معالم أساسية في طريق البحث في الثقافة الشعبية

أستاذ باحث في التاريخ والتربية والتكوين
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بجهة الشرق وجدة – المغرب

ORCID : 0009-0002-1586-2343

مختبر الأدب العام والمقارن: الخيال والنصوص والثقافات
 كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة
المغرب

ملخص

تنتقل الثقافة الشعبية عبر الأجيال بواسطة الذاكرة والرواية الشفوية، وهي تتجلى في وسائل تقليدية مثل النقش والزخرفة والحرف والكتابة والموسيقى، مشكلةً بذلك نمطًا من الحياة ونظامًا من الرموز وأشكال التفاعل. ويهدف هذا المقال إلى توضيح المعالم الرئيسية للبحث في مجال الثقافة الشعبية، خاصة للطلبة الباحثين، مؤكدًا على أهمية توافر الحد الأدنى من المعارف العلمية والمنهجية اللازمة لإنجاز بحوث نظرية وميدانية تتوافق مع المعايير العلمية والمنهجية المعتمدة. كما يقدم توجيهات إرشادية محددة لتعزيز التفاعل الإيجابي مع المحيط وتعميق الفهم لمختلف الظواهر الثقافية الشعبية. وتجدر الإشارة إلى أن الثقافة الشعبية تعتبر تعبيرًا سوسيولوجيًا عن الاتصال البشري؛ حيث تتفاعل وتتصارع مع العناصر الثقافية الأخرى ضمن الثقافة الواحدة، ما يوضح الحاجة إلى استعمال الأدوات البحثية الملائمة وتملك منهجية علمية صارمة لتحقيق الشروط العلمية والموضوعية في البحث.

Abstract

Popular culture is transmitted across generations through memory and oral narration and is manifested in traditional means such as decoration, crafts, writing and music. Thus, forming a way of life and a system of symbols and forms of interaction. This article aims to clarify the main features of research in the field of popular culture, especially for student researchers, emphasizing the importance of having the minimum scientific and methodological knowledge necessary to complete theoretical and field research that is consistent with approved scientific and methodological standards. It also provides specific guidance to enhance positive interaction with the surroundings and deepen understanding of various popular cultural phenomena. It should be noted that popular culture is a sociological expression of human communication, as it interacts and struggles with other cultural elements within a single culture. This demonstrates the need to use appropriate research tools and possess a rigorous scientific methodology to achieve scientific and objective conditions in research.

مقدمة

الثقافة الشعبية هي مجموع الأنشطة والممارسات والأفكار التي ينتجها المجتمع لتلبية حاجاته المادية والنفسية بشكل مستقل عن السلطة والنخب العالمة. تنقل هذه الثقافة من جيل إلى جيل عبر الذاكرة والرواية الشفوية… لحين ظهور وسائل الإعلام التي أصبحت تقوم بهذا الدور.

تعبر الثقافة الشعبية عن نفسها بوسائل تقليدية مثل النقش والزخرفة والحرف والكتابة والموسيقى والزي والحركة… وتشكل نمط حياة ونظام، من الرموز وأشكال التفاعل، يشارك فيها الشعب/الجمهور كعنصر أساسي.

وتهدف هذه المساهمة توضيح بعض المعالم الرئيسية للباحثين في مجال الثقافة الشعبية، خاصة الطلبة الباحثين منهم، تبيانا للقصد والمطلوب، وتوضيحا للصورة بشكل أفضل، حتى يتمكنوا من إنجاز بحوث علمية تحترم الضوابط العلمية، وتحقق الأهداف المرجوة، في تناغم تام بين الاعتزاز بالذات الثقافية والانفتاح على مختلف المكتسبات الثقافية الإنسانية، وهذا لا يتأتى إلا بتوافر حد أدنى من الرصيد المعرفي الضروري، وكذا تملك المنهج العلمي المعتمد، واستعمال الأدوات البحثية الملائمة، حتى تتحقق الشروط العلمية والموضوعية والموثوقية في هذه البحوث.

ولتحقيق المبتغى ركزنا على مجموعة من المعالم الإرشادية، باعتبار أن المقبل على الاشتغال في هذا المجال يتوفر على الحد الأدنى من المعارف العلمية والمنهجية القمينة بإنجاز بحوث نظرية وميدانية تتعلق أساسا بالثقافة الشعبية وفق المعايير العلمية والمنهجية المعتمدة.

المَعْلَم الأول: مصطلحات ومفاهيم

1 – الثقافة:

جاء عند ابن منظور في لسان العرب: «ثقف: ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً: حَذَقَه. وَرَجُلٌ ثَقْفٌ، وثَقِفٌ، وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهِم، وأَتبعوه فَقَالُوا ثَقْفٌ لَقْفٌ. وَقَالَ أَبو زيادٍ: رَجُلٌ ثَقْفٌ لَقفٌ رامٍ راوٍ. اللِّحْيَانِيُّ: رَجُلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ وثَقِفٌ لَقِفٌ وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة. ابْنُ السِّكِّيتِ: رَجُلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ إِذَا كَانَ ضابِطاً لِمَا يَحْوِيه قَائِمًا بِهِ. وَيُقَالُ: ثَقِفَ الشيءَ وَهُوَ سُرعةُ التَّعَلُّمِ. ابْنُ دُرَيْدٍ: ثَقِفْتُ الشيءَ حَذَقْتُه، وثَقِفْتُه إِذَا ظَفِرْتَ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ. وثَقُفَ الرجلُ ثَقافةً أَيْ صَارَ حاذِقاً خَفِيفًا مِثْلَ ضَخُم، فَهُوَ ضَخْمٌ، وَمِنْهُ المُثاقَفةُ. وثَقِفَ أَيضاً ثَقَفاً مِثْلَ تَعِبَ تَعَباً أَي صَارَ حاذِقاً فَطِناً، فَهُوَ ثَقِفٌ وثَقُفٌ… وَهُوَ غُلَامٌ لَقِنٌ ثَقِفٌ، أَي ذُو فِطْنةٍ وذَكاء، وَالْمُرَادُ أَنه ثَابِتُ الْمَعْرِفَةِ بِمَا يُحتاجُ إِلَيْهِ…»[1]

والثقافة “نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكات التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن فئة معينة. والثقافة التي يكوّنها أيّ شخص يكون لها تأثير قوي ومهم على سلوكه[2]، وتدلّ الثقافة على مجموعة من السمات التي تميّز أيّ مجتمع عن غيره، منها: الفنون، والموسيقى التي تشتهر بها، والدين، والأعراف، والعادات والتقاليد السائدة، والقيم، وغيرها”[3].

ويرى مالك بن نبي أن «الثقافة فلسفة وقيم خلقية فردية واجتماعية تؤثر في تكوين وتنشئة الفرد منذ الطفولة؛ بحيث تصبح نمطاً لصيقاً بحياته، ووشماً مميزاً لسلوكه، يصنع بها كل دقائق حياته، وفق النمط الذي تشكل فيه. وبذلك فهي: «… المحيط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياتنا.. وهي تتمثل بوظيفة الدم في جسم الإنسان، فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد هو – البلازما- ليغذي الجسد، والثقافة في ذلك الدم، الذي في جسم المجتمع، يغذي حضارته، ويحمل أفكار الصفوة، كما يحمل أفكار العامة والخاصة. وكل هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المناسبة…»[4].

فالثقافة إذن هي: المحيط الفكري والنفسي، والاجتماعي، والأخلاقي، والروحي… الذي يحتضن الوجود الإنساني في المجتمع، ويدعمه بالخبرة المعرفية، والسلوكية، والأخلاقية، والجمالية… وفي هذا المحيط تتشكل طباع، وشخصية، وذوق الفرد الثقافي، محكومة بالسنن النفسية والآفاقية.

فالثقافة إذن: نظرية في المعرفة، ومنهج في السلوك وطريقة في العمل والبناء.

2 – الثقافة الشعبية:

الثقافة الشعبية (وتسمى أيضا الثقافة الجماهيرية وثقافة البوب أي الشعب) هي تلك الثقافة المعترف بها عموما من قبل أفراد من المجتمع كمجموعة من الممارسات، والمعتقدات، والأشياء المهيمنة والسائدة في المجتمع عند نقطة معينة من الزمن. وتشمل الثقافة الشعبية أيضًا الأنشطة والمشاعر الناتجة عن التفاعل مع هذه الأشياء المهيمنة. هذه المجموعة من الأفكار تتخلل حياة كل يوم من الناس في مجتمع معين. لذلك، للثقافة الشعبية طريقة للتأثير على مواقف الفرد تجاه مواضيع معينة[5].

هناك طرق مختلفة لتعريف الثقافة الشعبية[6]؛ بحيث إنها شيء يمكن تعريفها بعدة طرق متضاربة من قبل أشخاص مختلفين عبر سياقات مختلفة[7]. وتعتبر عموما، وعلى النقيض من أشكال أخرى من الثقافة مثل الطقوس الشعبية، ثقافة الطبقة العاملة، أو ثقافة عالية، وأيضا من خلال مختلف وجهات النظر مثل التحليل النفسي، والبنيوية، وما بعد الحداثة…

ومن جهة أخرى، فإن الثقافة الشعبية تخرق المجتمع عمودياً أيضاً، وتطال مجموعات من كل الفئات، وليس الفئة الشعبية وحدها، باعتبارها إنتاج جماعة بشرية تشترك في نظام من الرموز والقيم يميزها عن غيرها من الجماعات[8]. وهي بهذا جزء من الثقافة العامة، التي يقول عنها إدوارد سعيد: “جميع الثقافات متداخلة في بعضها البعض، لا ثقافة فريدة ونقية، الكل هجين متعاير الخواص، متباين على نحو استثنائي، ولا يمثل بنية متجانسة أحادية التكوين”[9].

ويؤكد خليل أحمد خليل على أهمية دراسة الثقافة الشعبية باعتبارها «مجموعة من الظواهر المتصلة والمتداخلة والمتفاعلة والمتصارعة مع العناصر الثقافية الأخرى ضمن الثقافة الواحدة على تنوعها. وهي بهذا المعنى تعبير سوسيولوجي عن الاتصال البشري وتداخل القوى الاجتماعية تفاعلاً وتصارعاً، ثباتاً وتغيرا»[10].

المَعْلَم الثاني: موضوعات الثقافة الشعبية

باعتبار أن الثقافة الشعبية هي مجموعة من المعتقدات، والمبادئ، والممارسات، والتقاليد التي تُمثل بعض المعاني التي يشترك فيها الشعب الواحد على نطاق واسع في المجتمعات، فإنها تتضمن كل الموضوعات ذات العلاقة التي يمكن أن نجدها في:

  • ميدان الأدب الشفاهي (الأدب الشعبي)؛
  • الحياة الشعبية والثقافة المادية (الحرف والصنائع وأنماط الحياة وطقوسها)؛
  • العادات الاجتماعية الشعبية (ضمنها المعتقدات والمعارف الشعبية)؛
  • فنون الأداء الشعبي (الموسيقى الشعبية، الرقص، الدراما).

المَعْلَم الثالث: الثقافة الشعبية الشفوية

هي كل الأشكال التعبيرية المنطوقة، التي تختزنها الذاكرة الشعبية. وتشمل هذه الثقافة الشعبية: الموروث السردي (الحكايات، والخرافات…)، والحكم والأمثال الشعبية وغيرها من فنون التعبير الأخرى[11]. وهي مجموع العناصر التي تشكل ثقافة المجتمع المسيطرة في أي بلد أو منطقة جغرافية محدودة، غالبا باستخدام طرق إعلام شعبية.

تنتج هذه الثقافة من التفاعلات اليومية بين عناصر المجتمع إضافة لحاجاته ورغباته التي تشكل الحياة اليومية للقطاع الغالب من المجتمع.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الثقافة تتضمن أي من الممارسات وعادات الطبخ والمأكولات والثياب والإعلام ونواحي التسلية المستخدمة. إضافة للرياضة والأدب.

وغالبا ما يستخدم مصطلح ثقافة شعبية كمصطلح مضاد ومخالف للثقافة العليا أو النخبوية.

المَعْلَم الرابع: لماذا البحث في الثقافة الشعبية؟

إن الثقافة الشعبية باعتبارها تراثا ثقافيا لا ماديا أمانة مجتمعية، على المجتمع بكل أطيافه المحافظة عليه بعد جمعه وتصنيفه، ليبقى ذخيرة حية للأجيال القادمة. وهذا الاهتمام، وهذه الرعاية لا يأتيان دون الوعي بأهمية التراث لا مادياً كان أو مادياً. فالتراث دليل على الهوية، والهوية هي التي تحفظ لنا مكاناً في هذا العالم، وهي التي تقدم بالصوت والصورة والكلمة ثقافتنا إلى هذا العالم.

ولعل من الدوافع الموضوعية التي ينبغي أن تحفز الطلبة الباحثين للاشتغال في مجال الثقافة الشعبية، نذكر منها على سبيل المثال[12]:

  • تعميق المعارف في التخصصات ذات العلاقة بالثقافة الشعبية، كاللغة والتاريخ والسوسيولوجيا والتنمية المحلية…
  • التمكين من اكتشاف الدلالات التراثية في سياقاتها المختلفة التاريخية، والفكرية، والاجتماعية، والإنسانية، والسياسية، والوقوف على مدى استجابتها للمغزى المعاصر في أي مجال من المجالات المعرفية قصد التفاعل الإيجابي مع المحيط.
  • بلورة تصور مشترك ومحدد للثقافة الشعبية يخرجها من الطابع الفولكلوري الاختزالي.
  • تعميق المعارف في مناهج وأصول وأدوات البحث في مجال الثقافة الشعبية من خلال روافدها ومكوناتها، وأنساقها الثقافية، والتاريخية، والنصية.
  • تملك رؤية تركيبية لإدراك العلاقات المرجعية والدلالية، والبنى التركيبية لكل مظهر من مظاهر الثقافة الشعبية.
  • إثراء الخزانة المغربية بوضع أطاليس ومعاجم ووثائق ودراسات وأبحاث ومخطوطات خاصة بالثقافة الشعبية.
  • تملك منهجية لتحليل النصوص الشفوية بما تحفل به من ظواهر وقضايا دينية، وتاريخية، وفكرية، واجتماعية، واقتصادية، وأدبية، ودينية.
  • تعزيز الانتماء للذات الثقافية المغربية، والانفتاح على المكتسبات الثقافية الإنسانية الإيجابية.

المَعْلَم الخامس: كيف نبحث في الثقافة الشعبية؟

لوحظ في العقود الأخيرة ازدياد الاهتمام بالبحث في الثقافة الشعبية وخاصة المغربية من قبل الباحثين، وباعتبار هذا المجال مفتوحا للدراسة والتقصي والبحث بما توفره من مادة أولية تصبح أرضية للبحث الأكاديمي الجاد الذي يعيد الاعتبار للذاكرة الشعبية باعتبارها من أهم مصادر الهوية الجامعة، فإننا نخاف أن يصبح البحث في الثقافة الشعبية اليوم مهنة من لا مهنة له، مما أنتج بحوثا ومقالات في الجرائد والمجلات وعلى صفحات الأنترنيت… هذه الأبحاث غير المتخصصة، والتي لا مرجعية علمية لها كونت إرثا مكتوبا أقل ما يوصف به هو كونه استمرارا في مسلسل احتقار هذه الثقافة والتنقيص من كل الإنتاجات الشعبية، ووصف عامة الشعب مؤلف هذه الثقافة بالجهل والتخلف في نتائج واستنتاجات هذه البحوث غير العلمية.

وهو الأمر الذي يوجب على الباحثين، النظر في هذه الإنتاجات وتدقيقها وإبراز ما جاء فيها من صواب، مع ضرورة الوقوف على نتائجها غير العلمية، وخاصة تلك التي تنحى منحى التبخيس والتنقيص والتدنيس. ومن جهة أخرى، وجب على الطلبة الباحثين بمختلف مستوياتهم، ولوج ميدان الثقافة الشعبية بعدة الباحث الأكاديمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والتسلح بأحدث المناهج العلمية التي وفرت آليات وتقنيات البحث والتحليل والتأويل في دراسة الظواهر الثقافية والإنتاجات المعرفية التي أنتجها الشعب. ومن أجل تحقيق ذلك، نقترح الخطوات الآتية:

  1. القراءة والبحث: ضرورة الرجوع إلى الكتب والمقالات والدراسات الأكاديمية التي تتناول الثقافة الشعبية. كما يمكن أيضاً قراءة أو الاستماع إلى القصص والشعر والأغاني والأساطير التي تمثل جزءاً من الثقافة الشعبية.
  2. الحضور إلى الأماكن الشعبية: كزيارة الأماكن الشعبية مثل الأسواق والأحياء الشعبية والمهرجانات والمعارض والمتاحف المتخصصة في الثقافة الشعبية. ويمكن مقابلة الناس في هذه الأماكن والتحدث معهم عن ثقافتهم وتجاربهم الشخصية.
  3. استخدام الإنتاج الإعلامي: وذلك بالاطلاع على الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية والإذاعية ومواقع الأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي التي تتناول الثقافة الشعبية، وتعكسها بطريقة أو بأخرى.
  4. الانضمام إلى المجتمعات الشعبية: يمكن الانضمام إلى المجتمعات الشعبية مثل الجمعيات والأندية: الرياضية، أو الفنية، أو الثقافية، أو الدينية، والمشاركة في الأنشطة والفعاليات ومقابلة الأشخاص الذين يتشاركون نفس الاهتمامات، ويمكن استثمار مواقع التواصل الاجتماعي.
  5. استشارة المتخصصين: يمكن استشارة الخبراء والمتخصصين في الثقافة الشعبية مثل الأكاديميين والأثريين والمتحفيين والأدباء والشعراء والفنانين، والتحدث معهم حول أبحاثهم ومعرفتهم بالثقافة الشعبية.

المَعْلَم السادس: ضوابط ومحددات

لإنجاح عملية البحث في الثقافة الشعبية، وخاصة الشق الميداني، لا بد من مراعاة مجموعة من الضوابط والمحددات، أهمها:

  • يعتبر العمل الميداني العمود الفقري للبحث في الثقافة الشعبية؛
  • ينبغي عدم الفصل بين الثقافة المادية واللامادية، لأن الفصل فيه ازدواجية زائفة، بمعنى أننا لا يمكننا اعتبار الثقافة المادية كمادة منفصلة عن الثقافة اللامادية؛
  • ضرورة ربط النشاط المادي واللامادي بالإنسان ببيئته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سياق تراكمها التاريخي (مثلا طقس الزواج وتوثيق الأدوات المادية والزينة والعطور والمعتقدات والممارسات والعادات المتصلة بهذا الطقس…)؛
  • يتعين على الباحث في مجال الثقافة الشعبية الاستعانة بالباحثين الذين سبقوه في العمل الميداني في المناطق قيد البحث وخاصة المؤرخين المحليين وجامعي الثقافة الشعبية؛
  • يمكن للإنسان أن ينتج أنماطا ثقافية مرتبطة بالزمان والمكان في الظروف البيئية المتشابهة؛
  • تعتبر الجوانب النظرية التاريخية والجغرافية واللغوية والاجتماعية أساس الدراسات في مجال الثقافة المادية.

المَعْلَم السابع: مصادر الثقافة الشعبية

بما أن الثقافة الشعبية أو الموروث الثقافي شكل من الأشكال التعبيرية المنطوقة، التي تختزنها الذاكرة الشعبية الجمعية، وهي جزء من الثقافة الإنسانية ككل، يتم حفظها بشكل شعوري أو غير شعوري لتتجسد في كلٍ من المعتقدات والعادات والممارسات الحياتية اليومية، وتشمل الموروث السردي (الحكايات، والخرافات…)، والحكم والأمثال الشعبية وغيرها من فنون التعبير الأخرى. يمكن الحصول عليها من عدة مصادر وبطرق مختلفة أهمها:

  • الجمع الميداني المباشر؛
  • كتابـــات ومــؤلفـــات المـــؤرخـــين؛
  • مؤلفـــات الرحالـــة من داخل المجتمع المراد دراسته؛
  • كتابات ومؤلفات الرحالة والإخباريين الأجانب؛
  • المصادر التراثية غير المباشرة، ككتب التاريخ والتراجم والنوازل والأدب…؛
  • الدراسات الحديــــثة والمعاصـــرة، وخاصة الأكاديمية.

المَعْلَم الثامن: مراحل أساسية للبحث في الثقافة الشعبية

يعد العمل الميداني المرحلة الأساس التي يرتكز عليه البحث في الثقافة الشعبية، ودراسة مكوناتها وأجناسها وأنواعها الأدبية والثقافية، وتصنيف عناصرها، وتحليل مضامينها، لاسيما الموضوعات المتصلة بالعناصر التي لاتزال حية وفعالة في المعيش الاجتماعي والثقافي، بدءًا من رصد الظاهرة، ثم طرح المفاهيم النظرية الأساسية وإشكالاتها، مرورًا بتأصيل الموضوع، فمناقشة الفرضيات والطروحات، وكيفية إحداث تغييرات جوهرية، والانفتاح على آفاق جديدة لتطوير العمل الميداني، ومن أجل بلورة تصور منهجي سليم، لا بد من الإشارة والتذكير بأهم المراحل، ومنها:

1. مرحلة الإعداد

  • تحديد موضوع البحث في مجال جغرافي معروف بالقدر الكافي لدى الباحث؛
  • تحديد زمن إجراء العمل الميداني مع ضرورة التمييز بين زمن الباحث وزمن موضوع البحث؛ لأن زمن الحرفيين والصناع ليس كزمن الطقوس والعادات؛ بحيث، مثلا زمن الحرفيين المرتبطين بمجال الفلاحة ليس كزمن الصناع المرتبطين بحاجات الناس من أثاث ولباس وغير ذلك، وزمن هؤلاء ليس كزمن المرتبطين بالمناسبات الدينية والاجتماعية…
  • اختيــار المنطقـة/مجال البحث لجمع البيانات والمعطيات التـي ترتبط بمشكلة البحث، فمثلاً إذا أردت معرفة كيفية تأثير التحديث على الصناعات والحرف اليدوية الموروثة يجب اختيار المدن والحواضر دون البوادي، وإن كان في أيامنا هذه قد تداخلت وتشابهت مع انتشار ما يسمى بالعولمة وتقارب الزمن الحضاري بفعل التحول الرقمي.
  • قبل الجمع الميداني يتعين على الباحث، ما أمكنه ذلك، قراءة كل ما كتب في الموضوع قيد البحث، سواء تعلق الأمر بمجال البحث أو موضوعه؛

2. مرحلة الجمع والتوثيق الميداني المباشر:

  • قبل تفصيل أدوات البحث والتوثيق الميداني لابد من:
    • تحديد مشكلة البحث، وهي التي على أساسها يجمع الباحث مادته سعياً وراء حلها،
    • تحليل المشكلة، وهي تحديد المناهج المناسبة للحصول على ما يعينه على الجمع والتوثيق،
    • جمــع وتوثيــق المادة ميدانياً عن طريق الجمع والتوثيق المباشر مـن المنطقة قيد البحث.
  • أما تحليل مشكلة البحث الميداني، فنعني بذلك صياغة الأسئلة الفرعية، واقتراح الفرضيات المناسبة لها، ثم تحديد المناهج المناسبة للحصول على ما تنشده من مادة وتحديد المكان والزمن؛
  • أما فيما يخص المدة الزمنية التي يحتاجها الباحث لإنجاز مهمته، فلابد من التذكير بأن المادة في الحقل غير محدودة، ولكن على الباحث أن يقرر زمن جمع مادته على أساس صلتها بمشكلة بحثه.
  • مناهج ووسائل التوثيق، وهي مناهج ووسائل يمتلك الباحث بعضها وبعضها يحتاج لمختص لـمعاونته – مناهج الـملاحظة والمشاركة وتسجيل المقابلات المباشرة لابد أن تتـوفر لدى الباحث لكن التصوير ورسم الخرائط والأشكال، إن كان لا يجيدها فعليه الاستعانة بمن يتقنها.
  • أثناء يوم العمل على الباحث أن يكتفي بالتصوير أو التسجيل، وتدوين الملاحظات، ورسم الاسكتشات. هذا بعد توطيد علاقـة الثقة بينه وبين أفراد عينة البحث. وهنا يحتاج الباحث لصفة الذكاء الاجتماعي بالحضور المؤثر في الآخر، وقدرته في التعبير عن نفسه، وتوضيح مهمته، دونما استعلاء وإنما في تواضع وأدب جم.

ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه، هو أن هناك بعض الطقوس أو الحرف تقام أو تمارس في مواسم محددة من السنة فعلى الباحث معرفة الجدول الزمني لكل طقس أو حرفة يريد دراستها.

المَعْلَم التاسع: مهمة الجامع والباحث في مجال الثقافة الشعبية

المهمة الأولى: توثيق وتسجيل المادة الخاصة بالطقوس، أو العادات، أو الأدوات، أو المصنوعات…

المهمة الثانية: تتبع خطوات العمليات والمحطات والمراحل تسجيلاً وتوثيقاً وتوصيفاً بالصوت والصورة والرسومات التوضيحية وتسجيل الملاحظات …

وفيما يتعلق بجمع المادة الشفهية، نشير إلى أنه إذا مـا تـوفر عدة رواة في الـمنطقــة الواحدة، فإن في هذه الحالة تجرى مقابلات معهم جميعاً ثم تقارن إفاداتهم للخروج بالمعلومة الموثوق بها، وأيضاً يتبع ذلك مقارنتها مع ما دون سابقا في كل مرة سواء كان من راوٍ واحد أو عدة رواة نجد معلومة جديدة مؤكدة أو مخالفة.

ويعتبر مؤشر الانتهاء من العمل الميداني، هو عندما تبدأ المعلومات الواردة في التكرار. عندها يكون العمل الميداني قد انتهى لتبدأ مرحلة التصنيف والتحليل والمقارنة واختبار الأسئلة على ضوء ما حصلت عليه من معلومات. وهذه في باب مناهج البحث العلمي أدخل ولها قواعدها وموجهاتها المنفصلة تماماً عن مرحلة العمل الميداني، وليس هذا مقام التفصيل فيها. ونكون بهذا قد أنهينا العمل الميداني.

المَعْلَم العاشر: التصنيف والتحليل والمقارنة واختبار الأسئلة واستخلاص النتائج

بعد قيام الباحث بجمع البيانات والمعطيات باعتماد أداة البحث، تأتي مرحلة التصنيف والتبويب حسب محاور أداة البحث التي تكون مطابقة لأسئلة البحث وفرضياته، تأتي مرحلة المعالجة الإحصائية لهذه المعطيات، أو تحليل مضمون الوثائق المكتوبة أو الشفهية باعتماد شبكة تحليل المضمون يتم تحكيمها سلفا وهو الأمر نفسه لجميع أدوات البحث.

وعند عرض كل جزء من أجزاء الدراسة وجب التعليق عليها بشكل يناسب أهمية وكثافة المعلومات حتى تظهر البصمة الشخصية والإضافة النوعية للباحث، ولإضفاء مزيد من الموضوعية على استخلاص النتائج يحبذ إدراج ما جاء في دراسات أخرى مماثلة، وإبداء الرأي سواء بالموافقة والتزكية أم بالنقد والنقض إذا استلزم الأمر بالدليل العلمي المتوصل إليه.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المعلم، هو ضرورة الاطلاع على دراسات سابقة محكمة إضافة إلى ضرورة العمل على التمكن من منهجية استخدام أدوات ووسائل التصنيف والتحليل وكذا استخلاص النتائج من خلال الاستفادة من دورات تكوينية وحضور محاضرات وندوات وأيام دراسية في الموضوع، أو زيارة أهل الاختصاص لاستشارتهم والاستفادة من خبرتهم وتجربتهم وعدم الاكتفاء بالاطلاع على ما كتب هنا وهناك، لأن هذا العمل حرفة وصنعة ولا يتأتى تعلمها وإتقانها إلا بمجالسة أهل السبق من ذوي الاختصاص.

خاتمة

من خلال ما سبق، يمكننا القول إن البحث في الثقافة الشعبية هو وسيلة للحفاظ عليها وضمان استمرارها عبر الأجيال. ومن أجل تحقيق ذلك، يجب على الباحث التسلح بالمعرفة العلمية الضرورية، ومستلزمات البحث العلمي وخاصة الميداني، وكذلك تتبع مجموعة من الخطوات التي تضمن له الاشتغال بكل علمية وموثوقية ومصداقية.

كما أنه لإنجاح العملية البحثية في هذا المجال، من الضروري احترام مجموعة من الضوابط والمحددات مع وجوب الأخذ بعين الاعتبار المصادر والمراجع التي ينبغي أن يعتمدها الباحث في الحصول على كل ما له علاقة بالثقافة الشعبية أو الموروث الثقافي.

وفي الأخير فإن عملية البحث في مجال الثقافة الشعبية تتطلب جهدًا مستمرًا ومنهجية دقيقة. ذلك أن الباحث مطالب أن يكون على أتم الاستعداد لمختلف التحديات التي قد تواجهه خلال عمله البحثي، بدءًا من رصد الظاهرة، وتحديد موضوع البحث وانتقاء المنهج الصحيح وصولاً إلى جمع، وتصنيف وتحليل المعلومات والمعطيات بدقة، واستنتاج أهم النتائج التي تشكل لبنة أساسية في الربط بين الدراسات السابقة وتلك اللاحقة لاستكمال الصورة بكل موضوعية دون تقديس ولا تبخيس.

تحميل المقال في نسخته الكاملة

الإحالات:

  1. ابن منظور، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (ت 711هـ)، لسان العرب، دار صادر – بيروت، ط3، 1414ه/1975م، ج9 ص19.
  2. Grandon Gill (2013), “Culture, Complexity, and Informing: How Shared Beliefs Can Enhance Our Search for Fitness “, the International Journal of an Emerging Transdiscipline, Folder, Page 71. Edited (http://www.inform.nu/Articles/Vol16/ISJv16p071-098GillFT87.pdf )
  3. Gabriel Idang, AFRICAN CULTURE AND VALUES, Page 97, 98. Edited (http://www.scielo.org.za/pdf/phronimon/v16n2/06.pdf )
  4. مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، ط4، 2000، ص 78. ماكجاها، جولي. “الثقافة الشعبية والعولمة”. التعليم متعدد الثقافات 23.1 (2015): 32-37. SocINDEX بالنص الكامل. الويب. 5 غشت 2016؛
  5. ستريناتي، د. مقدمة لنظريات الثقافة الشعبية. روتليدج. 2004
  6. ستوري، ج. النظرية الثقافية والثقافة الشعبية: مقدمة. روتليدج. 2018
  7. محمد غاليم، حماية التنوع الإحيائي في مجال الثقافة، مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، العدد 22، صيف 2013.
  8. إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة، كمال أبو ديب، دار الآداب، 1997، ص 308.
  9. أرمان ما تلار، التنوع الثقافي والعولمة، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الفارابي، ط1، 2008، ص 195.
  10. فوزي بوخريص، صورة المرأة في الأمثال الشعبية: المرأة في مؤسسة الزواج كنموذج (http://www.aljabriabed.net/n63_05bukgris.(2).htm )
  11. جامعة ابن طفيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، دفتر الضوابط البيداغوجية لماستر دراسات في الثقافة الشعبية المغربية، (بتصرف).
Scroll to Top