رمزية الوشم بوصفه كتابة على الجسد
طالبة باحثة بسلك الماستر
جامعة محمد الخامس، الرباط
المغرب
مقدمة بحجم السؤال:
يعد الجسد، بحضوره المادي والرمزي، موضوعا إشكاليّا؛ إذ تشارك العديد من الحقول المعرفية في توظيفه ودَمْجه داخل أنساقها، وترصد قضاياه وإشكالاته من خلفيات نظرية مختلفة، فضلا عن أنه ظل لصيقا بالظاهرة الإنسانية منذ نشأتها، في تشعباتها المتعددة؛ فتعددت بذلك الأسئلة التي تروم تقريب مفهوم “الجسد” (Le corps) بحَمُولاته المتناقضة، بين خضوع وتمرد، انقياد وانفلات، وبين ما هو خَلْق إلهي وما هو معطى رمزي ثقافي. ولهذا، تمايَزَت انشغالات النقاد والمبدعين – في شتى مجالات الكتابة والإبداع – بهذه الحمولات المتناقضة للجسد، المشكِّلة لنسيج الكينونة الإنسانية والأنساق الثقافية – للذاكرة الجماعية – في كافة أبعادها، الحامِلة لقيم هذا الجسد، وقدراته اللامتناهية في التعبير عن مكنوناته بأشكال تعبيرية وجمالية مختلفة، يغدو معها هذا الجسد نصّا بصريا، ونسقا رمزيا قابلا للقراءة والتأويل؛ لما يحتويه من ظواهر وتمثلات وأشكال، سواء أكانت رسما أم وَشْما أم غيرهما من العلامات الرمزية الدالة الأخرى…
بناءً على ذلك يمكن تنضيد هذه المعطيات من خلال طرح الأسئلة الآتية:
- ما هي الأبعاد السوسيولوجية والسيميولوجية للوشم على الجسد؟
- ما الأبعاد الرمزية للوشم، بوصفه كتابةً على الجسد؟
- إلى أي حد استطاع الوشم تجسيد الذاكرة الجماعية؟
- كيف يمكن لمَوْضِع الوشم أن يؤثر في وظيفته ومعناه الرمزي، ويصبح نصّا قابلا للقراءة والتأويل؟
الوشم حوار جماعي مع الذاكرة:
نقرأ في “لسان العرب”، مادة (و ش م): “ابن شميل: الوُسوم والوُشوم: العلامات. ابن سِيده: الوَشْم ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة، ثم تَحْشوه بالنَّؤُور، وهو دُخان الشَّحْم. والجمْعُ: وُشوم ووِشام… ووَشَم اليدَ وَشْمًا: غَرَزَها بإبرة، ثم ذرَّ عليها النَّؤور، وهو النِّيلَجُ. والأَشْمُ أيضا: الوَشْم. واسْتَوْشَمه: سأله أن يَشِمَه… قال أبو عبيد: الوَشْمُ في اليد، وذلك أنّ المرأة كانت تَغْرِزُ ظهْر كفّها ومِعْصمها بإبرةٍ، أو بمِسَلّةٍ، حتى تؤثّر فيه، ثم تَحْشُوه بالكُحْل أو النّيل أو بالنَّؤُور… فيَزْرَقُّ أثرُه أو يَخْضَرّ”([1]). وفي اللاّتينية أنَّ كلمة “وشم” (Tatouage) اسم بولينيزي أصلُه “tatou”، ومعناه الرسم، ثم “تحولت، في اللغة الإنجليزية، إلى tattoo، وهي فعل”([2]). وفي اليونانية، نجد كلمة “stigm”، التي تعني الوخز بالحديد المحمّى، أو الوشم بأداة حادّة تبعا للتقاليد اليونانية، أو الوشم بصفة عامةٍ حسب رواية هيرودوت([3]).
ويعدّ الوشم، بما هو رسمٌ على الجسد، ونصٌّ قابل للقراءة، منطَلَقاً للكتابة والتخليد؛ فمن خلاله تتحقق غاية محاربة زوال الأشياء أو موتها؛ إذ نجد عددًا من الناس يتجهون إلى رسم أقربائهم على أجسادهم رغبةً في الحفاظ عليهم داخل الجسد، بوصفه أشبهَ بالإناء الذي يحوي تلك ذكرياتهم، ويصُونها من إتلاف الزمان والتاريخ. وتعْمِد فئات أخرى بذلك إلى حفظ الأمثال والأقوال المأثورة بطريقة يستطيع من خلالها الجسد أن ينطق حسب أعضائه المختلفة، ويصبح – تَبعًا لذلك – نصّا قابلا للقراءة في سياقه الاجتماعي والثقافي، الذي يرفعه الى مستوى نص جدير بالتحليل والمقارَبة…
الوشم، إذاً، نصٌّ متحركٌ على الجسد وداخلَه، وتتخلله الذاكرة، لتجعله بذلك يغوص في عُمق التاريخ، في تجربة متمردة تارة، ومُمْتثِلة لهذا الأخيرِ تارة أخرى، ليظلَّ هذا الوشم – في المجتمعات التقليدية – احتفاء بالجماعة، وبحُضورها، مشكِّلا شبكةً اجتماعية للتواصل، وتركيبا متجانِسا، يمتزج فيه الإنسان بالكون والطبيعة والجماعة؛ فالجسد غيرُ المتمثل لعادات الجماعة واعتقاداتها يبقى جسدا ضائعا، بلا دلالة، علمًا بأنه بهذه الأخيرة يتمكن من اقتحام عوالم الآخَر. ولهذا، تنصَبُّ عملية الوشم على ترميز الجسد؛ لجعله قادرًا على حماية قانون الجماعة، وحفظ خصوصياتها الثقافية.
ومن هنا، نجده عبد الكبير الخطيبي، في كتابه “الاسم العربي الجريح”، يؤسس للهُوية من خلال الوشم الأمازيغي- العربي، الدال على تلاحُم الجماعة وانسجامها، وابتكارها طرقا ورموزا في التواصل، وفي تمثل مُعتقَدات هذه الجماعة وإيديولوجيتها؛ فـ”المرأة في الإسلام لا بد لوجودها أن يكون مُصانا باللثام، ولكنه – في أحيان أخرى – يصان بضعْف اللثام، وهو الوشم، كما يصان – كذلك – بضعف الضعف، وهو الوشم بالحنّاء أو بالحرْقوص”([4]).
إنّ قراءة الوشم، بهذه الاعتبارات، تستدعي نباهة القارئ، وإحاطته بسياق الوشم في حدّ ذاته، بوصفه خيطا واصلا بين جماعات، بناء على مرجعياتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية، التي بتَبايُنِها تختلف أشكال الوشم، والغاية منه، وكذا طقوسه. والجسد، سواء كان “مرسلا أو مستقبلا، فإنه يُنتج المعاني دون هَوادة، ويعمل على دمج الإنسان، بكل قوة، داخل فضاء اجتماعي وثقافي معين”([5])، وهو بذلك أساسُ الإحساس بالانتماء الموحد، والشعور بالهُوية المشتركة، التي تُسْهِم في ضمان التناغم بين كافة أطراف الجماعة وأفرادها.
الوشم وانبثاق المعنى:
يعدّ الجسد بناء رمزيّا، يعكسُ تمثلات سيكولوجية وثقافية محددة، وقد برز – مع الدراسات السيميولوجية – بوصفه إنتاجا تاريخيا ثقافيا وإيديولوجيا متحوّلا، وهذا ما وضّحه رولان بارث (Roland Barthes) عندما درس سيميائية جسد الإشهار، واستخلص أن “عارضة الأزياء، أو عارضة الجسد، لا تَعْرض جسدها حقّا، ولا جمالها، وإنما تقدم شكلا محْضًا، أو نموذجًا تم ضبْطُه بصفة مسبقة ومجردة؛ حيث ينحلّ المحسوس في الدالّ…” ([6]).
ترتبط رمزية الوشم بالذات التي تحْمِله في مستوى أول، وبالجماعة -كما أشرت إلى ذلك – في مستوى ثان، لكن هذا لا يمنع الفردانية، أحيانًا، من خلال الوشم، من تقديم تصورات الذات وعلاقاتها بالمجتمع والثقافة والعالَم. ولذلك، يعد الوشم علامة رمزية؛ أي وسيلة تنطق بحمولات دلالية متعددة، تستوجب اختيارا دقيقا للأشكال الهندسية والحروف، ويبقى لكلٍّ منها قيمته “السحرية” في الوشم.
وتختلف ألوان الوشم بين أسود وأخضر بارد، حسب المناطق والسياقات؛ فنجدُ -مثلا- مَنْ يستعمل سواد الدخان، رماد الخشب، التوابل، القَطِران… ويستعمل آخرون الزيت، الكحول، الجاوي… وفي بعض الأحيان، تُستعمَل الموادّ المذكورة مجتمعة، كلّا أو بعضا. وتتم عملية الوشم من خلال وَخْز هذه الأشياء في الجسد بإبرة، أو برأس خشبي، في ممارسة دموية؛ كما هو معروف ومتداوَل.
وتجدرُ الإشارة إلى أنّ رمزية الدم، في الثقافة العربية، من الرمزيات المستمرة عبر الزمن، التي احتُفِظ بها تاريخيا، ولم تتغير إلا قليلا؛ فنجد دم الافتراع ليلةَ الدخلة، بوصفه علامة لعِفّة الفتاة وصَوْنها عرضَ العائلة، ودم الختان كرمز لفحولة المَعْنِي به وقدرته الجنسية مستقبَلا… وفي الإطار نفسه، نُلْفي -مثلا- “الفتاة المغربية (التي لا تزال مُخْلِصة للثقافة الشعبية) تُوشَم في مناسبتين؛ عند البلوغ والزواج. إن الكتابة على الجسم التام، في اقتصاد الطبيعة، تتجلى في الخط الذي يَسِم الدورة الدموية من ناحية، ومحو غِشاء المهبل من ناحية ثانية”([7]).
وفي سياق الدلالات والإيحاءات المتعددة للوشم، نجده يعكس، أحياناً، تجاوز الجسد إطارَ المحرمات الإسلامية؛ من خلال تشويه صورته، و”هذا معناه منح الجسم قِيما أخرى، لم تسمّ بعد، وتنظيما موسّعا للأدلة، وشروحا لها بطريقة مغايرة”([8]).
طقوسية الوشم وأبعادُه:
إنّ “الوشم، بالنسبة للجسم، هو العلامة الموسيقية القاطعة المطعّمة في الجسم، التي تتطلب الإنصات للشهوة، في فَرادَتها وصمتها وعدم قابليتها للنطق”([9]). ونظرا لارتباط الإنسان – منذ نشأته – بالسرد، فإنه يخترع دومًا طُرقا جديدة ليُفصح بها عمّا يريد قوله، أو التعبير عنه، ولعل هذا ما أكده بارث قائلا: “السرد موجود في كل الأزمنة والأمكنة، وفي كل المجتمعات. يبدأ السرد مع التاريخ، أو حتى مع الإنسانية. ليس هناك من شعب دون سرد”([10]).
ويمثلُ الوشم إحدى هذه الطرق، التي ابتكرها الإنسان، وذلك بوصفه نشاطا سَرديّا بامتياز، يقدم من خلاله الواشِم أفكاره وإحساساته على جسد، يعد الحامل الفيزيائي أو المادي للوُشوم، وَفق طقس احتفالي ما، يتم من خلاله دسّ مجموعة موادّ داخل الجسد تلوينا وتلميعا في بعض الأحيان، وتشويها له أحيانا أخرى([11]). ومن خلال هذا التشويه، تُتَحَدّى معالمُ الجسد؛ بجَعْلِه يرتدي ثوبا موشوما (الطبقة الجلدية)، ذا وظائف عدة، منها الوظيفة الجمالية/ التزيينيّة، حين يكون الوشم -مثلا- على صدر الأنثى أو خدّيها. ويقول الخطيبي في هذا النطاق: “يُوضَع لون الكحل (الأسود) على الخد، وهو بديلُ بذرة الجمال، أو الرسوم الهندسية كبوعروج (المنعرج، الخط المنكسر)، وهما معا على الذقن”([12]). ويوضع على أعضاء أخرى في الجسد، يحتل الوشم من خلالها مكان حلي التزيين، ومن ذلك الوشم الذي يوضع “كالخلخال، بل وبلذة أكثر سلسال الفخذين (سلسلة الفخذين)”([13])؛ كما تبيّن الصور الآتية:
1
2
3
ونجده، في حالات أخرى، يتخذ بُعْدا وقائيّا، ولاسيما في حالةِ “الوشم الواقع بين الحاجبين. وعادة ما يخضع هذا التقسيم لشكل جزئي.. ثلاث نقط عمودية أو أفقية. ويشير “هيربر” Herber، أيضا، الى استعمال زُخرف صليبي مزيَّن، يذكّرنا بعلامة الزَّرْبِية (البساط)… وتُسَمّى عينا ثالثة… والعين الثالثة، بحسب التفسير المتعارَف عليه، تَحْرس من العين… فهي بذلك مسافة مضاعَفة؛ حيث إنها بداية الاقتصاد الخطي، تستبدل دليلا (العين) بدليل آخر”([14]).
4
5
إنّ البُعد الإغرائي حاضر، كذلك، من خلال الوشم؛ من مثل وشم المناطق الحميمية لدى النساء وتزيينها، ويظهر ذلك من خلال “الاهتمام بالصدر والظهر، ثم التنقل عبر الظهر والفخذين والأرداف. وهكذا، يمكن أن نعشق المرأة، ونستمتع بها بحسب كيفية الجماع”([15])؛ فنجد الوشم التزيني حاضرا على مستوى الصدر والظهر والعانة. وفي تصور العرب، والمغاربة تحديدا، فإن وشم منطقة ما فوق العانة مألوف عند العاهر أكثر من غيرها([16]).
كلمة في الختم:
يمكن القول، في آخر هذا المقال، إن الجسد استطاع، بحمولاته الثقافية والاجتماعية وغيرها، أن يجعل الوشم رمزا لهُويته وكينونته، ليس من خلال كونه معطى بيولوجيا فحسب، بل من خلال حضوره الرمزي، في الأساس، بممارسة “دموية”، حافظة لجانب من تاريخ الجماعات، ومعبرة عن معتقداتها، بل إنها تتعدّى، أحيانًا، إلى أنْ تعكسَ تصورا فردانيا، يترجم تموْقُع الذات ورسائلها، وقد تتجاوز ذلك لتشكّل شكْلا من أشكال التمرُّد بدلالةٍ هُويّاتية ثقافية وإيديولوجية…
الإحالات:
ملحوظة: الصور الواردة في المقال مأخوذة من كتاب الخطيبي المُحال عليه مرارا.
-
– ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ج.15، ص 220. ↑
-
– عبد الكبير الخطيبي: الاسم العربي الجريح، تر: محمد بنيس، منشورات الجمل، بيروت – بغداد، ط1، 9200، ص 65. ↑
-
– نفسه، ص64 . ↑
-
– نفسه، ص 76. ↑
-
– دافيد لورتون: سوسيولوجيا الجسد، تر: عياد أبلال وإدريس المحمدي، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2013، ص 17. ↑
-
– إبراهيم الحيسن: الأيقونة والجسد – نماذج من الفن التشكيلي بالمغرب، من منشورات جمعية “الفكر التشكيلي”، ط1، 2014، ص 11. ↑
-
– عبد الكبير الخطيبي: الاسم العربي الجريح، ص 84. ↑
-
– نفسه، ص 72. ↑
-
– نفسه، ص 83. ↑
-
– رولان بارث: النقد البنيوي للحكاية”، تر: أنطوان أبوزيد، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط1، 1988، ص 81. ↑
-
– عبد الكبير الخطيبي: الاسم العربي الجريح، ص 72. ↑
-
– رولان بارث: النقد البنيوي للحكاية”، تر: أنطوان أبوزيد، ص 97. ↑
-
– نفسه. ↑
-
– رولان بارث: النقد البنيوي للحكاية”، تر: أنطوان أبوزيد، ص 77. ↑
-
– نفسه، ص 76. ↑
-
– رولان بارث: النقد البنيوي للحكاية”، تر: أنطوان أبوزيد، ص 90. ↑