كرونولوجيا أهم المراحل التي مرت منها البيبليوغرافيا من العصور القديمة إلى حدود القرن 17م
طالب باحث بسلك الدكتوراه
مختبر التراث الثقافي والتنمية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة - المغرب
طالب باحث بسلك الدكتوراه
الكلية المتعددة التخصصات بالناظور
المغرب
ملخص
يعود تتبع جذور الببليوغرافيا إلى العصور القديمة، حيث يعتقد أن الفراعنة كانوا أول من حاول إنشاء قوائم جرد ببليوغرافية، كما نقشت أسماء الكتب على جدران معبد حورس في مصر القديمة. في الغرب، كانت المكتبات في الأديرة تحتوي على مجموعات صغيرة من الكتب، وكانت هذه الأديرة تشكل أداة للتعليم وحفظ وإنتاج الكتب، فالحاجة إلى الفهارس كانت محدودة حينها، مقتصرة على قوائم جرد بسيطة بمعلومات مثل العنوان والمؤلف وعدد الصفحات. أما المسلمين، فقد كان لهم تاريخ طويل في تنظيم الببليوغرافيا والوصول إلى المعلومات، حيث ازدادت الحاجة إلى التعرف على المؤلفات مع نمو النهضة الإسلامية في مختلف العلوم والفنون.
Tracing the roots of bibliography leads back to ancient times. The pharaohs are believed to be the first to attempt creating bibliographic inventories, as lists of books were inscribed on the walls of the Temple of Horus in ancient Egypt. In the West, monasteries housed small collections of books, serving as centers for education and preserving and producing books. The need for catalogs was limited at the time, restricted to simple inventories with information such as title, author, and number of pages. Muslims, on the other hand, have a long history of organizing bibliography and accessing information. The need to identify works grew with the rise of the Islamic Golden Age across various sciences and arts.
كلمات مفتاحية: البيبليوغرافيا - قوائم الجرد البيبليوغرافي - اللوائح الطينية - الفهارس المصنفة- البيبليوغرافيا القومية – فهارس معارض الكتب (المسكتالوج) - الفهرست.
Keywords : Bibliography – Bibliographic Lists - Clay Tablets - Classified indexes - National Bibliography - Book exhibition indexes - The index.
تمهيد
وجدت عدة نقوش ورسومات على الصخور وجدران الكهوف في شتى بقاع العالم تعود للعصور الغابرة في القدم، يحاكي من خلالها الإنسان الذي نقشها نمط حياته البدائية والأفضية التي عاش فيها. تطور الإنسان أدى إلى اختراع الكتابة ليعبر بها عن أفكاره وأحداثه ومعتقداته… بشكل أوضح.
يكاد يجمع الباحثون والدارسون على أن اختراع الكتابة أعظم اكتشاف في تاريخ الإنسانية، لأنها أسهمت في استمرارية تناقل وتطور المعرفة التي توصَّل إليها الإنسان عن طريق الملاحظة والتجربة إلى الأجيال اللاحقة التي لم يكن لها وجود في تلك العصور، و في هذا الصدد يقول الدكتور محمد سلمان علي: “إن اختراع الكتابة وتطورها من أهم الوسائل التي ابتدعها الإنسان، لنَقلِ حضارته عن طريق تسجيل و إيصال الأفكار. فأصبح التفكير الإنساني عملية جماعية متواصلة ومستمرة في سبيل تطور المعرفة… إذن يمكن القول أن ازدهار الحضارات في العالم القديم اقترن بمعرفة الإنسان للكتابة”[1].
بعد ظهور الكتابة بدأ الإنسان يكتب على وسائل مختلفة كالأحجار وجدران الكهوف والتماثيل… وبما أن هذه الوسائل التي كان يكتب ويدوّن عليها أفكاره ومعارفه لا يسهل أو يستحيل في أحايين عدة نقلها من مكان إلى أخر، هذا ما جعل من الإنسان يفكر في وسيط قابل للتداول والتناول بين الناس ينقل عليه أفكاره ومعارفه بسهولة ويسر وسلاسة، فلجأ الإنسان إلى اختراع وتصنيع مواد يكتب عليها وأدوات يكتب بها، غالبا ما كانت تلك المواد المصنعة من وحي البيئة التي يعيش فيها.
استغل المصريون القدماء نبات البردي -الذي ينموا بكثرة على ضفاف النيل في هذا الغرض- لصناعة ورق البردي واستغل العراقيون القدماء صلصال بلاد ما بين النهرين في صناعة ألواح أو قوالب الطين. كما صنع الصينيون وغيرهم في أسيا رقائق من نحاس وشرائح من البرنز والرصاص للكتابة عليها. كما استخدم اليونان والرومان ألواحا من الخشب مغطاة بطبقة من الشمع حتى يتمكن استخدامها عدة مرات عن طريق إذابة الشمع لمحو الكتابة. اتخذ كذلك الإنسان من جلود الحيوان مادة أولية للكتابة عليها، كما كان يحدث في جنوب شرقي أسيا والهند وسيلان. ومن الطريف أن قدماء المصريين كذلك قبل اختراع ورق البردي استخدموا جلود الحيوانات كمادة للكتابة عليها إلا أنها لم تلقى إقبالا كبيرا[2].
اعتمد الإنسان الكتابة على مختلف الوسائط باستعمال أدوات متعددة ومتنوعة لقرون عدة لتدوين أفكاره ومعارفه. مما أسهم في تراكم وتزايد الوسائط التي دون ويدون عليها كتاباته، ما سيجعل الإنسان في حاجة ماسة إلى جمع هذه الوسائط التي كتب ودون عليها معارفه في مكتبات؛ من خلال ما سبق يمكننا طرح فرضية مفادها أن هذه المرحلة لعلها المرحلة الأولى لنشوء الببليوغرافيا.
سنحاول أن نجيب عن هذه الفرضية أو بالأحرى أن نفسر التخمين الأخير الذي ذهبنا إليه من خلال استعراضنا للمحور الأول المعنون: بالببليوغرافيا في العصور القديمة. ثم سنتناول في المحور الثاني الببليوغرافيا في العصور الوسطى. أما المحور الثالث المعنون بالببليوغرافيا في التراث العربي الإسلامي، سنقتصر فيه على تناول علم الببليوغرافيا في العصر الوسيط نظرا لما عرفته هذه الفترة من أهمية بارزة ومرحلة انتقالية للتصنيف الببليوغرافي.
أولا. الببليوغرافيا في العصور القديمة:
بعد تطور الكتابة وتنامي استعمالها في شتى الأقطار سيؤدي هذا إلى تزايد الإنتاج المكتوب سنة بعد سنة وهذا ما سيجعل الإنسان في حاجة ماسة إلى تخزين هذا الموروث في أماكن خاصة “ستعرف بالمكتبات لاحقا”، كما سيواجه الإنسان مشاكل جم عند العودة للبحث عن مؤلف معين، ومن هنا ستظهر فكرة تصنيف المؤلفات من طرف المشرفين على تلك المكتبات أو الذين عملوا فيها لتسهيل العودة إلى تلك المؤلفات من طرفهم أو من طرف مريدي تلك المكتبات.
لكن هذه الفترة ستعرف تعدد وتنوع المؤلفات مما سيجعل من كل مكتبة تأخذ شكلاً بارزاً في التصنيف ومتباين عن نظيرتها، سنحاول أن نشير إلى بعض المكتبات العريقة التي تم اكتشافها والتي تحوي عدة مؤلفات قيمة تحكي عن ماضي الإنسان في تلك المناطق التي وجدت فيها وكذلك قوائم لجرد هذه المؤلفات. وهذا مما سيسمح لنا بالقول أن التنظيم الببليوغرافي للمؤلفات من الأعمال القديمة العهد، التي عرفها الإنسان أو إن صح التعبير يمكن اعتبارها محاولة بدائية للضبط الببليوغرافي لإعداد الفهارس بطرق غير علمية ولا فنية.
نعتها الدكتور محمد سلمان علي “قوائم جرد” ويضيف قائلا: “رغم أن بعض الاختصاصيين الأجانب ومن ضمنهم نورس يقول بأن الفهارس التي استخدمت في القرن السابع قبل الميلادي تشبه إلى حد كبير تلك التي نستخدمها الآن في القرن العشرين”[3].
سنحاول أن نجرد كرونولوجيا أهم وأبرز الببليوغرافيات -المحاولات الأولى للببليوغرافيا- التي عرفها العصر القديم:
- معبد حورس في مصر القديمة:
يمكن القول بأن الفراعنة هم من كان لهم السبق لمحاولة إنجاز قائمة جرد ببليوغرافي بحيث “نقشت على جدران معبد حورس في مصر القديمة أسماء الكتب المحفوظة في مكتبته”[4]. وجود هذا الشاهد في معبد حورس في مصر القديمة، دليل قاطع على قدم تناول المصريين القدامى لموضوع الجرد والتصنيف الببليوغرافي، أو بالأحرى معهم ظهرت الإرهاصات الأولى لمحاولات تصنيف وترتيب الكتب.
- مكتبة أشور بأنيبال (العراق):
إن الحفريات التي قامت بالقرب من مدينة نينوى بمملكة أشور القديمة (668-626 ق.م) كشفت عن مجموعة من الألواح الطينية التابعة لمكتبة أشور بأنيبال، الذي أعطى عناية خاصة لجمع تراث بابل وأشور في مختلف المجالات المعرفية والثقافية، علاوة على ذلك ضمت تلك المكتبة فهارس من ألواح طينية، شملت معلومات ببليوغرافية مثل عنوان العمل وعدد الألواح التي يقع فيها العمل وعدد الأسطر في كل لوح، وموضوعه ورمز تصنيفه أو مكان الكتابة لكن تلك الفهارس تشبه قائمة الرفوف[5].
- مكتبة الإسكندرية:
كانت من أشهر المكتبات في تلك الفترة، بناها البطالمة في القرن الثالث قبل الميلاد، والتي اهتمت بجمع التراث الإغريقي وتنظيمه ونشره. وكان معظم الذين تعاقبوا على أمانة المكتبة ببليوغرافيين وأشهرهم كاليماخوس الذي أعد فهرساً ضخما لتلك المكتبة يتألف من 120 مجلدا[6].
علق عليها عبد اللطيف الصوفي قائلا: “ما الجداول العظيمة التي وضعها الببليوغرافي الشهير كاليماخوس أمين مكتبة الإسكندرية في العصر اليوناني، إلا دليلا هاما على قدم الببليوغرافيا وارتباطها بالمكتبات، حيث صنّف فيها مقتنياتها من البرديات والبالغة حوالي 500000 لفافة. وقد وضع هذه الجداول داخل اثنى عشر لفافة كبيرة، رتب بعضها ترتيبا زمنيا والبعض الأخر ترتيبا أبجديا تبعا للموضوعات، وقدم لكل مؤلِّف ترجمة عن حياته، ثم أتبعها بثبت لمؤلفاته. كما بدأ كل باب بذكر عنوانه، واستهلاله، وعدد سطوره. وبهذا أصبح كاليماخوس (310-240 ق.م) أول ببليوغرافي عرفه العالم -اقترن اسمه بأبو الببليوغرافيا رغم أنه كان من أشهر شعراء وأدباء ذلك العصر- وتعتبر مكتبة الإسكندرية أول معهد ببليوغرافي عالمي. لأنها لم تقم بجمع التراث اليوناني فحسب، بل كانت مركزاً دولياً لتراث البحر الأبيض المتوسط، والشرق والهند[7].
- المكتبات الرومانية:
افتتحت المكتبات العامة والخاصة في العهد الروماني على النهج الإغريقي… لكن على الرغم من التوسع في بناء المكتبات لم تبلغ ما بلغته المكتبات الإغريقية من أهمية. السبب يعود إلى أن المكتبات الرومانية لم ترتبط بمؤسسات تعليمية أو بعلماء بارزين من أصحاب الفكر والفلسفة كما كان الوضع في المكتبات الإغريقية كمكتبة الإسكندرية وغيرها. كما أن المكتبات الرومانية لم تقم بأي دور لتجميع وتحقيق التراث الروماني. إذ كانت تقسم الكتب إلى لاتينية ويونانية وداخل كل قسم تُقسِّم الكتب طبقا للموضوعات، وكان هناك نوعين من الفهارس:
- الفهارس المصنفة: تشبه قائمة الرفوف؛
- القوائم الببليوغرافية: تساعد على البحث بالمؤلفين.
يتضمن كلا النوعين المعلومات الببليوغرافية التالية: عنوان الكتاب أو السطور الأولى منه، عدد السطور في الكتاب ومعلومات ببليوغرافية بالمؤلف.
نافلة القول أن العمل المكتبي عند الرومان تأثر إلى حد كبير بالعمل المكتبي عند الإغريق من حيث الحفظ والتنظيم والفهارس والقوائم الببليوغرافية، مع العلم أن القوائم في كل من المكتبات الإغريقية والرومانية كانت تقوم بوظيفة الجرد[8]. أما في القرون الأولى للميلاد أصبحت الحاجة ضرورية إلى قوائم الكتب نتيجة تزايد عدد الكتب في الموضوعات المتنوعة، ففي القرن الثاني الميلادي أعد العالم الطبيب جالين Galen قائمة تحت عنوان: “كتاب عن كتبي” جمع فيها وصفا لكتاباته في ترتيب موضوعي[9]. كما نجد في نهاية القرن الرابع الميلادي كتابا تحت عنوان “أشهر الكنيسيين” كتبه القديس جيروم Gerome المتوفي عام 430 م. وقد تضمن ذلك الكتاب حياة وتاريخ مشاهير رجال الدين وألحق في نهاية كل منهم قائمة تشير إلى مؤلفاته[10].
ثانيا. الببليوغرافيا الأوروبية في العصور الوسطى:
- تطورات الببليوغرافيا بأوروبا في العصور الوسطى المبكرة:
أدى سقوط روما في القرن السادس الميلادي إلى تدني العلم والبحث العلمي، وإلى تدمير بعض المكتبات وبعثرت البعض الآخر، وتجدر الإشارة إلى أن الكنيسة في العصور الوسطى لعبت دوراً كبيراً في حياة الشعوب الأوروبية من الناحيتين الثقافية والفكرية، ولمدة عشرة قرون تاليه.
كانت المكتبات الغربية عبارة عن مجموعات صغيرة متشابهة من الكتب في الأديرة التي كثر انتشارها في تلك الحقبة، هذه الأديرة كانت تشكل أداة للتعليم، كما كانت وسيلة هامة لحفظ وإنتاج الكتب، ومع هذا فإن الحاجة إلى الفهارس كانت محدودة أنداك ولم تكن الجهود لتوجه إلا نحو قوائم جرد بسيطة تتضمن بعض المعلومات البيبليوغرافية كعنوان الكتاب – المؤلف – عدد الصفحات – عدد السطور والمصدر؛
سنتطرق على سبيل المثال لا الحصر لقائمتين من القوائم التي وجدت في العصور المبكرة:
- قائمة الكتب التي أهداها “غريغوري” إلى كنيسة سان كليمون، وكانت عبارة عن لوحة رخامية، نقشت عليها بعض الصلوات وأسماء مجموعة من الكتب تتعلق بالكتاب المقدس؛
- أما القائمة الثانية أعدها العالم الكبير “الكوني” لكتب ديربورك، التي اعتبرت فريدة في شكلها، واحتوت أشهر المؤلفين مع أعمالهم.
يمثل الفهرس الذي وضعه “سين ريكرسيك” عام 831 م أهمية كبرى حيث يشمل وصف 246 كتاب، رتبت وصف الكتب فيه حسب مواضيعها وترتيبها على الرفوف، وقد قسم العلوم إلى خمسة أقسام:
- الكتاب المقدس؛
- آباء الكنيسة؛
- القواعد؛
- إنتاجات الفلاسفة؛
- المؤرخون والكتب الدينية.
أما فهارس “قوائم” القرنين العاشر والحادي عشر فتتميز عن التي سبقتها. بأنها أكثر تفصيلا من حيث التصنيف، مثل: القانون – الفيزياء – الكيمياء… الخ
يمكن القول بأن فهارس “قوائم” مكتبات الأديرة والكاتدرائيات هي مرحلة الفهارس البدائية أو التجريبية. إذ كانت عبارة عن قوائم فجة قليلة البيانات دون ترتيب واضح. ثم تطورت فيما بعد الى قوائم جرد أو قوائم رفوف توضع بالقرب من صناديق “أرفف الكتب” حيث توسعت في المعلومات والترتيب تبعا لتطور المكتبة وأصبحت المخطوطات ترتب طبقا لموضوعات واسعة[11].
استمر ترتيب الفهارس (القوائم) على نفس النهج العشوائي. وكان فهرس كنيسة المسيح الذي طبع عام 1170م أول فهرس يستخدم الربط بين الكتب في الخزائن عن طريق الحروف. أما قائمة كاتدرائية (النكولن) التي ترجع إلى 1200م، فقد استخدمت الكلمات الأولى من النص بدلا من العنوان في بعض الأحيان. لكنها تضيف شيئا جديداً لم نجده من قبل وهو عمل مقدمة[12].
القرن الثاني عشر تميز بكلمة معتبرة من القوائم الحصرية تفتقر إلى نظام معين في الترتيب، وكانت عادة تكتب على عمودين من الرق. وكان الأساس في الترتيب هو حسب المواضيع الواسعة. مع ترتيب زمني في الغالب وقله منها ترتب ترتيبا هجائيا بالمؤلف. ولم يكن ذكر المؤلف إلا لتميز العمل[13]. وهذا ما يمكن أن نستنتج منه أن هذه المعلومات كانت تساعد العاملين في المكتبات وفقط لأنها قليلة ويكتنفها الغموض.
عرف القرن الثالث عشر ترتيب الكتب كما هي على الرفوف مع العنوان المختصر والكلمات الأولى من النص، وأنجزت بعض الفهارس التي كانت طريقة تصنيف الكتب فيها غريبة ونادرة. فالكتب المجهولة المؤلف كانت ترتب تحت موضوعاتها، أما الكتب المشهورة والمعروف مؤلفيها فكانت ترتب هجائيا بالمؤلفين، هذا الترتيب يمكن اعتباره كمحاولة لإخبار القارئ بما يفده.
كانت تضم قائمة السوربون في باريس سنة 1298 أزيد من 1017 كتاباً لاتينياً وأربعة بالفرنسية والقائمة مقسمة إلى 10 أقسام رئيسية 9 منها مخصصة للأدباء. والباقي لعلم اللاهوت والطب والقانون، داخل كل قسم ترتب المواد هجائيا بالمؤلفين متبوعاً بالعنوان والكلمات الأولى من النص.
تميز القرن الرابع عشر بشيوع الترتيب الموضوعي في الفهارس، لكنها من حيث المضمون تبقى قوائم جرد، إذ كانت تشير إلى وجود الكتب على الرفوف. وكان هذا عبارة عن التصنيف المتبع على الرفوف[14]، ظلت الفهارس تمثل لمدة طويلة النوع الوحيد من قوائم الكتب وهي تعتبر من حيث نشأتها وتطورها التاريخي أقدم من الببليوغرافيات بمعناها الذي بدأ يتطور بعد عصر النهضة في أوروبا وانتشار المطبوعات وسرعة تداولها.
أدى اختراع الطباعة إلى إيجاد الببليوغرافيا الحقيقية إذ أنها أدت إلى تضاعف أعداد الكتب بسرعة ومن ثم الحاجة إلى أدلة لهذه الكتب[15]. عندما انتشرت الطباعة، وأنتج المزيد والمزيد من الكتب أصبح الباحثون في حاجة إلى أدوات تعلمهم عن المؤلفين ومطبوعاتهم[16].
- تطورات الببليوغرافيا في أوروبا من القرن 15 إلى القرن 17:
أنتجت ببليوغرافيا العصر الأول في وقت مبكر في أوروبا فهي تعود إلى القرن الثاني الميلادي. وربما كانت الببليوغرافيا المسماتDe libris proprilis libre التي جمعها الطبيب والكاتب الروماني جالين حوالي ( 130- 210م) من أولاها، ثم ظهرت خلال القرون الثلاثة عشر التالية قوائم ببليوغرافيا بعضها مجرد قوائم حصر مختصرة وبعضها أقرب إلى فهارس المكتبات.
ظهر عمل شامل في قرب نهاية القرن الخامس عشر في حدود المجال مرتبا ترتيبا موضوعيا وله كشاف هجائي بالمؤلفين، وهذا العمل هو librer de scriptoribus ecclesiastics “بال1494” من إعداد جوهانز ترثيم “1462_1516” راهب دير سبونهيم ثم دير سانت جاكوب في فرزبرج وقد سمى جامع هذا العمل الرائد الذي حصر حوالي سبعة آلاف عنوان في مائة وأربعين ورقة مرقمة بأبي الببليوغرافيا[17].
قام كونراد جزنر -وهو فزيائي من زيورخ وباحث في العلوم الطبيعية- قبل منتصف القرن السادس عشر بنشر ببليوغرافية عامة مستفيضة. وتألفت هذه الببليوغرافية من جزأين. تضمن الجزء الأول منها أسماء المؤلفين: اليونان- اللاتين- العبرانيين… في سياق هجائي واحد مع تاريخ الميلاد والوفاة وعناوين أعمالهم ومقتطفات منها وتعليقات عليها. والجزء الثاني أعاد فيه ترتيب نفس الأعمال مع إضافات قليلة ترتيبا مصنفا. وقد عنونة الببليوغرافية في جزئها الأول بعنوان الببليوغرافية العالمية. وفي جزئها الثاني بعنوان ملحق الببليوغرافية العالمية:
- Bibliotheca universalis sive catalogus omniun scriptarum (zürich 1545).
- pandictae sive protitiones unversales (zürich 1545)[18].
فيما كان جل الببليوغرافيين يقتصرون على وصف المؤلفين والعناوين فقط، ويقدمون معلومات تجيب عن سؤالين فقط هما: ماذا كتب مؤلف معين؟ وماذا كتب عن موضوع بالذات؟ فإن جزنز لأسباب عملية وصفها بالتفصيل في مقدمة عمله وأعطى تفصيلات عن كل عمل أدرجه: أين، متى، من، نشر كل كتاب، التوريق بالكامل )عدد الأوراق + الحجم(، تلك البيانات التي تعتبر الآن من الأساسيات[19].
عرفت أوروبا في هذه الفترة من التاريخ تقدم ثقافي وفكري سريع، وكان الوقت ناضجا لبدء عصر الببليوغرافيا، بموازات هذا ستظهر في عدة دول أوروبية نماذج نشأة الببليوغرافيا القومية[20]. التي ستعرف بالجدة، بالخصوص فيما يتعلق بسمة تحيين القوائم الببليوغرافيا سنويا.
- الببليوغرافيا القومية الإنجليزية:
العمل الأول الذي يعتبر ببليوغرافيا قومية حقيقية، وإن لم يكن جاريا، ينسب إلى جون ليلاند (1506-1552م)، العالم الأثري وأبو الببليوغرافيا الإنجليزية وهو بعنوان (شروح الكُتَّاب البريطانيين 1546م) commentarii de scriptoribus britannieusوقد ظل هذا العمل خلال حياته مخطوطا إلى أن استعمله وغيره من أعماله، جون بل (1495- 1563م) راهب أوسرى في تجميع ببليوغرافيته المسماة ilustrium majoris britanniae scriptrom, hoc est, angliae, can briae, ac scotiae summarium (1548م)” تعريف موجز بالكُتَّاب البريطانيين بين الرئيسيين أي كتاب إنجلترا وكمبردج واسكتلندا” وقد احتوت هذه الببليوغرافيا على أسماء المؤلفين البريطانيين وأعمالهم لفترة تزيد عن أربعة عشر قرنا في ترتيب زمني[21]. وكانت هذه الببليوغرافية بداية سلسلة لا نهاية لها من الببليوغرافيا الوطنية، والإقليمية والمحلية التي تحصر المؤلفين وأعمالهم في تلك المنطقة[22].
- الببليوغرافيا القومية الفرنسية:
ظهرت أولى نماذج الببليوغرافيا القومية الجارية في فرنسا في تاريخ متأخر قليلا، وربما كان أولها الببليوغرافيا المسماة “bibliothéque françoise” (1584م) من إعداد فرانسوا جروديه دي لاكروا دي مين (1552-92 15)، لم يصادف هذا العمل إلا القليل من التقدير في حياة واضعه وكان عليه أن يصدره على نفقته الخاصة.
ظهر عمل آخر منافس (1585) بعد عام من إعداد أنطوان دي فريديه (1544-1600)، وصف بأنه فهرس لجميع المؤلفين الذين كتبوا أو ترجموا للفرنسية. ورغم أن ببليوغرافيا فريديه قد نقلت، جزئيا على الأقل، من عمل دي لاكروا دي مين فإنها احتوت قوائم تكمل العمل الأسبق[23].
- فهارس معارض الكتب الألمانية:
تعتبر أولى الببليوغرافيات القومية الجارية والشاملة نسبيا التي نمت في ألمانيا، وهي عبارة عن فهارس لمعارض كتب فرانكفورت و ليبزج، نشرت لأول مرة في عام 1564م[24]. وبعد هذا بدأت تظهر الببليوغرافيات بأعداد متزايدة، وفي هذه الفترة بالذات ظهر التحول لدى الناشرين من مجرد طبع إعلان أو ملصق منفرد إلى طبع فهارس[25].
تدعى فهارس الكتب التي كانت تباع في هذه المعارض “Messkataloge”، كانت تصدر في سلسلتين: سلسلة فرانكفورت خلال السنوات (1564/1749م) وسلسلة ليبزج من (1594/1860م)، باستثناء عامي 1566 و1567م، كانت هذه الفهارس تصدر مرتين في السنة[26]. من أهم ما تميزت به هذه الفهارس أنها أضافت مبدأ الاستمرارية في الصدور، هذا المبدأ لم يظهر بنجاح في أية ببليوغرافية أخرى حتى ظهور term cataloguesفي لندن عام 1668م[27].
نشر أول فهرس سوق كتب لمعرض فرانكفورت في سنة 1564م، وقد أعده جورج فيلر وهو بائع كتب معروف في أوجسبورج، وقد تضمنت قائمة فيلر كل الكتب التي عرضها للبيع في المعرض بما في ذلك كتب غيره من الناشرين. ويقال أنه أول بائع كتب يستخدم الفهارس في تجارته وكان عنوان فهرسه: “Novorum dibrorum QVos Nundinae[28]“، النجاح العام لفهارس معارض الكتب ذو دلالة هامة. وقد يقال أن طرق بيع الكتب قد تغيرت تغيراً ثوريا بسبب هذه القوائم السريعة التوزيع والتي حلت محل القوائم المنفصلة التي يعدها تجار الكتب[29].
عرفت ألمانيا الببليوغرافيات الدورية في النصف الثاني من القرن السادس عشر، فقد تطورت الكتالوجات النصف سنوية المصنفة (Messekatalogue) من مجرد قوائم كتب في معارض فرانكفورت وليبزج الموسمية إلى قوائم ببليوغرافية دائمة مستقلة تحصر كل الكتب الجديدة في جميع موضوعات المعرفة من كل الدول[30].
انصب الاهتمام كثيراً على الأعمال الببليوغرافية في القرن 17م فنجد أن فهارس معارض الكتب الألمانية قد توجهت توجهاً قومياً وتولت الدولة مسؤوليتها فيما بعد[31]. لذلك اعتاد كبار الناشرين خلال القرن السابع عشر بالتدريج إصدار الفهارس الخاصة بهم في غالب الأحيان. وفي معظم الأحيان كانوا يقومون بطباعتها في نهاية الكتب التي يقومون بإصدارها. إلا أن تلك القوائم أصبحت غير كافية، وبما أن ألمانيا كانت تمتلك أداة ببليوغرافية ثمينة وهي فهارس معارض ليبزج. ساد الشعور في كل من فرنسا وإنجلترا بضرورة إصدار نشرات دورية تتضمن المؤلفات الحديثة.
بدأ منذ سنة 1648م أحد علماء التأليف “الأب جاكوب سان شارلي” يصدر كل عام، Bibliographia و Bibliographia Gallica Parisiona إذ يستطيع القارئ أن يطلع من خلال تلك القوائم على ما يصدر في باريس وجميع أنحاء فرنسا. تعد تلك النشرة السَّلف الجديد للببليوغرافيا الفرنسية الحديثة. واستمرت في الظهور بصورة منتظمة حتى سنة 1654 ثم توقفت بعد ذلك لمدة طويلة بدون بديل[32].
ظهر في انجلترا منذ عام 1657م “catalogue of the most books in England” أو ما يسمى نشرة الكتب الأكثر رواجاً في بريطانيا، ثم تلي ذلك نشرات عديدة من هذا النوع[33]. وفي عام 1668م بدأ “جون ستارلي” إصدار ببليوغرافية تجارية دورية هي [34]term catalogues. استمرت بالظهور بصورة منتظمة حتى بداية القرن الثامن عشر حيث حلت محلها نشرات اخرى مشابهة[35].
بدأ في هذه الفترة مصطلح الببليوغرافيا يصل إلى الاستخدام العام مع اصطلاح Library واصطلاحCatalog ، وبدأ استخدام أسلوب سرد المؤلفات مع السيرة الذاتية للمؤلفين يقل في هذه الأعمال. وكذلك تزايدت الببليوغرافيات الموضوعية ومن أمثلتها: “Bibliotheca Realis Theologogica; … Philisophica, and … Medica”، وقد صدرت هذه الأعمال الببليوغرافيا الثلاثة في فرانكفورت في السنوات 1679، 1682، 1685م على التوالي وقد تم وضعها من قبل Martin Libenus وتستند هذه الأعمال في تقسيمها على التصنيف المتبع في فهارس معارض الكتب الألمانية[36].
يمكن القول أن هذا العلم الجديد الذي نبتت جذوره في القرن السادس عشر في إنجلترا وألمانيا، قد انغرس بمتانة في القرن السابع عشر في هذين البلدين. ثم ظهر في فرنسا، ومد فروعه إلى كل مكان، وهذه العملية حولت البحث في النصوص المطبوعة عن وجهتها الأولى. وحتى ذلك الوقت مارس هذا البحث رجال شغفوا بالتاريخ، فراح ينتقل شيئا فشيئا إلى أيدي مفهرسين محترفين متخصصين بالكتب. وهكذا جنح نحو الاستقلال، فصار بحثا ببليوغرافيا متكاملا وصريحا[37].
كما يمكن القول أن المسكتالوج هي أصل وسبب التطور المبكر للببليوغرافيا في ألمانيا وإن كانت غير كاملة كمثيلاتها المعاصرة. فقد كانت من الإنجازات الرئيسية في زمانها، والأكثر من ذلك أنها كانت تحمل في ثناياها معظم صفات الببليوغرافيا المعاصرة[38]. مما سبق نستخلص أن المسكتالوج:
- كان له دور كبير في تطور علم الببليوغرافيا في الفترة ما بين القرن 14 و16 بأوروبا وبفضلها ظهرت الببليوغرافيات القومية؛
- ساهم المسكتالوج في انتشار القوائم التي تعرف بالكتب التي تعرض في المعارض والأسواق للبيع، وهذا ما أسهم في تزايد وارتفاع الوتيرة في تجارة الكتب مما زاد من حركية طبع ونشر الكتب، وجعل من المسكتالوج تتطور حسب الفصول؛
- لعبت لمدة يسيرة دول الببليوغرافيا الشاملة خاصة في ألمانيا وإنجلترا؛
- رغم ما ذكرناه من مزايا إلا أنه يمكن لنا القول أن القارة الأوروبية كانت متأخرة بكثير عن ما كان قد وصلت إليه أمم سواها في هذا المجال وخاصة في الشق المتجلي في منهجية التصنيف المعتمدة وطرق التقصي عن المعلومات واستعمال وتوظيف الإحالات…
ثالثا. الببليوغرافية في التراث العربي الإسلامي:
للمسلمين تاريخ طويل في مجال الببليوغرافيا وتنظيم الوصول إلى المعلومات، وقد اهتموا بذلك اهتماما فائقا، وقد ازدادت الحاجة إلى التعرف على المؤلفات والمصنفات التي ألفها العلماء في مختلف الفنون مع ازدياد ونمو النهضة الإسلامية في العلوم والآداب والتاريخ وعلوم اللغة والدين.
بدأ الاهتمام بالنشاط الببليوغرافي عند العرب والمسلمين منذ القرون الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية وكان لهم شرف السبق في هذا المجال[39]. ويقول
د. محمد سلمان علي: “في الوقت الذي كان فيه الغرب لا يعرف من المكتبات سوى مكتبات الأديرة حتى نهاية القرن الحادي عشر. كان العالم الإسلامي منذ القرن الثامن ميلادي يخص بأنواع مختلفة في المكتبات كمكتبات الخلفاء، ومكتبات الأكاديميات العلمية، ومكتبات المدارس، ومكتبات المساجد والمستشفيات… ويعود ذلك إلى إقبال العرب والمسلمين على العلم وتشجيع الخلفاء والأمراء والولاء للعلماء الدارسين”[40].
يعود كذلك إلى اتساع الحياة العلمية آنذاك وازدياد الإقبال على الكتب ورواج حركة التأليف والترجمة، صحب ذلك كله شيوع استعمال الوراقة وتكاثر الناسخين[41]. هذا ما سيجعل من الطبيعي أن تدعوا غزارة الإنتاج، المؤلفين والعلماء إلى وضع تأليف عن مؤلفات غيرهم. هذا النوع من التأليف هو الذي يسمى في العصر الحديث بالببليوغرافيا[42].
يحق لنا القول أن علم الببليوغرافيا لم يعرف في أوروبا بمعناه الواسع إلا في القرن الثامن عشر، بينما عرفه العرب منذ القرن الثامن ميلادي وصنفوا فيه مؤلفاتهم ومخطوطاتهم وإن لم يسموه بتلك التسمية الحديثة. سنحاول أن نتناول فيما يلي باقتضاب أبرز الأعمال الببليوغرافية في التراث العربي الإسلامي.
من الضرورة بمكان الوقوف لنفض الغبار عن المصطلح الذي استعمله العرب والمسلمون للتعبير عن الببليوغرافيا. إذ نجد أن العرب كاللاتينيين القدماء قد استعملوا المصطلح اليوناني ببليوغرافيا للتعبير عن هذا العلم، فإذا كان اللاتنيون قد استعملوا مصطلحات لاتينية واستعاروا أخرى يونانية لنعت علم الببليوغرافيا فإن العرب بدورهم استعاروا الكلمة الفارسية “فهرست” للتعبير عن هذا العلم عوض ببليوغرافيا بحكم امتزاجهم وتشبعهم بالثقافة الفارسية[43].
سنتناول فيما يأتي، أبرز الأعمال الببليوغرافية في التراث العربي الإسلامي، وقبل الخوض في اختيار أول عمل ببليوغرافي واجهتنا أراء مختلفة، لزاما علينا أن نشير إلى ما قيل بخصوص من كان السباق لإنجاز عمل ببليوغرافي، فالدكتورة ليلى عبد الواحد الفرحان تنقل عن الدكتور الحلوجي أنه يرى بأن “أقدم عمل ببليوغرافي ينسب إلى جابر بن حيان المتوفي على رأس المائة الثالثة ومعنى ذلك أن علم الببليوغرافيا عند العرب تمتد جذوره إلى أواخر القرن الثاني الهجري أي إلى ما قبل “الفهرست” لابن النديم بما يقرب من قرنين كاملين[44].
فيما يعتبر “عبد اللطيف صوفي” أن كتاب إحصاء العلوم وترتيبها، من تأليف أبو النصر محمد الفارابي، هو أقدم الكتب العربية التي تُعرّف بالمؤلفَات والمؤلفِين، إذ يحوي عناوين عدد كبير من الكتب المعروفة حتى عصره مرتبة ترتيبا موضوعيا تحت العلوم والمعارف[45].
لكن نكاد نجد إجماع في صفوف الباحثين والدارسين للببليوغرافيا على أن أول عمل ببليوغرافي شامل هو “الفهرست” لابن النديم ثم تليه مجموعة كبيرة من الإنتاجات الببليوغرافية، وبما أننا أطرنا الإشتغال في هذه المقالة عن تطور الببليوغرافيا إلى حدود القرن السابع عشر، تُحتِّم علينا الضرورة المنهجية الانضباط للفترة الزمنية التي حددناها أنفا، مما سيجعلنا نقتصر على أربعة أسماء للكتب البارزة في مجال الببليوغرافيا عند المسلمين وهي كالآتي:
- كتاب ابن النديم “الفهرست” 377هـ:
سبقت الإشارة إلى أن كتاب ابن النديم “الفهرست” يعتبر أول ببليوغرافية شاملة للتراث العربي، ويمكن اعتباره المؤلف الرائد الأول في علم الببليوغرافيا، كما يمكن أن نطلق عليه أبوا الببليوغرافيا العربية. إذ يعد هذا الكتاب أهم كتاب ببليوغرافي عربي قديم، فهو مرجع هام للكتب العربية والمعربة، التي سبقت وجود المؤلف أو عاصرته[46]. يقول ابن النديم في هذا الصدد: “هذا فهرست كتب جميع الأمم من العرب والعجم الموجود منها بلغة العرب وقلمها في أصناف العلوم وأخبار مصنفيها وطبقات مؤلفيها وأنسابهم وتاريخ مواليدهم ومبلغ أعمارهم وأوقات وفاتهم وأماكن بلدانهم ومناقبهم ومثالبهم منذ ابتداء كل علم اختُرعَ إلى عصرنا هذا وهو سبع وسبعين وثلاثمائة”[47].
كان لابن النديم السبق في اعتماد التصنيف الذي خص به هذا المؤلف، إذ يعتبر من أرقى التصانيف التي وجدت في عصره، والتي وجدت لعدة قرون من بعده من حيث شموليته التي عكست تماما شتى مجالات المعرفة التي وجدت آنذاك، مع الإشارة إلى أن الأوروبيين لم يعرفوا التصنيف العشري إلا بعد ابن النديم بتسعة قرون[48].
اعتمد المؤلف في تبويب كتابه المنهج الموضوعي، وهو سبق كبير له، كما اعتمد الأمانة والدقة، والتثبت من الأخبار والأحداث التي ينقلها. مما يدل على مدى ما وصل إليه العلماء المسلمون من اعتماد لأسس البحث العلمي في مؤلفاتهم[49]. يصنف د. أبو بكر محمود الهواش فهرست ابن النديم بدقة علمية ويقول: “إذا نظرنا نظرة ببليوغرافية إلى كتاب (الفهرست) لاستطعنا أن ندخله تحت الببليوغرافية العامة، ويعتبر أيضا ليس كتابا ببليوغرافيا فقط، وإنما يدخل تحت نوع آخر من أنواع الببليوغرافيات وهو ما يسمى “Bio bibliography” أي ببليوغرافيات المؤلفين والمصنفين[50]. كخلاصة يمكن القول أن كتاب “الفهرست” لابن النديم يتميز بالخصائص التالية:
- يعتبر أول عمل ببليوغرافي علمي شامل؛
- اعتُمد عليه اعتماداً كبيراً من طرف الذين ألفوا فيما بعد في هذا المجال؛
- يتميز بقيمته الحضارية الكبرى، لأنه يعبر خير تعبير عن الوضعية التي وصلها الرقي الفكري والحضاري والمستوى الثقافي الرفيع الذي بلغته الحضارة الإسلامية؛
- يعتبر مرجعا ببليوغرافيا لأي دارس أو باحث في الحضارة العربية الإسلامية خاصة وأنه ألف في القرن الرابع الهجري، وهي الفترة التي وصلت فيها الحضارة العربية الإسلامية أوج ازدهارها[51].
- كتاب ابن خير (الفهرست)[52]:
يعد “الفهرست” لابن خير (1179-1108 م) من المصنفات التي اهتمت برصد التراث العربي الإسلامي في بلاد الأندلس، فهو يشير إلى الكتب التي سمعها من شيوخه، ويقدم سلسلة النقلة بالتواتر إلى زمانه، فيعرف متى ومن نقل إلى الأندلس المؤلفات المكتوبة في المشرق، ويروي ابن خير أسماء الكتب حسب ترتيب العلوم والموضوعات… وقد حرص ابن خير على أن تنسب الكتب إلى أصحابها، وذلك بالاعتماد على الرواية الدقيقة من أهل الثقة في ذلك المجال. والكتب التي ذكرها ابن خير في كتابه تقدر بما يزيد عن ألف وأربعين كتابا[53].
يعني الكتاب بالمؤلفات أكثر من المؤلفين، ويدرج أسماء الكتب المرتبة تحت موضوعاتها في معظم الأحيان، كما يحرص على الرواية الدقيقة لأسماء الكتب عن طريق التزام الإسناد بما يقرب من درجة التواتر، الشيء الذي يثقل على القارئ في العصر الحديث، ويعقد سبل البحث فيه[54].
- كتاب طاش كبرى زاده “مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم”: 948هـ/1542م:
تجدر الإشارة إلى مؤلف الكتاب، عصام الدين أبو الخير أحمد بن مصطفى بن خليل المعروف بطاش كبرى زاده نسبة إلى قرية طاش كبرى التي عاشت فيها أسرته (وهي إحدى قرى أسيا الصغرى)، ولد سنة 901هـ/1495م، وتوفي سنة 968هـ/1561م في مدينة إسطنبول حيث دفن[55].
ألف طاش كبرى زاده كتابه “مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم” سنة 948هـ/1541م، أي قبل وفاته بعشرين عاماً. هذا الكتاب موسوعة ببليوغرافية مختصرة عن المؤلفين في موضوعات العلوم المعروفة حتى منتصف القرن السادس عشر ميلادي، بلغ عددها في الكتاب 300 علم[56]. رتبه المؤلف ترتيبا مصنفا أي وفقاً لنظام تصنيف المعرفة البشرية السائدة في عصره، وتضمن معلومات ببليوغرافية تبين أهم المؤلفات في كل علم من العلوم التي تعرض لها المؤلف[57].
قسم العلوم من العام إلى الخاص ووضح مجال كل علم وبرر التقسيم الذي ورد فيه، ثم ذكر أهم المؤلفات في كل علم من العلوم كما سبقت الإشارة. إذ بدأ بالمؤلفات الأصلية ثم المختصرات والشروح، كما ذكر ترجمة المؤلفين وتعليقات عن الكتب، ومكانتها بين الكتب في نفس الموضوع. كما ركز وفصّل في العلوم العربية والإسلامية واستهدف تغطية كافة المؤلفات حتى عصره[58].
يصف أحمد شوقي بنبين كتاب مفتاح السعادة: بالمؤلف الببليوغرافي الذي يمثل أرقى وأكمل ما وصل إليه تصنيف العلوم وتقسيمها عند المسلمين والذي يعطينا صورة عن الحياة العقلية لدى المسلمين فيما بعد غزو المغول للعالم الإسلامي وتدميرهم لبغداد[59].
- كتاب حاجي خليفة “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون”:
مؤلف الكتاب هو مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة وعرف عند العرب بلقب “كاتب جلبي” أي الكاتب الفاضل، مما يدل على مكانته السابقة في عالم التأليف، ولد سنة 1017هـ/1608م وتوفي سنة 1067هـ/1656م.
يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب الببليوغرافية إن لم يكن أهمها بحكم استخدامه لأهم عناصر الوصف الببليوغرافي. دون فيه زهاء خمسة عشر ألفا من أسماء الكتب والرسائل العربية والتركية والفارسية وما ينيف عن تسعة ألاف وخمسمائة من أسماء المؤلفين، وتكلم فيه عن نحو ثلاثمائة علم، فذكره لمؤلفات في لغات مختلفة يجعله أول ببليوغرافيا عامة دولية في التراث العربي.
تفوق من الناحية التقنية على كل ما جاء قبله حتى في الغرب، وقد أوضح المؤلف منهجه في التأليف، بقوله: “رتبته على الحروف المعجمية، وراعيت في حروف الأسماء إلى الثالث والرابع ترتيبا، فكل ما له اسم من الكتب ذكرته في محله، مع مصنفه وتاريخه ومتعلقاته، ووصفه تفصيلا وتبويبا، وما ليس بعربي قيدته بأنه تركي أو فارسي أو مترجم، لأن المؤلف لم يكتف بالكتب العربية بل ذكر أيضا الكتب التركية والفارسية”[60].
كان كشف الظنون أهم مصدر ببليوغرافي لمعظم أعمال المستشرقين المتعلقة بالتراث العربي، أكتفي هنا بالإشارة إلى تأثيره في أهم عمل موسوعي ببليوغرافي استشراقي هو كتاب المكتبة الشرقية لدربولوD’herbelot, Bibliothéque Oriental في القرن السابع عشر الذي اعتمد في معظم تراجمه وكتبه على الكشف. وأكبر دليل على تأثره به هو ذكره للمؤلفات باللغات العربية والتركية والفارسية[61].
يعترف المستشرق الفرنسي جالاند Garland بتفوق الكشف عما سبقه خاصة كتاب Gesner المكتبة الدولية “Bibliotheca Universalis” الذي يعتبر أول ببليوغرافيا عامة دولية منذ عام 1600م أحصى فيه مؤلفه العالم السويسري جيسنر الكتب اليونانية واللاتينية والعبرية[62].
خاتمة:
بعد عرضنا لكرونولوجيا أهم المراحل التي مرت منها البيبليوغرافيا من العصور القديمة إلى حدود القرن 17م. يمكننا تسجيل الملاحظات التالية:
- عرف العرب المسلمون الببليوغرافيا منذ القرن العاشر الميلادي كما أجمع على ذلك أغلب الباحثين والدارسين؛
- هذا العلم اهتم به المسلمون منذ القدم رغم أنه لم يسمى عندهم يومئذ بالببليوغرافيا واطلقوا عليه اسم الفهرست او الفهارس؛
- عرف هذا العلم عند العرب والمسلمين عدة تصنيفات وتفننوا وأتقنوا استعمالها لتسهيل العودة الى تصفح هذه الفهارس؛
- تفوق الحضارة العربية والإسلامية في القرون الوسطى على الغرب في انجاز ببليوغرافيا، وهذا التفوق كان في الناحية العلمية والتحليلية وخاصة في جانب الوصف والإسناد والتقصي؛
- اعتماد الدقة في تتبع وتقصي المعلومة المتواترة، وهذا راجع إلى الاستفادة من علم جمع الحديث والتقصي فيه وإسناده؛
- عندما كانت الحضارة الإسلامية تقوم بتصنيف ببليوغرافي دقيق بمراعات صحة ودقة المعلومة وتصنيف علميلا يزال يستعمل في القرن الواحد والعشرين، كانت في المقابل الحضارة الغربية لا تعرف سوى محاولات بدائية في التصنيف والتي تقتصر على ما عرف بالميسكتالوج. إن دل هذا على شيء فإنما يدل على النضج والرقي الفكري والعلمي الذي حظيت به الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في يوم من الأيام.
الإحالات:
- [1] محمد سلمان علي، الببليوغرافيا في الماضي والحاضر، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995، ص: 21.
- [2] شعبان عبد العزيز خليفة، الببليوغرافيا أو علم الكتاب، منشورات الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1997، ص-ص:21-30. بتصرف
- [3] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 22.
- [4] عبد اللطيف صوفي، مدخل إلى علم الببليوغرافيا والأعمال الببليوغرافية، دار المريخ للنشر، الرياض، 1995، ص: 19.
- [5] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص:22.
- [6] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 22.
- [7] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص-ص: 19-20.
- [8] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 23.
- [9] “تعتبر من أوائل الببليوغرافيات التي ظهرت على شكل قائمة تحتوي على مؤلفات لمؤلف معين”. ليلى عبد الواحد الفرحان، الببليوغرافيا تطورها أنواعها وأساليب إعدادها، دار الحكمة للطباعة والنشر، بغداد، 1992، ص: 12.
- [10] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص-ص: 23-24.
- [11] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 26.
- [12] نفسه، ص: 33.
- [13] نفسه، ص: 33.
- [14] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 34.
- [15] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 13.
- [16] رودلف بلوم، الببليوغرافيا بحث في تعريفها ودلالتها، ترجمة: شعبان عبد العزيز خليفة، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الاولى، القاهرة، 1992، ص: 25.
- [17] لروى هارولد ليندر، نشأة الببليوغرافيا القومية الشاملة الجارية، ترجمة: عبد المنعم محمد موسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب. د.ت. ص: 36.
- [18] رودلف بلوم، مرجع سابق، ص: 26.
- [19] رودلف بلوم، مرجع سابق، ص-ص: 26-27.
- [20] عرّف المكتبي الفرنسي لانجلوا الببليوغرافيات القومية: بأنها سجلات للكتب في كافة الموضوعات وتتفق جميعا في صفة عامة وهي أنها نشرت في حدود دولة بعينها.
- [21] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص-ص: 37-38.
- [22] رودلف بلوم، مرجع سابق، ص: 27.
- [23] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص: 38.
- [24] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص: 39.
- [25] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 13.
- [26] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص: 39.
- [27] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 14.
- [28] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص: 39.
- [29] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص: 40.
- [30] رودلف بلوم، مرجع سابق، ص: 27.
- [31] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 15.
- [32] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 40.
- [33] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 40.
- [34] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 15.
- [35] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 40.
- [36] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 16.
- [37] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 40.
- [38] لروى هارولد ليندر، مرجع سابق، ص: 50.
- [39] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 18.
- [40] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 27.
- [41] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 18.
- [42] أحمد شوقي بنبين، دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي، الطبعة الثانية، المطبعة الوطنية، مراكش، 2004، ص: 226.
- [43] أحمد شوقي بنبين، مرجع سابق، ص: 24.
- [44] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 23.
- [45] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 184.
- [46] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 184.
- [47] أحمد شوقي بنبين، مرجع سابق، ص: 244.
- [48] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص: 27.
- [49] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 184.
- [50] أبو بكر محمود الهواش، المدخل إلى علم الببليوغرافيا، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2001، ص: 131.
- [51] محمد سلمان علي، مرجع سابق، ص-ص: 27-28.
- [52] ابن خير: عاش في القرن السادس الهجري. يعود نسبه إلى مدينة إشبيلية في الأندلس. ليس هناك ما يشير إلى أنه اطلع على كتاب الفهرست لابن النديم، وأن التسمية الواحدة لكتابيهما هي من قبيل توارد الخواطر. د. عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 186.
- [53] أبو بكر محمود الهواش، مرجع سابق، ص: 140.
- [54] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 186.
- [55] أبو بكر محمود الهواش، مرجع سابق، ص: 141.
- [56] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 186.
- [57] أحمد شوقي بنبين، مرجع سابق، ص: 250.
- [58] ليلى عبد الواحد الفرحان، مرجع سابق، ص: 24.
- [59] أحمد شوقي بنبين، مرجع سابق، ص: 246.
- [60] عبد اللطيف صوفي، مرجع سابق، ص: 187.
- [61] أحمد شوقي بنبين، مرجع سابق، ص: 248.
- [62] أحمد شوقي بنبين، مرجع سابق، ص: 247.