من آثار الكتابة الإلكترونية معضلة استبدال الخط العربي

الأصيل بالعربيزي الهجين

د. أحمد أبركان

أستاذ التعليم العالي
 كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة محمد الأول، وجدة – المغرب

ملخص

ليس خفيا على أحد أن اللغة هي الوعاء الذي يحرس قيم الأمة ويحمي ثقافتها وحضارتها، فهي خزان تراثها وحاضن علومها، وهي الأداة التي يفرض المرء بواسطتها وجوده وكيانه ويثبت ذاتيته وأناه. اللغة رهان حقيقي يبرز المجتمع والأمة من خلاله موقعهما بين المجتمعات والأمم الأخرى.  واللغة العربية ليست بدعا من لغات الدنيا كلها، فهي بمثابة رأس مال رمزي للأمة العربية والإسلامية، لذا فنحن مطالبون بأن نتعهدها بالرعاية في جميع جوانبها خوفا عليها من الشوائب التي يمكن أن تلحقها فتضر بها.   ولعله من أصعب وأخطر ما ابتليت به لغتنا العربية في زمن العولمة، تلكم الظاهرة الغريبة التي يحقّ لنا ان نَسِمَها بالآفة أو المعضلة التي باتت تهدد أمن واستقرار لغتنا، وتمس بشكل أخص كيان خطّنا العربي الأصيل، الذي غدا مشوبا وملتبسا بمكونات دخيلة هجينة لم يكن له سابق عهد بها، فلحقته تحولات، إن لم نقل تشويهات بعد أن صار خليطا من الخطوط اللاتينية والرموز والاختزالات والرسوم والأرقام والأيقونات الانفعالية، في إطار ما بات يصطلح عليه بـ “لغة العربيزي” الذي يعتبر من أسوأ صور تأثير العولمة في اللغة العربية. كثيرة إذن هي التفسيرات والتأويلات التي تحاول شرح وتعليل أسباب تسرب ظاهرة العربيزي إلى مجتمعاتنا العربية ثم فشوها فيه بشكل غير متوقع في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهذا ما سنحاول الكشف عن أسراره وخباياه من خلال هذه المقالة.

Abstract

It is generally known that language is a vessel that protects the values of a nation and maintains its culture and civilization. It is the container of its heritage and the protector of its sciences. It is the tool through which one asserts their existence and being. Language is the real stake through which society and the nation show their position among the other societies and nations. Arabic language is not an exception. It is the symbolic capital of Arab and Muslim nations. Therefore, we are required to take of it and of all its aspects. Probably, the most difficult era of what our language goes through is the era of globalization, a strange phenomenon that is worthy of the name lesion or dilemma as it threatens the security of our language and its stability. This phenomenon affects especially our fundamental Arabic lineage, which has become blurred by a hybridity that has never happened before. It is being changed, if not distorted, by a mixture of Latin, signs, drawings, numbers and emotional icons. This is termed “Al-Arabizi”, which is the worst description of the effect of globalization on the Arabic language. Many interpretations try to explain or rationalize the causes of the unexpected infiltration of the Arabizi in our Arab societies in 1990s, and this what we are going to decipher in this article.

توطئة

على الرغم من تعدد واختلاف الوسائل والأساليب التواصلية بين الأفراد والشعوب تبقى اللغة الأداة التواصلية الأفضل والأسمى بامتياز. فاللغة هي الوعاء الذي يحرس قيم الأمة ويحمي ثقافتها وحضارتها، وهي خزان تراثها وحاضن علومها، وهي الأداة التي يفرض المرء بواسطتها وجوده وكيانه ويثبت ذاتيته وأناه في عالم يزداد تعقدا يوما بعد يوم. واللغة رهان حقيقي يبرز المجتمع والأمة من خلاله موقعهما بين المجتمعات والأمم الأخرى. “ولـقـد عـلـمـنـا الـتـاريخ الـثـقـافي والحـضـاري للأمم والـشـعـوب أن في ازدهـار اللـغـة ازدهاراً لـلحـياة الـعـقلـية، وتـقـدماً في مـضمـار الـعلـوم والفـنون والآداب، وأن في قـوة الـلـغـة قـوةً للأمـة الـنـاطـقـة بـهـا، وأن الـلـغـة تـكتـسب قـوتــهـا من إبـداع أهـلــهـا بـهـا، ومن تــفـوقـهم في هـذا الإبــداع الـذي يـشـمل نـواحي الحيـاة العـامة. وبعـكس ذلك يكـون في ضعف الـلغـة ضعف للأمة الـناطقة بها، ويسري هذا الـضعف إلى مفاصل المجتمع، وإلى مرافق الحياة”[1].

واللغة العربية ليست بدعا من لغات الدنيا لا سيما وأنها عديل مكافئ لروح الأمة، فهي لغة القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، التي لا يقوم الدين إلا بها؛ لذلك يعتبر الدفاع عنها والذود عن حماها من صلب الدفاع عن الأرض، بل من صلب الدفاع عن الدين والملة[2]. فالأمة لا يمكنها أن تستكمل أو تستوفي استقلالها إلا إذا حافظت على استقلال لغتها كما عبر عن ذلك الفيلسوف الألماني Johann Gottlieb Fichte بقوله: “أينما توجد لغة مستقلة توجد أمة مستقلة لها الحق في تسيير شؤونها وإدارة حكمها”[3]. فاللغة العربية بناء على ما سبق هي بمثابة رأس مال رمزي للأمة العربية والإسلامية، لذا فنحن أحوج ما نكون، لاسيما في هذا الزمن، لأن نتعهدها بالرعاية والعناية في جميع جوانبها خوفا عليها من الشوائب التي يمكن أن تلحقها فتضر بها، فنكون بذلك كمن يكمل مسيرة بدأها أسلاف كرام عرفوا لهذه اللغة حقها وقدرها فأبدعوا فيها. ولست أشك في أن هذه الأمة لا ولن تعدم من أصحاب الهمم والغيورين الذين ينذرون أنفسهم لخدمة وحماية هذه اللغة الشريفة، وخير دليل على ذلك، وفيما له علاقة بمحور هذا المقال، ظهور فريق من الحروفيين من العرب والمسلمين ممن هم على كثير من التنوع والاختلاف والتفرد في إبداعاتهم وخدمتهم للحرف العربي، حيث إنهم انتهجوا لأنفسهم مسلك الحروفية الذي لا ينفصل البتة عن بقية الاتجاهات والمدارس الفنية الموجودة على الحياة الفنية، مما زاد من إكساب الحرف العربي سمواً وشموخا ورفعة وتميزاً. فنحن العرب والمسلمون جميعنا مدعوون، كل من دائرة اختصاصه، إلى عدم التفريط في هذه اللغة العظيمة الفريدة، خصوصا وأنها غدت آخر معقل نلوذ إليه بعد اعتصامنا بديننا الحنيف لإثبات هويتنا. وانظر إلى ما قاله المستشرق الإسباني Pedro Martínez Montávez في حق اللغة العربية في محاضرة ألقاها في البيت العربي في مدريد: “إن اللغة العربية هي الحصن الوحيد المتبقي للعرب في كل ما يملكون من حاضر، وذلك بسبب عمق وغنى هذه اللغة”[4]. ونجده يعدد مزايا اللغة العربية: فبالإضافة إلى اعترافه بكونها لغة رائعة ومميزة من بين كل لغات الدنيا، فإنه يراها غنية من حيث وفرة مفرداتها وما تحمله هذه المفردات من قدرات متنوعة في ذاتها، وكذا تعداد الاشتقاقات المتفرعة عنها؛ فضلا عن “تنوع وجمال شكل التراكيب اللغوية ومتانة هذه التراتيب وقدرتها على حمل المعنى كاملاً”[5]. كما إننا نجده يعترف بعمق تأثير اللغة العربية في اللغة الإسبانية وجمالية هذا التأثير الذي أضفى على مفردات اللغة الإسبانية رشاقة. وفوق هذا وذاك نجده يعتبر “اللغة العربية هي الحامل المتبقي للإرث الجمالي والمعرفي للأمة العربية من شعر ومنتج ثقافي كامل”[6].

وبالنظر إلى ما آل إليها عصرنا من تقدم سريع جراء ما صار يصطلح عليه بالثورة التكنولوجية أو الانفجار التكنولوجي لوسائل الإعلام، فقد غدا من المستحيل أو شبه المستحيل أن تركن اللغة المعينة إلى الكمون أو السكون أو النوم العميق، أو أن تخلد إلى الرتابة أو الجمود أيا كان مصدرها، دون أن يمسها تغيير، مادام وجودها وحياتها واستمراريتها مرهونا بتوظيفنا واستعمالنا لها، مع إمكانية توسيع مجالها، وحملها على التأقلم مع محيطنا المادي والمعنوي حتى تستجيب لمتطلباتنا التواصلية، ولن يتحقق ذلك من دون إخضاعها لتجارب واختبارات جديدة.. لعل أهمها في زمننا هذا استحضارها في مواقف تواصلية في الحياة قد تكون أبعد ما تكون عن الوسط الذي وجدت فيه أو ولدت في أحضانه، كفضاء الفايسبوك أو فضاء التويتر… أو ما شاكلهما[7]، مما يساعد في إكسابها سلطة بين مستخدميها. وهذا ما أشار إليه بورديو “Pierre Bourdieu” عندما أقر بأن اللغة لا تستمد سلطتها من الداخل، أي من قواعد الكلام والكتابة، وإنما من الخارج، أي من المجتمع أو من الفئة الاجتماعية، بمعنى أن الوسط الاجتماعي، الممثل في الأسرة والمدرسة والجامعة.. هو الذي يمنح الشخص الأحقية في استخدام سلطة اللغة، في الوقت الذي قد يحرم منها شخص آخر ممن هو خارج هذه الدائرة الاجتماعية[8]

اللغة والفضاء الإلكتروني:

شكل الحاسوب منعطفا تاريخيا وطفرة نوعية في حياة الإنسانية جمعاء، إن على المستوى التكنولوجي أو المستوى الاجتماعي أو ما يمت إليهما بصلة. لقد عكس الحاسوب قدرة العقل البشري على إبداع وابتكار عقول غير بشرية قادرة على أن تحاكي العقل الإنساني وذكاءه فيما اصطلح عليه بالعقول الآلية أو الذكاء الاصطناعي.

ولقد نشأت علاقة تلازمية ترابطية تكاملية بين اللغة والحاسوب، إذ كلاهما يفيد الآخر في خدمة الإنسان في ممارسة حياته اليومية في كافة زواياها المختلفة. فلو أخذنا نموذج اللغة العربية مثلا لوجدنا أن موجة التكنولوجيا الحديثة تركت ولا تزال تترك آثارها، إن سلبا أو إيجابا، في لغة الضاد، إذ لا أحد يشك أو يشكك في الخدمات العظيمة التي قدمتها هذه التكنولوجيا للعربية من توفير لأدوات وتطبيقات إلكترونية دخلت العربية من خلالها عالم الحاسوب، وحافظت بموجبها على عملية تعليم العربية مع الاحتفاظ بضوابطها اللغوية الصحيحة، وأساليب كتابتها الإملائية السليمة.

وانضاف إلى الحاسوب اكتشاف نظام الشبكة العنكبوتية (الأنترنيت) التي تعتبر عن جدارة اكتشافا بشريا هائلا، وعلامة فارقة، وبصمة متميزة في عالم الابتكار التقني؛ فقد اخترقت كل المجالات الحياتية وصار لها حضور في كل مجريات حياة الإنسان سواء في واقعه الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي أو الصحي أو الوظيفي أو الفكري… ويبقى هذا الاختراق مشهودا وملموسا وحاضرا بقوة بشكل أوضح في تواصله اليومي بشتى تمثلاته، سواء كان هذا التواصل ممارسة، أو نشاطا، أو تصرفا إراديا أو لا إرادي، أو تقنية، أو علما…

على أن الذي ضاعف من أهمية الشبكة العنكبوتية كونها وجها جديدا من وجوه التواصل الاجتماعي، أو نمطا مستحدثا من وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي الذي يكاد يضارع أو يشبه وسائل التواصل الاجتماعي البشري المعهود. وما كان لهذه الشبكة أن تقتحم علينا خصوصيات علاقاتنا التواصلية من دون أن تترك أثرها فينا، ومن دون أن تفعل فعلتها في تقاليدنا وأعرافنا التواصلية بشتى أنواعها. ولما كانت اللغة، كما أسلفت، أسمى وسائل التواصل البشري وأرقاها، سواء في أنماط تواصلنا الاجتماعي القديمة أو في نسختها الجديدة مع حلول عهد شبكة الاتصالات (الأنترنيت)، فإنه ما كان لهذه العلاقة الجديدة بين اللغة والشبكة أن تمر سالمة من دون أن تترك أثرها وبصمتها في بنية اللغة وفي أساليبها التعبيرية. وهذا ما تحقق بالفعل. لقد باتت اللغة واحدة من ضمن ضحايا متطلبات ومقتضيات الشبكة، فطرأ عليها ما طرأ من التحولات والاختزالات بل وحتى التشوهات التي طالت أعرافنا اللغوية، فتنازلنا عن نظامنا الترقيمي المعروف، الذي يمكن اعتباره لغة ثانية بعد لغتنا المعهودة لما له من أثر واضح على أكثر من مستوى، خاصة الدلالي منه. كما تعاملنا مع ضوابطنا الإملائية وقواعدنا النحوية والتركيبية بكثير من التجاوز والتسامح والتنازل بالمجان، من دون أن تأخذنا غيرة أو حَمِيَّة على لغتنا العصماء الشريفة المنيعة… بل لعله مما يؤسف له توظيفنا بعض الطرق الهجينة التي اتخذناها بديلا للخط العربي الأصيل المعروف بمزاياه الكبرى. من هنا أمكننا القول إن الخط، هو الآخر، لم يسلم من قبضة نظام الشبكة العنكبوتية، هذا النظام الذي صار له حضور وتدخل في أبسط وأعقد مجريات حياتنا اليومية. وتحضرني هنا مقولة مخترع الشبكة العنكبوتية (الأنترنيت) عالم الكمبيوتر Tim Berners-Lee، في الصفحة الأولى من سيرته الذاتية الواردة في كتابه “نسج الشبكة العنكبوتية”،
يقول: (إن التصور الذي لدي عن الشبكة العنكبوتية هو أنها حول أي شيء من الممكن أن يكون متصلا بأي شيء)[9]. وانطلاقا من هذا التصور، فإن اللغة، وضمنها الخط كواحد من مقوماتها، تعتبر جزءا من هذا الــ “أي شيء” (إذ إن الشبكة العنكبوتية في واقعها تمسك بمرآة تعكس بها البعد الرسومي لطبيعتنا اللغوية… وكلمة “رسومي” هنا تشير إلى جميع جوانب اللغة المكتوبة “في مقابل المنطوقة”، بما فيها المطبوعة على الآلة، والمكتوبة بخط اليد “ومن بينها الخطوط”، والنص المطبوع..)[10] .

ولست أشك في أن هذه التغيرات التي لحقت لغتنا العربية، كما الحال بالنسبة لجميع اللغات الإنسانية الأخرى، ومن ثم أنظمتها الخطية، إنما كان بفعل ما تهيأ لها من الأفضلية التي فسحت المجال لهذه التبدلات والتحولات، وفي طليعتنا وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يفضل البعض وسمه بالإعلام الجديد كالفيسبوك  (facebook)، والتويتر  (twitter)، والواتس أب ( (whatsapp، وتلغرام (telegram) واللينكد إن  (linkedin)، والأنستغرام  (instagram)، والفايبر (viber)، والسكايب… (Skybe). فهذه الوسائط كلها عبارة عن أنماط لشكل غير رسمي من اللغة « Language Informel »، يُمكِّن الشباب من الكتابة المختزلة “Textisme”[11]، وتوظيف الحروف اللاتينية في العربية “Arabizi”، والتواصل باللغة الرقمية “Digital Language”، وبالكلام الرقمي “Digitalk”، وبنص الكلام “Text Speak”، وغيرها من الأساليب التي تعبر في مجموعها عن ثورة لغوية حتمية[12].

لقد استطاع فضاء الفايسبوك مثلا كغيره من الوسائل والوسائط الأخرى، أن يشكل منعرجا ثقافيا وتكنولوجيا في حياة معظم المجتمعات الحديثة، وأن يحدث تغييرا ملحوظا في البيئة التي يحيى فيها الإنسان، بدءا من فرض أسلوب تواصلي غير مسبوق داخل فضاء واسع الأبعاد صار فيه لكل واحد لغته وطريقته الخاصة في تحقيق هذا التواصل، وهذا المستجد يعتبر في حد ذاته تحدياً يواجه مجموع اللغات[13]؛ واللغة العربية جزء لا يتجزأ من هذا المجموع.      

ومن المعلوم أن اللغة، أيّ لغة، هي في آخر المطاف انعكاس لصورة الأفراد الذين يتداولونها ويتواصلون بها، فيجعلون منها خير معبر عن ذواتهم من خلال ذلكم التفاعل الرمزي القائم على اللغة. لكن المؤسف في الأمر أن كثيرا من هؤلاء الأفراد، لا سيما الشباب منهم، صاروا يتطاولون على لغاتهم ولا يحفظون لها شرفا ولا حرمة، ومنها اللغة العربية، حيث شرعوا لأنفسهم، بما يتلاءم وأهواءهم، حق التلاعب بقواعدها وضوابطها ونواميسها من خلال تعليقاتهم ودردشاتهم وكتاباتهم في حساباتهم على الفيسبوك. يفعلون كل هذا من دون رقيب ولا رادع، فيمزجون بين اللغات، وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم ورغباتهم، فيعّرّبون الفرنسية، ويُفَرنسون العربية مع إقحام شيء من الإنجليزية، فضلا عن كتابتهم باللهجة العامية، وتغييرهم للحروف العربية واستبدالها بحروف لاتينية وأرقام، وكذا تعبيرهم عن حالاتهم النفسية وأمزجتهم بالصور والأيقونات والرموز الانفعالية التي اختراعها بروفيسور علم الكمبيوتر الأمريكي Scott Fahlman في جامعة كارنجي ميلون  Carnegie Mellon University  عام1982 ، عندما أزعجه عدم قدرة الكثير من زملائه على استيعاب مزاحه وتعليقاته في اتصالاتهم الرقمية، فصمم الابتسامة البشرية في اللغة الرقمية[14].

تحديد مفهوم العربيزي:

ارتبك الدارسون والباحثون في الشأن اللغوي حديثا في تبني المصطلح الأنسب والأليق لنمط الكتابة الجديد التي ابتلي به شبابنا العربي إلى درجة الاستلاب في زمن الثورة التكنولوجية، بعد أن تخلل خطاباتهم على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، على إثر الانتشار الجارف لأجهزة الهواتف المحمولة، والحواسيب المكتبية والمحمولة، واللوحات الإلكترونية، التي لم تكن أنظمة تشغيلها تدعم ولا تتبنى النظام الألفبائي العربي؛ الأمر الذي يفسر عدم احتواء هذه الأجهزة التواصلية على لوحات مفاتيح عربية. ولقد ولَّد هذا العجز في توظيف الحروف العربية في العملية التواصلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي اللجوء إلى الحروف اللاتينية لتلبية حاجات الشباب الخطابية؛ فكانت النتيجة ميلاد نظام خطي متمرد على كل الضوابط والقواعد والمعايير المعروفة والمعهودة في الكتابة العربية. إنها نظام الخط العربيزي.

ولفظ “العربيزي” « Arabizi » يعتبر واحدا من المصطلحات التي وظفها لغويو هذا العصر الحديث عن هذا النمط الخطي الهجين والدخيل. وهو لفظ منحوت من كلمتي “عربي” و”إنجليزي”. ولقد استعملت مصطلحات أخرى مماثله له في الدلالة مثل: “العربليزي”، و”الفرانكو أراب” « Franco-Arab »، و”الأرابيش” «Arabish » أو “العربليش” « Arablish »، وهي منحوتة من كلمتي « Arabic » ، و « English ». يتضح من هذه المصطلحات أو “المنحوتات” أنها عبارة عن خليط بين العربية والإنجليزية أعطانا شكلا هجينا. ويمكن أن ينضاف إلى المصطلحات المذكورة أعلاه مصطلح “العرجمية”، وهو مصطلح شامل يدل على كل ما دخلت فيه العربية عجمة، وقد تفرعت منه مصطلحات أخرى مثل: “العربجليزي” أو “العرنجليزي” وهو ما اختلطت فيه العربية بالإنجليزية، أو “العربنسية” أو “العرفرنسية” وهو ما اختلطت فيه العربية بالفرنسية[15]…  

وفي محاولة أولية لتعريف ظاهرة العربيزي نقول: هي لغة تواصلية عربية مستحدثة غير رسمية تُوظف فيها الحروف اللاتينية مشفوعة بأحرف الدردشة، ومقرونة بالأرقام، شائعة بين صفوف الشباب عبر الرسائل النصية ووسائط التواصل الاجتماعي، لكنها غير محدودة القواعد. أو هي في تعريف آخر: لغة مهجنة يستخدمها الشباب قوامها مفردات عربية عامية في الغالب، مكتوبة بحروف لاتينية وأرقام منتقاة على أساس المماثلة لا على أساس الترتيب الأبجدي أو الرقمي، كأن يحل مثلا رقم 7 مكان حرف الحاء، ورقم 3 مكان حرف العين…[16]؛ وهذا النوع من اللغة ينبني على شكل كتابي يستخدم الأرقام والأيقونات فيما يشبه الكتابة الاختزالية الموظفة في العملية التواصلية عبر الحاسوب. أو هي في تعريف مفصل عبارة عن نمط لغوي فيه (تكتب العربية واللهجة العامية بحروف اللغة الإنجليزية وباستخدام بعض أرقامها حروفاً، إذ تستبدل أرقام مكان بعض الأحرف في اللغة العربية التي لا يوجد لها مقابل في الأجنبية،

فالرقم (2) مقابل الهمزة                                  

والرقم (3) مقابل حرف العين

والرقم (‘3) مقابل حرف الغين

والرقم (4) مقابل حرف الذال

والرقم (6) مقابل حرف الطاء

والرقم (7) مقابل حرف الحاء

والرقم (8) مقابل حرف القاف

والرقم (9) مقابل حرف الصاد

والرقم (‘9) مقابل حرف الضاد

أما ما عدا ذلك فيكتب بتغيير الحرف العربي بمقابل من اللاتينية، وفيما يلي الأبجدية العربية مقابل كل حرف:

ا =  a، ب =B ، ت = T،  ث =  th،  ج = j ، ح = 7،  خ =   KH، ويمكن أن تكتب ‘7 أوS ،   د= d ،  ذ =  ‘d،   ر =   R،  ز =Z، س= 5 ، ش =   4،  ص=   9، ض=  9‘،  ط =   6 ، ظ =   ‘6، ع = 3، غ = ‘3 ، ف = F ، ق = 8 ، ك = K ، ل = L ، م = M ، ن = N ، هـ = H ، و= W أوO  وذلك حسب قوة الواو في الكلمة، ي = Y وفي حال الياء الخفيفة يستخدم e ، ء الهمزة = 2)[17] .

إشكال العربيزي وآثاره السلبية على اللغة العربية:

لا يختلف اثنان بخصوص الوضع الخطير الذي بات يهدد كيان ووجود كثير من لغات الدنيا مع مجيء ريح العولمة وما صاحبها من ترسانة عملاقة في تكنولوجيا الاتصالات، لا سيما ما يمس منها عالم الإنترنيت. لقد صار وضع اللغات الإنسانية محط أنظار واهتمام الخبراء المهتمين بالشأن اللغوي من خلال تساؤلات واستفسارات كثيرة تخص مصير هذه اللغات، لا سيما بعد أن لوحظ تراجع كثير منها، بل وربما أفول نجم البعض منها، في إشارة غير مسبوقة إلى خطورة الوضع. هذا الوضع الذي دفع بعض الباحثين إلى دق ناقوس الخطر؛ فهذا  الباحث اللغوي، وعالم الأنثروبولوجيا الكنديK.David Harrison، وهو ناشط في مجال توثيق اللغات المهددة بالانقراض والساعي إلى الحفاظ عليها، وهو في الوقت نفسه عضو الجمعية الجغرافية الوطنية، وعضو في نادي المستكشفين، يقول في كتابه الموسوم بــ   «When Languages Die: The Extinction of the World’s Languages and the Erosion of Human Knowledge »  (عندما تموت اللغات: انقراض لغات العالم، وتآكل المعرفة الإنسانية): “في عام 2001م، في الوقت الذي انتهت فيه ّالألفية الثانية كانت توجد 6912  لغة إنسانية متمايزة يتحدث بها البشر في كل أنحاء العالم، ويتوقّع اللغويون اليوم أنه مع نهاية القرن الحادي والعشرين وبحلول عام 2101م لن يتبقى من لغات البشر سوى نصف هذا العدد)[18]. لكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا ما صرنا نلاحظه ونعاينه من مقدمات هذا الأفول لبعض اللغات، بدءا من الإجهاض على أنظمتها النحوية والإملائية والخطية.. وهذا التهديد لا يمكن أن تستثنى منه أي لغة إنسانية متداولة، ولا أن تكون في مأمن منه عدا الأقلية القليلة منها، لا سيما تلكم التي تسعى سعيا حثيثا لأن تفرض سطوتها وتُحكم سيطرتها على ما سواها من اللغات، في إطار ما بات يصطلح عليه بـ “العولمة اللغوية”، التي تقودها اللغة الطامعة في أن تحوز قصب السبق في آخر المطاف، ألا وهي اللغة الإنجليزية. “فخطر الانحسار اللغويّ لا يقتصر على لغةٍ دون غيرها، بل هو خطرٌ يهدّد معظم لغات العالم، حتى تتربّع لغةٌ واحدةٌ على الأقل عرشَ اللغات في العالم.

وتشير الوقائع في المشهد الحالي إلى أنّ الإنجليزيّة تنافسُ اللغات الأخرى، وتسعى جاهدةً إلى أن تكون اللغة الأولى في العالم، وتشق الإنجليزية طريقها من خلال الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تسعى أمريكا إلى فرضها على دول العالم ولاسيما دول العالم الثالث، إذ لا انفصال بين الأنظمة الاقتصادية والسياسية وغيرها وبين اللغة التي يمكن أن تكون لغة الاقتصاد ولغة الثقافة ولغة السياسة والإدارة في أي دولة”[19].

ولما كانت لغتنا العربية متداولة بشكل رسمي في عالمنا العربي، المحسوب على دول العالم الثالث، حق لنا من هذا المنطلق، أن نبدي تخوفنا على مصيرها ومستقبلها من هذا التحدي الجديد، خصوصا أمام الزحف السريع للغة الإنجليزية والحضور المتزايد والمتصاعد لها في معظم دول العالم العربي. فالإنجليزية تنتشر وتسري في دول العالم كله سريان النار في الهشيم بشكل غير معهود ولا مسبوق، ساعية من وراء هذا الصنيع تحقيق ما بات يعرف بالعولمة اللغوية (أو الأحادية اللغوية)، التي لا يمكن فصلها عن بقية الأنماط العولمية الأخرى، في تهديدها واستهدافها لخصوصيات وهويات شعوب العالم بأسره. لذا بات من اللازم علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نحمي لغتنا العربية ونضاعف من سبل تحصينها، حتى لا يغدو شبابنا ضحية هذا الزحف الجارف، وما يخفيه من دسائس ومخططات.

ولعله من أصعب وأخطر ما ابتليت به لغتنا العربية في زمن العولمة، ولربما أكثر من اللغات الأخرى، تلكم الظاهرة الغريبة التي يحق لنا ان نَسِمَها بالآفة أو المعضلة التي باتت تهدد أمن واستقرار لغتنا، وتمس بشكل أخص كيان خطّنا العربي الأصيل الذي قطع أشواطا كثيرة حتى يستوي على سوقه، ويظهر على الشكل الذي صار معهودا لدينا. لقد غدا الخط العربي مشوبا وملتبسا بمكونات دخيلة هجينة لم يكن له سابق عهد بها، فلحقته تحولات، إن لم نقل تشويهات بعد أن صار خليطا من الخطوط اللاتينية والرموز والاختزالات والرسوم والأرقام والأيقونات الانفعالية التي أضحى شبابنا يؤْثر التواصل بها والتفاعل معها على مدار ساعات اليوم عبر مختلف وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي المشار إليها آنفا، في إطار ما بات يصطلح عليه بـ “لغة العربيزي” الذي يعتبر من أسوأ صور تأثير العولمة في اللغة العربية “فقد تجاوزت هذه اللغة مفهومي الازدواجية اللغوية والثنائية اللغوية اللذين نألفهما؛ لتأتينا بلغة هجينة ليست بالعربية ولا الإنجليزية بل هي خليط من الرموز اللاتينية تُكتب بها الكلمات العربية، وقد اقتحمت حياة شبابنا الفكرية والثقافية وظهرت في خطاباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي مثل (الفيسبوك) و(تويتر)، وفي جوالاتهم، وحواسيبهم وسائر معاشهم، وتعد هذه الإرهاصات أحد مظاهر التحولات التي شهدها الحرف العربي بأثر العولمة)[20].

وتجدر الإشارة إلى أن الخط العربي تعرض لامتحانات واختبارات كثيرة منذ ظهوره إلى يوم الناس هذا، بدءا من مرحلة ما قبل مجيء الإسلام يوم كان الحرف العربي خلوا وصفرا من النقط والإعجام والشكل بالحركات، مما ترتب عنه فشو اللحن في تلاوة القرآن الكريم مع بداية بزوغ فجر الإسلام، فانبرى الغيورون على الدين الجديد الذي حل بالجزيرة العربية لحل إشكال الإعجام وفك لغز الحروف المتشابهة من حيث الرسم، وذلك بوضع النقط على الحروف كالجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والفاء والقاف… ولولا مرونة الحرف العربي وطواعيته لما استطاع أن يستجيب لهذه التغييرات، التي نحسبها إيجابية، ولما تمكن من الصمود لسلسلة التجارب والاختبارات التي أجريت عليه، فاستطاع أن يخرج منها فائزا، كاختبار التمييز بين همزتي القطع والوصل، واختبار الحروف المنطوقة غير المكتوبة، وحديثا اختبار مدى تجاوب الحرف العربي مع الجانب التقني الموظف في الحواسيب، ومن ثم رقمنة اللغة العربية وتعزيز المحتوى العربي على الأنترنيت[21]. لكن رغم هذا يبقى الاختبار الأعسر والأصعب المفروض على الحرف العربي في زمننا هذا، كما أسلفت، والذي لست أشك في أنه يحاول أن يتسلل إليه بنعومة ليفعل فعلته به، هو “العربيزي” الذي يسعى من خلاله مشجعوه إلى إضعاف سلطة الحرف العربي، بل وإلى محاولة استئصاله واقتلاعه من وجذوره وأصوله بعد أن يتم، في خطة تدرجية، إضعافه عن طريق مزجه ومزاوجته بالحرف اللاتيني، بدعوى محاولة تبسيط الحرف العربي ومن ثم اللغة العربية. بيد أن الهدف الرئيس من وراء هذا المسعى الخبيث هو نسف الحرف العربي ومعه اللغة العربية، والدليل على ذلك أنه في حال تمّت كتابة العربية بالحرف اللاتيني، كما يحدث مع شبابنا في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن حوالي نصف الحروف الهجائية العربية سيكون محكوما عليها بالموت والانقراض، لعدم وجود مقابلات لها في الحروف اللاتينية في نسختها الأصلية التي نستعرضها كاملة مع التحقيق النطقي لكل واحد منها بين خطين مائلين: A /a:/، B /be:/، C /ke:/، D /de:/، E /e:/، F /ef/، G /ge:/، H /ha:/، I /i:/، K /ka:/، L /el/، M /em/، N /en/، O /o:/، P /pe:/، Q /kʷu:/، R /er/، S /es/، T /te:/، V /we:/، X /eks/، Y /i: ˈgraika/، Z /ˈdze:ta/.

والمستخلص من هذا الجرد للحروف اللاتينية الأصيلة ما يلي:

1- غياب بعض الحروف التي صارت متداولة في اللغات المنحدرة من اللاتينية، والتي كانت غير مستعملة في النظام الهجائي اللاتيني الأصلي مثل: J [‘i: ‘ɫɔŋga]‏، و U ‎/u:/‏، وW ‎/’u: ‘dʊplɛks.

2- تضم المنظومة الهجائية اللاتينية في نسختها الأصيلة ثلاثا وعشرين حرفا فقط، في حين نعدد في المنظومة الهجائية العربية ثمانا وعشرين حرفا، أي بفارق خمسة أحرف؛ فهل يعقل أن نستبدل منظومة هجائية غنية بأخرى فقيرة؟ ومتى رأينا المكتفي والمستغني يستنجد بالمحتاج الذي هو دونه.   

3- إن الانسياق وراء دعوات المغرضين الداعين إلى ما يمكن أن ننعته بعملية التلاقح بين الحرفين العربي واللاتيني، أو بالأحرى، الراغبين في الاستعانة والاستنجاد بالحرف اللاتيني، حتى لا أقول الطامعين في استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وهو المقصود والمأمول لديهم، بذريعة تبسيط الحرف العربي؛ سوف يؤدي بنا إلى التخلي نهائيا عن عدد كثير من الحروف العربية، أي ما يقارب نصفها، ومن ضمنها بعض الحروف التي تفخر العربية بكونها الوحيدة التي تتوافر عليها من بين لغات العالم كلها كحرف الضاد والظاء، أو التي تعتبر العربية من اللغات القلائل التي تمتلكها كالثاء، والحاء، والخاء، والذال، والصاد، والطاء، والعين، والغين.. والحصيلة هي أننا في حال استعاضتنا عن الحرف العربي بالحرف اللاتيني فسوف نفقد، لا محالة، كل هذه الحروف، فتكون النتيجة الحتمية والمتوقعة هي الحكم اليقيني بالعجز والقصور على المنظومة الهجائية العربية.

لقد بات محتوما وواجبا علينا الاحتراس والاحتراز من خطر ظاهرة العربيزي التي أضحت شرا لا بد منه، وقدرا لا مفر منه، وحتمية لا انفلات منها. فهو حسب تعبير الدكتور عبد العزيز الصويعي: (مشروع لا يستسيغه العقل ولا يقبله المنطق، ولا يصلح حتى ﻟﻤﺠرد النقاش)[22]. لخطورته المتنوعة، إذ إننا لا نعتبره مجرد تهديد عابر للمنظومة الهجائية العربية، فحسب، كما إننا لا نحسبه مجرد محاولة خلخلة وزعزعة لكيان اللغة العربية، فقط، بل نرى فيه محاولة جادة لهدم هويتنا والاعتداء على حرمة مرجعيتنا الدينية التي نَقلت إلينا النصوص القرآنية والحديثية باللغة العربية، والتطاول على موروثنا الحضاري والثقافي والفكري. لذا، فإنه يتحتم على كل عربي ومسلم أن يستشعر مدى خطورة هذا المخطط بما تنطوي عليه نواياه من مكر ودسّ عن طريق استدراج شريحة مجتمعية حساسة، تعتبر في حقيقتها عَصَب المجتمع العربي والمسلم، وعُدّتَه المستقبلية للنهوض بشؤون الأمة الإسلامية، ومعالجة قضاياه المصيرية، واستشراف سبل تقدمه وتطوره، بما يضمن له البقاء في عالم ليس فيه وجود لمن جُرّدت منه هويته ومرجعيته إما غصبا وإما بطرق ناعمة؛ إنها شريحة الشباب.

ولست أخفي قلقي من قدرة هذه الثقافة اللغوية العولمية الجديدة – إن أمكننا توظيف هذا التعبير- من اختراق فئة الشباب العربي إلى أبعدَ مما يمكن تصوره. فباجتماع الظاهرتين المشار إليهما أعلاه: الكتابة الاختزالية، والنمط العربيزي ليتم تداولهما ثم استفحالهما بين صفوف الشباب العربي، تكون هذه الفئة الاجتماعية قد سقطت في المحظور الذي كنا نخشى عليها منه، ألا وهو سعيهم الحثيث في اكتساب هذه المعرفة والخبرة اللغوية الجديدة بوصفها شكلا من أشكال التجديد ومتابعة التحولات المفروضة في عالم التواصل الافتراضي. فشبابنا العربي بات، للأسف الشديد، “يغرف من معين لغات العصر، ويتماهى بثقافاته، ويستخدم أدوات اتصاله، ويعتمد تقنياته المعلوماتية، ويغرّد على الأثير العنكبوتي على سجيته اللغوية، ويتبادل الرسائل النصية مع أبناء جيله، بتعابير ومفردات ومختصرات وأرقام ورموز أقل ما يُقال إنها هجينة”[23]. لكن الإشكال الخطير الذي يبقى قائما، والذي يجب التنبيه إليه في هذا النمط التواصلي الجديد، هو اعتماده المطلق، أو شبه المطلق، على الكتابة والغوص في عالم المكتوب الذي يهيم بصاحبه في غياهب الصمت والسكون، مع التركيز الطويل في شاشة الهواتف النقالة أو اللوحات الإلكترونية أو الحواسيب الشخصية، مع تقليص وتقزيم هامش الملفوظ الذي كان له بالأمس القريب حصة الأسد من الحضور في أي عملية تواصلية واقعية. إنها اللغة الناعمة الجديدة التي يجنح إليها شباب هذا العصر ويؤثرون التواصل بها عبر وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي، عن وعي أو عن غير وعي!

وأختم هذا العنوان الفرعي المُستعرِض لإشكال العربيزي بكلام جامع لعيسى عودة برهومة يعبر لنا من خلاله عن حقيقة ما نحن بصدده، يقول: “إن هيمنة اللغة الإنجليزية على عقول أبنائنا لها إكراهات تُستنبت في وجدان الأجيال، ولعلنا ندرك أن ثمة هوة ثقافية وقيمية بين الشباب وبين أمتهم تزداد كل يوم اتساعاً، أهم عناصرها: اللغة، متمثلة بظهور الإرهاصات الجديدة من اللغة الهجين، لغة الأرابيزي، والدردشة… أحدثتها وسائط الاتصال التكنولوجية المتطورة، والتأثر باللغة الإنجليزية في التخاطب، إنها لغة غريبة لا تطيقها العربية، لها أعرافها الخاصة، وقاموسها المستحدث، يتجاوز خطرها خطر الازدواجية اللغوية التقليدية إلى خطر هيمنة الإنجليزية بالكامل، ووقوعنا في أسر الاستعمار الثقافي، بخاصة أن شيوعها سيؤدي إلى اعتياد العين على رؤيتها حتى يألفها الفكر، فتصبح جزءاً من تكويننا الثقافي والاجتماعي، ولا يكفي أن نقف منددين بها أو معترضين عليها، بل يجب أن نقف في مواجهتها ونحن بكامل وعينا”[24].

أسباب استفحال ظاهرة العربيزي بين صفوف الشباب العربي:

يرجع السبب الرئيس والأساس في ولادة ظاهرة العربيزي التي ابتدعها المغتربون العرب إلى سيطرة اللغة الإنجليزية على الشبكة العنكبوتية، ذلك أن الشبكة ابتكار أجنبي المنشأ وليس عربيا، نظرا للتراجع التقني والعلمي العربي الذي جعل القائمين على الشأن اللغوي العربي عاجزين عن حماية هذه اللغة الأصيلة العريقة من هيمنة اللغة الأجنبية وسطوتها.[25] وحتى لا تشعر هذه الفئة المغتربة بأنها تعيش على هامش الحدث في التعامل مع الأنترنيت، سخرت هذا النمط الجديد في عمليتها التواصلية متذرعة بمقولة “الحاجة أم الاختراع”. فالعربيزي هو عبارة عن ظاهرة مرتبطة، بامتياز، بهذا الجيل الإلكتروني.

كثيرة هي التفسيرات والتأويلات التي تحاول شرح وتعليل أسباب تسرب ظاهرة العربيزي إلى مجتمعاتنا العربية ثم فشوها فيه بشكل غير متوقع في مطلع تسعينيات القرن الماضي. على أنه يمكن حصر مجموع هذه الأسباب فيما الآتي:

 1- يأتي في مقدمة هذه الأسباب التوظيف الاضطراري للغة العربيزي من قبل الغالبية العظمى من شباب الأمة العربية غير المتقن للغة الإنجليزية، نظرا لكون اللغة العربية لم تكن مدعومة ولا مسنودة من أنظمة وبرمجيات الأجهزة الحاسوبية بمختلف أنواعها. هذا الوضع لم يترك لهؤلاء الشباب خيارا آخر سوى تسخير الحرف اللاتيني للتعبير عن الكلمات العربية[26] ومن ثم العبارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر الرسائل القصيرة SMS على أجهزة الهواتف النقالة.

2- ردّ البعض شيوع العربيزي إلى رغبة الشباب في التمرد على ما اعتقدوه واعتبروه قيودا وضوابط سَنَّهَا الآباء، ومن ضمن هذه القيود اللغة ثم الثقافة وما يتصل بها من قيم، مما تسبب في تسرب لغات وثقافات الأغيار إلى قلب مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

3- عزا البعض الآخر انتشار العربيزي بين صفوف الشباب إلى عجزهم عن التعبير والكتابة بلغة عربية سليمة بسبب ضعف تكوينهم فيها، مما ولد لديهم نوعا من القصور في اللغة المكتوبة.

4- يرى فريق آخر بأن ظهور لغات جديدة لدى فئة الشباب أمر طبيعي يحصل من حين لآخر، لا سيما وأننا نعيش زمن العولمة والانفجار المعلوماتي، والثورة التكنولوجية المتطورة، وثورة الاتصالات والمواصلات، وما بات يعرف بـالسماء المفتوحة..[27]       

5- ترى Tina Ganster المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في هذا الضرب من الاستعمال اللغوي المتمثل تحديدا في توظيف وتسخير الأيقونات التعبيرية في العملية التواصلية بين الشباب المرتادين على فضاء الفايسبوك أسلوبا لا يخلو من إبداع “في التعامل مع صعوبات الاتصال الرقمي، ذلك أنها تشكل بديلاً عن التعابير غير اللفظية في الحياة الواقعية كلغة الوجه والجسد ونبرة الصوت غير المتوفرة في النصوص المكتوبة”[28].  

6- هناك من يرجع سبب تفشي هذا النمط الغريب من الكتابة إلى رغبة الشباب المستخدم للفايسبوك في تحقيق الاقتصاد في الاستعمال اللغوي، أو الاقتصاد اللغوي بحصر المعنى Economie langagière عن طريق توظيف الرموز اللغوية والاختزالات[29].

خلاصة:

هي إذن خلاصة جزئية لهذه الظاهرة المتشعبة التي باتت تشكل مظهرا من مظاهر التلوث اللغوي وتهديدا فعليا لأمن اللغة العربية على وجه الخصوص؛ ولولا تقيدي بضوابط الحيز المخصص لهذا المقال في النشرة المعدة له، لكنت قد أسهبت القول فيما سلف من عناوينه الفرعية، وفيما كنت أعتزم معالجته من عناوين أخرى تتصل بجوهر الظاهرة المطروقة؛ بيد أن إكراهات النشر تحدّ أحيانا من حرية الاسترسال في القول والتفصيل في المقصود. لذا فقد آثرت أن أجعل ها المقال في حلقتين: أولاهما التي بين أيدينا، والثانية ستتبع في مناسبة أخرى بمشيئة الله وتوفيقه…

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

[1]– عبدالـعزيـز بن عثمان التويجري: حـاضـر اللغة العربية، مطبعة الإيسيسكو – الرباط ـ المملكة المغربية، 2013، ص7.

[2]– عيسى عودة برهومة: تحوّلات الحرف العربيّ على الشابكة (الإنترنت) بين رمزيّة الهُويّة الثّقافية ورهانات العَوْلمة، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، مجلة محكمة تصدر عن عمادة البحث العلمي، قسم اللغة العربيّة، كلية الآداب، الجامعة الهاشميّة، الأردن، ص 139 (بتصرف).

[3] – ساطع الحصري، ماهي القومية، دار العلم للملايين، بيروت، بدون تاريخ، ص 56.  

[4]– حنين عتيق: مواقع التواصل وانهيار الحصن الأخير، صحيفة العربي الجديد، يومية سياسية شاملة تصدر من لندن، العدد 336، السنة الأولى، الاثنين 18 شوال 1436هـ/ 03 غشت 2015، ص 21.

[5] – حنين عتيق: مواقع التواصل وانهيار الحصن الأخير، ص 21.

[6] – حنين عتيق: مواقع التواصل وانهيار الحصن الأخير، ص 21.

[7] –  رقاد حليمة: آثار استخدام مواقع التواصل الاجتماعي على الممارسة اللغوية للطلبة الجامعيين الفايسبوك نموذجا، دراسة على عينة من طلبة جامعة وهران، أطروحة مقدمة لنيل درجة دكتوراه )ل.م.د(  الطور الثالث في علوم الإعلام والاتصال، جامعة عبد الحميد ابن باديس- مستغانم- كلية العلوم الاجتماعية، قسم العلوم الإنسانية، شعبة علوم الإعلام والاتصال، تخصص وسائل الإعلام والمجتمع، السنة الجامعية  2016- 2017، ص 163 (بتصرف شديد).

[8] – Jacques Dubois, le symbolique et le social : la réception internationale de la pensée de Pierre Bourdieu, édition de l’université de Liège ULG, Belgique, 2005, P 82.[9] – ديفيد كريستال: اللغة وشبكة المعلومات العالمية، ترجمة أحمد شفيق الخطيب، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة، العدد 1599، القاهرة، 2010، ص 245. 

[10] – ديفيد كريستال: اللغة وشبكة المعلومات العالمية، ص 245.

[11] – يدل لفظ  « Textisme » على ذلك التغيير الذي يلحق الشكل الإملائي للكلمة مقارنة مع الكتابة التقليدية.

[12]< – محمد رضا أحمد سليمان: استخدام الشباب الجامعي للكتابة المختزلة والحروف اللاتينية للكلمات العربية والاتصال بواسطة الكمبيوتر، وعلاقته بالتواصل الشفهى لديهم، المجلة المصرية لبحوث الإعلام، كلية الإعلام، جامعة القاهرة، مصر، يناير 2012، ص 36. 

[13] – علي محمد درويش، أزمة اللغة العربية والترجمة والهوية في عصر الأنترنت والفضائيات والإعلام الموجه،
ط 1، شركة اريتسكوب، أستراليا، 2005، ص 94.

[14] – Tina Ganster, Sabrina C. Eimler, and Prof. Dr. Nicole C. Krämer : Same Same But Different!? The Differential Influence of Smilies and Emoticons on Person Perception, Cyberpsychology, Behavior, And Social Networking, Germany, volume 15, number 4, 2012, pp 226-230.

[15] – مصطفى محمد رزق السواحلي: مستقبل الكتابة العربية في ظل فوضى النقحرة وهجنة العربيزي، المؤتمر الدولي للغة العربة، الندوة حول: أهمية الكتابة في حماية اللغة العربية، 29 جمادى الثانية 1434هـ، الموافق لـ 09 مايو 2013، دبي، ص ص 6-7.

[16]– بهاء الدين محمد مزيد: العربيزي أو اللغة العربيزي، منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة،
 http://www.m-a-arabia.com/، كُتب: في 24/03/2017- 04:38 PM ]

[17] – محمود السيد: العربيزي ظاهرة خطرة على لغتنا العربية، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، العدد 49، ديسمبر 2015، ص ص 13-14.

[18] – هاريسون ديفيد: عندما تموت اللغات، انقراض لغات العالم، وتآكل المعرفة الإنسانية، ترجمة محمد مازن جلال، الطبعة الأولى، جامعة الملك سعود للنشر العلمي والمطابع، المملكة العربية السعودية، 2011، ص 1.

[19] – عيسى عودة برهومة: تحوّلات الحرف العربيّ على الشابكة (الإنترنت) بين رمزيّة الهُويّة الثّقافية ورهانات العَوْلمة، ص 145.

[20] – عيسى عودة برهومة: تحوّلات الحرف العربيّ على الشابكة (الإنترنت) بين رمزيّة الهُويّة الثّقافية ورهانات العَوْلمة، ص 140.

[21] – عيسى عودة برهومة: تحوّلات الحرف العربيّ على الشابكة (الإنترنت) بين رمزيّة الهُويّة الثّقافية ورهانات العَوْلمة، ص 139 (بتصرف).

[22] – نور الله كورت، ومیران أحمد أبو الهيجاء، ومحمد سالم العتوم: اللغة العربية نشأتها، ومكانتها في الإسلام، وأسباب بقائها، Bingöl Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi (2015) Sayı: 6 (مجلة كلية اللاهوت بجامعة بينغول، العدد 6، 2015)، ص 158.

[23] – سراج نادر: الشباب ولغة العصر: عوربة أم عولمة، ورقة عمل مقدمة إلى الملتقي العلمي الخليجي، الرياض، 2013، ص5.

[24] – عيسى عودة برهومة: تحوّلات الحرف العربيّ على الشابكة (الإنترنت) بين رمزيّة الهُويّة الثّقافية ورهانات العَوْلمة، ص 145.

2- نفسه، ص 150 (بتصرف شديد).

[26] – نور الله كورت، ومیران أحمد أبو الهيجاء، ومحمد سالم العتوم: اللغة العربية نشأتها، ومكانتها في الإسلام، وأسباب بقائها، ص 158 (بتصرف).

[27] – نادر سراج: الشباب ولغة العصر، الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم: ناشرون، لبنان، 2012، ص 24 (بتصرف).

[28] – Tina Ganster, Sabrina C. Eimler, and Prof. Dr. Nicole C. Krämer : Same Same But Different!? The Differential Influence of Smilies and Emoticons on Person Perception, p 179.

[29] – Dele Adegboku, De l’économie en langue ou dans le langage: une linguistique ‘’ des temps qui pressent’’, Centre interuniversitaire d’études françaises, revue numéro 4, France, 2011, p 29.

Scroll to Top