة الرسمية عدد 6093 الصادرة بتاريخ 6 ذو الحجة 1433
(22 أكتوبر 2012). مرسوم رقم 2.12.596 صادر في 25 من ذي القعدة 1433
(12 أكتوبر 2012) بنشر دفتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة. حول دفتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية، وسنلقي الضوء خلاله على اهتمامه بالشروط التي وضعها للنهوض بالثقافة المغربية والعناية بها، وفيما يلي سنستحضر أهم البنود:

ورد في المادة 11 الخاصة بالحديث عن التنوع الثقافي واللغوي والمجالي أنه يجب الاعتماد على برمجة تعكس تنوع مقومات الهوية المغربية وتجلياتها الثقافية واللغوية والفكرية والمجالية والاجتماعية، المنفتحة على الثقافات واللغات الأجنبية والقيم العالمية، وتسهم عبر مختلف برامجها، في إبرازها.

كما يجب أن تبث الشركة برامجها باللغتين العربية والأمازيغية وباللسان الحساني واللهجات والتعبيرات الشفوية المجالية المغربية المتنوعة، مع الاستعمال السليم والمبسط للغة العربية والأمازيغية في البرامج الموجهة للأطفال والجمهور الناشئ والنشرات الإخبارية والبرامج الوثائقية، وفي الترجمة المكتوبة المرافقة للأعمال المبثوثة. ويجب استعمال اللغة العربية واللغة الأمازيغية حصريا في دبلجة الأعمال الأجنبية.

وتلتزم الشركة ببث البرامج، التي تدخل في إطار الالتزامات الكمية المنصوص عليها بهذا الدفتر، بالعربية والأمازيغية والتعبيرات المغربية، وتخصيص برامج للأعمال الثقافية والفنية المغربية، وضمان التوازن بين مختلف التعبيرات الشفوية المختلفة، والمساهمة المتميزة في تثمين وتنمية وإنتاج وبث الثقافة المغربية، بتنوع مكوناتها وروافدها الثقافية واللغوية والمجالية.

وفي المادة 53 الخاصة بالبرامج الثقافية والمعرفية، حرص المشرع على تحفيز الإذاعة والتلفزة المغربيتين على تثمين الفنون والتقاليد الشعبية والأصيلة، وتوفير فرص التعبير للمواهب الجديدة، والابتكار الفني الوطني في تنوعه الجهوي واللغوي.

جاء في المادة 146 حول البرامج الثقافية والترفيه، أن الإذاعة الأمازيغية تبث برامج مخصصة للثقافة والفنون والتعبير الأدبي، لاكتشاف العالم وللحضارات وأنماط العيش، وللتاريخ، وللعلوم الإنسانية، وللطبيعة، والعلوم والتقنيات. وتقدم عروضا مسرحية ومسلسلات إذاعية وبرامج، وفقرات للموسيقى والألعاب والرياضة. وتغطي أخبار التظاهرات الثقافية ذات البعد الجهوي والوطني. وتعمل على تثمين الثقافة والفنون والتقاليد الشعبية وخاصة الأمازيغية. كما تشجع تعبير المواهب الجديدة والابتكار الفني والجهوي والوطني الأمازيغي.[7]

المطلب الثاني: الاستخدامات والإشباعات الثقافية المنتظرة من الإذاعة المغربية.

تشير الدراسات المهتمة بنظرية الاستخدامات والإشباعات إلى وجود علاقة متينة بين البحث عن الإشباع الثقافي والتعرض لوسائل الإعلام، لكون الفرد الذي يتحكم في سلوك التعرض فهو قادر على اختيار نوع محدد من الاستخدامات التي تلبي حاجاته، وهو أمر يؤكد وجود اختلافات واضحة في البنية الذهنية والفكرية لكل فرد أثناء التعرض لوسيلة إعلامية حسب مستويات التعليم والسن والاستخدام. وقد ركز” إليهو كاتز” على صياغة العلاقة القائمة بين حاجات الجمهور واتجاهاته السلوكية التي يريد إشباعها من خلال تعرضه للوسيلة الاتصالية، وصاغ نموذجا للعلاقة بين استخدام الأفراد لوسائل الإعلام وما يمكن أن تشبعه من حاجات لديهم مقارنة بالبدائل الوظيفية الأخرى المتاحة أمامهم، وأن المواقف الاجتماعية التي تفرض نفسها على الفرد هي المسؤولة عن إقامة العلاقة بين الوسيلة الإعلامية وإشباع الحاجات، وتمدّه بالتوقعات حول التعامل مع الوسائل الإعلامية لتدعيم عضويته في الجماعة الاجتماعية.[8]

إن الإشباع المرغوب يرتبط بمحتوى الرسالة الإذاعية، والغاية من الاستماع إليها، ومدى الاستجابة لها. ويفترض في الإذاعة، بوصفها وسيلة اتصالية إعلامية، التوفيق بين تطوير وسائلها، ومضامين برامجها، ومسايرة متطلبات المستمعين ورغباتهم، ومواكبة التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تطال المجتمع، وتحقيق الإشباعات التي يصبو المستمعون اليها. ” فالتناقض بين إشباع رغبات الجمهور، وبين ما يتحقق له بالفعل، يمكن أن يؤدي إلى تغيير في محتوى وتنظيم وسائل الإعلام في أي نظام إعلامي حريص على الاستجابة للواقع.”[9]

ولما كان الإشباع وظيفة من الوظائف الأساسية للثقافة، باعتبارها نظام حياة، وعادات وتقاليد، وطرق اتصال واحتكاك وتفاعل، وتراكم معرفي وتاريخي، فقد أصبح من واجب الإذاعة تكريس مجهوداتها لإشباع الحاجات الثقافية للمستمعين من خلال برامجها المتنوعة، والعمل على الاستفادة من المخزون الثقافي الشعبي، بغية تحقيق إشباع معرفي ووجداني وجمالي وأخلاقي لدى المتلقين، فالثقافة “تخلق حاجات يكتسبها الفرد، ثم تمده بوسائل إشباعها، فالاهتمامات الجمالية والأخلاقية والدينية تخلقها الثقافة، ثم تهيئ للفرد وسائل إشباعها.”[10]

تسعى الإذاعات بمختلف أنواعها إلى خلق شبكة من البرامج، لتلامس جوهر الثقافة الشعبية، وتعمل على استحضارها في كل المناسبات الاجتماعية والتاريخية ،وفي جل المواقف الإنسانية والظروف الحياتية، بل وتفتح أحيانا مساحات للتشريح السوسيولوجي والنقد الثقافي لظواهر ثقافية شعبية ، قصد التحليل والتفكيك ، بإبراز المحاسن والعيوب وكشف الثقافة الدخيلة من الأصيلة، ففي عاشوراء مثلا يتم الاحتفال في بعض المناطق المغربية بطرق غير سلمية ، باستحضار الألعاب النارية وإضرام النيران ورش المارة بالماء والبيض، والماء القاطع أحيانا، مما يترتب عنه أضرار جسيمة، تعبر عنها بتذمر بالغ  تدخلات المستمعين في البرامج الإذاعية قصد  تغيير هذه السلوكيات ، وقد دعا المنتدى المغربي للمستهلك وسائل الإعلام إلى “التعريف بهذه الظواهر، والبحث في سبب تفاقمها، وانحرافها عن أهدافها النبيلة والشرعية، وحث المواطنين عن طريق الندوات والحوارات مع الأخصائيين، قصد توجيه سلوك المواطنين نحو الوجهة الصحيحة والمناسبة”[11] 

عند الحديث عن ثقافة وعادات المغاربة في التعامل مع الآخر، وقيم التسامح، فإن بعض المحطات الإذاعية تخصص برامج للحديث عن السلوكات الطائشة في السياقة والعنف الطرقي، وعدم احترام خصوصيات الجار، والأنانية، والغش، وعدم التسامح، وعدم تقبل الأخر، كقيم سلبية تقض مضجع الثقافة المغربية المفعمة بالقيم النبيلة على كل الأصعدة الأخلاقية والدينية والإنسانية. وتعمل هذه البرامج على محاولة تصحيح هذه السلوكات، بالتذكير دوما بثقافة الأجداد والآباء والروافد الثقافية للمغاربة.  فتحقق الإذاعة إشباعا تقويميا لدى المستمعين، هي تستفز مشاعرهم تجاه الثقافات الدخيلة، فيسعون جاهدين إلى انتقاد هذه الخوارم، والتعبير عن تذمرهم منها.

إن محاولة الإذاعة تحقيق إشباعات فنية لدى غالبية المستمعين خلق نوعا من الإقصاء لبعض الثقافات الشعبية المحلية وتهميشها، في ظل تزايد الاهتمام بالقاعدة الجماهيرية الأوسع التي تطلب ما يساير الحداثة من ثقافات عصرية وغربية، فقلما نجد اهتماما واضحا بالفنون الشعبية الأصيلة في برامج الإذاعات الخاصة، على اعتبار أنها صارت غير مسايرة لرغبات المستمعين، ولا تواكب الجديد في العالم الثقافي الفني. والنموذج من إذاعة وجدة الجهوية، التي كانت تخصص كل يوم حيزا زمنيا مهما للأغاني التراثية المحلية، وفن الحلقة، وأغاني آلة “القصبة” و”العلاوي”، فتغير الحال اليوم لصالح عرض أغاني عصرية، مقابل مساحة ضيقة وجد نادرة لمثل هاته المقاطع الفنية الفلكلورية، وبإطلالة سريعة على شبكة برامج هاته الإذاعة، ستتبين لنا ندرة توظيف المنتوج الفني الشعبي المحلي.

المطلب الثالث: مظاهر اهتمام الإذاعة بالثقافة الشعبية المغربية.

تستقطب الإذاعات المغربية الوطنية والجهوية والخاصة جمهورا لا بأس به من المستمعين، على اختلاف طبقاتهم وميولاتهم ، رغم الثورة الرقمية التي اجتاحت المجال الإعلامي ،و في ظل المنافسة الشديدة بين وسائل الإعلام على خلق قاعدة من المتتبعين، لم تفقد الإذاعة مكانتها في قلوب مستمعيها ، لأسباب عدة  ، نذكر منها على الخصوص  اهتمامها بالثقافة الشعبية والموروث الشفهي والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمع، وسعيها الحثيث إلى تقديم خدمات النصح والإرشاد في مجالات كثيرة كالطب والعدل والدراسة والتوجيه. فلا يكاد المستمع للقنوات الإذاعية يفتح قناة، حتى يصادف متدخلين يتصلون بمقدمي البرامج وضيوفهم، لتقديم تساؤلاتهم، أو حكي تجربة حياتية متنوعة، أو تقديم نصح، أوطلب إرشاد، وفي كثير من الأحيان يتجاوز الأمر ذلك إلى طلب مقطع موسيقي أو فني، قصد الترفيه والترويح عن المستمعين.

أ. الإذاعة والاهتمام الشعبي ببرامج الثقافة الشعبية:

 إن تكاثر القنوات الإذاعية الخاصة ليس إلا دليلا قاطعا على نجاح التجربة الإذاعية في الحفاظ على مكانتها، وتغلغلها في الارتباط بالثقافة الشعبية المغربية، حتى إن معظمنا تخلى عن سماع تسجيلات جاهزة لمقاطع فنية بسيارته، وعوضّها بالاستماع إلى أول قناة يصادفها وهو ذاهب إلى العمل أو غيره، كما تهتم ربات البيوت بتواجد جهاز المذياع سواء التقليدي أو الرقمي بفضاء المطبخ، حتى تتمكنّ من الاستماع مباشرة للبرامج الإذاعية المفضلة، خصوصا تلك المتعلقة بالطبخ المغربي بجميع أنواعه على امتداد ربوع البلاد. أو سماع نصائح لفقرات الطب الشعبي التقليدي التي كانت تقدم في برنامج «نخل ورمان لمحمد الفايد” على إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، أو برنامج “عندي دواك «مع جمال الصقلي على أثير إذاعة إم إف إم، قبل ان يتم منعها إثر تدخل منظمات طبية لها تأثير واسع مادام المجال السمعي البصري يخضع لمراقبة للهيأة الوطنية للاتصال السمعي البصري.

ونلاحظ اهتمام جل الدكاكين المنتشرة بالأسواق التجارية أو الأحياء الشعبية بالاستماع للإذاعات المختلفة، إذ نجد أغلب البقالين يواظبون على استمرار ثقافة متأصلة عند التجار المغاربة منذ أمد بعيد، فكلما ذهبت صباحا لاقتناء الحاجيات اليومية، تجد المذياع يصدح بالأخبار أو أغاني صباحية تراثية تصاحب نسمات الصباح. ونفس الأمر عند الخياطين، الذين يجلسون منكبين على حياكة الثوب، واضعين في الزاوية مذياعا، يشنّف مسامعهم بما طاب من برامج لا تبتعد كثيرا عن واقعهم واهتماماتهم الثقافية والفنية والمجتمعية، حتى صاروا يحفظون شبكة البرامج اليومية. وما يقال عن هؤلاء يمكن أن يقال عن سائقي سيارات الأجرة ،الذين غالبا ما يُذّكروننا عند الجلوس معهم بأنه لازال هناك من يستمع الى القنوات الإذاعية ، في ظل هجرة الأجيال الحالية إلى الإعلام الرقمي المتنوع ،والمتعدد الفضاءات، وغالبا ما نسترق السمع إلى المتحدث في البرنامج، وتكون فرصة لإثراء النقاش على طول المسافة والإدلاء بالرأي الخاص عن الفرق بين الأمس واليوم ، ونتأسف على ضياع الموروث الثقافي وعدم التشبع به، وبأن الماضي كان أحلى ببساطته، فنصير حينها امتدادا للبرنامج الإذاعي الذي أظهر بعض تمثلاتنا عن ثقافتنا الشعبية بين الماضي والحاضر، فصرنا ندافع عنها باستماتة. أو من خلال السائقين المهنيين للشاحنات و الحافلات ، فلا تخلو البرامج الليلية من اتصالاتهم، وهم يحكون عن تجاربهم على الطرقات، خصوصا وأنهم أصحاب تجربة ثقافية شعبية كبرى، إذ يقضون عمرهم في التنقل بين مختلف المدن والبوادي والأسواق الشعبية والمحلات التجارية عبر كل مناطق البلاد، فصارت لديهم خبرة كبرى بأقوال الناس وطرق معيشتهم وطبائعهم وأذواقهم وتقاليدهم وعاداتهم، فهم كلما اتصلوا حكوا عن تجارب جديدة مفيدة، عاشوها أو حكي لهم عنها، ونورد على سبيل المثال برنامج ” أنيس السائقين ، لقاء مع فرسان الليل ”  للحبيب السليماني ،الذي كان يُبث  ليلا على من إذاعة طنجة على أمواج الإذاعة الوطنية . ثم صار يقدمه حاليا الإذاعي المقتدر محمد بن الطيب كل ليلة إثنين.

كما تهتم الإذاعة بثقافة البحر والبحارة، إذ ما تبحث في برامجها عن جوانب من الثقافة الشعبية المغربية الخاصة بعلاقة المغربي بالبحر، وعادات المغاربة في الصيد البحري. ونذكر كنماذج برنامج” صوت البحار” كل يوم سبت ابتداء من الساعة السابعة مساء على أثير إذاعة إم اف ام، وبرنامج” أنيس البحار للإعلامي المتميز عبد اللطيف بنيحي على أمواج إذاعة طنجة.

لقد كان الغرض من ذكر هاته الصور البسيطة للفئات المجتمعية المهتمة بالاستماع للإذاعة المغربية، إبراز مدى اهتمام هذا المنبر الإعلامي بالثقافة، وتخصيصه لبرامج تهتم بالثقافة الشعبية بشكل عام، وانطلقنا من اهتمام المتلقي بالبرامج الشعبية، نظرا لكون الإذاعة لن تنجح في الوصول إلى قلوب المستمعين، ما لم تخاطب ثقافة مجتمعهم وتسترعي انتباههم.  

إن علاقة الإذاعة بالثقافة الشعبية المغربية متينة جدا، ولا يمكن إغفالها بأي شكل من الأشكال، مادام الموروث الثقافي متغلغلا في حياتنا الاجتماعية، فكل متصل بالإذاعة، يَعْمد إلى توظيف مثل شعبي في معرض حديثه، أو سرد عادات وتقاليد الأجداد والآباء، أو طلب الاستماع لأغنية تراثية أصيلة من التراث المغربي، حتى وإن كان موضوع البرنامج الإذاعي بعيدا كل البعد عن الثقافة.

ب. الإذاعة والاحتفالات الشعبية بالأعياد والمناسبات الدينية:

قد  نكاد نجزم أن الأمر الإيجابي للإذاعة، في ظل اهتمامها  البراغماتي بميولات المستمعين ، أنها  قدمت خدمة كبرى للثقافة الشعبية ، حيث منحتها منصة إعلامية للحديث عن مختلف مظاهرها وأنواعها، سواء أكان الأمر مقصودا، وفقا لدفتر التحملات الذي ينص صراحة على ضرورة اهتمام الإذاعات بالثقافة المغربية، أو بشكل غير مقصود من خلال الشهادات الشفهية للمتدخلين الإذاعيين، مما يوثق   للثقافة الشعبية من خلال نماذج مجتمعية أو تراثية أو احتفالية، ففي أيام الأعياد الدينية تنكب جل البرامج الإذاعية على استقبال تهانئ المواطنين، ولا يمر الأمر دون الحديث عن تقاليد وعادات الاحتفال بعيد المولد النبوي، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وعاشوراء في مختلف أنحاء المغرب، من صحرائه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه، ونفس الأمر يقال عن شهر رمضان، الذي غالبا ما تخصص خلاله كل الإذاعات  برامج ثقافية شعبية تهتم بموروثنا الثقافي، كالحديث عن أصناف وألوان موائد الإفطار والسحور ،وأشكال اللباس التقليدي المغربي، أو الاحتفال بصيام الصغار وفق عادات مجتمعية من صميم التراث المغربي، أو وصف واستعراض طرق الطبخ المختلفة من منطقة إلى أخرى، و الحديث عن  عادات المغاربة العائلية خلال هذا الشهر ، وكيفية تعامل الجيران فيما بينهم خصوصا في الأحياء الشعبية، دون إغفال كافة التقاليد والأعراف السائدة عند المغاربة خلال الأيام الرمضانية العشرة الأولى والثانية ثم الأخيرة.

ج – الإذاعة والموسيقى الشعبية:

تهتم الإذاعة المغربية بمختلف الأذواق الفنية الموسيقية لدى المغاربة، وتعمل على عدم اندثارها مهما طال الزمن، بل تشجع المنتجين الثقافيين على الإبداع، عن طريق تقديم فضاءاتها أحيانا للتسجيل أو العزف، أو تقديمهم للجمهور من خلال برامج تعرّف بهم، وتستحضر تجربتهم الثقافية والحياتية. فيحضر على منصات الإذاعات المغربية الفنانون الموسيقيون الشعبيون، حيث إن جلهم وإن لم يقدموا موسيقاهم حضوريا على أثير أمواج الإذاعات الجهوية والوطنية والخاصة، فقد حضر صوتهم وعزفهم في مقاطع موسيقية أو وصلات فنية، فالإذاعة الأمازيغية تهتم بتقديم منتوجات كل الفنانين الشعبيين دون تمييز، بل وتبحث أحيانا عن مقطوعات نادرة جدا، لتقديمها للمستمعين إلى جانب برامج مهمة تعنى بالثقافة واللغة الأمازيغية والموروث الثقافي الأمازيغي.

تحرص الإذاعة الوطنية أيضا منذ عقود على تقديم وصلات موسيقية خاصة بالطرب الغرناطي والأندلسي خلال فترة ما بعد الظهيرة، لصيانة هذا التراث وتشجيعه على التألق والاستمرار، حتى صار لهذا الطقس الموسيقي عادات اجتماعية وثقافية عند أسر مغربية كثيرة. ويورد محمد الغيداني في كتابه “للإذاعة أعلام “في الحلقة السابعة الأربعين المنشورة بجريدة العمق الرقمية، أنه “منذ عدة سنوات سهر الإذاعي الحاج أحمد سهوم على إعداد وتقديم سلسلة من البرامج التراثية على أمواج الإذاعة المغربية، تحمل شعار “إطلالات على التراث” وهي عبارة عن قراءة تحليلية في احدى قصائد الملحون، وسعى هذا البرنامج إلى ترسيخ ثقافة الملحون الذي يعد موروثا ثقافيا مغربيا مهما، وكذا تقريبه من عامة الناس”[12].

كما تقدم جل الإذاعات الجهوية مقاطع موسيقية أو فنية، سواء كانت غنائية أو شعرية أو سردية، فتطغى على الذوق الفني السائد على أثير الإذاعة المعنية، فيعرف المستمع أنه على موجات إذاعة العيون وهو يستمع للغناء والشعر الحساني، أو إذاعة طنجة وهو ينصت ” لطقطوقات جبلية”، أو على أثير إذاعة وجدة لمّا يستمع لمقاطع من فن “الراي”، لكن هذه ليست قاعدة عامة، إذ ان الألوان الأخرى تحضر بشكل أقل من حضور الثقافة الشعبية المحلية في إذاعة محلية.

د- الإذاعة والتنوع اللغوي:

تبث الإذاعة الرسمية المغربية برامجها باللغتين العربية والأمازيغية وباللسان الحساني واللهجات والتعبيرات الشفوية المجالية المغربية المتنوعة، مع الاستعمال السليم والمبسط للغة العربية والأمازيغية في البرامج الموجهة للأطفال والجمهور الناشئ والنشرات الإخبارية والبرامج الوثائقية[13]، احترم التعدد اللغوي بالمغرب من خلال البرامج الإذاعية ، فإلى جانب اللغة العربية الفصحى و اللغة الأمازيغية كلغتين رسميتين منذ دستور 2011، حاولت الإذاعات تغطية كل اللغات و اللهجات المغربية ، فالإذاعات الجهوية تعتبرا ناطقا رسميا باللغة أو اللهجة المحلية . واحترمت الإذاعات الأمازيغية التنوع اللسني، فخصصت إذاعات بتريفيت وتشلحيت وتمازيغت حسب خصوصيات كل منطقة، واعتمدت إذاعة العيون الجهوية الحسانية في جل برامجها، بالإضافة، دون نسيان حضور اللغة الفرنسية بنسبة كبيرة في إذاعتي “ميدي 1″ و” chaine inter”.

 تحاول الإذاعات الخاصة أن تكون أقل انحيازا لمنطقة دون أخرى، فتستهدف كل الأذواق الثقافية من جل المناطق المغربية، حرصا منها على استقطاب أكبر عدد من المستمعين، حتى أن مقدميها يحاولون الخوض في ثقافة كل متصل باستدراجه للحديث عن ثقافة منطقته، خصوصا عند نطقه بلغة ما أو لهجة محلية أو لكنة متميزة، فيُجذَب للحديث عن عادات وتقاليد وقيم منطقته بشكل إيجابي يثير المستمعين ويعرفهم على الآخر وثقافته.

لكن ” اعتماد الإذاعات على اللغات الواسعة الانتشار أسهم في نشرِ اللغات المتداولة، فقد وجدت معظم اللغات فرصة للانتشار من خلال الإذاعة، وذلك لأنَّ الراديو قد اعتمد على الكلمة المنطوقة دون سواها”.[14]  وبالمقايل نلاحظ «انحسار بعض اللغات الإقليمية واللهجات المحلية الأخرى التي لم تجد حظا مماثلا على الأثير”[15]مالم توفر لها منصات إعلامية تحملها إلى الآخر وتعرفه بها.

المطلب الرابع: التناول الإعلامي للثقافة الشعبية المغربية من خلال البرنامج الإذاعي “ريحة الدوار”

أ – وصف البرنامج:

عنوان البرنامج الإذاعي: “ريحة الدوار”

اسم الإذاعة: إذاعة إم إف إم، إذاعة خاصة تبث من مدينة الدار البيضاء في اتجاه كل أنحاء المغرب.

أيام عرض البرنامج: السبت والأحد.

توقيت العرض: من الساعة الواحدة زوالا إلى الثانية زوالا.

تاريخ البرنامج: يُبث البرنامج منذ سنة 2012.

مقدم البرنامج: محمد عاطر.

شعار البرنامج: الدوار، القروي، شبه القروي، عنصر من جغرافيتنا وتاريخنا، من المغرب الأصيل والمتعدد، لمشاركة الحياة والتقاليد بها رفقة محمد عاطر[16]

أسلوب البرنامج: حواري في قالب اجتماعي شعبي لا يخلو من حس فكاهي وإبداعي.

الضيوف: ذوي التجربة والخبرة الحياتية من سكان القبائل والقرى والدواوير المغربية.

موضوع البرنامج: عادات وتقاليد أهل البادية المغربية، وثقافة القرى والقبائل المغربية، من خلال حوارات ولقاءات مع الساكنة، غالبا مع أناس بسطاء، للكشف عن جوانب من المعيش اليومي النابع من الثقافة الشعبية التي تستمد أصولها من تاريخ المغرب العريق.

ب – صور الثقافة الشعبية في برنامج ريحة الدوار:

ينطلق البرنامج من واقع البادية المغربية، والثقافة الشعبية السائدة عند القبائل التي يزورها الطاقم، فهي جلسات حميمية مع شيوخ الدواوير ، وذوي الخبرة والتجارب الحياتية، تتواتر القصص والحكايات التي مر منها هؤلاء المستجوبون، والتي غالبا ما تستمد أصالتها من بساطة أناس البادية، فتتراءى الثقافة الشعبية بالبادية المغربية للعيان، في خضم الحديث بين المذيع وضيوفه ،حتى أن الحوار لا يخلو من ذكر مكونات ثقافات القرى المغربية، وعاداتها، وتقاليدها، وطقوس الاحتفالات الشعبية في مختلف المواسم السنوية المنظمة تكريما لأولياء الصالحين .

يعد هذا الموضوع أمرا أساسيا في قضايا البرامج إذ غالبا ما يتعمد مقدم البرنامج اختيار قبيلة ما، تزامنا مع تنظيم مهرجان     أو موسم سنوي لولي صالح، حيث تسود خلاله مهرجانات التبوريدة، وأسواق تجارية على الهامش، أو حفلات الضيافة داخل الخيام المنصوبة على ضفاف ساحة التبوريدة.

كما يتعمد البرنامج زيارة الأسواق الشعبية الأسبوعية، حتى يتمكن من استضافة الضيوف داخل خيمة للشاي والأكل، وتجاذب أطراف الحديث حول تاريخ المنطقة وثقافتها، بأسلوب لا يخلو من فكاهة، وبساطة، وبلاغة تصويرية، من خلال تعابير محلية، بلكنة ضاربة في الأصالة والقدم، مستمدة من لغات ولهجات وخصوصيات المنطقة المعنية. بل ويتعدى الأمر ذلك أحيانا الى حضور بعض المناسبات الكبرى الأسرية، كحفلات الزواج والأعراس، فيقدم لنا المستجوبون على قنوات الأثير عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم الاحتفالية.

كما يغطي البرنامج بعفوية جانبا كبيرا من الثقافة الشعبية في البادية المغربية، فتحضر جل مكونات الإبداع الشعبي، حيث تعطى الفرصة للأدب الشعبي من زجل وحكايات، وموسيقى وغناء، وقصائد، يتغنى بها سكان المناطق القروية بموروثهم الثقافي، ويوظفون الفلكلور التراثي، في استحضار أبطال المقاومة، والسير الشعبية، واستحضار الحكايات العجيبة والمرحة، بأسلوب سردي مرح وبسيط.

يجتمع المقدم مع ضيوفه في فضاء فُرجوي ، ويخوض معهم في جل التفاصيل الحياتية للقبيلة أو القرية المعنية بالزيارة الإعلامية، ويستحضر من خلال التفاصيل عادات وتقاليد مغربية أصيلة، وأمثال وحكم ، وطرق عيش من طبخ و ملبس و فلاحة وتجارة ، وطقوس عبور من حفلات أعراس و ولادة وأحزان ، ويستعيد رفقة سكان المنطقة بعضا من الحكايات الشعبية التي تختزنها الذاكرة المحلية، التي يجتمع فيها الواقعي بالخيالي والأسطوري،” ومناقشة تقاليد الفروسية بالمنطقة، بعد أن خصص محاور سابقة للحديث عن المقاومة، وقصائدها المشهورة ، والتي تتغنى ببطولات رجال المنطقة خاصة بواد زم وخريبكة وبوجنيبة، وغيرها من المناطق التي خلدتها أغاني مشهورة في العيطة[17]، إنه برنامج متميز ، دائم الاحتفال بالثقافة الشعبية المغربية، “يرتبط بالبادية ويلامس تفاصيلها بشكل كوميدي عفوي على لسان أهلها من البسطاء و العفويين… فهو وثيقة صوتية أنثروبولوجية تعكس هذا التنوع المدهش في بلدنا [18]

ويعتمد مقدم البرنامج أسلوبا فكاهيا كوميديا في حواره ، بغية إضفاء طابع المرح والترفيه على حلقاته ، ويسايره الضيوف في أسلوبه ، فتراهم أكثر إبداعا في سردهم للأحداث ببساطة وسلاسة وفكاهة، غير مكثرتين لتواجدهم أمام الميكروفون وفريق التسجيل الإذاعي، فيبهرون المستمعين بطلاقتهم التعبيرية وإبداعهم التصويري و الوصفي للأحداث التاريخية والاجتماعية .وقدرتهم الهائلة على توظيف الألغاز   و الأقوال المأثورة و المسكوكات في خطابهم، و ذلك سر من أسرار  نجاح هذا البرنامج ، كما أنه يستهدف قاعدة كبيرة من المستمعين داخل المغرب وخارجه ، خصوصا من أبناء البادية الذين هاجروا إلى أوربا ، فيوقظ في دواخلهم الحنين إلى أرض الوطن ، وثقافة البادية ، وبساطة أهلها ، ولغة أو لهجة أهلها ، وأسواق القرى، ومواسم القبائل والأولياء، وحفلات القران و العقيقة والحصاد .

 خاتمة

يقدم الإعلام الإذاعي مساحة إعلامية لنشر الثقافة الشعبية وصيانة الموروث الثقافي والحفاظ عليه، وتجديد دمائه، ونفض الغبار عنه، وكلما كانت الإذاعة قادرة على تلبية الحاجيات الثقافية للمستمعين كلما زاد عدد المتفاعلين مع برامجها، لكونها تلبي شغفه الثقافي وتحترم ميولاته، وتشبع حاجته إلى الأصالة وتصون القيم التراثية لمجتمعه.

إن الإذاعة ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الثقافية، والارتقاء بالثقافة الشعبية الأصيلة، وصد كل ثقافة هجينة دخيلة. وقد عملت الإذاعات المغربية العامة والخاصة على تخصيص برامج تعنى بثقافة الشعب المغربي المتنوع لغويا وثقافيا، بإبراز أهم مظاهر التنوع اللغوي والتلاقح الثقافي عند المغاربة، دون إغفال أي لغة متداولة في ربوع المملكة، مع فتح المجال لكل اللهجات والتعابير اللغوية واللكنات بشكل عفوي داخل جل البرامج ، والبحث في خصوصيات التلاقح الثقافي الناتج عن تنوع وتعدد الحضارات التي مرت بتاريخ المغرب، وموقعه الجغرافي الذي يتيح له التواصل مع مجموعة من الثقافات الأخرى، زيادة على حضور مكونات مختلفة في الثقافة الوطنية من أمازيغية وحسانية صحراوية ويهودية عبرية وعربية إسلامية.

لقد عملت الإذاعة المغربية بشكل متفاوت على تلبية الرغبات الثقافية لكل هذه المكونات، بل أسست إذاعات مختصة لكل نوع أحيانا، كالإذاعة الأمازيغية الوطنية التي تأسست سنة 1938 ” بتشلحيت وتريفيت وتمازيغت”، وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم منذ سنة 2004 والتي لا زالت تعرف سنويا أكبر نسبة استماع حسب قياس “راديو ميتري” [19] وإذاعة العيون الجهوية التي تعنى بالثقافة الحسانية الصحراوية، وباقي الإذاعات الجهوية التي تخصص مساحات إعلامية للثقافات المحلية، وتخوض في أغوارها للبحث عن مميزات ثقافة المنطقة. فالإذاعة الناجحة إعلاميا تضع ثقافة المجتمع في صلب اهتمامها، باعتبارها منبعا مهما ومصدرا زاخرا لصنع برامج تلبي رغبات المستمعين وتحقق الإشباعات لديهم.

لكن يبدو أن الثقافة الشعبية لا زالت توظف عرضا ببرامج الإذاعات المغربية، وليس بشكل احترافي ومنهجي، إذ يغلب الارتجال على جل البرامج بسبب غياب مختصين في مجال الثقافة الشعبية من ذوي البحث العلمي والأكاديمي، وافتقاد جل مقدمي هاته البرامج لتكوين أكاديمي في مجال الثقافة الشعبية والمناهج المختصة لدراستها وتحليلها. فتكتفي جل البرامج الإذاعية باستحضار جوانب من الموروث الثقافي المغرب والتوقف عند عملية السرد والوصف دون التعمق في دراسته بالتحليل والتفكيك المثقف العضوي والعقل الأداتي والموضوعي.

وإن كانت الإذاعات الوطنيـة حسب،  فهي تعمـل علـى تقديـم مختلـف تعبيـرات الثقافـة المغربيـة، باللغـات المغربيـة والأجنبية، وطنيـا وجهويـا، بإذاعـات عامّـة ، وتثبـت نتائج قيـاس التتبـع أن إذاعـات الشـركة الوطنيـة للإذاعـة والتلفـزة تحظـى بنسـب تتبـع كبيـرة، خصوصـا قناة “السادسـة” والإذاعة الوطنيـة”، التي تحرص باسـتمرار علـى مواكبـة الحيـاة الثقافيـة المغربيـة ، سـواء كانـت تدخـل ضمـن أنمـاط العيـش والتـراث، أو الإبداعات  الثقافيـة بـكل أشـكالها، مـن كتـب، وأغاني، وسـينما، ومسـرح…مع الاهتمام  بـكل جهـات ومناطـق المغـرب. علمـا بـأن الإذاعات الجهويـة المنتشـرة عبـر التـراب المغربـي تعمـل مـن جهتهـا علـى إبـراز الرأسـمال الثقافي المحلـي والجهوي بطـرق مختلفـة، فضـلا عـن تغطيـة الأنشطة الثقافيـة الإقليمية. وكنموذج ندرج إذاعة طنجة الجهوية، التي اقترنت دوما بالثقافة، سواء في برامجها الوطنية أو المحلّية والجهوية، كاهتمامها بالطرب الأندلسي والجبلي، والموسيقى الشمالية، وانفتاحها الدائم على مختلف أنماط الممارسات الثقافية في الجهة الشمالية. لكن بعـض الإذاعات الخاصـة يغلّـب عليها طابـع المقاولـة التجاريـة فـي بحثهـا بـكل السـبل عـن نسـبة اسـتماع أعلـى، متغافلـة التزاماتهـا الثقافيـة فـي إطـار دفاتـر التحملات.[20]

إن العلاقة بين الإذاعة والمستمع علاقة تكاملية، فلا يمكن أن توجد إذاعة في ظل عدم وجود مستمعين، كما لا يمكن أن يستمع المتلقي لإذاعات لا تلبي حاجياته، لذا تسعى الإذاعات المغربية على اختلاف أنواعها إلى تلبية أذواق المستمعين، والحرص على إثارة اهتمامهم، وجذبهم إلى التفاعل مع البرامج المقدمة. بتوظيف الثقافة الشعبية توظيفا مثاليا، ولن يتأتى ذلك إلا بتسخير كل الإمكانات اللازمة، من وسائل مادية، ومقدمين وضيوف متميزين، لإقناع المستمعين بمواصلة الاستماع والتفاعل.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

[1]– ابن منظور، لسان العرب، ج 8، دار الحديث، القاهرة ،2013، الصفحة 99.

[2] –  ابراهيم إمام، الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، دار الفكر العربي، القاهرة، 1985، ط 2، ص 25 .

[3] – عبد العزيز شرف، المدخل إلى وسائل الإعلام والاتصال، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1989، ط2، ص 103. 

[4] – محمد منير حجاب: الموسوعة الإعلامية، المجلد الأول، ط 1، دار الفجر للنشر والتوزيع، مصر،2003، ص 162.

[5]– إبراهيم عوض ابراهيم، لغة الاذاعة “دراسة تحليلية”، دار جامعة الخرطوم للنشر والتأليف، ط 1، 2001، ص 26.

[6]– حسبن عبد الحميد احمد رشوان “الثقافة دراسة في علم الاجتماع الثقافي.” الإسكندرية ” مؤسسة شباب الجامعة، 2006، ص 99 .

[7]– الجريدة الرسمية عدد 6093 الصادرة بتاريخ 6 ذو الحجة 1433 (22 أكتوبر 2012). مرسوم رقم 2.12.596 صادر في 25 من ذي القعدة 1433 (12 أكتوبر 2012) بنشر دفتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة و التلفزة.

[8] – مرفت الطرابيشي -عبد العزيز السيد، نظريات الاتصال. القاهرة، دار النهضة العربية، 2006، ص 255-257 .

[9] مرزوق عبد الحكيم العادلي ، الإعلانات الصحفية ، دراسة الاستخدامات والإشباعات، دار الفجر للنشر والتوزيع،
ط 1 ،2004، ص 129.

 [10] خالد محمد أبو شعيرة و ثائر أحمد غباري ،الثقافة وعناصرها ،مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع ، عمان ط 1،2009، ص 28.

[11]www.hespress.com/منتدى-المستهلك-يحذر-من-مخاطر-زمزم-والمفرقعات-315253 أطلع عليه بتاريخ 24 مارس 2021

[12] https://al3omk.com/559881.html العمق المغربي. اطلعت عليه بتاريخ 18/10/2023.

[13] الجريدة الرسمية، نفسها، المادة11.

[14] عوض ابراهيم عوض، المرجع نفسه، ص 225.

[15] نفسه، ص 224.

[16] برنامج ريحة الدوار: https://www.mfmradio.ma/%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%AC/%D8%B1%D9%8A%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1 بتاريخ 25/6/2024

[17] أرشيف الإذاعات العربية والعالمية، https://www.startimes.com/f.aspx?t=37933330  بتاريخ 23/6/2024.

[18] بوشعيب الحسناوي، برنامج “ريحة الدوار” وثيقة صوتية أنثروبولوجية تعكس التنوع في تامغاربيت” https://anfaspress.com/news/voir/67638-2020-07-12-07-47-55 اطلعت عليه بتاريخ 20/12/2023

[19] https://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2019/07/190701110357365.html الاستماع الإذاعي والتغيير السياسي في المغرب، اطلع عليه بتاريخ 20/6/2024.

[20] المجلس الاقتصادي والاجتماعي، “المضامين الثقافية والإعلام”، إحالة ذاتية رقم 35/2018، مطبعة كانابرنت، المغرب،2019، ص25-26 بتصرف.

Scroll to Top