دراسة سوسيولسانية للشعر الأمازيغي
طالبة باحثة بسلك الدكتوراه
مختبر التراث الثقافي والتنمية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة – المغرب
ملخص
عملت اللسانيات على بناء اللغة باعتبارها موضوعا بالغ التجريد، يمكن توضيحه والتعبير عنه في إطار نظرية متجانسة، بعد أن رفضت إمكانية أن تؤدي العوامل الاجتماعية دورا في تحليل اللغة، وأقصت التنوع واعتبرته نقصا، رغم أن اللغة هي بالأساس نظام مبني اجتماعيا والتنوع سمة أصلية للسلوك الإنساني، ولعمل الدماغ البشري، وبرفضها لكل هذا فهي _ النظرية اللسانية _ لا تسمح باعتماد الحجة التجريبية التي تشكل أساس فهم ماهية اللغة. أما السوسيولسانيات فهي تعتبر فرعا مهما من فروع اللغة التطبيقي، تعنى بدراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع، فهي تهتم ببنية اللغة ووظائفها الاجتماعية والثقافية عبر دراسة الكيفية التي تتفاعل بها مع المجتمع وتبيان وظائفها والتغييرات التي تصيب بنيتها، لأن اللغة ظاهرة اجتماعية ملتصقة بحياة الأفراد، وتخضع لمقاييس المجتمع، وأعرافه، وتقاليده، وثقافته، وتكشف عاداته وتقاليده ومستوياته الحضارية والثقافية… يشكل الشعر العمود الفقري للأدب الأمازيغي بحكم غزارته، وسرعة انتشاره وتداوله بين الناس، وأيضا بفعل قدرته على احتواء أغراض وتيمات تمس مجالات الحياة والهموم المشتركة للأفراد والجماعات، فارتباطه بالغناء دليل على قيمة وظيفته في المجتمع، وهو كفيل بتقديم صورة أكثر صدقا من مرحلة ظهوره إضافة إلى أهميته التاريخية، كما يعد منجما لغويا كبيرا حفظ لنا الكثير من الكلمات التي هجرتها الألسن والقادرة على إمداد البحث اللغوي بجذور تساعد في توسيع مجالات استعمال الأمازيغية واشتقاق مصطلحاتها، وبناء معاجمها.
Linguistics has focused on understanding language as a very abstract subject that can be explained within a clear theoretical framework. It has dismissed the idea that social factors influence language and has considered diversity a weakness. However, language is essentially a system built by society, and diversity is a natural part of human behavior and brain function. By ignoring these aspects, linguistic theory does not allow for using real-world evidence, which is crucial for understanding what language really is. On the other hand, sociolinguistics is an important field within applied linguistics. It studies language in relation to society, looking at how language is structured and its social and cultural roles. It examines how language interacts with society, shows its functions, and how its structure changes over time. Since language is a social phenomenon closely linked to people’s lives, it follows the rules, customs, and traditions of society, revealing its habits and cultural and civilizational levels.
Poetry is the main part of Amazigh literature because it is abundant, spreads quickly, and is widely shared among people. It can address topics and themes that relate to various aspects of life and the common concerns of individuals and groups. Its link to singing shows its important role in society. Poetry provides a more accurate picture of the time it was created and has historical significance. Additionally, it is a rich source of language that has preserved many words no longer in common use, and it can help linguistic research by providing roots that aid in expanding the use of the Amazigh language, creating new terms, and building its dictionaries.
عملت اللسانيات على بناء اللغة باعتبارها موضوعا بالغ التجريد، يمكن توضيحه والتعبير عنه في إطار نظرية متجانسة، بعد أن رفضت إمكانية أن تؤدي العوامل الاجتماعية دورا في تحليل اللغة، وأقصت التنوع واعتبرته نقصا، رغم أن اللغة هي بالأساس نظام مبني اجتماعيا والتنوع سمة أصلية للسلوك الإنساني، ولعمل الدماغ البشري، وبرفضها لكل هذا فهي _ النظرية اللسانية _ لا تسمح باعتماد الحجة التجريبية التي تشكل أساس فهم ماهية اللغة.
ففي مرحلة البنيوية عقد علماء الاجتماع واللسانيون شراكة وتحددت العلاقة بين اللسانيات وعلوم الاجتماع بشكل جذري بسبب النتائج التي وصل إليها علم الصواتة المعروف بصرامته النسقية، وبالتالي أعطت النظرية الاجتماعية اهتماما محصورا جدا باللغة وتجاهلت دور اللغة في بناء المجتمع، ثم ظهر النموذج التوليدي فأدار أغلب اللسانيين ظهورهم للمجتمع وعلم الاجتماع متجاهلين أن مختلف المجموعات تبدي تنوعا في خطابها، فاللغة تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن جنس إلى آخر.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعير النظرية الاجتماعية عموما اهتماما قليلا للغة، فلم يتم التطرق إليها كأساس اجتماعي إلا في دراسات قليلة انكب أصحابها على البحث في الكلام الفعلي وطبيعته المتغيرة، وبالتالي لم تنتج نظرية للاستعمال اللغوي في سياقات اجتماعية.
اندمجت الدراسات حول العلاقات بين اللغة والمجتمع لتشكل مجالا للبحث الأكاديمي المعروف بالسوسيولسانيات، هذه الأخيرة تتناول خصائص اللغة وتنادي بإدخال العوامل الاجتماعية في تحليلها، حيث أصبحت فرعا معترفا به من العلوم الاجتماعية، ومع مرور الزمن كبرت النظرية السوسيولسانية كثيرا إلى درجة أصبح من الصعب معها مواكبة التطورات في حقولها الفرعية المتنوعة.
إن الموضوع الأول للدرس السوسيولساني هو دراسة الترابطات بين استعمال اللغة والبنية الاجتماعية، وبالتالي فموضوعها الجوهري يختلف عن تخصصات أخرى تهتم بوصف الاستعمال اللغوي باعتباره ظاهرة اجتماعية، وعندما يكون ذلك ممكنا تحاول إقامة روابط سببية بين اللغة والمجتمع، مواصلة بذلك الأسئلة التكميلية حول أي لغة تساهم في جعل المجموعة ممكنة، وكيف تشكل المجموعات لغاتها عبر استعمالها لها فهي _ السوسيولسانيات _ أرضية خصبة للغويين وعلم الاجتماع الذين يحاول بعضهم فهم المظاهر الاجتماعية للغة، وبالتالي فأغلب السوسيولسانيين يتجهون إلى أن يدافعوا بشدة عن ثقتهم المزدوجة بالعلوم الاجتماعية واللغوية.
“تعتمد السوسيولسانيات على الوظيفة البنيوية، وعلى النظرة الفردانية التوافقية للمجتمع المرتبط بها، فهي تنشغل بالبحث الوصفي، إذ إن المسائل المنهجية المتعلقة بتحديد وتجميع ومعالجة المعطيات التجريبية كانت تتصدر الاهتمام إذا أكثر بكثير من بناء النظرية”[1]. وقد تم تطوير عينات الاستطلاع وتصاميم الأبحاث، والملاحظات المساهمة، وهندسة الاستمارة، وتقنيات الاستجواب والاستخراج، والتحاليل المتعددة الأنواع، وأدوات منهجية أخرى، وتم تكييفها لتلائم المعطيات اللغوية، فالمنهج السوسيولساني تجريبي في غالبيته، ذلك لأنه يتعامل مع السلوك اللغوي القابل للملاحظة، لكن ذلك لا يعني أن البحث السوسيولساني بحث لا نظرية له، رغم أنه لا مجال للإنكار أن نظرية سوسيولسانية جامعة غير موجودة، ليس نتيجة للنزعة التجريبية للسوسيولسانيات وتركيزها على الدراسات الوصفية، بل ببساطة للتنوع الكبير للظواهر التي يبحثها السوسيولسانيون.
مواضيع السوسيولسانيات:
تهتم السوسيولسانيات بمواضيع كثيرة أهمها:
التغير اللغوي: إن المهمة الخاصة بالسوسيولسانيات هي التنبؤ بالتغير اللغوي وأسبابه وآلياته وسبب الاحتفاظ ببعض التمايزات وضياع أخرى.
التنوع: تهتم السوسيولسانيات “بالخصائص الاجتماعية ذات الصلة بالموضوع والتي لها وزن في التنوع اللغوي، كما تهتم بتفاعل التنوعات الزمنية والجهوية والاجتماعية مع بعضها البعض: اللهجة، الجنس، السن … وفي الآونة الأخيرة أصبحت السوسيولسانيات تولي اهتماما للتواصل باعتباره بعدا آخر للتنوع اللغوي”[2].
واسم الحد: “يهتم بالبحث في الوظيفة الرمزية للغة باعتبارها طريقة لتشكيل العشيرة”[3].
التعدد اللغوي: تهتم السوسيولسانيات بالبحث في التجمعات الاجتماعية التي يميزها استعمال لغتين أو أكثر من لدن بعض أو كل أفرادها، بالاعتماد على الوصف والتصنيف لتقديم تفسيرات عديدة ذات طبيعة نظرية حول اللغات المتعايشة، هذه الفرضيات تشكل فرضيات قابلة للاختبار، ونماذج يمكن تقييمها بالنظر إلى مدى اتساع المتن الذي يمكنها تفسيره بشكل كاف.
” إن تراجع اللغات أو استبدالها ونشوء لغات أخرى جديدة هي ظواهر لابد من النظر إليها كآثار للتعدد اللغوي ولاتصال اللغة”[4].
كما يتلخص التعدد اللغوي في قدرة المتكلم على استعمال أكثر من لغة، وكذلك الوظائف التي تنفرد بها كل لغة، وظاهرة الانتقال من لغة إلى أخرى.
الهوية أو الإثنية: تعتبر إحدى اهتمامات السوسيولسانيات لكون اللغة ليست فقط وسيلة للتخاطب، بل تحمل بعض خصائص الهوية أو الإثنية، فالمجموعة الإثنية، فالمجموعة الإثنية هي بمثابة بنية متوازنة من جيل إلى آخر، تجمعها سلوكات محددة وإحساس بالانتماء إلى مجتمع معين.
التحويل والاحتفاظ: وهما ظاهرتان تنتجان عن إرغام المتكلم على التخلي عن لغته الأصل تحت تأثير ظروف معينة كتكلم لغة بلد مضيف، أو هجر بعض الألفاظ القديمة بسبب أحداث سياسية أو اقتصادية، وهنا تتدخل السوسيولسانيات لتنظيم هذه اللغات وإعطائها هوية.
دراسة اللغات المنقرضة: يشكل موضوعا من مواضيع السوسيولسانيات فمن المتوقع أن تختفي العديد من اللغات مع مرور الزمن بسبب محدودية متكلميها، أو بسبب التعدد اللغوي، وبانقراض اللغة تنقرض هوية متكلميها، وتجاربهم، وثقافتهم، فضلا عن طقوسهم وشعائرهم وحكاياتهم وأشعارهم الشعبية.
دراسة اللهجات: يتم دراستها من حيث خصائصها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، وتوزيعها داخل المجتمع، وانطباع دلالاتها على المستويات الاجتماعية المختلفة.
النسبية: إن فرضية النسبية اللسانية التي احتلت موقعا هاما في أعمال سابير (( Sapir و وورف(Whorf)، قد أدت أيضا دورا مهما في السوسيولسانيات، حيث «تم تطويرها من طرف بيرنشتاين (Bernstein)الذي أدخل عليها مفهومي الشفرة “المحدودة” و “الموسعة”[5]» والتي تحدد القدرات المعرفية التمييزية للمتكلمين إلا أنه سرعان ما تم التخلي عنها لكونها تقوم على مقاربة الاختلافات المرتبطة بالطبقات الاجتماعية في السلوك اللغوي، ورغم الاختلاف في كون البنية اللغوية لشخص ما تشكل رؤيا للعالم فإن الكل متفق على كون اللغة تمارس تأثيرا في إدراك الناس وتصوراتهم.
ومن المواضيع الأخرى التي تهتم بها السوسيولسانيات: العلاقات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الواحد، اللغة واللهجة، الأطلس اللغوي الجغرافي، الفرق بين لغة الرجال ولغة النساء، اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، اختلاف اللغة بين الجماعات التي تفصلها متغيرات اجتماعية معينة كالعرق، الدين، الجنس…
إذن، فالسوسيولسانيات هي فرع من فروع اللسانيات، وهي علم يهتم بالعلاقة القائمة بين اللغة والمجتمع، ذلك لأن اللغة لها صلة بالمجتمع الذي ينظمها ويؤطرها على نحو يجعلها مختلفة عن اللغات الأخرى، فهي ظاهرة اجتماعية ملتصقة بحياة الأفراد، وتخضع لمقاييس المجتمع، وأعرافه، وتقاليده، وثقافته، وتكشف عاداته وتقاليده ومستوياته الحضارية والثقافية…
بما أن السوسيولسانيات فرع مهم من فروع علم اللغة التطبيقي، يعنى بدراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع، ويهتم ببنية اللغة ووظائفها الاجتماعية والثقافية عبر دراسة الكيفية التي تتفاعل بها -اللغة- مع المجتمع وتبيان وظائفها والتغييرات التي تصيب بنيتها. فسأحاول في هذا المقال أن أتطرق إلى فرضيتتين وأيهما أقرب إلى الصواب.
الفرضية الأولى: يمكن ضبط الشعر الأمازيغي داخل النسق اللغوي فقط.
الفرضية الثانية: لا يمكن فهم الشعر الأمازيغي داخل النسق اللغوي فقط، بل هناك معطيات غير لغوية لابد أن تتدخل في ضبطه وفهمه.
يعتبر الشعر من أكثر الأجناس الأدبية انتشارا وتداولا في المجتمع الأمازيغي قديما وحديثا، فهو يعكس التجارب الذاتية والجماعية للأمازيغ، شأنه في ذلك شأن باقي الأمم كما يعبر عن كل ما يطبع حياتهم بالصورة واللغة والإيقاع، وقد ارتبط منذ القدم بالغناء والرقص الجماعيين وبالمشافهة، ولا زال طابعه الشفوي سائدا إلى يومنا هذا، كما يتميز بتعدد أنواعه، “إذ يتضمن معجم الشعر الشعبي الأمازيغي عددا من المصطلحات التي تحمل أسماء مختلفة بالنظر إلى الخصوصيات الشكلية، والمواصفات الفنية والوظيفية، والمناطق الجغرافية لكل نوع منها، كما أن للمواضيع وأغراضها ومناسباتها دورا في تباين تسمياتها”[6].
“إن الشعر الأمازيغي التقليدي لا ينفصل عن فني الغناء والرقص، إذ يعتبر ظاهرة جماعية تندمج في المناخ الثقافي، وفي الحياة اليومية للمجتمع الذي يتمخض عنها، والذي يتوسل بها كتعبير عن أحزانه وأفراحه وانشغالاته، فيكون انبثاقا مقرونا بالمناسبات الاجتماعية والدينية التي توقع حياة الأفراد والجماعات. فالشعر الأمازيغي غنائي في جوهره مصطبغ بالشفهية والجماعية، وللشعر في الأمازيغية أسماء عديدة بحسب المناطق الأمازيغية، وبحسب الأغراض والمواضيع”[7].
بعض أنواع الشعر الأمازيغي:
إزلان: إزلي م إزلان: وهو نمط شعري يعتمد على تجميع ارتجالي لبيتين أو أكثر لا روابط عضوية بينها،” وعادة ما يمت موضوعها إلى الأحداث الهامة التي تسجلها الذاكرة الجماعية.”[8]
تنشادين: تنشادت م تنشادين: وهي عبارة عن مبارزة شعرية يختص بها إنشادن، يبدعون خلالها قصائد غنائية مطولة ذات مضمون وعظي وأخلاقي.
إمغرضن: أمغرض م إمغرضن: ويسمى أيضا بتماوايت: وهو عبارة عن موال طويل النفس، وهو الشكل الغنائي الذي يظهر فيه حسن الصوت، والتحكم في الأداء، وبراعة الشاعر في تلوين النغم.
تمديازين: تمديازت م تمديازين: وهي النمط الشعري الذي يتسم بطابع الامتداد والتماسك الموضوعي، تركز على تيمة واحدة تتمحور حولها كل الأبيات محاولة الاحتفاظ بتسلسل منطقي، وتتطرق لمختلف القضايا الأساسية المتصلة بالتيمة.
مميزات الشعر الأمازيغي:
1- الطابع الجماعي للإبداع: هي ميزة من مميزات الشعر الأمازيغي يكون فيها المبدع مجهولا، فالشعر إنتاج جماعي يتجسد في الأعمال الفلاحية، والأنشطة العائلية والمنزلية، والأعراس والحفلات الشعبية.
2- اختلاف القوافي واستقلال المبنى والمعنى: رغم وجود قصائد تنضبط لمبدأ الوحدة العضوية انضباطا كليا، فالشعر الأمازيغي شعر شفوي وشكل تعبيري قديم، لذلك من الصعب أن يكون على نفس الدرجة من الاكتمال النسقي.
3- استغلال القاموس اللغوي المرتبط بالبيئة: “يحفل الشعر الأمازيغي باللغة المستقاة من البيئة الريفية، والشاعر في اغتراقه لهذه اللغة يستعين بموهبته الفنية في نقلها من المجال الحسي ومن التداول اليومي إلى لغة شاعرية يلعب فيها الخيال دور المكيف الخلاق، كما يلعب انتقاء الأصوات وتباعد مخارجها دورا فعالا في فصاحتها وشعريتها، فقد تكون الألفاظ شائعة ومتداولة على ألسنة الناس، لكن الشاعر وحده يعرف كيف يصرفها في السياق الشعري بمنحها أبعادا وإيحاءات شعرية”[9].
فأغلب الشعراء لا يوظفون الغريب ولا المهجور من الألفاظ، ويفضلون توظيف الألفاظ القريبة من بيئتهم.
أغراض الشعر الأمازيغي.
يشكل الشعر العمود الفقري للأدب الأمازيغي بحكم غزارته، وسرعة انتشاره وتداوله بين الناس، وأيضا بفعل قدرته على احتواء أغراض وتيمات تمس مجالات الحياة والهموم المشتركة للأفراد والجماعات، فارتباطه بالغناء دليل على قيمة وظيفته في المجتمع، و “الشعر التقليدي لا ينفصل عن فني الغناء والرقص، إذ يعتبر بمثابة ظاهرة جماعية تندمج في المناخ الثقافي، وفي الحياة اليومية للمجتمع الذي يتمخض عنها، والذي يتوسلها كتعبير عن أفراحه وأحزانه وانشغاله”[10]. فهو شعر يعبر عن المجتمع في تناقضاته وهمومه وآلامه، ويدعو إلى ترسيخ القيم الإنسانية النبيلة، والمترسخة في العادات الأمازيغية الأصيلة، فالشاعر يكون مجبرا على الانخراط الدائم في المجتمع، والانحياز إلى قيم دون أخرى.
إن الشعر الأمازيغي كفيل بتقديم صورة أكثر صدقا من مرحلة ظهوره، فهو يكمل المشهد الأمازيغي، كما ينير الكثير من الزوايا المظلمة في تاريخه، وبالإضافة إلى أهميته التاريخية، فإنه يعد منجما لغويا كبيرا، حفظ لنا الكثير من الكلمات التي هجرتها الألسن، والقادرة على إمداد البحث اللغوي بجذور تساعد في توسيع مجالات استعمال الأمازيغية واشتقاق مصطلحاتها، وبناء معاجمها.
دراسة في المتن الشعري.
يشكل الشعر الوسيلة الضرورية التي تحافظ على الذكريات والأحداث الرئيسية للمجتمع، فهو سجل الأحداث والوقائع التاريخية المختلفة التي عرفتها المنطقة وسكانها، يعبر عن معاناة ومآسي أفراد المجتمع في صراعهم مع الحياة، والطبيعة، والاستعمار، والشاعر يعي ما للكلمة من طاقات وإيحاءات سياقية، فهو يحرص على أن تكون اللغة المستعملة لغة تجسد رؤياه وحلمه وذهوله، وبدون شك فهو لا يستطيع أن يبتكر لغة من فراغ، لأنه محموم بإرث لغوي يحاصره، ويضغط على وجدانه، ويمثل ذاته، وهو – الشاعر- لا يمكنه أن ينشئ لغة جديدة ليعبر بها، ولكنه يستطيع أن يتناول اللغة المستعملة والمتوارثة ويرغمها على التفاعل مع المعنى الذي جاءت به تجربته، وبالتالي فاللغة بالنسبة له تظل ميدانا واسعا بتم فيه الإفصاح عن شخصيته.
يستمد الشاعر معجمه من الطبيعة بتوظيفه لمفردات وثيقة الصلة بها تندفع بطريقة عفوية، فالشعر الأمازيغي عاش منذ القدم مع الطبيعة، وفيها شب وترعرع وأينع، فتعددت مناحيه ومواضيعه، فشخصية الشاعر تتشكل من فضاءين أساسيين يشكلان عماد اللغة الشعري هما: الخيال والحقيقة، فهو يخضع أهواءه ورغباته للحالة التي تحيط به، واتصاله بالأفراد الذين يشاركهم عاداتهم وقيمهم ودينهم يجعله أكثر تعبيرا عن مجتمعه وأفراده، فهو يصف الأوجه المتعددة للحياة، كما يعبر عن حالته ومعاناته والأعباء التي يتحملها في حياته الاجتماعية.
أنتج الشعراء الأمازيغ نصوصا في منتهى الروعة والجمالية بفنية رائعة وإيقاع أخاذ وصور مذهلة، وذلك نتيجة إتقان الشاعر لهندسة اللغة وحنكته في الاشتغال على القاموس الانزياحي المتوهج، وهذا إن دل على شيء فهو يدل أيضا على أن اللغة الأمازيغية قائمة الذات وقوية العبقرية والحيوية. ما دامت تخترق الثقافة وتكرس الفكر وتنتج المعرفة فهي ليست قاصرة أو عاجزة أو هامشية.
تشكل دراسة المعجم مدخلا أساسيا لدراسة النص، فاللغة الشعرية ليست مجرد أداة يستخدمها الشاعر في نقل آثار التجربة إلى المتلقي، وإنما هي خلق فني في حد ذاته، تتجاوز الوظيفة التواصلية إلى ما يسمى “فن الكلمة” باعتبارها المادة الأولية للشعر، وبما أن اللغة هي المادة الأولية المكونة للنص، فإن أي دراسة له يجب أن تأخذ في الحسبان بنيات المعجم وحقوله الدلالية، فالنص يتحدد من خلال العلاقات الباطنية الموجودة بين الكلمات الصانعة والمكونة له، فالترابطات اللغوية هي السبيل إلى تحليل النص وممارسة قراءته.
المواضيع الدلالية للشعر الأمازيغي:
من المواضيع الدلالية التي تطرق إليها الشعر الأمازيغي نجد:
العشق: وهو تيمة سائدة وبشكل كبير وذلك راجع بالأساس إلى طبيعة العادات السائدة والمتسمة بالتحفظ والصرامة، فلم يجد الشاعر سوى الشعر ليعبر عن أحاسيسه ومعاناته، فالشعر الذي يعبر عن هذا الموضوع ما زال محاطا بحصار ثقافي وعرفي واسع وصارم، خاضع للضوابط الدينية والقيم الثقافية والأخلاقية، والأعراف والتقاليد المتوارثة والمتجذرة في سلوك الإنسان الأمازيغي.
المقاومة: واكب الشعر الأمازيغي أحداث المقاومة والاستعمار، فقد كان الأداة الوحيدة، والوثيقة التي ترجمت بشاعة الاستعمار ومعاناة المغاربة عموما من يطش المستعمر، وخططه العدائية التي استهدفت الإنسان والحيوان والأرض على حد سواء.
الهجرة: تعتبر من المواضيع التي تطرق إليها الشعر الأمازبغي، وهذه الظاهرة ناتجة عن الجفاف وقلة فرص الشغل والتهميش، فقد أبدع الشعراء أشعارا عبرت عن الحرمان والحنين والقلق من ظروف عيش المهاجر ومعاناته مع الغربة.
الجفاف: تناول الشعر الأمازيغي موضوع الجفاف وانعكاساته على الظروف الاقتصادية والمعيشية.
الشعر الخاص بمناسبة الزفاف: ” تكتسي قصائد العرس الأمازيغي أهمية متميزة لكونها لا تعتبر وسيلة للترويح عن النفس فقط، بل حاملة للحكم وقيم التضامن والتخيل الأمازيغي، فهي تشبه بنود عقد تعرض المباح والمحظور على العروسين، هذا فضلا عن كونها متن لغوي سيغني معيرة الأمازيغية ويساعد على تفادي الاقتراض والنحت كما أن الطقوس المرافقة للأشعار تعمل على تهييئ العروسين إلى وضعيتهما الاجتماعية الجديدة”[11]
غزارة الشعر الخاص بمناسبة الزفاف دليل على تقديس الأمازيغ للزواج وإعطائه أهمية كبيرة مقارنة مع باقي المناسبات، وتوظيف معجم ينتمي إلى الحقل الديني في الأشعار واستهلال معظمها به دليل على تشبتهم بالدين الإسلامي وتأثرهم بتعاليمه. وهو عبارة عن نصائح وإرشادات وتحذير للعروسين، وحث لهما على صلة الرحم مع الأقارب، والتحلي بالقيم والأخلاق الحميدة، والابتعاد عن كل ما يمكن يسبب المشاكل وبنهي أو يعقد العلاقة الزوجية.
الطحن: كما هو معلوم، قديما لم تكن هناك طاحونات عصرية حيث كانت النساء تكتفين بطاحونة يدوية تقليدية بواسطتها يتم طحن الحبوب لهذا كانت تخصص لهذا العمل يوما تجتمعن فيه وترددن أشعارا تنسيهن التعب وتسهل عليهن العملية، وللإشارة فهناك بعض النساء اللواتي لا زلن تستعملن هذه الطريقة إلى يومنا هذا خصوصا في المناطق النائية التي يغلب عليها الفقر.
من التيمات الأخرى التي تطرق إليها الشعر الأمازيغي نجد: الختان – وهو من المناسبات التي لا يخلو منها أي بيت إسلامي، وللأمازيغ طقوس وأشعار خاصة بهذا اليوم تحمل عدة دلالات – والنسيج والحصاد …
الظواهر اللغوية المستنبطة من الشعر الأمازيغي.
يؤثر المجتمع في الظواهر اللغوية على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية:
اختلاف لغة الشعر في بعض الأحيان عن لغة التخاطب اليومي من حيث المعجم:
– استعمال بعض الكلمات التي تنتمي إلى لهجات أمازيغية أخرى حيث يكون الشعر ذا قيمة فنية إذا تم إدخال كلمات من لهجات أخرى تكون قريبة للهجة الأصلية، أما إذا تم نظمه كله بلهجة المنطقة يكون بلا قيمة فنية قريبا إلى الحديث اليومي.
– خلق انزياحات لغوية: أحدثت هوة رمزية وجمالية بين اللغة اليومية واللغة الشعرية.
– توظيف التكرار: وهو تقنية أساسية تخدم الشعر من الناحيتين الإيقاعية والدلالية، وعنصر بنائي في النص وهو أنواع:
– تكرار الكلمة: والتي تتشكل من صوت معزول او من جملة من الأصوات المركبة الموزعة داخل البيت الشعري أو القصيدة، وهذه الأصوات تتوحد في بنائها وتأثيرها سواء أكانت حرفا أم كلمة ذات صفة ثابتة كالأسماء أو ذات طبيعة متغيرة تفرضها طبيعة السياق كالفعل، فهي تسعى جميعها لتؤدي وظيفة سياقية تفرضها طبيعة اللغة المستخدمة.
– تكرار صيغة أو عبارة: ويفيد غالبا الإيقاع وأسلوب التأكيد.
– التكرار اللفظي: ويقوم على تكرار نفس اللفظة، وجعلها نواة دلالية تتبعها صياغات شعرية، وانزياحات لغوية تمنحها تميزا.
– تكرار صيغة فعلية متنوعة: يمتلك هذا النوع من التكرار قدرات إيحائية كبيرة لأنه لا يعتمد تكرار الكلمة ذاتها، وإنما ينوع في الصيغ الفعلية مما يغني دلالات السياق الذي ورد فيه.
– العطف: وهو قاعدة من قواعد بناء النص، وقد تم توظيف أدوات العطف بشتى أنواعها.
– الحذف: وهو قاعدة من قواعد اتساق وانسجام النص، تم توظيفه في الشعر الأمازيغي شأنه في ذلك شأن شعر باقي الأمم والشعوب.
– الإضافة: تمت إضافة بعض الحروف غير الأصلية في بعض الكلمات ليكون الإيقاع متجانسا.
– مخاطبة المفرد بصيغة الجمع للضرورة الشعرية.[12]
الصور الفنية في الشعر الأمازيغي:
تم توظيف مجموعة من الصور الفنية توظيفا تعبيريا وفنيا منها:
– الكناية: أسلوب تم توظيفه لما يمنحه للشاعر من قدرة هائلة على التعبير وكذلك لما يفرضه المجتمع البدوي المحافظ من قيود مما يتيح الفرصة للشاعر بالتصريح بمكنوناته ونظرته للواقع.
– التشبيه: تم توظبفه بشكل كبير وهو “عبارة عم نشبيهات حسية بسيطة مستمدة من الواقع، الغاية من توظيفها هي ترسيخ المعنى وتوكيده في ذهن المتلقي وخلق متعة فنية لديه، فالتشبيهات في الشعر الأمازيغي مستمدة من البيئة البدوية الأمازيغية المتسمة ببساطتها لذلك كان توظيفها من أجل الإيضاح والبيان”[13]
– الاستعارة: تم استعمالها في الشعر لسبب فني وجمالي فهي تعطي للأفكار مسحة فنية وتكسب للمعاني جمالية.
– النداء: وهو أسلوب إنشائي تم توظيفه بكثرة، ويستعمل لتنبيه المخاطب ولفت نظره، “وقد يخرج من معناه الأصلي حينما يلتحم بالأمر ليدل على الدعاء أيضا إضافة إلى الطلب والرجاء.”[14]
– توظيف ضميري المخاطب والمتكلم: فالخطاب يكون إما موجها لأشخاص أو معبرا عن الذات.
– توظيف الأسلوب الخبري: يتظافر الخبر مع الصورة الشعرية ليمنحها جمالية وقوة أكثر على التعبير.
ومن حيث التركيب: يخضع الشعر لقوانين النظم والعروض الصارمة، ويميل إلى تخطي الحدود الجغرافية بين الأقاليم الأمازيغية حيث يختزل الاختلافات اللهجية التي تطبع اللغة العادية على مستوى الأصوات والمفردات، واللغة ليست تراكيب فقط، بل هي ثروة معرفية وإطار حضاري، فالطفل يولد صفحة بيضاء فيشكله المجتمع بلغته الخاصة فيضع له القيود والحدود. فالمجتمع هو الذي يؤثر في لغة الفرد، كما يؤثر في:
– التغير اللغوي: كهجرة بعض الكلمات بإقصائها من الحديث اليومي ك: (إنزيزن، أرغ …) أو بظهور كلمات جديدة المعنى.
– التنوع اللغوي: كاستعمال أكثر من لغة أو لهجة، فقد تم توظيف بعض الكلمات الدخيلة على اللغة الأمازيغية، تنتمي إلى اللغتين العربية والفرنسية أو الدارجة، وتم إخضاعها للقالب الأمازيغي ك: (الخير، العيب، الربح، المشينة…).
يمكن القول إن الشعر الأمازيغي لا يمكن فهم لغته بمعزل عن السياق الاجتماعي والثقافي، فهو شعر يعبر عن المجتمع ويدعو إلى ترسيخ القيم الإنسانية النبيلة، ويوظف لغة بسيطة وألفاظا قريبة من البيئة البدوية، كما يعد منجما لغويا كبيرا حفظ لنا الكثير من الكلمات، والتي ستساعد في معيرة اللغة الأمازيغية
الإحالات:
- [1] – دليل اللسانيات لفلوريان كولماس، ترجمة د. خالد الأشهب و د. ماجدولين النهيبي، مراجعة د. ميشال زكريا بدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، توزيع: مركز درايات الوحدة العربية، ط 1: بيروت دسمبر 2009، ص 23.
- [2] – دليل اللسانيات لفلوريان كولماس، مرجع سابق، ص: 24
- [3] – نفسه ص: 25
- [4] – نفسه ص: 27
- [5] – دليل اللسانيات لفلوريان كولماس، مرجع سابق، ص: 27.
- [6] – www.tawiza.ifrance.com
- [7] – www.tawiza.ifrance.com
- [8] – الأمازيغية والسياسة اللغوية والثقافية بالمغرب، أحمد بوكوس، إصدارات مركز طارق بن زياد، مطبعة فيديبرانت – الرباط.ط 1 نونبر 2006، ص 66.
- [9] – الأدب الأمازيغي بالريف. من الشفاهية إلى الكتابة ومأزق الترجمة لبلقاسم الجطاري والعمري عبد الرزاق. مطبعة الشرق وجدة. الطبعة الأولى 2008 ص: 45.
- [10] – لمحة من الأدب الأمازيغي بالمغرب للحسين مجاهد، مجلة آفاق. العدد 1 ص: 129
- [11]– chants de mariage – fond de sentence de Radi Mohammed.EL Maarif, Aljadida 2007.
- [12] – أي ما لا يجوز العمل به من قواعد لغوية إلا في الشعر.
- [13] – الغزل في الأغنية الأمازيغية لبوشتى ذكي ومحمد المسعودي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 2006. ص 63.
- [14] – نفسه ص 36.